يوم جراب
حُسِر اللثام عن مقاصد الأخصام، فأمَدَّ الترك ابن الرشيد، وأمدَّ الإنكليز ابن سعود، بل عُدَّ الأول، وقد تحالف الترك والألمان، مع الدول الوسطى، وعُدَّ الثاني مع الأحلاف. هي الحقيقة السياسية، وقد كانت ذات قيمة في تلك الأيام.
أما الحقيقة التاريخية فهي أن ابن سعود أقام في البدء على الحياد، فلم يحارب الحسين كما أراد الترك، ولم يشترك في محاربة الترك بالعراق كما أراد الإنكليز، ولا منَع رُسُل الدولة من المرور بنجد وهم حاملون المال إلى إخوانهم الأتراك في اليمن. هي الحقيقة كلها، فلم يكن ليهمَّه يومئذ غير أمير الجبل الذي نكث عهد الصلح واستعان بالدولة العثمانية على أمير نجد.
لم يكن عبد العزيز ليستحسن ذلك، وقد قال له: «ليس من رأيي أن تمشيَ معنا، وإني أُفضِّل أن تنتظرنا في الزلفى، فنعود إن شاء الله إليك.»
فأجاب شيكسبير: «لا يجوز أن يُقال إن رجلًا إنكليزيًّا قَرُبَ من ساحة القتال بين ابن سعود وابن الرشيد ورجع جبانةً وخوفًا.»
ألحَّ عبد العزيز في النصيحة، فألحَّ شيكسبير في الاستئذان، وركب مع الجيش إلى ساحة القتال — إلى جراب.
قد كان هذا الضابط الشاب إنكليزيًّا قحًّا، شديد التمسُّك بعادات أجداده وتقاليد أمَّته في أي مكان كان. فلم يتنازل في البلاد العربية عن شيء منها. هو الرحَّالة الإنكليزي الوحيد — على ما أظن — الذي أبَى أن يبدل برنيطته مثلًا بالكوفية والعقال، ولا جامل العرب في داخل البلاد بغير العباءَة التي كانت تستر ثيابه الإفرنجية.
ولكن البرنيطة! ركب في جيش ابن سعود وهو لابسها وحامل بين أمتعته آلة التصوير.
شيكسبير في جيش الإخوان! وقد سمعهم يعتزون وينتخون.
١٣٣٣ﻫ / ١٩١٥م: سار الجيشان في فيافي القصيم يطلب الواحد الآخر، وكان سيرهما في صباح اليوم السابع من ربيع الأول من هذا العام (٢٤ يناير) في شمس كانون المدفئة المنشطة، فاصطدمت الأصوات في جراب قرب الظهر قبل أن تصطدم الفرسان.
وكان أهل العوجا، أي أهل التوحيد، يرددون أيضًا كلمتهم المشهورة:
فيُجِبْنَهم العمَّاريات الشمَّريات كلٌّ بالْعِزوة أو النخوة الخاصة بقبيلتها.
تصادمت الأبطال وتقارعت في ظهر ذاك النهار، وتطاردت وتراجعت، فكانت الغلبة في بادئ الأمر لابن سعود.
وكان رصاص أهل التوحيد يقع أمام الشمَّريات، الواقفات فوق أسنمة الجمال، فيصحْنَ بالرجال: إلى القتال! ويهتفْنَ هازِجاتٍ:
احتدم القتال ودوَّت البنادق، فأصيب شيكسبير برصاصة أودت بحياته.
وكان فرسان العجمان قد تراجعوا خيانةً وهم يصيحون صيحة الانهزام، فأغارت إذ ذاك بادية ابن الرشيد على جناح أهل التوحيد الأيسر فدحرته، وغنمت أمواله.
أما بدو ابن سعود، وأكثرهم من مطير، فقد أغاروا أثناء ذلك على جيش ابن الرشيد ومخيمه، وكانوا كذلك من الفائزين الغانمين.
هو يوم جراب الذي كان على أهل التوحيد وأهل شمر على السواء، ولم يكن فيه ظافرًا غيرُ البدو من الفريقين، فقد أغاروا، فغنموا، فشردوا.