احتلال الرياض
وكانت شكوى الموتورين أبناء أخوَي الشيخ مبارك قد وصلت إلى الآستانة ففتحت لها السياسة أُذُنَها وبريطانية العظمى وقتئذٍ وراء الستار. قال السفير الكلمة التي طالما أصاخ لها الباب العالي فأُنذِر صاحب الكويت. نعم، انقلبت الدولة العلية على الشيخ مبارك، وهو الذي ساعدها لتستوليَ على الحساء، فسيرت إلى الكويت باخرة حربية.
وكان ابن الرشيد قد زحف إلى أطراف البلاد وهمَّ بالهجوم على الجهرى، تلك البلدة الكائنة وراء الخليج على ضفة الجون الغربي، على مسافة خمسة عشر ميلًا من العاصمة. أحاط الأعداء بالشيخ مبارك، حاقت «بالحواقة» الأخطار، ولكنه لم يفقد من عزمه ودهائه شيئًا، فعندما رأى نفسه وبلاده في شبه الحصار فتح قلبه للدولة الأخرى الراسية بواخرها الحربية عند الشاطئ الفارسي من الخليج. أرسل إلى أبي شهر يستنجد الإنكليز، فجاءه بعد ثلاثة أيام مركبٌ حربي ورسَا في مياه الكويت عشرين يومًا.
تلبَّد جوُّ السياسة في بغداد والبصرة، فابتسم مبارك وهو يجهِّز الحملة الثانية على ابن الرشيد، بل ضحك وهو زاحف إلى الجهرى، والمركب الحربي سائر في مرأًى من الجيش إليها: أتبغون حصاري برًّا وبحرًا؟ ها أنا ذا جئتكم بحرًا وبرًّا بالقوات التي لا تُغلَب.
ولم يُطلِق المركب الحربي مدفعًا إلَّا أن الرُّبَّان أذن ببعض المدافع الرشاشة فأُنزِلت في الزوارق إلى البر ومعها ضباط علَّموا الكويتيين استخدامها، ثم خطر في بال ذاك الربان الذكي أن يُرهِب العربان بالأسهم النارية، فأرسلها ليلًا في الفضاء وكان لها التأثير المطلوب. قيل إن ابن الرشيد ورجاله لاذوا بالفرار عندما رأوا النيران تشتعل في كبد السماء.
بعد هذا الحادث وتلك الأسهم النارية أدرك الأمير الشمري أنه بدون مساعدة الدولة مباشرة لا يستطيع الاستيلاء على الكويت. عاد إذن بجيشه إلى الحفر، وشرع يفاوض الترك في بغداد. فلما علم الشيخ مبارك بذلك أراد أن يشغله بنجد وراء الدهناء.
وكان السعد في وجود آل سعود بالكويت خادمًا لمبارك. هو ذا عبد العزيز وهو يأبى أن يقف في الغزو عند خيبته الأولى. هو ذا عبد العزيز وهو منذ رجوعه من الرياض يلحُّ على والده ليستأذن من الشيخ مبارك بإعادة الكرَّة على ابن الرشيد، فأذن الشيخ حبًّا وكرامة.
ولكن الغزو يكون جماعة، والجماعة — أربعون رجلًا من عائلة آل سعود وخدامهم السابقين — حاضرون، لا يلزمهم غير الركائب والبنادق والزاد، وشيء من المال. أجاب الشيخ مبارك الطلب فأعطى عبد العزيز أربعين ذلولًا، وثلاثين بندقية، ومائتي ريالًا، وبعض الزاد.
١٣١٩ﻫ / ١٩٠١م: كان عبد العزيز في الواحد والعشرين من سنِّه عندما خرج بهذه الشرذمة من الكويت. خرج «ينحر» — يقصد — البوادي علَّه يزيد في الأقل عدد رجاله. نحروا العجمان فتردَّد الرؤساء فيهم ولكن كثيرين من العامَّة انضموا إلى غزو ابن سعود. وكذلك آل مرة وسبيع والسهول، فاشتد ساعدُ عبد العزيز. أصبح معه بدل الأربعين ذلولًا ألف ذلول وأربعمائة خيَّال.
هو جيش في البادية يذكر. ركب القائد الشاب على رأسه يقطع الصمان والدهناء فوصل إلى مكان يُقال له: العرض بنجد، وغزَا هناك عرب قحطان الذين كانوا تابعين لابن الرشيد، فأصاب منهم مغنمًا كبيرًا، وعاد إلى ناحية الحساء.
ولكن ابن سعود بعد أن موَّن جيشه في الحساء خرج غازيًا مرةً أخرى، فوصل إلى سدير، فأغار هناك في مكان يُدعَى عُشيرة على قبيلة من قحطان وأخرى من مطير فأخذهما ورجع بالغنائم، فنزل ثانية في أطراف الحساء. وكان جيشه يزداد في كلِّ غزوة حتى أصبح ألفًا وخمسمائة ذلول وستمائة خيَّال.
أما ابن الرشيد فعاد بجيشه إلى الحفر، ولما بلغه خبر غزوات ابن سعود الموفَّقة أرسل رسولًا اسمه الحازمي إلى الشيخ قاسم بن ثاني يستنهضه على هذا العدوِّ الجديد، ثم كتب إلى حكومة البصرة لِتوعِز إلى حكومة الحساء بطرد ابن سعود من تلك النواحي وبتحريض البوادي عليه. أجابت الحكومة طلب ابن الرشيد، فشرد خوفًا منها ومنه أكثر من ألف هجَّان ومائة خيَّال من جيش ابن سعود، فلم يبالِ بذلك؛ لأنه لم يكن ليركنَ إلَّا لرجاله الأربعين الأوَّلين.
غزَا بما تبقَّى معه الغزوة الثالثة فوصل إلى جنوبي نجد وأغار هناك على قبائل من الدواسر فلم يُصِب مغنمًا كبيرًا، ولكنه عاد إلى ناحية الحساء. وكان وقت الشتاء فتفرَّق البدو طالبين المرعى لمواشيهم. لم يكن ليربطَهم بابن سعود إلَّا حبُّ الكسب، فمن أين له والحال هذه أن يُكرههم على البقاء.
أربعون رجلًا ظلوا أربعين بعد أن ذاقوا حلاوة النصر ومُرَّ الفشل والخسران. ولم يكن لعبد العزيز الشاب ما يشحذ عزمهم، ويفتح لآمالهم ولو كوَّةً من النور، استمر ابن الرشيد يحرِّض الترك وصاحب قطر عليه، فكتب إليه والدُه والشيخ مبارك يسألانِه أن يرجع إلى الكويت فأبى. وعندما اشتدَّ عليه ضغطُ الحكومة — حكومة الحساء — فرَّ ورجاله هاربين جنوبًا فوصلوا إلى مكان بين حرض وواحة جبرين، وأقاموا هناك شهرًا.
تشتَّت جيشُ عبد العزيز وتزعزعت آماله، فنهض يائسًا يضرب الضربة الأخيرة، وهو يرجو أن تكون القاضية إما عليه وإما على خصمه. اعتزم الهجوم ثانية على الرياض فإما أن يستوليَ عليها وإما أن يُقتل في سبيلها.
وكانت قوته يومئذٍ ستين رجلًا لا غير؛ أي إنه لم يبقَ معه من ذاك الجيش الذي بلغ عددُه ألفين غير عشرين مقاتلًا. وكان في الرياض قلعتان الواحدة ضمن الأخرى شيَّدهما ابنُ الرشيد وأقام فيهما تسعين من رجاله يرأسهم أميرٌ اسمه عجلان.
خرج ابن سعود والستين البسلاء من مراحهم بين حرْض وجبرين في ٥ رمضان ووجهتُهم الرياض، فوردوا ليلة العيد أبا جفان، وساروا منه في اليوم التالي فوصلوا في ٤ شوال إلى حدود الرياض، ونزلوا في الساعة الثالثة عربية (التاسعة ليلًا) في ضلعٍ يبعد ساعتين عن العاصمة.
ترك عبد العزيز عشرين من قومه هناك كجيشٍ احتياطي وتقدَّم بالأربعين الآخرين، وفيهم أخوه محمد وعبد الله بن جلوي أمير الحساء اليوم. فلما وصل إلى البساتين خارج السور أقام أخاه محمدًا ومعه ثلاثون رجلًا هناك، ومشى بالعشرة الباقين إلى غرضه، ولكنه لم يتمكَّن من الدخول إلى الحصن الخارجي؛ أي حصن السور إِلَّا من البيت المحاذي وهو لفلاح يتَّجر بالبقر.
قرع عبد العزيز الباب فأجابت امرأة تقول: مَن أنت؟
ثم تسلَّق الجدار إلى البيت الآخر عند الحصن فإذا فيه شخصان نائمان على فراش واحد، فلفهما بالفراش وحملهما إلى غرفة صغيرة، فأودعهما هناك وأقفل الباب.
اطمأن من عبد العزيز البالُ، فأرسل يطلب أخاه محمدًا والباقين فجاءوا دون أن يشعر أحدٌ بهم واجتمعوا كلُّهم في ذاك المكان.
وكان البيت الآخر إلى جانب الحصن للأمير عجلان، وفيه إحدى نسائه وهو يزورها تارة في الليل وطورًا في النهار. مشى عبد العزيز وعشرة من رجاله إلى ذاك البيت، فدخلوه، طافوا بغرفه، فوجدوا في إحداها اثنين نائمَين على فراش واحد ظنَّهما عبد العزيز الأمير عجلان وامرأته.
دخل متسلِّلًا ومعه رجل يحمل سراجًا. فلما دنا من الفراش رفع الغطاء فإذا هناك امرأتان، فأيقظهما، فاستوتَا جالستَين دون أن يعريَهما شيءٌ من الخوف. وكانت الواحدة منهما امرأة عجلان والأخرى أختها امرأة أخيه.
عرفت امرأة عجلان الرجل فبادرته بالقول: أنت عبد العزيز. فأجابها: نعم. فقالت: مَن تبغي؟ فأجابها: أبغي زوجَك. فقالت وهي تُقسم بالله: إني أحب أن تقتل كلَّ مَن في البلد من شمر إلَّا زوجي، ولكني أخشى عليك منهم، أخشى أن يقتلوك يا عبد العزيز.
وكانت الساعة الثامنة عربية (الثانية بعد نصف الليل) فاستراحوا، وأكلوا التمر، وشربوا القهوة، وناموا قليلًا، ثم شرعوا عند انبثاق الفجر يدبِّرون طريقةً للهجوم على الحصن الداخلي، وبعد قليل فُتِح ذاك الحصن فأخرج بعضُ العبيد الخيلَ إلى الشمس، فلما رأى عبد العزيز البوابة مفتوحة خرج عاديًا، فتبعه من رجاله خمسة عشر رجلًا فقط.
واتفق أن الأمير عجلان كان قد خرج من الحصن عند هجومهم عليه وهو قادم إلى بيته، فلما رآهم عراه الدهش والرعب فنكص ورجاله على أعقابهم وهم يبغون الرجوع، ولكن البوابة إلا الخوخة (الباب الصغير فيها) كانت قد أُقفِلت، وبينا كان ورجاله يدخلون من ذاك البُوَيب أطلق عبد العزيز البندقية عليه فأصابه ولم يقتله، ثم أدركه وقد صار نصفه داخل البوابة فأمسكه برِجلَيه وسحبَه إلى الخارج فتصارع الاثنان برهة.
أما الرجال الذين كانوا قد دخلوا الحصن فصعدوا إلى أحد الأبراج المشرفة على السوق، وشرعوا يطلقون النار من المصاليت على رجال ابن سعود، فجرحوا أربعة منهم وقتلوا اثنين.
تراجَع الهاجمون إلَّا عبد الله بن جلوي فكان أول مَن دخلوا الحصن، وراح يعدو وراء عجلان الذي كان قد تفلَّتَ من عبد العزيز، فرماه بالرصاص فخرَّ لوجهه قتيلًا.
نادى عبد العزيز برجاله واستفزَّهم فاقتفَوا أثر عبد الله. هجموا على الحصن هجمةً واحدة، فصاحوا بمَن فيه وفتكوا بهم، فقتلوهم إلا عشرين رجلًا كانوا قد تحصَّنوا في جهة منه، ولكن عبد العزيز أمَّنهم على حياتهم فسلَّموا.
وبعد سقوط الحصن في الخامس من شوال ١٣١٩ /١٥ يناير سنة ١٩٠٢، والاستيلاء على الرياض باشر الأمير السعودي الشاب بناء السور الجديد القائم اليوم حول أقسام متهدِّمة من السور القديم، فتمَّ بناؤه في نحو خمسة أسابيع.