الأتراك والوحدة العربية
خبطت حكومة الاتحاديِّين في دياجي الأثرة خبْطَ عشواء، وتلطَّخت أيدي زعمائها بدم الأبرياء، فنفرت منها كلُّ العناصر غير التركية، بل هاجت عليها فئة عاقلة من الأتراك أنفسهم، ولكنها لم تظفر بشيء يُذكَر، ولا ظفرت الحكومة بأمنية من أمانيها القومية أو الوطنية؛ فقد حاولت تتريك العرب فباقَ بها الفشل، وحاولت استرضاءَهم بعد ذلك فكانت كالنافخ في الرماد.
قد أفضت تلك السياسة إلى الحرب الأولى بعد الدستور، بل إلى الخسارة الأولى من الممالك العثمانية (١٣٣٠ﻫ / ١٩١٢م)، انتصرت إيطالية، وذهبت طرابلس الغرب، ولكن الذي يهمُّنا في هذا الصدد هو أن أميرًا من أمراء العرب؛ أي السيد الإدريسي كان حليفَ الأجانب على الأتراك، وظلَّ الأمراء الكبار الآخرون — ما عدا الشريف حسين — على الحِياد في تلك الحرب.
حتى إن الإمام يحيى عدوَّ الإدريسي ظلَّ ساكنًا، فلم يغتنم الفرصة للفتك بالأدارسة وأتباعهم. وجلُّ ما كان من «إخلاصه» للدولة أنه أَذِن لعساكرها أن تجتاز بلاده لتسقط على الإدريسي من الجبال فتجتز ساقةَ جيشِه.
ثم طلبت حكومة الاتحاديِّين المساعدة من ابن سعود، وتعهَّدت أن تقدِّم له كلَّ ما يحتاج إليه من السلاح والذخيرة والمال، فما لبَّى الطلب. وقد كتب إلى الحكومة كتابًا يقول إنه عربي فلا يحارب من أجل الدولةِ العربَ، وإنه والإدريسي على ولاء، وإن البلاد في كلِّ حال بعيدة عنه فلا يتمكن من محاربة أهلها.
عادت الحكومة فطلبت منه أن يخصَّ الأحساء بعسكر عربيٍّ لحماية تلك الناحية وبالحري لحماية الترك فيها، فرفض ذلك أيضًا.
إنكم لم تُحسنوا إلى العرب ولا عاملتموهم في الأقل بالعدل، وأنا أعلم أن استشارتكم إيَّاي إنما هي وسيلة استطلاع لتعلموا ما انطوتْ عليه مقاصدي. وهاكم رأيي، ولكم أن تأوِّلوه كما تشاءون.
إنكم المسئولون عما في العرب من شقاق، فقد اكتفيتم بأن تحكموا وما تمكَّنتم حتى من ذلك. قد فاتكم أن الراعي مسئول عن رعيته، وقد فاتكم أن صاحب السيادة لا يستقيم أمرُه إلَّا بالعدل والإحسان، وقد فاتكم أن العرب لا ينامون على الضَّيْم ولا يبالون إذا خسروا كلَّ ما لديهم وسلمت كرامتُهم. أردتم أن تحكموا العرب فتقضون أَرَبَكم منهم فلم تتوفَّقوا إلى شيء من هذا أو ذاك. لم تنفعوهم ولا نفعتم أنفسكم.
وفي كلِّ حال أنتم اليوم في حاجة إلى راحة البال لتتمكَّنوا من النظر الصائب في أموركم الجوهرية. أما ما يختصُّ منها بالعرب فإليكم رأيي فيه: إني أرى أن تدعوا رؤساء العرب كلَّهم، كبيرهم وصغيرهم، إلى مؤتمر يُعقَد في بلد لا سيادة ولا نفوذ فيه للحكومة العثمانية لتكون لهم حرية المذاكرة. والغرض من هذا المؤتمر التعارُف والتآلُف، ثم تقرير أحد أمرين إمَّا أن تكون البلاد العربية كتلة سياسية واحدة يرأسها حاكمٌ واحد، وإما أن تقسموها إلى ولايات، فتحدِّدون حدودها وتُقيمون على رأس كلِّ ولاية رجلًا كفؤًا من كلِّ الوجوه، وتربطونها بعضها ببعض بما هو عامٌّ مشترك من المصالح والمؤسسات.
وينبغي أن تكون هذه الولايات مستقلة استقلالًا إداريًّا وتكونوا أنتم المشرفين عليها. فإذا تمَّ ذلك فعلى كلِّ أمير عربي، أو رئيس ولاية، أن يتعهَّد بأن يعضِّد زملاءَه، ويكون وإياهم يدًا واحدة على كلِّ مَن تجاوز حدوده، أو أخلَّ بما هو متفق عليه بيننا وبينكم.
هذي هي الطريقة التي تستقيم فيها مصالحكم ومصالح العرب، ويكون فيها الضربة القاضية على أعدائكم.
قد استحسن والي البصرة هذا الرأي فأرسل به إلى الآستانة، ولكن أُولِي الأمر هناك لم يستحسنوه، بل سفَّهوه قائلين: «يريد ابن سعود أن يجمع كلمة العرب بواسطتنا ولخير نفسه.»
وكانت سياستهم مبنية على ظنِّهم، فشرعوا يقاومون فكرة الوحدة سرًّا وعلنًا، بمساعدة عمَّالهم مباشرة وبواسطة بعض أمراء العرب. وقد كان يومئذٍ جمال باشا في بغداد، والشريف حسين في مكة، وابن الرشيد في حائل في مقدمة مَن يسمعون كلمة الآستانة ويطيعون.
وكان جيش ابن سعود قد أغار على فخذٍ من عتيبة المتشيِّعة للعرائف، فغضب لذلك الشريف وردَّ صالح العذل خائبًا، وردَّ فوق ذلك الهدية. فخرج العرائف على ابن سعود. وقد خُتِمت هذه السنة بخيانة مطير ورئيسها فيصل الدويش الذي استغواه عجيمي السعدون واستنهضه وعربانه على محاربة الظفير. أما اليد الخفية في هذه الخيانة فيدُ الترك، وأما الصوت فصوت المتترِّكين يومئذٍ من العرب.