الحرب في الخرج
لم يُحدِث احتلال الرياض أمرًا جديدًا في السياسة الدولية؛ أي بين الدولة العلية والحكومة البريطانية. فظلَّت الأولى مذبذبة مراوغة، واستمرت الثانية مراقبةً ومن وراء الستار حاكمةً بأمرها.
أما الشيخ مبارك فقد كان احتلال الرياض بردًا وسلامًا على قلبه، ولم يكن عكس ذلك ظاهرًا في ابن الرشيد. فقد سمع الخبر غير مكترثٍ به وضرب له الأمثال فقال: أرنبة محجرة وأهلها مقيمون؛ أي إنه يستطيع أي يومٍ شاء أن يُخرِج ابن سعود من الرياض؛ لذلك لم يتزحزح من الحفر فأقام هناك أربعة أشهر يفاوض الترك في بغداد وهو يعلِّل النفس باحتلال الكويت.
وكان الترك يرحِّبون برسله وهداياه، ويَعِدُونه بالمساعدة ويتقاعسون. أنت تذكر أن الحملة التي أرسلوها مرة على الشيخ مبارك ظلَّت ستة أشهر في الطريق من بغداد إلى الزبير. وقد أشرت إلى السبب بل السببين في ذلك. ناهيك بأنه لم يكن للدولة آنئذٍ في ابن الرشيد الغرض الذي ولدتْه الحوادث فيما بعد، بل كانت أميلَ إلى مبارك وهو على البحر منها إلى أمير في داخل البلاد العربية.
ولكنَّ مباركًا والَى الإنكليز، ودعاهم إلى بلاده، فاستحق لذلك إهمال الدولة بل نقمتها. وبما أنها كانت عاجزة عن إظهار تلك النقمة في مظهر من القوة يليق بعظمتها، فقد اكتفت بأن تُظهِر ولاءَها لابن الرشيد، وتأذن له بأن يفاوضَها في محاربة ابن الصباح. وقيل إن الحكومة البريطانية كانت تضغط عليها لتمنعها من مساعدة ابن الرشيد مساعدةً حربية. ولا غروَ، فالسبب في ذلك — السبب المعروف — هو أنها بعد أن استقرت في الكويت، وتعاهدت وابن الصباح، أصبحت حاميةً لبلاده.
الشيخ المبارك المسعد! قد حماه الإنكليز من البحر، وحماه ابنُ سعود الشاب من البر. كيف لا وهو يشغل عنه عدوَّه ابن الرشيد. «ولدي عبد العزيز تولاك الله وعافاك وقوَّاك، وجعل النصر دائمًا أخاك! أرسل مبارك يهنِّئ ولده ويبارك له.» ثم بعث أخاه سعد بن عبد الرحمن بالنجدة التي طلبها.
ومشى عبد العزيز إلى غرضه فاستولى أولًا على النواحي الجنوبية؛ أي الخرج والحوطة والحريق والأفلاج والدواسر، أما النواحي الشمالية، مثل الشعيب والمحمل والوشم وسدير، فظلت في حوزة ابن الرشيد مع أنها كانت موالية لابن سعود.
أما عبد العزيز بن الرشيد فلما يئس من مفاوضات الترك وبان له من أمر «الأرنبة المحجرة» ما لم يكن ليخطر في باله، أمر بشدِّ الرحال وأسند (العرب يقولون: سنَّد) عائدًا إلى حائل، فعبأ جيشًا جديدًا من شمر والقصيم وسدير والوشم، وزحف به في ربيع الأول من هذا العام قاصدًا الرياض.
فلما علم ابن سعود بذلك أرسل إلى أبيه في الكويت يقول إن الحرب قائمة، وإن الاستيلاء على الرياض يقتضي أن يكون هو؛ أي الإمام عبد الرحمن فيها. جاء الوالد مسرعًا، ولم يمنعه الإسراع من أن يغزوَ في طريقه قبائل من الظفير وشمر الموالين لابن الرشيد، وخرج عبد العزيز ورجاله فساروا مسافة ثلاثة أيام ليستقبلوا الإمام الذي عاد إلى الرياض عودة الظافر، وكان قد خرج منها منذ إحدى عشرة سنة مهاجرًا.
ثم حدث خلافٌ بين الأب والابن نادرُ المثال؛ فقد أرسل عبد العزيز من القصر إلى الوالد في بيته يقول: الإمارة لكم وأنا جندي في خدمتكم. فجمع الوالد العلماء وأعلمهم بالأمر، ثم أرسل إلى ابنه الصغير يقول: إذا كان قصدك في استدعائي إلى الرياض لأتولَّى الإمارة فيها فهذا غير ممكن ولا أقبله مطلقًا، ولا أقيم في المدينة إذا ألححْتَ به.
تدخل العلماء في الأمر فقالوا لعبد العزيز: على الابن أن يُطيع أباه. وقالوا لعبد الرحمن: أنت كوالد عبد العزيز رئيسٌ عليه، وبالتالي على أهل نجد. فقال عبد الرحمن: ولكن الإمارة له.
فقال عبد العزيز: إني قابلها بشرط أن يكون والدي مشرفًا على أعمالي دائمًا فيرشدني إلى ما فيه خير البلاد، ويردعني عما يراه مضرًّا في مصالحها.
كذلك تمَّت البيعة لعبد العزيز. وكان يومئذ سميُّه ابنُ الرشيد نازلًا في رغبة من بلدان المحمل، وقصده محاصرة الرياض، فأرسل سالم السبهان بجيش من قحطان إلى ضرمة ليهجم عليها من الجنوب الغربي، وأمر الحازمي مندوبه في الحساء بأن يستنهض العجمان وآل مرة بمؤازرة الحكومة فيهجمون من الشرق الجنوبي.
ولكن ابن سعود أرسل أخاه محمدًا وابن عمه عبد الله جلوي إلى تلك النواحي الجنوبية يستنجدان الدواسر وآل مرة، فظفرَا بما لم يظفر الحازمي والترك أعوانه، وقد علم ابن الرشيد أن كثيرين ممَّن كان يظنهم من أتباعه قد انضموا إلى ابن سعود، فأقام شهرين في رغبة وأسبوعين في الحسي، وهو يعجز عن الهجوم على الرياض، ثم رحل إلى الحفَر ليحول دون تموين العدوِّ من الكويت.
لكلِّ أمير من أمراء العرب دائرة استخبارات، ولكنهم هناك يسمون الأشياء بأسمائها الحقيقية، قال السلطان عبد العزيز: «فلما علم ابن سعود من جواسيسه، أن ابن الرشيد ينوي أن يصادر الأرزاق التي تجيء إلى نجد من الكويت والحساء، تذاكر ووالده فعُقِدَت النية على حيلة تقرِّبه منهم فيتلاحمون وإياه، ويقضون عليه أو في الأقل يحولون دون تنفيذ خطته.»
وكان لابن سعود سرية في الدَّلم عاصمة الخرج بقيادة أحمد السديري، فأمره أن يتأهَّب للزحف معه إلى الرياض إذا هجم ابن الرشيد عليها. أما إذا تجنَّبها ومشى إلى الخرج فأهل الرياض يتقفَّونه بالسلاح وعبد العزيز يفزع إلى السديري في الدلم. بعد هذا التدبير وكَّل ابن جلوي بمَن كان معه من الجنود فأقامهم في عليَّة، وهو ضلع حصين بين الحريق والحوطة قريب منهما، ثم أرسل أخاه سعدًا إلى الحريق يستنجد أهلها، وراح هو للغاية نفسها إلى الحوطة، فبلغه في اليوم الثاني هناك خبر هجوم ابن الرشيد على الدلم، «طاح في الشرك الذي نُصِب له!» فبادر ابن سعود إلى ذاك المكان.
جمع جيوشه من أهل الحوطة والحريق فبلغوا مع مَن كانوا في ضلع عليَّة ألفًا وخمسمائة مقاتل. اجتمعوا في ماوان على مسافة عشر ساعات من الخرج وأَسْرَوا فوصلوا إلى الدَّلم قبل انبثاق الفجر، وكان ابن الرشيد قد نزل في نعجان على مسير ساعتين من البلدة، فلم يدرِ بدخول ابن سعود إليها، على أنه في عصر ذاك النهار أرسل سرية مستكشِفة فخرجت لها خيلُ ابن سعود، فتهاجم الفريقان وتطاردَا، فانهزمت خيلُ ابن الرشيد.
كثيرًا ما تكون الحرب عند العرب مناورات ومجاولات، وهم قلَّما يسارعون إلى الملحمة التي تطيح فيها الرءوس، ولكنهم يسيرون إليها على طريقتهم سيرَ الهَوْن، وهم يغزون، ويعتزون، ويناوشون، ويتقهقرون. أما إن الحرب خدعة فكلهم يعرفون الآية ويؤمنون بل يعملون بها.
في فجر اليوم التالي راح ابن سعود يكمن لابن الرشيد، وكان قد علم أنَّ من عادته أن يخرج وبعض رجاله صباح كلِّ يوم، فيطوفون في البساتين يرعون إبلهم ويقطعون النخيل. وكأن ابن الرشيد أحسَّ أن خصمه في الدلم فلم يخرج كعادته باكرًا، فأرسل ابن سعود خيَّالة مستكشفين، فعادوا يقولون: إنه متحصِّن في نعجان. ولم يكن لابن سعود أن يهجم عليه في النهار؛ لأن خيلَه قليلة؛ ولأن الهجوم يُبعده عن الحصون.
على أن الكشافة لم يصدقوا أميرَهم الخبر؛ لأنهم لم يصلوا جُبنًا أو جهلًا إلى مكان الاستكشاف؛ فبعد أن عاد ابن سعود إلى البلدة بلغَه الخبرُ أن ابن الرشيد قد خرج على عادته يجول في النخيل، فبادر بقسم من جيشه إليه.
وكانت المواجهة الأولى بين العزيزين خارج الدلم وسط النخيل. تواجهَا واحتربَا، فكانت الوقعة شديدة، واستمرت ستَّ ساعات حتى غروب الشمس، ولكنها لم تُسفِر عن شيء كبير. فقد أسَرَ رجالُ ابن سعود جماعةً من رجال ابن الرشيد يُدعَون بأهل لُبدة فحصروهم في القصر، ففروا منه في المساء. وطارد ابن سعود ابن الرشيد فتقهقر إلى معسكره.
لم تكن الذخيرة متوافرة عند ابن سعود فنفدت أو كادت في تلك الوقعة، فأرسل يطلب قسمًا من الحوطة. أما ابن الرشيد فشدَّ في اليوم التالي الرحال وسار جنوبًا إلى أسفل الخرج، فنزل السلَيمية التي تبعد ستَّ ساعات عن الدلم، فتقفَّاه ابن سعود بعد وصول الذخيرة ونازله في السلَيمية فأخرجه منها.
ولكنه لم يتمكَّن من تعقُّبه فإدراكه؛ لقلَّة خيله وركائبه، ولكثرتها مع ابن الرشيد. فقد كان جيش الشمري مؤلَّفًا من أربعة آلاف ذلول وأربعمائة خيال، بيدَ أن الجيش السعودي لم يكن يتجاوز الألفين ولم يكن فيه غير أربعين من الخيل، ومع ذلك فقد انهزم ابن الرشيد في الخرج، وثبتت سيادة ابن سعود فيه، بل في النواحي الجنوبية كلِّها.