الشريف حسين يشمر الأردان
من تهكُّم الزمان، وقد والى المتمرِّد عليه من الناس، أن يجيئَه في اليوم العصيب بما لا ينفعه من نوافل الحياة، بل بما يزيد في عسره وحزنه.
كان السلطان عبد الحميد قد منح الأمير عبد العزيز ابن سعود لقبًا ونيشانًا من أعلى درجات المجد عنده، فصارت الجرائد في بغداد وفروق تنعته بالنعوت الضخمة بعد أن كانت، في أيام نصره وعزِّه، تتحامل عليه.
غزَا الأمير الخطير عبد العزيز باشا سعود القبائل «المخلَّة براحة أهل السبيل فكسب شكر أهل الجميل»، بعد أن غزَا الأمير الخطير والزعيم الكبير عبد العزيز باشا سعود قبائل مطير وحرب، توجَّه قاصدًا الرياض «ليجمَّ نفسه حينًا من الزمن لأمر ذي بال …»
والحقيقة أولى أن تُقال، فقد عاد عبد العزيز من الكويت في أواخر هذا العام راكبًا مطيَّة الإفلاس، يحفُّ به جيشٌ من الغمِّ وصاحب بيرقِه يُدعَى اليأس (١٣٢٩ﻫ / ١٩١١م)، فتصالح وابن الرشيد — مكره أخوك لا بطل — لكي يتمكن من استخدام ما تبقَّى لديه من قوة في مقاومة «العرائف» أقاربه. وقد أرسل أخاه سعدًا الذي لم يكن يتجاوز السبع عشرة من سنِّه إلى عتيبة يستنجد رجالها لهذه الغاية.
ولكن عتيبة ولَّت وجهها شطر مكة، فانحازت إلى الشريف حسين، مضيف بعض «العرائف» ومكرمهم، إكرامًا لابن سعود! «ليس بيننا وبين ابن سعود، أيها النجيب، غير ما يُوجِبه حُسْن الجوار، وهذا لا يخفى على نباهات كمالات نجابتكم.»
لم يكن — والحق يُقال — بين الحسين وابن سعود عداء في تلك الأيام يجرُّ إلى الحرب أو يقضي حتى بالغزو، ولكن الشريف كان مواليًا للاتحاديِّين، ساعيًا في اكتساب ثقتهم، طامعًا بالسيادة له ولأنجاله. وكانت الحكومة قد فقدت الثقة ببيت الرشيد بعد أن تعدَّدت فيه الجرائم العائلية السياسية، فأدارت بنظرها إلى الحسين وهي ترجو أن يستميل في الأقل ابن سعود إليها. ولا ريب أن الشريف وعدَها بأكثر من ذلك.
خرج الحسين من الحجاز بجيش من البدو والحضر في رجب من هذا العام ونزل الكويعية «ديرة» عتيبة. وراح سعد «ينحر» تلك الديرة للغاية التي ذكرت (١٣٣٠ﻫ / ١٩١٢م)، فلما وصل إلى أطراف الكويعية خرج إليه فصيلة من خيَّالة عتيبة، فظنَّهم جاءوا يلاقونه ويرحِّبون، ولكنه عندما دنَوا منه أدرك قصدهم الحقيقي، لم يكن معه غيرُ أربعين رجلًا فركب وعشرةٌ منهم الخيل وقفلوا راجعين، فلحق أهل عتيبة بهم وهم يؤمِّنونهم قائلين: «نحن خدَّامكم، قفوا ولا تخافوا.» صدَّقهم سعد، ولم يصدقهم رجاله. فوقف بالرغم عن تحذيرهم، فقبض بنو عتيبة عليه وأخذوه أسيرًا إلى الشريف حسين.
وكان عبد العزيز قد تأهَّب لمحاربة «العرائف» بالحريق عندما اتصل به هذا الخبر، فترك أربعمائة من رجاله بقيادة فهد بن معمر في الخرج، وكرَّ راجعًا يستنجد أهل نجد، وينقذ أخاه.
أما الشريف فبعد أن أسر سعدًا رحل من الكويعية شمالًا فنزل الشعرى، ثم زحف من الشعرى شرقًا فنزل ماءً قريبًا من الوشم، ولكنه عندما علم أن ابن سعود قد وصل بجيشه إلى ضرمة تراجع غربًا فنزل على ماءٍ يُدعَى العرجاء، وأرسل يستنجد ابن الرشيد، فكتب وكيل الإمارة زامل السبهان إلى عبد الله بن جلوي أمير القصيم يومئذٍ يقول: «إن بيننا وبين الشريف معاهدة تضطرنا إلى مساعدته.» أما عهد الصلح بينهم وبين ابن سعود فإنْ هو إلَّا قصاصة من الورق.
لم يكن الشريف ليقصد من هذه الحرب بل هذه المناورات غير إزعاج ابن سعود وإكراهه فيما يريد. وقد كتب إليه، وهو يفرُّ ويكرُّ من ماءٍ إلى ماء يؤكد ذلك. «إذا هجمت علينا تركنا لك المعسكر والخيام وعدْنا بأخيك سعد إلى مكة، فيبقى عندنا إلى أن تطلب الصلح.»
أما الصلح فشروطه بيد الشريف حسين. ومن غرائب الاتفاق أن خالد بن لؤي أمير الخُرمة كان يومئذٍ الواسطة بين الاثنين. وخالد هذا وأهله، وإن كانوا من أشراف الحجاز، هم منذ القدم على ولاء وآل سعود. فقد تمذهبوا بالمذهب الوهابي في أيام سعود الكبير وظلُّوا متمسكين به محافظين عليه.
جاء خالد إلى عبد العزيز يعرض شروط الشريف. ولم تكن غير شروط الدولة التي كانت تطلب أن يُعترَف بسيادتها ولو اسميًّا في نجد أو على الأقل في القصيم، وطلبت فوق ذلك أن يدفع ابن سعود شيئًا من المال، عربون التبعة، كلَّ سنة.
إنه لأمر مضحك عجيب. ابن سعود يستدين من نسيبه ووكيله في البصرة ما يسدُّ به حاجاته، ويحيله على الدولة! والدولة تسعى بواسطة الشريف أن تُدخِل ابن سعود في تبعتها فتتقاضاه بدل أن تدفع له المسانهات.
جاء خالد يحمل شروط الصلح. وخالد وإن كان بدويًّا هو على شيء من الذكاء والدهاء. اسمعه يخاطب عبد العزيز فيُقنعه: «اسمع يا عبد العزيز، أنا أعلِّمك. لا غاية للشريف سيئة. لا والله، ولكنه يبي (يبغي) يبيِّض وجهه مع الترك. فاكتب له ورقة تنفعه عند الترك ولا تضرك. وأنا أتكفل برجوع سعد، وأتكفل أن الشريف لا يتدخل في أمور نجد. هذا إذا كنت لا تتجاوز الحدود، أما إذا هو اعتدى عليك فأنا خالد بن لؤي أعاهدك عهد الله عليه، فأكون معك، والله، كما كان آبائي مع آبائك وكما كان أجدادك مع أجدادي.»
قَبِل عبد العزيز بتوسُّط خالد وكَتَبَ له «قصاصة ورق» تنفع الشريف عند الترك ولا تضر كاتبَها؛ فقد تعهَّد فيها أن تدفع بلاد نجد للدولة ستة آلاف مجيدي كلَّ سنة.
وما كانت غير قصاصة من ورق.