الفصل الثاني والعشرون

يوم جراب

حُسِر اللثام عن مقاصد الأخصام، فأمَدَّ الترك ابن الرشيد، وأمدَّ الإنكليز ابن سعود، بل عُدَّ الأول، وقد تحالف الترك والألمان، مع الدول الوسطى، وعُدَّ الثاني مع الأحلاف. هي الحقيقة السياسية، وقد كانت ذات قيمة في تلك الأيام.

أما الحقيقة التاريخية فهي أن ابن سعود أقام في البدء على الحياد، فلم يحارب الحسين كما أراد الترك، ولم يشترك في محاربة الترك بالعراق كما أراد الإنكليز، ولا منَع رُسُل الدولة من المرور بنجد وهم حاملون المال إلى إخوانهم الأتراك في اليمن. هي الحقيقة كلها، فلم يكن ليهمَّه يومئذ غير أمير الجبل الذي نكث عهد الصلح واستعان بالدولة العثمانية على أمير نجد.

وقد تأهَّب الاثنان في وقت قصير للحرب، فلم يتجاوز جيشُ كلٍّ منهما الثلاثة آلاف مقاتل. كان مع ابن سعود نحو ألف من الحضر، أكثرهم من أهل العارض الأشدَّاء البسلاء، وثلاثمائة خيَّال من العجمان، ما عدا البادية، ومدفع واحد لا غير. وكان مع ابن الرشيد ستمائة من الحضر وألف فارس من فرسان شمَّر. وقد رافق جيش ابن سعود الضابط الإنكليزي شيكسبير١ الذي أشرت إليه في الفصل السابق.

لم يكن عبد العزيز ليستحسن ذلك، وقد قال له: «ليس من رأيي أن تمشيَ معنا، وإني أُفضِّل أن تنتظرنا في الزلفى، فنعود إن شاء الله إليك.»

فأجاب شيكسبير: «لا يجوز أن يُقال إن رجلًا إنكليزيًّا قَرُبَ من ساحة القتال بين ابن سعود وابن الرشيد ورجع جبانةً وخوفًا.»

ألحَّ عبد العزيز في النصيحة، فألحَّ شيكسبير في الاستئذان، وركب مع الجيش إلى ساحة القتال — إلى جراب.

قد كان هذا الضابط الشاب إنكليزيًّا قحًّا، شديد التمسُّك بعادات أجداده وتقاليد أمَّته في أي مكان كان. فلم يتنازل في البلاد العربية عن شيء منها. هو الرحَّالة الإنكليزي الوحيد — على ما أظن — الذي أبَى أن يبدل برنيطته مثلًا بالكوفية والعقال، ولا جامل العرب في داخل البلاد بغير العباءَة التي كانت تستر ثيابه الإفرنجية.

ولكن البرنيطة! ركب في جيش ابن سعود وهو لابسها وحامل بين أمتعته آلة التصوير.

شيكسبير في جيش الإخوان! وقد سمعهم يعتزون وينتخون.

أهل التوحيد! أهل التوحيد!
أهل العوجا! أهل العوجا!٢
وكانت شمَّر قد أخرجت عمَّارياتها٣ الأبكار الحسان، يشجعنَ الرجال، وهم يرددون نخوة شمَّر المشهورة:
سناعيس! سناعيس!٤

١٣٣٣ﻫ / ١٩١٥م: سار الجيشان في فيافي القصيم يطلب الواحد الآخر، وكان سيرهما في صباح اليوم السابع من ربيع الأول من هذا العام (٢٤ يناير) في شمس كانون المدفئة المنشطة، فاصطدمت الأصوات في جراب قرب الظهر قبل أن تصطدم الفرسان.

أهل العوجا! أهل العوجا!
سناعيس! سناعيس!

وكان أهل العوجا، أي أهل التوحيد، يرددون أيضًا كلمتهم المشهورة:

هبَّت هبوب الجنة! أين أنت يا باغيها!

فيُجِبْنَهم العمَّاريات الشمَّريات كلٌّ بالْعِزوة أو النخوة الخاصة بقبيلتها.

تصادمت الأبطال وتقارعت في ظهر ذاك النهار، وتطاردت وتراجعت، فكانت الغلبة في بادئ الأمر لابن سعود.

هبَّت هبوب الجنة! أين أنت يا باغيها!

وكان رصاص أهل التوحيد يقع أمام الشمَّريات، الواقفات فوق أسنمة الجمال، فيصحْنَ بالرجال: إلى القتال! ويهتفْنَ هازِجاتٍ:

يلِّي يتمنَّى حربنا
غويت يا غاوي الدليل
كم واحد من ضربنا
دمه على الشَّلْفى يسيل

احتدم القتال ودوَّت البنادق، فأصيب شيكسبير برصاصة أودت بحياته.

وكان فرسان العجمان قد تراجعوا خيانةً وهم يصيحون صيحة الانهزام، فأغارت إذ ذاك بادية ابن الرشيد على جناح أهل التوحيد الأيسر فدحرته، وغنمت أمواله.

أما بدو ابن سعود، وأكثرهم من مطير، فقد أغاروا أثناء ذلك على جيش ابن الرشيد ومخيمه، وكانوا كذلك من الفائزين الغانمين.

هو يوم جراب الذي كان على أهل التوحيد وأهل شمر على السواء، ولم يكن فيه ظافرًا غيرُ البدو من الفريقين، فقد أغاروا، فغنموا، فشردوا.

١  Capt. W. H. C. Shakespeare.
٢  العوجا اسم من أسماء العارض، والاعتزاء يكون في ترداد أسماء الآباء والأجداد أو اسم القبيلة أو البلد أو ما يرمز إلى مفخرة.
٣  من عادات العرب التي أبطلها ابن سعود أن كل قبيلة تنتخب في الحرب بنتًا من بناتها الأبكار تُسَمَّى العمَّارية فتركب في الهودج، أو تقف فيه سافرة مرخية الشعر، وتتقدم قومها إلى ساحة الوغى منتخية منخية.
٤  سناعيس جمع سنعوس هي النخوة العمومية، تعم البدو والحضر، وهناك نخوات أخرى خاصة بأهل حائل منها: أهل لبدة، وأهل ملحان، وأهل السودان، والسود كثيرون في حائل. والملحان يدعون بصبيان الخزنة؛ لأنهم كانوا من خاصة آل الرشيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤