هادمة العهود ومفرِّقة الوفود
هي الحرب العظمى! ومع أن الذي هدمته في البلاد العربية لم يكن غير اليسير في بادية الأطلال فلا بدَّ، ونحن نكتب تاريخًا عربيًّا، من أن نقف عنده وقوف الأثري فنكشف النقاب من أجل التاريخ عن شيء من أدفانه.
جاءت الوفود وراحت إلى الحساء والكويت، فتفاوض المتفاوضون، وتنافس الخاطبون ودَّ ابن سعود. على أنه لم يتجسم من النتائج ما يستحق الاسم والتسجيل غير ذاك الاتفاق الذي تمَّ في الصبيحية وأقرَّه الباب العالي.
والغريب العجيب من أمر ذاك الباب العالي هو أن يمينه — إذا أذِن البيانيُّون بالاستعارة — لم تعلم بما كانت تعمل يسراه. أو إن رجاله في العراق كانوا في وادٍ، ورجاله في الحجاز في آخر، بل كان الفريقان في عزلتين، عزلة تُبعِد الزملاءَ بعضهم عن بعض، وعزلة تُبعدهم كلهم عن النور الأعلى، نور ذاك الباب المشهور. فتعدَّدت الوفود في باب ابن سعود، وعُقدت عهود ناسخة لعهود، ولكن الحرب العظمى، لحُسْن حظ الدولة العليا، هدمت الناسخ والمنسوخ، ومحتْ بطلقة نار كلامَ الليل وكلام النهار.
وهاكم الحوادث شهودًا. قبل أن يجتمع وفدُ السيد طالب النقيب بابن سعود في الصبيحية اجتمع سعود بن الرشيد بوالي البصرة شفيق كمالي باشا قرب الزبير، وتمَّ الاتفاق بينهما على أن تساعد الدولة في محاربة ابن سعود، وقد قدمت لابن الرشيد عشرة آلاف بندقية، وكثيرًا من الذخائر وشيئًا من المال.
لم يعلم ابن سعود بهذا الاتفاق إلَّا بعد رجوعه إلى الرياض، فكتب إلى ابن الرشيد يذكِّره بعهد الصلح الذي بينهما، ويعيب عليه اتفاقَه والأتراك. فأجاب ابن الرشيد: «إني من رجال الدولة، ومصالحتي وإياك لا تكون إلَّا إن رضيت الدولة بها.» فعَدَّ عبد العزيز ذلك خيانةً منه، وكتب إليه يقول: «إذا كنت مصرًّا على نكث العهد فالمقاومة أولى.»
وما خطر في باله عندما كتب هذه الكلمة أن أوروبة كانت يومئذ تُردِّدها، وقد قامت الدول هناك بعضها على بعض بالسلاح.
قد علمتم ولا شك بوقوع الحرب، فأرى أن نجتمع للمذاكرة علَّنا نتفق فنُنْقذ العرب من أهوالها، ونتحالف ودولة من الدول لصَوْن حقوقنا وتعزيز مصالحنا.
بعد أن بعث الرسل بهذا الكتاب جاء السيد طالب من قِبَل الأتراك ثانية — جاء يسترضي ابن سعود، فاجتمع به في القصيم.
ولكن الإنكليز كانوا أثناء ذلك قد احتلوا البصرة، فجاء الملازم شيكسبير الذي كان قد اجتمع بابن سعود سابقًا في العقير، يحمل في حقيبته تفويضات لا قيدَ يقيِّدها غير المصلحة البريطانية واقترانها بمصلحة نجد.
ثم قَدِم من المدينة وفدٌ عثماني آخر يحمل إلى ابن سعود عشرة آلاف ليرة ويتزلَّف منه بواسطة صديقه محمود شكري الألوسي أحد أعضاء الوفد.
ثم خرج من الحجاز الأمير عبد الله بن الشريف حسين موفدًا من والده للنظر في المسألة التي كتب عبد العزيز بخصوصها، فاجتمع على الحدود بمندوب ابن سعود وافترق الاثنان كما اجتمعا دون أن يقرِّرَا شيئًا. والحقيقة أن الشريف كان يتحيَّن الفرص للهجوم على ابن سعود تنفيذًا كما قيل لتلك المعاهدة التي وصفها الأمير خالد بن لؤي في قوله: «اكتب له ورقة تنفعه عند الترك ولا تضرك.»
أما ابن الرشيد فقد جاوب بصراحة يقول: «إني من رجال الدولة، فأحارب إذا حاربتْ وأصالح إذا صالحتْ.»
ذهبت الدعوة للتفاهُم أدراج الرياح، فعاد ابن سعود إلى الوفود يعمل بما قضت المصلحة والأحوال، فردَّ وفدُ الآلوسي ردًّا حسنًا. وقد قال للسيد محمود: «إنها كما ترى فلا يمكنني مقاومة الإنكليز بعد احتلالهم البصرة.»
وكان السيد طالب النقيب، بعد ذلك الاحتلال، يخشى الرجوع إلى بلده فتوسَّط عبد العزيز من أجله، فأذن الإنكليز. وقد عاد كما عاد الآلوسي خائبَ الأمل. أما الضابط الإنكليزي شيكسبير فبقي في البلاد العربية، وبقي فيها، كما سنفصح في الفصل التالي، إلى الأبد!