وقعة تربة ومقدماتها
إلى حضرة المحترم المكرَّم الأمير عبد العزيز بن سعود الفيصل
في ١٣ ربيع الآخر ١٣٣٧.
إلى جناب سامي الرحاب الشهم الأوحد والهمام الأمجد، الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود، سلَّمه الله.
إني منكف (راجع) إن شاء الله تعالى إلى الوطن في الأسبوع القادم لأكون بخدمة صاحب الجلالة الهاشمية، أدام الله نصره. وإني أرجوكم أن تُبلغوا سلامي إلى معالي والدكم الجليل والأنجال والإخوان الكرام. ومن لدينا حضرة صاحب السمو الملكي سيدي الأمير علي — نصره الله — يهديكم جزيل السلام.
في ٣ جمادي الثانية ١٣٣٧.
إني أخوكم الصادق ومستعدٌّ لمساعدتكم بما تأمرون، ولا يجوز أن يفرِّق بينكم وبين والدي أمور البادية التي لا أهميةَ لها … وكيف يمكن أن يحدث خلاف بين رجلين كبيرين بخصوص ترَبة والخرمة والبادية؟ ها أنا متوجه إلى مكة فأرجوكم أن تُرسلوا أحدَ رجالِكم، وإن ارتأيتم أن يكون أحدَ أنجالكم فذلك أَوْلى، وأنا كفيل النجاح بحَسْم الخلاف والاتفاق مع سيدي الوالد.
كتب ابن سعود ثانيًا يقول ما معناه: إني متحقِّق ما أخبرتكم به، وما أخبرتكم خوفًا أو شكايةً، بل لتكونوا عالمين بالحوادث، وبما قد يعقبها. وكتب ثالثًا يُخبر المندوب السامي أنَّ الأمير عبد الله مشى بجيشه من المدينة ووجهته تربة، فلم يجِئْه جوابُ الكتاب الأخير.
وكان قد جهَّز سريَّة مؤلفة من ألف ومائتي هجان بقيادة سلطان بن بجاد أمير الغطغط، فأمرها إذ ذاك بالسير إلى الخرمة وتربة للمحافظة على أهالي تلك الناحية، وأمر ابن بجاد والعالم المرافق السرية بأن تكون خطتهما الدفاع لا غير.
ثم أرسل بعض العقيلات مُتجسِّسين، وأمرهم بأن يخبروه خصوصًا بما يفعله الأمير عندما يصل إلى عشيرة. فإذا ترك عسكره هناك ودخل مكة كان فيما كتب صادقًا، وإذا استمرَّ سائرًا كان جوابه خدعة.
حدثني سموُّ الأمير قال: «لم يكن من رأيي مهاجمة تربة، وقد حاولت أن أُقنِع جلالة الوالد بالعدول عن عزمه، ولكني كقائد الجيش الهاشمي مطيع لأوامر مولاي. حتى إني كتبت إليه بعد أن تذاكرنا في عشيرة، ولبثت في البديع أنتظر جوابه فلم يكن غير الأمر بالزحف.»
بعد السلام ورحمة الله وبركاته كتابكم رفق عائض بن جوَير وصل وعلم مضمونه وعيال مهزي الصغار نوَّخوا البارح على صاحب الجلالة وأخبرونا بالكون (الإغارة) عليهم وبكسرة الوهابية. ولا شك أن العرب إذا صدقوا اللقاء كسروا المغير عليهم. هذا أمر ثابت. وحسب الرغبة، أمر صاحب الجلالة بإنقاذ ابن مهزي، فاخترنا مائتين من الجعدة مع غالب بن عنيز يمشون غدًا أو بعده إن شاء الله … (كلمة مبهمة) أمير الخرمة السيد غازي الحارث من السطوة في البلاد الآن. فبعد وصولي بالقوة الكافية إليكم نردها بما تستحقُّه والتوفيق بيد الله. هذا ما لزم ودمتم ونحن على ممشى في هذين اليومين.
قد تحقَّق عندي خلاف ما أخبرتني به سابقًا؛ أي إنك عائد إلى مكة المكرمة، والظاهر أنك مهاجم تربة والخرمة. وذلك مخالف لما أبديتموه للعالم الإسلامي عمومًا، والعربي خصوصًا. واعلم، رعاك الله، أن أهل نجد لا يخذلون إخوانهم، وأن الحياة في سبيل الدفاع عنهم ليست بشيء. نعم، وإن عاقبة البغي وخيمة. خير لك إذن أن تعود إلى عشيرة. وأنا أرسل إليك أحد أولادي أو إخوتي للمفاوضة، فتتم الأمور على ما يرغب به الفريقان، إن شاء الله.
من عبد الله ابن أمير المؤمنين الحسين بن علي إلى حضرة أمير نجد ورئيس عشائرها عبد العزيز سعود دامت كرامته
- أولًا: أظن أن صاحب الشوكة سيد الجميع يرحِّب بكلِّ مَن يطلب كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ويُحْيي ما أحيَا الكتاب والسنة، ويُمِيت ما أماته الكتاب والسنة؛ لأن هذا دأبه ودأب أجداده منه إلى صفوة الخلق، عليهم سلام الله.
- ثانيًا: لا أذكر أن أحدًا منَّا وقع على كتاب ذُكِر فيه أنك أو أحد آل مقرن من الخوارج، أو أنكم لستم من ملَّة الرسول.
- ثالثًا: كلُّ مَن شقَّ عصا الطاعة من رعايا صاحب الشوكة وعثَا في الأرض فسادًا يستحق التأديب شرعًا، شخصًا واحدًا كان أو ألف شخص.
- رابعًا: اعلم وتيقَّن أن نيَّتنا نحوك ونحو أهل نجد نيَّةُ خير وسلام.
- خامسًا: أما قولك إن الناس نفروا جميعًا لحربنا؛ إناثهم قبل رجالهم، فأُذكِّرك بقول الله تعالى … فإن جاءونا (أي عرب برقة والروقة الذين أنذرهم) بنيَّة حسنة فنحن لهم وهم لنا يا عبد العزيز قبل أن ينزل أجدادك بنجد. وإن بقوا فلكلِّ باغٍ مصرع، وإن الله مع الصابرين.
- سادسًا: تأمرني بالرجوع إلى ديرتي من أرضٍ هي لأبي وجدي، ومتى كنت تمنع الناس عن ديرتهم؟ جزيت خيرًا، ولكن هل تذكر أن رجلًا من قريش ثم من بني عبد مناف، ثم من بني هاشم، جدُّه الرسول وعلي بن أبي طالب يقعقع له بالشنان٥ ويروَّع بمثل هذه الأقاويل؟
- سابعًا: تقول إني لو ألتمس رجلًا في نجد يرجِّح الحياة على الموت في سبيل الله لما أجده. فكان الأوفق لهم إذن أن يأتونا ويجاهدوا الأتراك معنا عن بيت الله ومسجد رسوله حتى ينال الشهادةَ منهم مَن كتب له، ثم بعد ذلك تردون يمنًا النظر.
- ثامنًا: أخبرتُك في كتابي بفتح المدينة المنورة بأنني متوجِّه إلى الوطن لتأديب العصاة، وسألتك هل أنت على عهدي بك أم تغيَّرت نيَّاتك فجاءتني نجاجيبك بجوابٍ منك فيه المَيل إلى التقرُّب والمسالمة فرجوت خيرًا وعززته بالجواب الثاني. فجاء ثاني كتُبك لي ومثله لوالدي ولأخي ملْؤها المودَّة المؤكدة باليمين وكل ذلك محفوظ. فما حملَك الآن على تغيير لهجتك؟ أَمِن أجل أنَّنا نؤدِّب رعايانا ونُصلح ما فسد في قبائلنا؟
- تاسعًا: إن كنت تنوي الخير للمسلمين كما زعمت فارْدُدِ الذين أمرتَهم ببيع مواشيهم، وبنيت لهم الدور (يريد الهجَر) وأَخْلِ أنت مكانك الذي وصلت إليه وانحر (عد إلى) ديرتك ولك عليَّ ألَّا أمسَّ أحدًا من أهل نجدٍ بسوء.
إني مرسل إليك كتابي هذا مع أحد نجاجيبك وهو القسماني، وأبقيتُ الآخر ليأتيَك بخطاب صاحب الشوكة والدي والسلام.
في ٢٣ شعبان ١٣٣٧.
ترَبة والخُرمة! لا بدَّ عند هذا الحدِّ من كلمة في هاتين البلدتين وقد أثارتَا الحرب بين نجد والحجاز. الخرمة هي على مسافة خمسين ميلًا من حَضَن إلى الشرق، وتربة هي على مسافة خمسة وسبعين ميلًا منه إلى الجنوب. وجبل حَضَن هذا هو في التقاليد الحد الفاصل بين نجد والحجاز. فقد جاء في الحديث: مَن رأى حضنًا فقد أنجد.
من هذه الوجهة إذن تكون البلدتان في نجد، ولكن أصحاب السيادة فيهما من أشراف الحجاز، فادعى الملك حسين رعايتهم. ومن الوجهة الأخرى إن الأهالي من بدْوٍ وحضر وفيهم الأشراف تمذهبوا في الزمن الغابر بالمذهب الوهابي؛ فلهذا السبب أيضًا يدَّعي ابن سعود أنهم من رعاياه، وكلهم بَدْو وحَضَر لا يتجاوزون الخمسة والعشرين ألف نفس.
أما أمير الخرمة الشريف خالد بن منصور فهو من بني لؤي؛ أي من أقارب الملك حسين، ولكنه من المتصلِّبين في الوهابية؛ لذلك لم تصفُ الصِّلات بين الشريفين، بل أثمرت لخالد ثأرَين، فقد حدث خلاف بينهما في سنة ١٣٣٦ حمل جلالة الملك على حبس خالد، فاشتعل في صدره الثأر الأول، ولكنه غطَّاه لحينٍ برماد النسيان، وراح يساعد الأمير عبد الله في حصار المدينة.
وهناك حدث خلاف بينه وبين الأمير وتكرَّرت الإساءة التي لا مجال لذكرها، فتكلم خالد منذرًا؛ فغضب الأمير وصفعه بيده، فسُفِّي الرماد عن الثأر الأول والتهب مقرونًا بالثأر الثاني.
جاء خالد إلى الرياض في آخر سنة ١٣٣٦ يحذِّر ابن سعود من مساعي الحسين ونجله عبد الله ويستنجده عليهما. وقد حدث في السنة التالية (١٩١٨م) ما حقق قوله؛ لأن الأمير أرسل أربع حملات على الخرمة بقيادة الشريف شاكر وكان نصيبها كلُّها الفشل.
أما تربة فسكانها من عرب البُقوم، وفيها مثل الخرمة عددٌ من الأشراف يملكون أكثر أرضها، وكلهم بَدْو وحَضَر وعبيد من أتباع ابن سُعود منذ أيام سعود الأول. بيدَ أن قسمًا منهم انضموا إلى جيش الحجاز في الحرب العظمى، ثم انقلبوا على الحسين لأسباب دينيَّة وماليَّة فآلى على نفسه تأديبهم، ولم يتمكَّن من ذلك إلَّا بعد أن انتهت الحرب.
ومع أن تربة قريةٌ لا يتجاوز عددُ سكانها الثلاثة آلاف فهي ذات أهمية؛ لأنها في الطريق إلى الطائف. هي باب الطائف من الوجهة النجدية، وحصن الطائف من الوجهة الحجازيَّة. ويتبع تربة «سهل شرقي» إلى الشمال الشرقي من مستنقعات البقوم، وعدد سكَّانها ثلاثة آلاف من البادية، وحول هاتين القبيلتين السبيع والبقوم وقُراهما تسرح وتمرح قبيلة عتيبة الكبيرة.
نعود الآن إلى الجيش الزاحف إلى تربة، فقد بالغ الرواة في تقديره، فقال بعضهم: إنه كان مؤلَّفًا من سبعة آلاف من النظام وثمانية آلاف من البدو. أما الحقيقة فهي أنه لم يتجاوز كله السبعة آلاف، منهم ألفان من النظام والباقي من البدو.
ولكنه كان كافيًا لغرض الأمير، فقد دخل تربة بدون قتال يُذكَر، دخلها في ٢٤ شعبان؛ أي بعد يوم واحد من الكتابة إلى ابن سعود (١٣٣٧ﻫ / ١٩١٩م)، والذي مكَّنه من ذلك هو أنه كان قد استخدم بعض عربان البقوم في جبل حضن؛ ليدخلوا البلدة مُدَّعين أنهم جاءوا يُحذِّرون أهلها من الأمير ويستنهضونهم على محاربته، بل قالوا للمدافعين إنهم جاءوا يحاربون معهم، فأنزلوهم في الحصون مع مَن تحصَّنوا فيها، فما لبثوا أن انقلبوا عليهم فاستولوا على أسباب الدفاع وصاحوا بالناس: الملك للشريف!
وفي تلك الساعة في صباح الرابع والعشرين من شعبان (٢٤ مايو ١٩١٩) دخل الأمير بجيشه فصادف لأول الأمر بعض المقاومة، فأمر بإطلاق المدافع والرشاشات على المقاومين، فتشتَّتوا ثم فروا هاربين إلى الحرَّة جنوبي البلد.
قيادة الجيوش العربية الشرقية
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله ابن أمير المؤمنين الحسين بن عون إلى المكرم فيحان بن
صامل.
أما بعدُ، فإني أحمد الله إليكم … ثم أُخبرك بأنَّا وفَّقَنا الباري — سبحانه وتعالى — فأطفأنا نار الخارجة التي في تربة ومزقَّناها كلَّ ممزَّق، وضربنا أعناق أرباب الزيغ والنفاق ومن جملتهم الطعامة وابن مسيب نزيل قريتكم. وإن هذه الفتنة التي أثارها خالد بن منصور بلا لازم ينعاه، أو حقٍّ يطلبه وأدخلكم فيها، نأمركم بتركها والإسراع بالركوب إلينا وكفِّ كافة سبيع أهل رنيه، بَدْو وحَضَر، عن الاستمرار فيها. ونأمركم بجلب شيوخ الزكور (قبيلة من القبائل) معكم إلينا في ست ليالٍ للاستئمان من سطوتنا. وإن لم تفعلوا فسأميل ميمنة البيرق المنصور عليكم مستعينًا بالله تعالى مستنجدًا عظيمَ قدرته. ولا تكتم إنذاري هذا عن كلِّ صغير وكبير؛ لأني سأسألك عنه حين لا تنفعك الندامة، والسلام على مَن اتبع الهدى.
في ٢٤ شعبان ١٣٣٧.
ما خفيَ عليكم ما حلَّ بتربة من ذبح الرجال وتدمير المال، بعد أن طغى أهلُها وبغَوا. وأنتم يا أهل رنية، بَدْو وحَضَر، إن ما كفيتم طوارقكم وركبتم إليَّ في ست ليالٍ مع شريفكم وإلَّا حزمتكم حزم السلم وطردتكم طردَ غرائب البل (إبل) وعاقِلُكم يُعلم جاهلَكم. ولولا مشاري بن ناصر وغازي بن محمد لكان صباحي يسبق كتابي إليكم، والسلام على مَن اتبع الهدى.
استقر الأمير ذاك النهار في المخيم المنصور، وبعد إرساله كُتُب التهديد إلى رؤساء القبائل أَذِن لنجاب ابن سعود أن يعود بالجواب الذي ذكر، وكان قد علم بأن السرية التي جاءت إلى الخرمة أي جيش ابن بجاد وخالد، قد مشت منها إلى مكان يُدعَى القرنين، وهو على مسير أربع ساعات من تربة، فزود النجاب برسالة شفاهية أيضًا: «أخبِرِ الخوارج ومَن التفَّ حولهم في القرنين بما جرى. قل لهم إننا سنكفيهم مئونة القدوم إلى تربة. قل لهم ما جئنا تربة من أجل تربة والخرمة فقط … سنصوم في الخرمة — إن شاء الله — وسنُعيِّد عيد الأضحى في الحساء.»
ركب النجاب الظهر، فوصل إلى القرنين بعد صلاة العصر، فأحاط به الإخوان مُستخبِرين. شقَّ النجاب جيبَه وأخبرهم بما جرى، وبما فاه به الشريف، فما كاد يُتِمُّ كلامَه حتى صاحوا صيحة واحدة: إياك نعبد وإياك نستعين! وهم يريدون الهجوم. فسكَّن العالم والقائد روعَهم. قال ابن بجاد: «كيف نتجاوز أمر صاحب الأمر، فهو لم يأمرنا بغير الدفاع.»
ولكنه كان قد نسي كتابًا جاء من ابن سعود، وفيه ما معناه: إذا جاءكم الخبرُ بمسير الشريف إلى مكة، فالزموا مساكنكم إلى أن يأتِيَكم منِّي أمرٌ آخر. وإذا علمتم بأنه تجاوز حدود تربة فإني آذنكم أن تفضُّوا كتابه وتقرءوه فتروا فيه رأيكم.
ما كانوا في حاجة إلى استماع كتاب الأمير وقد سمعوا كلماته من فم النجاب، ولكن العالم عمل بالأمر العالي، فصاحوا وهو يتلو الكتاب عليهم: إياك نعبد وإياك نستعين! وشدوا في تلك الساعة الرحال.
«هبت هبوب الجنة! أين أنت يا باغيها!»
مشوا قبل صلاة المغرب بساعة وهم مع مَن انضمَّ إليهم ألفٌ وخمسمائة مقاتل.
قال الراوي وهو من أهل الحجاز: «جاء الأميرَ عبد الله في ذاك اليوم رجلٌ من البادية يقول: تحذر يا شريف، المتدينة في الخرمة هاجمون عليكم، فغضب الأمير وأمر بقطع عنقه.» وفي رواية أخرى أنه أمر دُخنًا كبيرَ عبيده بضربِه، فضربه حتى الموت.
في كلا الحالين نام الأمير تلك الليلة خالي البال مطمئنًّا، وكان الإخوان قد علموا من رسول ابن سعود كيفية توزيع جيش الأمير، فانقسموا إلى ثلاث فِرَق قبل أن يصلوا إلى نخيل تربة؛ أي فرقة الخيَّالة، وفرقة خالد، وفرقة ابن بجاد، وعندما وصلوا البلد في منتصف ليلة (٢٥ شعبان / ٢٥ مايو) هجموا هجمةً واحدة ساكتين مُستشهدِين.
تقدَّم خالد ورجاله، وفيهم مَن شردوا من تربة، فدخلوا الباطن وقصْدُهم الاستيلاء على مخيَّم الأمير. مشوا وسلاحهم الأبيض يلوح في ظلام شفَّاف فاصطدموا بالسرية الأولى من الجيش الحجازي وذبحوا رجالها كلَّهم، وكذلك الثانية، ثم هجموا على السرايا المقيمة عند مخيم الأمير ففتكوا بها فتكًا ذريعًا.
وهجم ابن بجاد برجاله — وكلهم من أهل الغطغط — على الجنود النظاميَّة وراء المتاريس والأطواب فكانت السيوف تشتغل كالمقاصل، وكان ابن الغطغط يَثِبُ على المدفع فيذبح الضابط المقيَّد وراءه بالحديد، ولكن هول الفوضى والظلام كان أفظع من التذبيح؛ فبطَش الجنودُ بعضُهم ببعض وهم يظنون أنهم يبطشون بالإخوان.
أما فرقة الخيل فقد قطعت خط الرجعى خصوصًا على حرس الأمير، فلم ينجُ منهم غير الأمير نفسه وبعض الضباط، ونجاب ابن سعود الثاني. فرَّ الأمير عبد الله قبل أن يصل خالد ورجاله إلى سرايا المُخيَّم، فثبت بعضهم في النضال ليردوا العدوَّ عن تعقُّبه، وسقط مَن حاول الفرار صريعًا بين سنابك الخيل.
أما الذين نجَوا من الذبح تلك الليلة ولم يستطيعوا الفرار فقد التجئوا إلى حصن من حصون البلد، فهجم الإخوان عليهم في اليوم التالي وجعلوا خاتمة المذبحة كأوَّلها، فتراكمت الجثث بعضها فوق بعض، وكان من اللاجئين إلى ذاك الحصن الشريف شاكر فكُتِب له النجاة، ونجا معه شاب من الأشراف اسمه عون بن هاشم اجتمعتُ به في جدة، في رحلتي الثالثة إليها، وهو يومذاك في العشرين من سنِّه. فقد كان عمره يوم شهد تربة خمس عشرة سنة. قال الشريف عون بن هاشم يحدِّثني عن هول ذاك اليوم: «رأيت الدم في تربة يجري كالنهر بين النخيل، وبقيت سنتين عندما أرى الماء الجارية أظنُّها والله حمراء. ورأيت القتلى في الحصن متراكمة قبل أن طحت من الشباك. ومن أعجب ما رأيت يا أستاذ، رأيت الإخوان أثناء المعركة يدخلون الجامع ليصلوا ثم يعودون إلى القتال.»
لم ينجُ من جيش الأمير النظامي غير ستة ضباط واثنَي عشر جنديًّا، ولم ينجُ من البدو غير من سلموا أو انضموا إلى جنود خالد، وأكثرهم من عتيبة، وعددهم لا يتجاوز الألف. فيكون الموت قد تقاضى خمسة آلاف نفس بشرية جزاء جهل الإنسان وغروره، بل خمسة آلاف وخمسمائة؛ لأن الإخوان دفعوا قسمًا من الضريبة، فقد خسروا أربعمائة من رجال الغطغط ومائة من أهل تربة والخرمة.
«واستولينا على جميع ما فيها من السلاح الثقيل والخفيف وجميع الأملاك والآلات والأدوات العائدة للحكومة الغابرة.» استولى عليها في ربيع الثاني، ثم خسرها بعد أربعة أشهر فاستولى عليها ابن سعود!
ولكن ابن سعود لم يعلم بذلك إلَّا بعد الوقعة بخمسة أيام. فقد كان قادمًا من نجد بجيش عدده اثنا عشر ألف مقاتل، فالتقى وهو في الطريق بين ماء القنصلية والخرمة بالنجاب الشارد فقصَّ عليه الخبر.
استمر عبد العزيز سائرًا إلى الخرمة ومنها إلى تربة، فبكى عندما شاهد فيها حصاد الموت. وعندما صاح جنود خالد وابن بجاد: إلى الطائف! رخِّص لنا بالطائف. منعهم قائلًا: «كفى الباغي جزاء بغيه.»
أقام عبد العزيز خمسة عشر يومًا في تربة، وقد جاءه في اليوم العاشر برقية من الحكومة البريطانية بلندن بواسطة وكيلها السياسي بجدة تسأله فيها ألَّا يتقدم إلى الطائف. فعلت ذلك إكرامًا للملك حسين وإجابةً لطلبه، وكان ابن سعود في نظرها كريمًا.