الشيخ مبارك يستغيث
لا بدَّ وقد وصلنا إلى هذا الحدِّ من تاريخ ابن سعود عبد العزيز أن نُعيدَ شيئًا حديثَ العهد من تاريخ الانقلاب العثماني. فقد دكَّ حزبُ الاتحاد والترقي عرشَ عبد الحميد، وأعاد الدستور إلى الأمة، وأسَّس فيها حكومة نيابية، ولكنه بعد أن تبوَّأ عرش السيادة استبدَّ واستأثر فغدا كلُّ واحد من زعمائه عبدَ حميدٍ رهيبًا.
وقد أغضب الحزبُ العربَ خصوصًا فقام منهم مَن أسَّسوا حزب الائتلافيِّين ليطالب باللَّامركزية صونًا لحقوق العناصر غير التركية.
ثم قام في البصرة جماعةُ يرأسهم السيدُ طالب النقيب والشيخ خزعل والشيخ مبارك الصباح يؤسِّسون فرعًا لهذا الحزب، بل كان من مقاصد تلك النهضة طرْد الاتحاديين واستقلال العراق فيحكمها أحد أولئك الزعماء.
أثار عملُهم غضبَ الحكومة فأمرت سعدون باشا الاتحادي بتجهيز حملة من العشائر على الشيخ مبارك؛ لأنه أكبر الثلاثة، ولأنه في نظر الدولة ذو سوابق سياسيَّة.
على أن الزملاء الذين كانوا قد وعدوا الشيخ بالمساعدة خذلوه فأمسى منفرِدًا في الورطة، فأرسل يستنجد ذاك الذي شبَّ وترعرع في ظلِّه. أرسل يستنجد مَن كان يسميه «أوْلِدي» وقد صار زعيمًا للعرب كبيرًا.
ولكن هذا الزعيم كان يومئذٍ في ورطة أشد من ورطة «والده» مبارك. ومع ذلك فقد مشى إلى الكويت بجيش صغير من العربان، وفيهم بعض العجمان.
عندما وصل عبد العزيز كان الشيخ مبارك قد جهَّز ما عنده من قوة لمحاربة السعدون، فأشار عليه بالتربُّص، وقال: «ليس بيننا وبين الرجل خلافٌ حقيقي يوجب الحرب، وإني أرى مسالمته أولى. المسألة طفيفة وأنا أتوسط بينكم وبين السعدون.»
شقَّ على الشيخ مبارك أن يسمع مثل هذا الكلام، فازدرى نصيحةَ «ولده» الذي طالما أمدَّه بالنصائح وكان عونَه في الشدائد.
ما راق هذا الكلام الشيخ مبارك فأصرَّ على تجنيد الجنود وعلى خروج ابن سعود معهم (١٣٢٨ﻫ / ١٩١٠م)، ففعل مُكرَهًا. أما جيش الكويت الذي كان رئيسه جابر بن مبارك فقد كان مؤلَّفًا من ألفين من الحضر، وأكثرهم من الشبان الناضرة وجوههم، النادرة شجاعتهم، وأربعة آلاف من البادية، ومائة وخمسين فارسًا. أضف إليه عربان ابن سعود والمائتين من رجاله فيبلغ عدده كلُّه نحو سبعة آلاف.
لما بعُد هذا الجيش مسافةَ يومٍ من الكويت جاء رجل من كبار عرب الظفير يُدعَى الضويحي؛ ليسأل ابن سعود أن يتوسَّط بينهم وبين ابن الصباح، وقد أكَّد له أن السعدون وعرب الظفير يقبلون بذلك.
عرض عبد العزيز الأمر على جابر الصباح، فأجابه قائلًا: «إني لا أعهدك جبانًا.» فغضب عبد العزيز وقال: «سترون غدًا. غدًا تظهر الجبانة فتعرفون أين هي.»
استمروا ذاك اليوم سائرين، فواصلوا السير بالسرى وكان سعدون باشا قد علم بزحفهم فأسرى كذلك بعشائره يريد الهجوم. وقد كان عدد جيشه يوازي جيش الكويت، بيدَ أنه كله من عشائر المنتفق والظفير والبدور وغيرها، وأكثره من الخيالة.
نام عربان سعدون في الطريق، ولكنهم عندما أحسُّوا بقرب الكويتيِّين أفاقوا وتراجعوا إلى مقرِّ القيادة كي لا يتصادموا وإياهم ليلًا.
ولما أصبح الصباح تكلَّم عبد العزيز: «اسمع يا جابر، من رأيي أن تأمُر البدو بالإغارة على سعدون وجماعته، فنُبعدهم عنَّا، ونشغل العدو. إني والله في ريب من أمرهم. أما إذا سيَّرناهم أمامنا فنأمن خيانتهم.»
لم يستحسن جابر هذا الرأي، وأصرَّ على أن يكون الهجوم عامًّا، فقال عبد العزيز يخاطب أخاه الأصغر سعدًا: «إني لا أرى غير الهزيمة لهذا الجيش، قف معي وقومنا على حدة لنتمكن عند الحاجة من الدفاع عن أنفسنا. اليوم يومُ دفاع يا سعد؛ لأن هؤلاء الناس لا رأيَ لهم ولا هم يقبلون النصيحة.»
عندما رأي جابر أن ابن سعود وقومه اعتزلوا الجيش لامَهم قائلًا: «أنتم إخواننا والإخوان في الحرب لا يحجمون.» فخجل عبد العزيز وأمر أخاه بالاشتراك في الهجوم.
وكانت الفاتحة للخيل، فأغارت خيَّالة ابن الصباح وهم مائة وخمسون على خمسمائة من فرسان السعدون. فكرَّ هؤلاء عليهم كرَّات سريعة شديدة هائلة فانهزموا هزمة شنيعة، وانهزم معهم جابر وجيشه بدون قتال، ولم يبقَ مع ابن سعود إلَّا عشرة فقط من الخيالة رجاجيله. أما البقية ففروا مع الفارين، وقد تركوا وراءهم كثيرًا من الحِلال والمال — من الأمتعة والإبل والخيل — فكانت لجيش السعدون هدية من جيش الكويت. وقد دُعِيت هذه الوقعة التي جرت في صباح اليوم الأول من جمادى الثانية من هذا العام (١٠ حزيران ١٩١٠) بوقعة هدية.
لحق عبد العزيز بجابر وقومه المنهزِمين فأدركهم في عصر ذاك النهار، وقال يهوِّن الأمر عليهم: «هذه عادات الرجال والحرب سجال.» ولكن الشدة أنستْهم التهكُّم. فبينا هم سائرون ضلوا الطريق وكان قد أدركهم فوق الهزيمة الجوع، ولم يكن لديهم شيءٌ من الزاد، ثم جاءتهم رحمة الله؛ فالتقوا بأباعر شاردة من حملة ابن سعود، وهي تحمل شعيرًا، فأطعموا الخيلَ أحمالَها، ونحروها ليُطعِموا أنفسَهم. وقد رافقتهم الرحمة في اليوم التالي؛ إذ علم فيصل الدويش بقربهم منه فجاء بأهله يلاقيهم، فنصب الخيام وأضافهم تلك الليلة ضيافةً كبيرة، ثم نحر لهم ثانية في الصباح. إن بعد العسر ليسرًا، ولكنهم لم ينسوا تلك الهزيمة، بل تلك الهدية. «هدية والله، أخذنا للسعدون هدية.»
أما الشيخ مبارك فعندما بلغته أخبار تلك «الهدية» خرج إلى قصره «السرَّة» يداوي كلومه، فجاءه ابنُه جابر و«ولده» عبد العزيز يهوِّنان الأمر عليه، ولكنه عقد النية على استنفار أهل الكويت ثانية. «سأجمع والله خمسة أضعاف هذا الجيش، وسأحرق المنتفق فلا يبقى منها غير الرماد!»
خطر لعبد العزيز خاطرٌ يمحو فيه كلام ذاك الغضب. كان «العرائف» قد رحلوا من الكويت — «العرائف» الذين استدعاهم مبارك ليصلح بينهم وبين ابن سعود — فارتأى أن يُجهَّزَ أحد أولاد الشيخ بجيش صغير فيسير عبد العزيز معهم، ويُشاع أنهم ساروا يطلبون «العرائف»، فيبلغ سعدون الخبر فيسرِّح عربانه، «فنعيد الكرَّة إذ ذاك عليه ونحن مدركوه بحول الله.»
رفض الشيخ مبارك ثانية أن يعمل برأي عبد العزيز، وكان ابن الرشيد قد هجم يومئذٍ على ابن الهذَّال وابن الشعلان، وهما حليفان لابن سعود كما تقدَّم، فأخذهما في جُمَيمَة على حدود العراق ونجد. فقال عبد العزيز يستأنف الحديث: «إذا كنت تصرُّ على تجنيد جيش كبير، فأنا أترك عندك رعاياي من عرب مطير وأعود إلى بلادي؛ لأن ابن الرشيد بعد انتصاره على الهذال والشعلان، لا بد أن يزحف إلى القصيم، وأخشى أيضًا أن يقوم «العرائف» بحركة في الرياض فيتفاقم الأمر عليَّ. ولا أظنُّك تريد لي ذلك.»
كان قد أمل الشيخ مبارك أن يغلب السعدون ولو بعون ابن سعود المعنوي، فندم لأنه لم يقبل بنصيحته، فلا يعرض به في مواقف الخطر يوم ضعفه. ندم لأنه لم يهول به تهويلًا على العدو ويزدخر الرجل لساعة قوته في الحرب، ولكنه، وقد أدرك هذه الحقيقة الآن، رفع الحجاب عن نفسه المتألِّمة عند استماعه كلمات عبد العزيز الأخيرة: «إذا رميتني اليوم يا وْلِدي فليس لديَّ أحدٌ ينهض بي، فيتمكن مني العدو. أنا والدك يا عبد العزيز ولي عليك حقُّ المساعدة، والبلد بلدك وله عليك حقُّ الدفاع … ابقَ عندي ولا تخرج مع الجيش. ابقَ عندي فأتسلَّى بوجودك معي.»
أجل، قد تجلَّت له الحقيقة التي حجبها عنه في أول الأمر الوهم والغرور، وهذه الحقيقة هي أن مجرد وجود ابن سعود عنده مفيد، فطلب منه ذلك وكان في طلبه بليغًا ووديعًا.
– «ابقَ عندي ثلاثة أشهر فقط.»
قال عظمة السلطان لمؤلف هذا التاريخ: «استحييتُ منه بعد هذا الكلام وبقيت.»
وكان مبارك أثناء تلك الثلاثة أشهر مطمئنًّا فلم يهاجمه السعدون، ولكن فوائد قوم عند قوم مصائب؛ فقد كان ابن سعود في قلق دائم، لأن ابن الرشيد كما تقدَّم غلب حليفَيه الهذال والشعلان، والعجمان تآمروا و«العرائف» عليه، و«العرائف» أسندوا عائدين إلى الرياض، ومنهم مَن كتبوا إلى الشريف حسين في مكة يستنجدونه على عبد العزيز. أضف إلى ذلك أن القيظ كان يومئذٍ شديدًا، فتفرقت البوادي وراحت تنشد المياه.
ثم حدث حادث بينه وبين بعض عربان مطير اعتدوا على عرب من قحطان وسبيع ولاذوا بابن الرشيد، فأراد عبد العزيز تأديبهم عندما جاءوا إلى أطراف الكويت، فتصدَّى له الشيخ مبارك، فكتب إليه يلومه قائلًا: «كان الأجدر بك أن تساعدني عليهم وهم من قبائلي العاصية.»
اشتعل الغضب في صدر مبارك — وما كان أسرع اشتعاله! — فخرج من الكويت إلى معسكر ابنه جابر، فاجتمع هناك بعبد العزيز، وكانت أول كلمة منه مرادفة للإهانة والطرد. قال الشيخ: «أظنك يا ابن سعود تبغي أهلك.» فأجابه بكلمة واحدة: «نعم.» وخرج من ذاك المجلس كما دخل مبارك إليه مكتئبًا متغيِّظًا.
إنها لأيام عصيبة في تاريخ عبد العزيز، تعدَّدت فيها الأعداء والأخطار، وهجرتْه بواديه وكان جزاء معروفه الإهانة وغمط الجميل. وهناك الطامة الكبرى، هناك العسر المالي الذي ندُر مثله في العشر السنوات الماضية من حياته.
المال! قد كان في حاجة شديدة إلى المال. وإنه ليدهش القارئ مقدار حاجته وهو حاكم نجد وكبير العرب. حاول أن يستدين من أهل الكويت، فاعتذروا خوفًا من مبارك، ثم أرسل إلى نسيبه ووكيله في البصرة عبد اللطيف باشا المنديل يطلب منه ألفين ليرة — ألفين فقط — ويقول له أن يقبض القيمة ممَّا تبقَّى عند الدولة من معاش الإمام والده.