البدو والهجر
قد شاهدنا للمرة الأولى — في وقعة تربة — روحًا جديدة في القتال، روحًا نجدية دينية مُجسَّمة في الإخوان، روحًا قهَّارة، هي بنت الهول والاستشهاد، قلَّما تُغلَب أو تُردُّ. وفي كلمة كتبها الأمير عبد الله إلى ابن سعود سرُّ هذه القوة، قال الأمير: «فاردد الذين أمرتهم ببيع مواشيهم وبنيت لهم الدور.»
هي أول إشارة في هذا التاريخ إلى الهُجَر. والهجر مهد الإخوان، والإخوان جيش ابن سعود الديني القومي، جيش التوحيد.
وما هي الهجر وكيف أُسست وما الذي دعا لتأسيسها؟ ومَن هم البدو ومَن هم الإخوان؟ سنبدأ مُجيبِين على هذه الأسئلة في كلمة على البدو، فنتطرق إلى الهجر وأهلها. البدو منذ القدم غزاة، عصاة، عتاة، ولهم غريزة دينية غذَّتها الخرافات، ومطامع تكاد تنحصر بالأقوات. فهم يسارعون إلى القتال في سبيل الله كلما نفر النافر وضاق بهم العيش.
ولكنهم في طاعتهم وإخلاصهم وفي جهادهم وولائهم لا يحتملون فوق طاقتهم، وقلَّما يفادون بشيء من أشيائهم. يحاربون ويشردون ويخونون. وهم وإن غالوا في دينهم لا يثبتون، بل إنهم في الرِّدَّة سريعون.
وقد رأى الرؤساء منذ القدم؛ نظرًا لغريزتهم الدينية وإن تلوَّنت، أن يستلُّوا عليهم سيف الألوهية قبل السيف الذي يُرَى. دعاهم مسَيلمة فلبُّوه، ثم دعاهم الشيخ طاهر القرمطي فحاربوا معه كالبنيان المرصوص، ثم تشتَّتوا بعد كسرة القرامطة، فجاءتهم من البصرة والنجف عقائدُ في الدين جدَّدت في جمع شملهم وتعزيز أمَلِهم، فبنوا القباب فوق القبور، وعلقوا الرقاع على الأشجار، سبحان من هو صديقٌ للواحد القهار.
ثم جاء ابن عبد الوهاب يعلمهم أن التسبيح لا يجوز لغير الله الواحد القهار. جاء يعلمهم التوحيد واستعان على ذلك بسيف ابن سعود، فقاموا يحاربونه مع ابن الدَّواس وابن العُريعر، وكانوا مدحورين. جمعَهم ابن سعود تحت علم التوحيد، فوحَّدوا الله وأقسموا أن لا شريك له، ولكنهم في كلِّ أطوارهم بدْوٌ، والبدو مثل ذي الأجنحة طيارون، أو إن لهم مزية الزئبق، فيجتمعون ويفترقون، وأنت تتلو الفاتحة. لا يحملون شيئًا في جيوبهم ولا في قلوبهم، بل لا جيوب لهم ولا قلوب. رفاقك في الطريق اليوم وأعداؤك غدًا. ولا أظنهم لولا الجنة والحوريات يخضعون لربِّ الكائنات. قد أكون مخطئًا بهذا وهم يُكثرون من ذكر الله في كلِّ حالاتهم.
ولكن النبي نفسه أنَّبهم ولم ينفعْهم التأنيبُ، فقد جاء في القرآن: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا.
أما الدين عندهم فكالرداء يلبسونه ردحًا من الزمن، فيغسلونه مرة أو مرتين ثم يلبسونه مقلوبًا، ثم يَنْبذُونَه وقد تمزَّق نبْذَ النواة: «كيف نتوضأ ونحن نبغي الماء للشرب؟ ولِمَ الصوم والسنة كلها عندنا رمضان؟ ولِمَ الصلاة وليس لله وقتٌ ليسمعنا؟»
وكذلك كانوا في ولائهم لهذا الأمير أو ذاك. فما الفرق وربك بين ابن مقرن مثلًا وابن هاشم، أو بين ابن الصباح وابن الرشيد؟ هم كلهم عرب، يقيمون في بلاد العرب، ويغزون غزو العرب، ونحن إن حاربنا مع هذا أو ذاك عرب.
ما تغيَّر البدو منذ أيام الرسول ومنذ أيام مسيلمة وأبي طاهر. دينهم حاجات لذلك الردات. وولاؤهم غايات لذلك الخيانات. وقد تبيَّن لقارئ هذا التاريخ فيما سردناه من حوادثهم، وسجلناه من حروبهم، أنهم لم يتغيَّروا حتى بداية القرن العشرين. فقد طالما ارتدُّوا، وخانوا، وعادوا تائبين منذ أيام عبد العزيز الأول إلى أيام عبد العزيز الثاني. وهم كما وصفناهم لا يوالون طويلًا، ولا يعادون طويلًا. لا يثبتون ولا يسكنون ولا يستقيمون في مسراهم أو في مغزاهم.
البدو سيفٌ في يد الأمير اليوم، وخنجرٌ في ظهره غدًا. مجاهدون إذا قيل غنائم، متمارضون إذا قيل الجهاد. وكذلك كانوا عند ظهور عبد العزيز الثاني وفي حروبه الأولى وغزواته. كانوا يحاربون ما زالوا آمنين على أموالهم وأنفسهم، ويفرون شاردين عند أول خطر يلوح؛ لذلك كان ابن سعود يقدِّمهم في القتال ويدعمهم بالحضر، يحمي ظهرهم ليُؤمَن انقلابهم وتقهقرهم. فهم إذ ذاك أشداء ثابتون في النضال. وبكلمة أخرى هم شجعان إذا كان لهم ظهر، وإلَّا فالفالتة لنا والفرار علينا. جاء في أمثال العرب: البدوي إذا رأى الخير تدلَّى وإذا رأى الشرَّ تعلَّى. ولكن البدوي وحده يدافع عن نفسه وبعيره حتى الموت وإن كان خصمه قبيلة بأسرها. أما البدوي في الجيش فقد كان مشكل ابن سعود الأكبر.
وقد حلَّ عبد العزيز هذا المشكل بطريقة جديدة لم يسبقه إليها أحدٌ من ملوك العرب قديمًا أو حديثًا، فهو من هذا القبيل المصلح الأكبر في العرب.
أجل قد حارب البدو وغلبهم كما فعل أجداده، وأدخلهم في دين التوحيد كما فعل أجداده، ولكنه لم يقف مثلهم عند هذا الحدِّ. قال: امسِكوا الخونة. فقالوا: الفَلا منجًى. وها هنا نجوة التجلِّي. فقد تجلَّت لعبد العزيز الحقيقة التي خفيت على سواه، وهذه الحقيقة هي أن البدو لا يثبتون، ولا يطيعون، ولا يخلصون، البدو هم بدو، لأنهم لا يملكون شيئًا من الأرض، ولا يسكنون بيوتًا ثابتة. إذن سنعطيهم أرضًا ونساعدهم في بناء البيوت، سننقلهم من البادية إلى المدينة، سنقيدهم بالأرض، ونكبِّلهم بسلاسل التملُّك فننفعهم، وإذا أذنبوا نستطيع تأديبهم.
إن هناك كذلك الفكرة الدينية، الفكرة الأولى في الهُجر — والهُجر جمع هُجرة — والهجرة في القاموس ترك الوطن الذي بين الكفار والانتقال إلى دار الإسلام. أما وطن البدو فالبادية، والبادية مهد الشرك، فالهجرة منها إذن هي الهجرة إلى الله والتوحيد. وهي كذلك هجرة مدنية. فمن بيوت الشعر إلى بيوت من لبن وحجر، ومن الفقر والغزو إلى أرض لا تخون صاحبها إذا عمل بها المِحْراث، ومن الخوف والتحذُّر إلى طمأنينة لا تهجره ما زال عاملًا مفيدًا لنفسه ولبلاده.
الداعي إلى الهجرة إذن ثلاثة أمور؛ أي تعليم البدو الدين، ونفعهم بأرض يحرثونها، والاستيلاء عليهم. ليس من السهل أن يأْلَف البدويُّ الزراعة وقد كان دائمًا يأنفها. كان سكان البادية يُقسَّمون في الماضي إلى قسمين: البدو والعرب. فالبدو غزاة، والعربُ رعاة، ولا أكار بينهم، ولا مَن يتنازل للعمل في الأرض.
باشر ابن سعود إصلاحه الكبير بالواسطة الدينية، فكان يُرسل المطاوعة إلى البادية؛ ليعلِّموا أهلها دين التوحيد والفرائض، ويزيِّنوا لهم هجر ما هم فيه إلى إيمانٍ يستشعرونه، وبيت يأوون إليه، وأرض يحرثونها.
وقد استخدم في التحضير القوة المدنية أيضًا، فكان السيف يتقدم المطوِّع في بعض الأحايين أو يتبعه كما تقتضي الأحوال. تجاوز التطور في البدو حدَّه الديني، فصاروا يهجرون ما هم فيه ليس إلى الله والتوحيد فقط، بل إلى الشريعة والنظام، وطاعة الحكَّام، واحترام حياة الأنام.
وكان ابن سعود يعيِّن بقعةً من الأرض فيها ماء لقبيلة أو لفخذ منها فتنزح إليها وتباشر بناية البيوت فيها. بيدَ أنَّ الصعوبة الأولى التي تغلَّب دعاة الهُجرة عليها هي الجمال. ومعلوم أن رزق البدوي أباعرُه، فما زالت عنده ما زالت البادية تستغويه، فيروح في ساعات الضجر طالبًا الرزق حلالًا أو غزوًا حيث كان؛ لذلك جُبِر البدو على بَيْع جِمالهم.
على أن هذه الهُجر في بداية أمرها أورثت ابن سعود مشكلًا آخر، وهو أن البدو بعد أن باعوا جمالهم وصاروا إخوانًا يتعصبون بالعصابة البيضاء التي تميِّزهم عن الناس، أقاموا في الهجر لا يعملون شيئًا في أيام السلم غير الصلاة. غدت بيوتهم مناسك، وقد نزلوها ابتغاء وجه الله. هجروا البادية حقيقةً إلى الله والتوحيد فأصبحوا عالةً على صاحب البلاد.
ولكن المصلح الكبير لا يعدم طريقةً تُنقِذ إصلاحَه من الخطر. فشحذ ذهنه واستعان على تلك الحالة بالعلماء، فجاء العلماء بالتاريخ وبأخبار السلف، فسلَّحوا بها المطاوعة، فراح هؤلاء يحاربون بها البطالة والكسل. راحوا يعلِّمون المتحضِّرين أن الزراعة والتجارة والصناعة لا تُنافِي الدين، وأن المؤمن الغني خيرٌ من المؤمن الفقير. «وهذا أبو بكر — كرَّم الله وجهه — كان يملك ثمانية آلاف رأس من الإبل والخيل، فهل تزدرون أيها الإخوان ما كان يرغب فيه أبو بكر؟ وهل تشكُّون في أن الله — سبحانه وتعالى — يفتح لكم، إذا أنتم زرعتم وتاجرتم، أبواب الثروة والجاه؟»
قد أفلح المطاوعة في تحبيب العمل والمال إلى الإخوان، فشرعوا يزرعون الأرض حول الهجر ويتاجرون، وقد نشأت بعض هذه القرى نشوءًا سريعًا فصارت تُبارِي جاراتها القديمة بالزراعة والتجارة. على أن الزراعة والتجارة لم تُضعِف في أبناء هذه الهجر، في الإخوان، روحَ القتال، بل علَّمتهم فوق شجاعتهم شجاعة جديدة لا تعرف الخوف، ولا تهاب الموت. وما الشجاعة هذه غير بنت الإيمان الجديد الحي القوي، فإن إخوان مطير في الأرطاوية مثلًا، وإخوان حرب في دُخنة، وإخوان عتيبة في الغطغط، لأشدُّ جيوش ابن سعود بأسًا، وأبسلهم نضالًا، وأسبقهم إلى الاستشهاد. كيف لا وقد قُلِّدوا في تحضيرهم سيفَين؛ سيف الدين وسيف الثبات؟! إنهم اليوم لغيرهم بالأمس فلا يشردون، ولا يتراجعون وقلَّما ينهزمون. إنهم يحاربون حبًّا بالاستشهاد والجنة، وحبًّا بالمحافظة على ما يملكون. صاروا يخافون النار ويخشَون عاقبة الفرار.
لا، لم تقتل الهجرُ في أهلها غريزةَ الغزو، ولا أضعفتْها، بل شحذتها في سبيل الله، وقيَّدتها بشروط تختصُّ بتقسيم الغنائم. على أن توحيدَ السيادة العربية، السائرة البلاد نحوها، يُضيِّق من طبعها مجال الغزو ويُزيله في النهاية تمامًا. فلا تجد إذ ذاك العرب أعداءً من العرب أو عربًا مشركين للغزو والجهاد.
قلت مرة لعظمة السلطان: «وستكون الهجرة الثانية من الجهل إلى العلم إن شاء الله، فتؤسس المدارس ويتعلم الإخوان شيئًا من العلوم التي من شأنها أن تُحسِّن الصناعة والتجارة والزراعة في البلاد.» فأجاب عظمته: «كل شيء يجيء في وقته.»
أما سكان الهجر الآن — وهم الطبقة الأكثر عدًّا — فقد ألِفوا الزراعة واستعذبوا ثمارها. وهناك الطبقتان الأخريان؛ أي التجار والمطاوعة. أما من الوجهة الحربية فالهجرة تُقسَّم إلى ثلاثة أقسامٍ أُخَر لتلبية دعوات الحرب الثلاث؛ أي الجهاد، والجهاد مَثْنى، والنفير. فالذين يلبون الدعوة للجهاد هم دائمًا مُسلَّحون وعندهم مطايا وشيء من الذخيرة. والجهاد مثنى هو ضعف الجهاد؛ فيجيء كلُّ مجاهد بآخر يردفه ذلوله. هم الذين يلبون الدعوة الثانية والأحرى أن يسموا الرديف. أما القسم الثالث من الذكور فهم الذين يبقَون في أيام الحرب في الهجر ليداوموا أعمال التجارة والزراعة، ولا يُدعَون للحرب إلَّا إذا اضطر صاحب البلاد إلى الاستنفار العام. من حقوق الإمام وحده أن يدعو إلى الجهاد والجهاد مثنى. أما الاستنفار العام الذي لا يكون إلَّا للدفاع عن الوطن فهو حق العلماء، ولكن السلطان يكتب إليهم مُعلِنًا حاجة البلاد إلى الدفاع، فيبادرون إلى استنفار الناس أجمعين، البدو والحضر والمهاجرين.
قال عظمة السلطان محدِّثًا عن الإخوان: «يجيئوننا في السَّلْم فنعطيهم كلَّ ما يحتاجون إليه من كسوة ورزق ومال، ولكنهم في أيام الحرب لا يطلبون شيئًا منَّا، في أيام الحرب يتزنَّر الواحد منهم ببيت الخرطوش، ويبادر إلى البندق، ثم يركب الذلول إلى الحرب ومعه شيء من المال والتمر … القليل عندنا يقوم مقام الكثير عند غيرنا … كنا نمشي ثلاثة أيام بدون أكل. يأخذ الواحد منَّا تمرة من حين إلى حين يرطِّب بها فمه … نعم كانت الحاضرة أثبتَ قدمًا وأشدَّ بأسًا من البادية. أما الآن فالبادية المتحضرون، أهل الهجر هم في القتال أثبت من الحاضرة وأسبقهم إلى الاستشهاد.»
ولكنهم فيما ظهر من بسالتهم، وبطشهم، وهول استشهادهم، أورثوا عبد العزيز مشكلًا آخر كاد يُفسِد مشروعَه الإصلاحي العظيم. فقد طغى الإخوان وتجبَّروا فضجَّ الناس. راح الإخوان يحاربون مَن لم يتحضَّر من البدو فيكفِّرون، وينهبون، ويقتلون.
«أنت يا بدوي مشرك — والمشرك حلال الدم والمال. أنت يا أبا العقال من الكفَّار. أنا أخو من طاعَ الله، وأنت أخو من طاعَ الشيطان.»
- (١)
الكفر لا يُطلَق على بادية المسلمين الثابتين على دينهم.
- (٢)
لا تفاوُتَ بين لابس العقال ولابس العمامة إذا كان معتقدُهما واحدًا.
- (٣)
لا فرق بين الحضر الأوَّلين والمهاجرين الأخِيرين.
- (٤)
لا فرق بين ذبيحة البدوي الذي في ولاية المسلمين ودَرْبه دَرْبهم، ومعتقده معتقدهم، وبين ذبيحة الحضر الأولين والمهاجرين.
- (٥)
لا حقَّ للمهاجرين أن يعتدوا على الناس الذين لم يهاجروا؛ كأن يضربوهم، أو يتهدَّدوهم، أو يُلزموهم الهجرة.
- (٦)
لا حقَّ لأحد أن يهجر أحدًا بدويًّا كان أو حضريًّا بغير أمرٍ واضح، وكفر صريح، وبدون إذن من وليِّ الأمر أو الحاكم الشرعي.
إن معتقد المسلمين، بدْوٍ وحَضَرٍ، واحد، وأصل المعتقد كتابُ اللهِ وسنة رسوله، وما كان عليه الصحابة ثم السلف الصالح ثم أئمة المسلمين الأربعة؛ الإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، والإمام أبو حنيفة، فهؤلاء اعتقادهم واحد في الأصل … قد يكون بينهم اختلاف في الفروع، ولكنهم كلهم على حقٍّ إن شاء الله.
وهذا الإصلاح العظيم، أي تحضير البدو فيسلكون عاجلًا أو آجلًا المسلك الأوسع الذي فيه المدارس والتمدين، لم يسبق له مثيل في شبه الجزيرة منذ أيام النبيِّ.