المفاوضون يتسابقون والشيخ مبارك يتعثَّر
إن على الخليج إلى الشرق والجنوب من البحرين رأسًا من الأرض محاذيًا لشاطئ العقير هو قطَر، كان صاحبه الشيخ قاسم بن ثاني، شيخ الأمراء يومئذٍ سنًّا وجاهًا، قد احترب والترك مررًا وحاول عبثًا أن يُخرجَهم من الحساء، فعندما فاز ابن سعود بذلك عَراه، ولا غروَ، هزاتٌ شتَّى، منها الخوف على إمارته، وقد أصبح الفاتح جارَه الأدنى، فكتب إليه في شوال (أيلول) من هذا العام كتابًا شديد اللهجة يحذِّره ويهدِّده، وما كان منه غير ذا التهديد. فقد حاصره بعد أسبوع عدوُّ الحياة الدنيا الحصارَ الأخير، فسلَّم الشيخ قاسم صاغرًا (١٣٣١ﻫ / ١٩١٣م)، وكان من الظافرين بالرحمة الأبدية، أما خلفه فقد كان حكيمًا فوالى ابن سعود.
وكان عبد العزيز قد توجَّه إلى القطيف ينظم شئونه، فأمَّر هناك عبد الرحمن بن سويلم وأمَّر في الحساء عبد الله بن جلوي، رجلين من كبار رجاله، وهما حتى اليوم يحكمان في تيْنِك الناحيتين.
ثم عاد في خريف هذا العام إلى الرياض وقدم من البصرة عبد اللطيف باشا المنديل منتدَبًا من الحكومة العثمانية للتوسُّط بالصلح بينها وبين فاتح الحساء، فقَبِل عبد العزيز التوسُّط، وأجَّل النظر في المسألة إلى الربيع.
وكان الإنكليز قد بدءوا يفاوضونه أيضًا، ويطلبون منه أن يأذن بالاجتماع، فرجع إلى الحساء في ذي الحجة، واجتمع في العقير بالوكيل السياسي للبحرين ومعه رجل آخر اسمه شيكسبير، سنعود إلى ذكره.
أما اجتماع العقير هذا فلم يُسفِر عن شيء للتاريخ، إلَّا أنه مهَّد السبيل إلى مقاومة النفوذ الألماني في تركية بعد أن تلاشى فيها النفوذ الإنكليزي، ذلك النفوذ الذي كان في المقام الأول منذ حرب القرم. خشيت إنكلترة على طريق الهند، فعندما علا نجم ابن سعود وظهرت شوكته، طفقت تخطُب ودَّه وتسعى في عقد اتفاق وإياه ليكون لها عضدًا على الخليج، فيقف سدًّا منيعًا دون ذاك النفوذ الألماني الذي كان قد خيَّم في العراق.
عاد عبد العزيز إلى الرياض فبلغه خبرُ دسيسةٍ في القطيف، فأرسل سرية إليها (١٣٣٢ﻫ / ١٩١٣ و١٩١٤م)، ثم سار بنفسه إلى تلك الناحية فنزل في الجبيل. وقد جاءه وهو هناك كتابٌ من الشيخ مبارك الصباح يُخبره أن أحد كبار الترك قدم الكويت، ومعه هدية من أنور باشا لابن سعود وإجازة للتوسُّط في الصلح.
ثم جاء عبد اللطيف المنديل ليُخبر عبد العزيز أن قد تألَّف للمفاوضات وفدٌ يرأسه السيد طالب النقيب وفيه ياور من ياورية السلطان. تعدَّد الخاطبون فاضطرب «الوالد» مبارك، فكتب إلى «ولده» يطلب أن يكون الاجتماع في ظلِّه بالكويت ليكلأه بنظره، ويمدَّه بإرشاده: «من حقِّي عليك يا ولدي ألَّا تقبل وساطة هؤلاء إلَّا في بلدك الكويت.»
ولكن «الولد» كان قد شبع من كلاءَة «الوالد» وإرشاده، ومع ذلك فقد أجاب بعض طَلَبِه فسار إلى جهة الكويت ونزل الصبيحية، على مسير يوم من العاصمة. كتب «الوالد» ثانيةً يلحُّ بالقدوم إليه، فأجابه عبد العزيز: «إني الآن قريب من الكويت فليتقدموا إليَّ.»
وبينا هو في الصبيحيَّة كتب إليه الوكيل السياسي لبريطانية العظمى في الكويت يستأذن بالمقابلة، فضرب له موعدًا في ملَح، واجتمع به هناك. جاء الوكيل في السيارة وجاء سائقها بكتاب من مبارك يقول: «كن صلبًا معه يا وِلدي (أي مع الوكيل) فلا تمكِّنْه من شيء ولا تعطِه الجواب الشافي.»
لم يرَ «الولد» بأسًا في مجاملة «والده» هذه المرة؛ لأنه لم يكن قد قرَّر خطته السياسية تجاه الترك والإنكليز، فقال للوكيل: «لا يمكن أن نقرِّر شيئًا اليوم، ولكن والدي مبارك الصباح ينوب عني.»
عاد الوكيل غضبًا إلى الكويت، وركب ابن سعود ضاحكًا فعاد إلى معسكره في الصبيحيَّة.
وفي اليوم التالي وصل وفد السيد طالب، ووصل نجاب يحمل كتابًا من «الوالد» — من مبارك الحانق الحاقد، اللائم الشاتم. وقد كان ناقمًا على الوفد؛ لأنه لم يُنتخَب لرئاسته، فكتب إلى عبد العزيز يحذِّره من «هؤلاء الكذَّابين المكَّارين الخدَّاعين. كُنْ صلبًا معهم يا ولدي ولا تمكِّنْهم من شيء، ولا تُصدِّق ما يقولون، إنهم كذابون خدَّاعون.»
كان الشيخ جابر بن مبارك يومئذٍ عند ابن سعود فأطلعه على كتاب أبيه، وقال: «تراه يحذِّرني من الإنكليز، ويحذرني من الأتراك. وهل في إمكاني أن أحارب الاثنين؟» فأجاب جابر: «انظر إلى ما فيه مصلحتك واترك الناس.»
عُقدت جلسة المؤتمر الأولى وكان الشيخ جابر وآخرون من رجال مبارك حاضرين، فرمى عبد العزيز قنبلة من قنابله السياسية، زعزعت المؤتمر وكادت تبدِّد شمله. قال يخاطب رجال الوفد: «الأتراك كذَّابون خدَّاعون، وأنا لا أركن إليهم في المفاوضات. فإذا كنتم تبغون مصالحتي فدونكم والدي مبارك هو الواسطة بيني وبينكم، ولست قابلًا بغير ذلك.»
عُقِدت هذه الجلسة في الصباح، فتبعتْها جلسة أخرى في ذاك اليوم بعد العشاء، ولكن الفترة بين الجلستين كافية لتُثِير بركانًا من الغضب، خصوصًا في رئيس الوفد السيد طالب، ومِزاجه مزيج من البارود والكبريت. أظنه نام القيلولة ذاك اليوم ثم صلَّى المغرب استعاذةً وصبرًا، ثم ضحك ضحكةً طالما أضحكه بعدئذٍ ذكرُها.
كانت جلسة المساء خصوصية فلم يحضرها غير رجال الوفد. وقد أطلعهم عبد العزيز قبل افتتاح الجلسة على كتاب الشيخ مبارك، فكانت الضحكة وكان العجب، ثم باشروا المفاوضات الولائيَّة. طلب الوفد أن يكون للدولة معتمدون في القطيف وفي الحساء، فأبى ابن سعود وطلب أن تكون العلاقات ولائيَّة فقط، وأن تساعده الدولة لقاء هذا الولاء بالأسلحة والذخيرة والمال. بعد اللَّتَيَّا والَّتي قَبِل الوفد بذلك وقرَّروا أن يظل هذا الاتفاق سرًّا إلى أن يُقرَّه الباب العالي.
وبعد يومين أدَبَ عبد الوهاب آل قرطاس في البصرة مَأْدبة للوفد حضرها الوالي شفيق كمالي باشا، والشيخ خزعل، والشيخ مبارك، وكان الحديث في الوفد وابن سعود.
قال الشيخ مبارك يخاطب الوالي: «أَلم أَقُل لكم إنكم لا تفلحون إلَّا إذا انتدبتموني أنا للتوسُّط بينكم وبين ابن سعود؟ وما طلبت ذلك منكم والله إلَّا لأمرين؛ أولًا: لكي أقوم بخدمةٍ للحكومة العثمانية، وثانيًا: لكي أستر على ابن سعود لأن السفيه لا يعقل ما يقول.»
فأجاب الوالي: «رأيك هو الصواب، ولكن الأمر انفرط.»
ثم قال مخاطبًا رئيس الوفد: «وما قولك أنت يا طالب؟»
السيد طالب: «أقول ما قاله الشيخ مبارك، فلو كان حضرته معنا لما فشلنا.»
حمل السيد طالب تلك البرقية وسارع إلى الشيخ مبارك الذي كان يومئذٍ في الفيلية، فقال بعد السلام: «أبشر يا شيخ أبشر، قد اتفق ولدك مع الحكومة.»
مبارك مدهوشًا: «ومتى كان هذا؟»
طالب متهانِفًا: «الأمر قُضِي بليلة.»
مبارك متغيِّظًا: «كلها من مساعيك يا خبيث.»
طالب في لهجته السابقة: «تعلَّم الولدُ الخباثة من أبيه.»
مبارك وقد اشتعلت النقمة في عينيه: «سلط الله عليك يا خبيث! إليك عني.»
ضحك السيد طالب وهو يعيد قراءَة البرقية.
إني ابنك وقد أهنت نفسي في القدوم من الجبيل إلى الكويت، وما ذلك إلَّا حبًّا بك وعملًا بإرادتك. ولكن كيف أستطيع أن أُرضِيَ والدي وهو يأمرني بألَّا أتفق والإنكليز، وألَّا أتفق والترك. فإذا بيَّن لي حضرة والدي الطريق الثالث أسلكه راضيًا شاكرًا، ولكني أسأل والدي الآن: كيف استحسن ذاك الكلام في ولده على مائدة ابن قرطاس؟
فكتب مبارك معتذِرًا على عادته، فقال: «لا تصدِّق يا وْلِدي أكاذيب اللعين طالب، وأكد يا وْلِدي أني أريد أن أتظاهر أمام الأتراك بالبعد عنك والجفاء لأُدرِك لك الغاية التي تنشُدها.»
فأجابه عبد العزيز: «والحمد لله أن الأمور كانت على ما يرام، فلْيَهْنأ الوالد بعزِّ ولده، والسلام.»