وفود الإنكليز والعرب
في سنتَي الحرب الأخيرتَين بُلِيَ الإنكليز في البلاد العربية بأمرَين خطيرَين؛ الأول: سياسي في الحجاز، والثاني: حربي في العراق، فسعوا في معالجتهما وإذلالهما ما استطاعوا سياسيًّا وماليًّا.
وقد كانت مقاصدهم الحربية ثلاثة؛ أولًا: أن يعقدوا حبل الولاء بين الأمراء أحلافهم، ثانيًا: أن يُحكِموا نطاق الحصار ويشدِّدوه على العدوِّ من الجهات العربية كلها، ثالثًا: أن يستخدموا ما عند كلِّ أمير من قوى القتال، ويضيفوا ما أمكنهم إليها، في سبيل النصر.
قد أمدُّوا الملك حسين بالأسلحة والذخائر والمال تحقيقًا للقصد الأخير، ولكنهم في اتكالهم عليه كل الاتكال أيقظوا فيه روحَ الأثَرَة وشجعوها، فنجم عنها العداء لأمراء العرب كلِّهم خصوصًا لابن سعود. وبكلمة أخرى، إن الإنكليز في تعزيزهم القصد الثالث أفسدوا على أنفسهم القصدَ الأول، فأصبحوا عاجزين عن تحقيق القصد الثاني.
والحقيقة هي أنه كان يخشى أن ترجح كفَّة النفوذ في الرياض، بل كان يخشى أن يكون اتفاق الإنكليز وابن سعود مضرًّا بمصالحه، أو مُجحِفًا باتفاقه وإياهم؛ لذلك لم يرضَ بأيِّ اتفاق بينهم وبين غيره من أمراء العرب إلَّا إذا تمَّ ذاك الاتفاق بواسطته.
– «اتركوا لي ابن سعود، أنا أعالجه، أقول أنا أعالجه لخيركم وخير العرب.»
وقد كان ابن سعود مثل الحسين من هذا القبيل؛ أي إنه حافَظ على عهوده وبريطانية العظمى، ولكنه كان يظنُّ أن بينها وبين خصمه اتفاقًا سريًّا، ملحقًا للمعاهدة، يضرُّ به وبمصالحه. ولا نستغرب هذه الظنون عندما نذكر ما تقدم في الفصل الخامس والعشرين. فهل يُصلِح رُسُل التوفيق ما أفسده عاقدو المعاهدات؟
وكان عبد العزيز قد علم بتوقيف وفد القاهرة في جدَّة، فطلب المستر فلبي أن يتوسَّط في الأمر وتعهَّد إذا أُذِن بالسفر إلى الحجاز أن يعود عاجلًا ومعه المعتمد البريطاني، فأَذِن له عبد العزيز بالسفر، وأرفقه برهط من رجاله.
قد كان للمستر فلبي قصدٌ آخر في رحلته هذه، وهو يُلمح إليه في كتابه. فلا بأس إذن — خصوصًا أن تلك الحوادث أصبحت في ذمة التاريخ — بالإفصاح عنه في كتابنا. من المعلوم أن الطريق إلى نجد برًّا من الحجاز هي أقصر جدًّا من الطريق البحرية الهندية، وقد كانت رغم ادعاء الملك حسين آمنَ منها في تلك الأيام. وممَّا لا يعلمه الناس أن المال الذي كان يُبذَل في شبه الجزيرة كان يجيء عن طريق مصر، وأن الحكومة الإنكليزية في الخليج الفارسي كانت في حاجة إلى قسم كبير ليُصرَف في أطراف العراق ونجد.
عاد الكولونل هاملتن والكولونل أُوِن إلى الكويت، وسافر المستر فلبي في الشهر الأول من عام ١٩١٨ إلى الحجاز، وهو متأكِّد أنه سيعود في الطريق نفسها ومعه في الأقل المال الذي كان متوقفًا في جدَّة. قد أرسل معه ابن سعود كتابًا إلى الملك حسين مدبجًا بيراع اللطف والولاء. ولكن الحسين — وهو المشهور بتصلُّبه — تغلَّب على اللطف فيه وحتى على المواربة، فتجهَّم المستر فلبي ولم يُلبِس غيظَه شيئًا من زخرف الكلام أو الابتسام: «الرجوع إلى نجد يا حضرة النجيب هو غير ممكن الآن، غير ممكن.»
أما رجال ابن سعود فأذن لهم بالرجوع إلى بلادهم، ولم يزوِّدهم بكلمة لطفٍ أو عنف لعبد العزيز: «لا لزوم يا أولادي للكتابة، نحن نحلُّ مشاكلنا بيدنا.» كذلك عُولِج المشكل السياسي خلال الحرب، فظلَّ مشكلًا بعدها.
أما الشكل الحربي فقد كان جلُّه يختص بمصادرة المؤن والذخائر التي كانت تصل إلى الأتراك في بغداد وفي الشام عن طريق الكويت والبادية.
وكانت الكويت الباب الأكبر للتهريب تجيئها المؤن، الشاي مثلًا والأرز والسكر من الهند والعجم فتُباع بأسعار باهظة، وتتسرَّب إلى وكلاء الدولة أو بالحري إلى رؤساء العشائر، فيهرِّبونها إلى الأتراك والألمان في سورية وفلسطين.
ومن أولئك الرؤساء ماجد بن عجيل شيخ العَبْدة — أكبر قبائل شمَّر — وضاري بن طوالة شيخ شمَّر العراق، وعجيمي السعدون رئيس المنتفق. فقد كان العدو في الشام وفي بغداد يحصل بواسطتهم، مهما كانت الأسعار باهظة، على كثير من الأرزاق والذخائر التي كانت تجيء إلى الكويت للإنكليز في جنوب العراق.
على الإنكليز إذن؛ أن يُصادروا المهرِّبين، ويحكموا نطاق الحصار لمنع التهريب أو تخفيفه، فحاولوا لذلك حراسة خطٍّ يمتدُّ من الكويت إلى البصرة فالناصرية.
ولكن الكويت نفسها كانت أضعفَ حلقة في سلسلة الحصار، وكان حاكم الكويت الشيخ سالم الصباح من كبار المستثمرين تجارةَ بلادِه، وبالتالي المستغلِّين عملية التهريب. ومع أن الكويت في حوزة الإنكليز فلم يتمكَّنوا من إحكام النطاق الحربي عليها، فاضطروا في النهاية أن يحدِّدوا وارداتها فلا تتجاوز الكميَّة المعروفة قبل الحرب.
ومع ذلك فقد كان يتسرَّب إلى العدوِّ قسمٌ كبير منها، فبذلوا المال في العشائر للمصادرة، واشتروا كبار المهربين مثل ماجد بن عجيل وضاري بن طوالة.
ترى البحث يجرُّنا إلى مهمَّة المستر فلبي الثانية، فقد عاد عن طريق الهند والبصرة في ربيع ١٩١٨، وخرج إلى البادية ينشد المصادرين، وفي قافلته جِمالٌ تحمل أكياسًا من الفضة. وكان ضاري بن طوالة قد انخرط في السلك الإنكليزي لقاء مشاهرات معلومة، ووظيفته مصادرة البضائع التي كانت تصل إلى الشام بواسطة ابن الرشيد في حائل، ولكن ضاري شيخ من مشايخ شمَّر وشمَّر هي ظهر ابن الرشيد. فهل يُلام إذا صادر أعداءَه فقط؟
جاءه فلبي وهو في الحفَر — جاءه يحمل النقود، عاقدة العهود والناقضة لها. فشكى ضاري إليه ضيقَ الحال، وفقر الرجال: «والحاجة يا فلبي شديدة إلى المال.» أناخ فلبي جِمالَه، جمَّل الله حاله، فابتسم الضاري وقال: «والله يا فلبي حنَّا رجالك.» فقال فلبي: «قوموا إذن وارحلوا معي إلى ابن سعود.» فامتثل ضاري الأمر، وشدَّ الرحال، فركب في موكبه ستون من رجاله. جاءوا والمستر فلبي يتودَّدون إلى ابن سعود ويقطعون له العهود. فاجتمعوا به على غدير يُدعَى الشوكي، واتفقوا أن تكون المصادرة عامَّة بدون تمييز. وأقسم ضاري يمينًا مُغلَّظة أن شمر العراق تكون دائمًا أبدًا مخلصة للإنكليز ولابن السعود، ثم أرسل ماجد بن عجيل شيخ العَبْدة رسولَه إلى عبد العزيز يطلب الصلح، فقال له: «إني أُنذركم يا أهل شمَّر، فإذا كنتم مخلصين لنا تعالَوا أقيموا في كبدي، وأما إذا كنتم تفاوضون الإنكليز وتساعدون الترك فأنا عدوُّكم والله، وقاهركم إن شاء الله.»
– «أما حائل يا مستر فلبي، فإذا تركتم أمرها لي فأنا أعالجه بالسياسة، وإذا ألححتم فعليكم بالمدد.»
لم يكن المدد المقصود المال، بل الأسلحة والذخيرة، وهي يومئذٍ قليلة عزيزة، ثم قال عبد العزيز: «حائل في فكرنا دائمًا، ولكن حائل جدار ونار. ترى الصحيح. إن ابن الرشيد محصَّن فيها وراء الجدران والمدافع.»
عاد المستر فلبي مع ابن سعود إلى الرياض، وكانت المفاوضات والمباحثات متواصلة. قال عبد العزيز: «إني قادر أن أمنع ابن الرشيد عن محاربة الشريف، وهذا جلُّ ما تبغونه الآن، ولكن العهد الذي بيني وبين شمَّر يوجب التربُّص. فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم. فإذا رجع ابن الرشيد وكان حليفًا لنا، فذلك خير. تتحقق المقاصد بدون قتال. وإلَّا فنحاربه.»
أما العهد الذي أشار إليه فهو أن عبد العزيز — بعد سفر فلبي إلى الحجاز — شدَّ على ابن الرشيد الذي كان يومئذٍ على الحجر عند الترك، ولكن مشايخ قبائله جاءوا ابن سعود يعاهدونه على الطاعة والولاء. ودليل صدقهم كما قالوا هو أن ابن الرشيد طلب منهم أن يحاربوا مع الترك الشريف فأبَوا، وقد تعاهدوا وابن سعود أنهم ينذرون ابن الرشيد: «فإذا قدم من الحجر وكان معك يدًا واحدة فنحن عشائره وعشائرك، وإذا رفض الرجوع فنحن معك عليه.»
لبث عبد العزيز ينتظر الجواب من مشايخ شمَّر، ولم يرَ أن يبقى المستر فلبي أثناء ذلك عنده في الرياض، فصارحه في الأمر، فرغب فلبي في رحلة علمية إلى وادي الدواسر. أذن عبد العزيز بذلك، ورحَّله مصحوبًا برهطٍ من المحافظة في شهر رمضان، فعاد إلى الرياض في الشهر التالي (صيف ١٩١٨).
وكان قد جاءَ الجواب من ابن الرشيد يرفض مطالب رؤساء شمَّر، فشدَّ عبد العزيز يريد الزحف إلى حائل، وكان المستر فلبي مرافقًا للجيش، ولكنه لم يكن مثل مواطنه المأسوف عليه شيكسبير الذي حضر معركة جراب وشارك في القتال، وفي الضحية.
تخلف فلبي في القصيم، وتقدَّم عبد العزيز بجيشه إلى حائل. بيد أنه لم يكن القصد يومئذٍ غير أن يُشغل ابن الرشيد فيمنعه عن مناوشات العرب الذين كانوا يحاربون مع الأحلاف في شرقي الأردن. فلما وصل إلى ماء ياطب في أطراف حائل، رأى جموعًا كبيرة من العربان وقد حالوا دون أمنيته، ولكنه هاجمهم فأصاب منهم مغنمًا، وعاد فنزل على ماءٍ آخر قريب من المدينة، فخرج ابن الرشيد في آخر النهار يريد الهجوم عليه ليلًا، ثم عدل عن قصده وقفل راجعًا بدون قتال.
كان قد بدأ الجنرال آللنبي في الهجوم العام على الترك في فلسطين وشرقي الأردن، وكان الترك يستنجدون ابن الرشيد، فعدل عن محاربة ابن سعود. من المألوف في مثل هذه الحال أن ينهض الجيش المهاجم فيتأثر الجيش المتقهقر ويجتز ساقته، ولكن ابن سعود لم يفعل ذلك، بل عاد في اليوم التالي إلى القصيم وقصده أن يجمع قوةً أكبر من تلك التي كانت معه فيقسمها إلى قسمين، قسم لمنازلة عربان شمَّر وقسم لمهاجمة حائل، ولكنه مثل خصمه عدَل أيضًا عن قصده. والسبب في الحالين هو ما أحرزه جيوش الأحلاف والعرب في هذا الشهر (ذي القعدة / أيلول) من النصر في فلسطين وسورية، فوصل الخبر كالبرق إلى البلاد العربية.
دخل العرب الشام ظافرين! فرَّ الترك منهزمين! فاز الأحلاف الفوز المبين. سلَّم الألمان. عُقِد الصلح! وما بال العرب لا يتعظون ويتصالحون!
اتَّعظ العرب. فقد توقَّف في ذاك الحين ابن الرشيد وابن سعود عن القتال وعقدَا فوق ذلك — مثل الأحلاف والألمان في فرساي — صُلحًا صغيرًا.