هدايا وتعنيف من بلاد الشريف
بعد عقد المعاهدة في دارين عاد ابن سعود إلى الرياض وأرسل رسوله صالح باشا العذل إلى الشريف حسين يُخبره بما جرى بينه وبين الإنكليز، ويعرض عليه المؤازرة في مساعدة الأحلاف. وكان الشريف — كما أسلفتُ القول — لا يزال في طور المفاوضات والعميد البريطاني في القاهرة، فعندما علم بعقد المعاهدة وابن سعود خشيَ أن يتقدَّمه في الزعامة والنفوذ لدى الأحلاف، فسارع إلى قبول البنود الخمسة وتمَّ الاتفاق سرًّا بينه وبين العميد.
ولكنَّه لم يُعلن الثورة على الترك إلَّا بعد أربعة أشهر شعبان ١٣٣٤ /يونيو ١٩١٦، من تاريخ ذاك الاتفاق، لأسباب ذكر بعضها، ولم يذكر أهمَّها، وهو أن نجله الأمير فيصل كان لا يزال في الشام فخاف عليه من جمال باشا؛ لذلك كتب إلى الجمال يَعِدُه بتجنيد فرقة حجازية للزحف مع جنود الدولة إلى ترعة السويس، وألحَّ عليه في إرسال فيصل لهذه الغاية.
وقد كتم أيضًا عن ابن سعود خبر ذاك الاتفاق، فأعطى رسوله صالح باشا العذل جوابًا نصفه شكر، والنصف الآخر إبهام في ثوب المجاملة.
ولكن تلك المفاوضات السرِّيَّة، أو في الأقل مجيء الرسل من بور سودان ورواحهم، أيقظ في دوائر الحكومة الحجازية عيون الرَّيب والشبهة، فأدرك الوالي غالب باشا بعض ما كان يُبطنه الشريف حسين، وعقد النية على مفاوضة ابن سعود في الأمر، ولكنه موَّه قصده بالطريقة التي اتخذها إليه، فقد أرسل رسوله وهدية إلى عبد العزيز بواسطة الشريف الذي أبقى الهدية عنده وأذن للرسول بالسفر إلى نجد.
إنك تعلم بأعمال الشريف وأنا الآن أزيدك علمًا. إنه يفاوض الإنكليز وهو على وشك أن يخون الدولة ويفتح لأعدائها الحرمين، فإذا قَدِمت إلى الحجاز أسلمك الحرم وأساعدك بكلِّ ما لديَّ من قوة.
فأرسل ابن سعود إليه هدية وقال في جوابه إنه والحسين يدٌ واحدة، ولكن الهدية وصلت إلى مكة بعد أن أُعلِنت الثورة، فاستلمها الشريف حسين وأبقاها عنده. «أكل الشريف الهديتَين.» كما قال عبد العزيز، ونهض وأنجاله على الترك طمعًا بالهدية الكبرى التي وعده بها الإنكليز.
أُعلِنت الثورة وطفقت تتوارد إلى جدة من بور سودان الإمداداتُ الحربية والمالية. جاء الذهب بالصناديق ليستخدمَه الشريف في تجنيد العرب وفي استمالة أمرائهم ورؤسائهم إلى النهضة، فأرسل إلى ابن سعود صرَّة في آخر هذا العام وأتبعها في العام التالي بثلاث صُرَر مقدار الواحدة نحو خمسة آلاف ليرة (١٣٣٥ﻫ / ١٩١٦و١٩١٧م)، ولكنه لم يكتب إليه كلمة بخصوصها. «كان يجيء الرسول بهذا المال فيقول: من جلالة الملك ليس إلَّا.»
ولكن عبد العزيز، عندما تكرَّرت تلك الهدايا المالية، عقد مجلسًا عاليًا حضره والده الإمام عبد الرحمن ورئيس قضاة نجد الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، فأطلعهم على الأمر، وقال: «إذا كان القصد من إرسال هذا الذهب المساعدة في الحرب فالقصد مُحقَّق؛ لأني أمرتُ أهل نجد خصوصًا أهل القصيم وعتيبة وحرب بمساعدة الشريف، وأمرتهم كذلك بألَّا يتعدَّى أحدٌ منهم على مَن أراد أن ينضمَّ إلى جيش الحجاز.» فقال الإمام عبد الرحمن: «لو كان الشريف يبغي المساعدة فقط لكتب إلينا بذلك، ولستُ أرى في قصده غير الخوف من أن نغتنم فرصة قيامه على الترك فنحمل عليه، فأراد في إرسال الذهب تَسْكينَنا.»
وقد كان رئيس القضاة من هذا الرأي، فقال عبد العزيز: «يمكن ذلك، ولكني سأكتب إليه فأتحقَّق الأمر، فإذا كان يبغي المساعدة، وهو صادق في عمله وقوله، ساعدناه بأكثر ممَّا تقدَّم، وإذا كان له قصدٌ آخر انتبهنا إليه.»
يا حضرة والدي، إننا وإياك في هذه الحرب وثمرتها لنا ولك. فقد مشَتْ عرباننا وعشائرنا؛ عملًا بأوامرنا إلى مساعدتكم، ولكني أبغي أكثر من ذلك، وإني مستعدٌّ أن أُرسلَ إليك أحد إخوتي أو أولادي ليُحارب مع أولادكم. وفي ذلك الفوز الأكبر إن شاء الله … قد يكون حدَثَ بيننا وبينكم سوءُ تفاهُم في الماضي. فلا بُدَّ إذن من التفاهم والتأمينات. وذلك بأن تُحدِّد الحدود بيننا وبينكم فتزول الشكوك وتتضاعف من أهل نجد المساعدات.
عندما وصل هذا الكتاب إلى صاحب الجلالة زمجر في جريدة القبلة، وفي الديوان الهاشمي، فسُمِع صوته في نجد. قال عظمة السلطان: «لا أذكر من جوابه غير هذه الكلمات: إما أنك سكرانٌ يا ابن سعود، وإما أنك مجنون، أفلا تعلم لأيِّ أمرٍ قُمْنا وأي غرض نبغي؟»
لا تكترث به. نحن ضامنون استقلالك ونتعهد بألَّا يتعدَّى عليك الشريف أو غيره. وأنت تعلم أن أية حركة على الشريف اليوم هي علينا ومساعدة لأعدائنا وأعدائك.
وقد ألحَّ عليه في هذا الاجتماع أن يُعطيَه جوابًا قاطعًا ألَّا يكون بينه وبين الشريف محاربة، فوعدَه بذلك على شرطين؛ أولهما: ألَّا يتدخل الشريف في شئون نجد، والثاني: ألَّا يتكلم باسم العرب ويدعو نفسه ملك العرب. تعهَّد السر برسي بذلك، ثم دعا عبد العزيز لزيارة البصرة، فلبَّى الدعوة، وعرج في طريقه على الكويت ليُعزيَ آل صباح بوفاة كبيرهم الشيخ مبارك.