لا نصر ولا انكسار
لم تنجُ البلاد العربية مما اعترى حكومة الاتحاديين من عوامل الضعف والفساد، فذهبت هيبة السلطتين المدنية والعسكرية، وضعفت الثقة بأولي الأمر من الترك كانوا أو من العرب. على أن العصبية في بعض القبائل حالت دون التفكُّك في الإمارات والأحكام؛ فقد راودت حكومة المدينة عربان الحجاز، وساومت حكومة بغداد عشائرَ العراق، وشاركت حكومة الحساء رؤساء البدو المجرمين، ولكن شمَّر ظلت الركن الأوطد لابن الرشيد، ومطير العضد الأكبر لابن الدويش، والمنتفق القوة الثابتة لابن السعدون، وظلت الظفير كتلة واحدة بيد ابن سويط.
بيدَ أن شيوخ هذه القبائل كانوا يومًا أحلافًا بعضهم لبعض ويومًا أعداء. فقد تصالح مثلًا وتحارب السعدون وابن سويط مرتين في مدة قصيرة، وكان ابن الرشيد صديقَ الاثنين اليوم وعدوَّ هذا أو ذاك منهما غدًا.
أما ابن سعود فحالُه في سنتَي ١٣٢٩ و١٣٣٠ / ١٩١١ و١٩١٢م حال المصارع الذي يستوي واقفًا قبل أن تلمس يدُه الأرض. وبكلمة أخرى قد كان — على ضعفه — القوةَ الوحيدة التي لم تستطع الأخصام أن تغيِّر هدفها أو أن تُلصقَها بالحضيض، بل كان — على ضعفه — يضرب في فترات التنفُّس الضربات المدوِّخة، وفيها البرهان أن هناك قوة — وإن نُهكت — لا تُغلَب.
وبينا هو في جهات الحساء، سمع الشيخ مبارك يستغيث. فقد جاءَه وفد من الكويت بكتاب من «والده» مشفوع بذلولَين، وجاء في الكتاب: «إني مرسل إليك ذلوليَّ وقد كنت أركبهما إلى الغزو، وأنا الآن عاجز عن الركوب والمغازي … أنا والدك يا عبد العزيز، والذلولان اللذان شهدَا الغزوات والمعارك العديدة هما لك يا وْلِدي، وهما يطلبان منك أن تأخذ بثأر والدك من ابن السعدون.»
فأجاب عبد العزيز أن مشاكله كثيرة وعشائره متقلِّبة، فيخشى الخيانات بعد أن اجتمع له الأمر في بلاده. وهو يضطر والحال هذه أن يستخدم كلَّ ما لديه من قوة في معالجة مشاكله الداخلية، ومنها في ذاك الحين مسألة تركي بن سعود العرافة الذي انحدر إلى الحساء من الخرج، كما قلت في الفصل السابق، يستنهض العجمان. وقد انضمَّ إليه آل سفران فخذٌ منهم.
لم يهمَّ الشيخ مبارك ذلك، فرفض عذر عبد العزيز، ولكنه كان يُحسن التأوُّه والاستغاثة، فكتب ثانية إلى «أوْلدي»: «أنا أصيح وأناديك، وأنت يا ولدي تصمُّ أذنك. أبمثل ذلك يعامَل الوالد؟ أتهجرني يوم شدَّتي فيساعد هجرُك العدوَّ عليَّ؟ اسمعني يا ولدي يا عبد العزيز، اسمعني أصيح وأناديك … إلخ.»
سمع عبد العزيز فاستنفر عشائره ليلبِّي النداء، ومشى بعد ذلك بجيش مؤلَّف من ألف وخمسمائة من الحضر وخمسة آلاف من البدو، يصحبه اثنان من أبناء الصباح، هما سليمان الحمود وعلي الخليفة. راح ينتقم «لوالده» من ابن السعدون وابن سويط.
وكان قد أعلم الشيخ مبارك بمسيره وأنه سينزل الحفر، ولكن العدوَّ أثناء ذلك انقسم قسمين، فاحترب أهل الظفير وأهل المنتفق بعد أن كانوا متحالفين، ولذلك أسبابٌ عربية وتركية؛ أما العربية فهي مألوفة وتكاد تكون طبيعية، وأما التركية فمنشؤها النزاع بين الاتحاديين والائتلافيين. وقد كان هذا النزاع يمتد إلى العشائر بواسطة رؤسائها، فيتذرَّعون به ليثأر بعضُهم من بعض، وندُر فيهم مَن ليس له ثأرٌ على الآخر.
علم الشيخ مبارك بما جرى بين عدوَّيه. وبما أن حمود بن سويط كان أميلَ إلى الائتلافيِّين منه إلى خصومهم، فقد كتب إليه يُخبره أن ابن سعود زاحف عليه ويحذِّره منه. إنه لَانقلابٌ سريع، مدهش، منكَر. عَلِم به عبد العزيز آسفًا متجمِّلًا، وعَلِم كذلك أن القصد منه أن يسترضي مبارك بن سويط ويستعين به على الاتحادي سعدون.
ولكن الخبر أشعل الحميةَ في رجال ابن سعود، فنادَوا بالهجوم على صاحب الكويت: «هو عدوٌّ لنا يا عبد العزيز، بل هو عدوُّ الله، كيف يطلب منك الهجوم على ابن سويط ثم يُخبره بذلك ليكون على حذر؟! رخِّص لنا فتجري الدماء كالأنهر في أسواق الكويت!»
سكَّن عبد العزيز روعَهم قائلًا: «قد قمنا نحن بما علينا، أما هو فقباحة عملِه عليه.»
قفل من سفوان راجعًا إلى الكويت، فرفض قومه أن يرجعوا معه: «لا ندخلها والله غير محاربين.» أبى عبد العزيز ذلك عليهم، فمشوا معه طائعين حتى وصلوا إلى الجهرى، فنزلوا فيها، وقد جاء الشيخ مبارك يسلِّم على «ولده» فاعتذر عما بدَا منه دون إسهاب في التصريح، وقبِل عبد العزيز العذر دون معاتبة.
ثم سار يقصد إلى الحساء، وكان قد كثر فيها وفي جوارها الأشقياء، فبلغه وهو في الطريق أن العجمان العاصين هجموا على عرب من عربان فيصل الدويش وأخذوا عددًا كبيرًا من الإبل مِلْك رجل من الموصل اسمه «ذو النون» كان في ضيافة ابن سعود، فسارع عبد العزيز إلى مقاتلة المعتدين.
ولكنه أخبر أنهم على ماءٍ قريب منه، فراح يطلبهم هناك، فأدركهم وأخذهم جميعًا، ثم علم أنهم غير المذنبين، وأنهم أبرياء، فأعاد إليهم كلَّ ما أُخذ منهم وأخلى سبيلهم.
أما المذنبون ورئيسهم تركي العرافة، فكانوا قد التجئوا إلى حكومة الترك في الحساء، فأخبروها أن «ذا النون» من رعاياها من الموصل، فأرسلت الحكومة تحتج على ابن سعود، وتحذِّره من التعرُّض لقبيلة العجمان. فأجاب أن في تأديبه هذه العشيرة خيرًا للناس وللحكومة.
ولكنه لم يشأ يومئذٍ أن يُغضِب الترك في الحساء فتركهم وشأنهم.