الإخوان في الكويت
بعد محق الجيش الحجازي في ترَبة لَانَ عودُ العجمان في الأحساء، فجاء مشايخ القبيلة إلى أمير تلك الناحية عبد الله بن جلوي يطلبون منه التوسُّط بالصلح بينهم وبين ابن سعود، وقد كتبوا كذلك إلى الإمام عبد الرحمن، فطلب من ابنه عبد العزيز، بعد أن تحقَّق إخلاصهم أن يعفوَ عنهم ففعل. وهم منذ ذاك الحين مقيمون على الطاعة والولاء.
أما الحرب في جبل شمر فلم تحتدم نارُها إلَّا بعد سنة من إعلانها (١٣٣٧ / ١٩١٨)، وكان قد جهز عبد العزيز ابنَه سعودًا بحملة على الجبل في صيف هذا العام، فوصل بها إلى وادي الشعيبة جنوبي جبل أجا، وأغار على عربان لابن الرشيد كانوا هناك فأصاب منهم مغنمًا، ولكنه لقلَّة المرعى للركائب في الصيف في تلك النواحي ولقلة الأرزاق للجيش لم يتقدَّم إلى حائل.
وقد حدث في ذاك الحين حادثٌ في نواحي الكويت شغل ابن سعود عن ابن الرشيد، فاكتفى بإرسال سريات عليه للغزو والمناوشات، أما حادث الكويت فله أسباب سابقة لا بدَّ في الإحاطة بها من الرجوع إلى تاريخ آل صباح.
بعد وفاة الشيخ مبارك تولَّى الإمارة ابنه جابر، فكان حصيفًا حكيمًا، ولكنه تُوفِّي في السنة الثانية من حكمه، فخلفه أخوه سالم نقيضه في السياسة والأخلاق. وقد جاء ذِكْره في كلامنا على النطاق الحربي في الكويت يوم كان يخادع الإنكليز لا حبًّا بالترك، بل طمعًا بالكسب من تجارة التهريب، ثم عادى ابن سعود لظنِّه أنه الناصح للإنكليز بتحديد كميَّة الوارد إلى الكويت من البضائع فطرد التجار النجديين من بلاده سنة ١٣٣٦، وكان قد أغضب عبد العزيز سابقًا في مساعدته للعجمان. أضف إلى ذلك أن سالمًا كان شديد التعصُّب على الوهابيين.
بعد هذا التمهيد نُدوِّن الحادث الذي أدَّى إلى وقعة الجهرى بين الكويتيِّين وأهل نجد.
ركب الشيخ سالم يختَه ذات يوم وأبحر إلى مكان على الخليج بين جبيل والكويت يُدعَى بلبول، فيه مغاص للؤلؤ وميناء طبيعي حصين للسفن الشراعية، وقد كان في نيته أن يبنيَ قصرًا هناك وبلدة أيضًا تنافس جبيل بالتجارة والغوص. فلما علم ابن سعود بذلك كتب إلى سالم ليمتنع عن العمل فأبَى، ثم كتب إلى الوكيل السياسي البريطاني في الكويت يُخبره أن الشيخ سالمًا فيما يقصد متجاوزٌ حدودَه وحقوقه؛ لأن ذاك المكان من أراضي القطيف التابعة لنجد، وقد طلب منه أن يحول دون هذا التعدِّي. أما الشيخ سالم فكان يدَّعي أن بلبول ضمن حدود الكويت، ولكنه أذعن على ما يظهر للوكيل البريطاني فعدل عن قصده.
سار دُعيج برجاله فنزل في حمَض قريبًا من قرْية، وأرسل إلى الإخوان يأمرهم بأن يُخْلوا ذاك المكان وإلَّا «نصبحكم ونذبحكم.»
وكان الإخوان عندما علموا بقدوم عساكر الكويت قد أرسلوا إلى فيصل الدويش أمير الأرطاوية يستنجدون، فبادر فيصل إلى نجدتهم بألفين من رجاله، وظل سائرًا حتى وصل إلى حمَض، فصبح الكويتيين هناك ولكنه لم يذبحهم كلَّهم، فرَّ دُعيج وأكثر جنوده هاربين، وقد تركوا وراءهم ذلك القطيع الكبير من الأباعر والغنم فكان للإخوان غنيمة باردة. كلُّ ذلك وابن سعود في الرياض جاهل ما حدث، فغضب عندما بلغه الخبر وكتب إلى الدويش يؤنِّبه ويقول: «قد تجاوزتم أوامري التي تنحصر في الدفاع.» فأجابه أن الكويتيين جاءوا إخوانه صائلين وقد وصلوا إلى مكان يبعد عنهم أربع ساعات فقط.
ثم أمر ابن سعود أن تُجمَع الأموال التي استولوا عليها؛ الإبل والغنم والسلاح حتى والمواعين، وتُودَع عند أمير الأرطاوية إلى أن يجيئَهم أمرٌ آخر بخصوصها. فعمل الإخوان بالأمر بعد أن أرسلوا إليه خُمس الغنائم.
وكان الشيخ سالم قد عرض المسألة على الوكيل البريطاني فأشار عليه بالتسوية السلمية، فأرسل إلى ابن سعود رسولين هما عبد الله السميط وعبد العزيز الحسن، فاعتذر عبد العزيز عمَّا حدث بدون أمرٍ منه، ثم قدَّم إليهما خُمس الغنائم الذي كان عنده، قائلًا: «هذا أول الأداء، وإذا أركبتم رجالًا من قِبلكم إلى الأرطاوية فآخره هناك يُسلَّم إليهم.»
ثم كتب إلى الشيخ سالم كتابًا قال فيه: «السبب في هذا الحادث تدخُّلكم فيما لا يعنيكم. اعلموا أن لا حق لكم في بلبول أو في قرية، وإني أرى أن يُقرَّر ذلك في عهد يُعقَد بيننا وبينكم فنرعاه. أما ما كان لآبائك وأجدادك حقًّا على آبائي وأجدادي فإني معترف به.»
لم يرُق هذا الكتاب سالمًا ولا قَبِل بأن تُردَّ الغنائم إليه، بل غضب غضبة يُقتضَى لتعزيزها عند العرب جيش كبير، لم يكن عنده غير اليسير منه، وفي ذاك الحين كانت المناوشات بين ابن الرشيد وابن سعود، فكتب الشيخ سالم إلى صاحب شمر يستنجده على «خصم الجميع» فلبَّاه بأن أرسل إليه ضاري بن طوالة، الذي كان يومئذٍ مخيِّمًا في أطراف العراق. جاء ضاري مُسرِعًا بقوة من شمر ونزل الجهرى، حيث كان دُعيج ورجاله، فأمرهما سالم بالهجوم ثانية على قرية.
وكان ابن سعود قد جاء الحساء فبلغه خبرُ مغزى ضاري ودعيج، فأرسل إلى الدويش يأمره بإنجاد أهل قرية، فتوكَّل الدويش على الله، وكان مسراه في ذي الحجة من عام ١٣٣٨ﻫ / سبتمبر ١٩٢٠م، ولكن الدعيج والضاري اختلفَا في الطريق على القيادة فلم يهاجمَا أحدًا، بل عادَا إلى الجهرى فتعقَّبهما الدويش ونزل الصبيحية.
علم الشيخ سالم بذلك فسارع بنفسه إلى الجهرى ومعه خمسمائة مقاتل من أهل الكويت.
مشى الدويش بإخوانه من الصبيحية وعددهم أربعة آلاف، فيهم خمسمائة خيَّال: «خيال التوحيد أخو مَن طاع الله.»
وكان سالم قد وزَّع قواته كلَّها نحو ثلاثة آلاف من الرجَّالة والخيَّالة في حصون الجهرى وبساتينها.
جاء الإخوان من الجنوب الشرقي فأشرفوا على الجهرى في ٢٦ محرم / ١١ أكتوبر، من رأس منحدرٍ لا صخرة فيه ولا شجرة (١٣٣٩ﻫ / ١٩٢٠م) جاءوا على عادتهم في الصباح وانحدروا كالسيل إلى البساتين تحت وابلٍ من الرصاص، فكانت بنادق المدافعين المحصَّنين تحصدهم بالعشرات والمئات وهم يتقدَّمون مستبسلين مستشهدين.
ساعة من هذا الهجوم تلاها ملحمة كانت على جيوش ابن الصباح موتًا أحمرَ ففرَّ مَن نجا، ودخل الإخوان الجهرى فاستولَوا عليها وعلى حصونها.
قال الذئب: «تعالَ كُنْ معنا ومنَّا — كن موحِّدًا — ونظِّف بيتك من الشرك والمنكرات، فلك إذ ذاك ما لنا وعليك ما علينا.»
فقال الثعلب: «وهل يرفض مثل هذه النعمة إلَّا الأحمق. إني والله منكم، خيال التوحيد أخو مَن طاع الله، ولكن في بيتي ما يقتضي رجوعي إليه قبل أن أجيئَكم. انتظروني في الصبيحية.»
صدَّق الدويش وقفل راجعًا إلى الصبيحية بعد أن قُتِل في تلك الوقعة نحو خمسمائة من رجاله وثلاثمائة من رجال الكويت. وما ذلك بشيءٍ في نظره إذا «دينت» الكويت وصاحبها.
ولكن سالمًا عند وصوله إلى الكويت طلب من الإنكليز أن يحموا بلاده وإلَّا فهو يقبل شروط الإخوان. فبدأت المفاوضات البرقية بين الكويت وأبي شهر، ثم بين حكومة الهند ولندن، واستمرت ثلاثة أيام. جزع خلالها الدويش وهو ينتظر في الصبيحية، فأرسل وفدًا من قِبَله إلى «الأخ» سالم فتمارَض ولم يقابِلْه.
ثم جاء الجواب من الحكومة البريطانية ومعه ثلاثة مراكب حربية رست في مياه الكويت وشرعت تُرسل في الليل الأسهم النارية تهويلًا وترويعًا، وفي اليوم التالي وصلت طيَّارتان من العراق.
شُفِي إذ ذاك «الأخ» سالم من مرضه فقابل وفدَ «أخيه» الدويش في مجلسٍ رسميٍّ حضره الوكيل البريطاني الماجر مور، الذي همَّ بمخاطبة الإخوان فسمع جوابًا أقنعه في الحال أن السكوت من ذهب.
قال حضرة الوكيل: «الشيخ سالم صديقٌ لدولة بريطانية البهيَّة وأنتم جئتم تحاربونه بدون أمر من ابن سعود.»
فقال رئيس الوفد: «ما جئنا إلَّا بأمره، وهو أيضًا صديقكم.»
سكت إذ ذاك الوكيل واعتاض عن الكلام بكتاب أرسله إلى الدويش، وفيه أن حكومة بريطانية العظمى باسطة على الكويت حمايتها، وأن مَن يحاولون الهجوم عليها يعرِّضون أنفسهم لضرب الطيارات والمراكب الحربية.
عاد الوفد إلا الصبيحية يحمل كتاب الوكيل، وفي اليوم التالي طارت طيارة فوق ذاك المكان وألقت بين الإخوان كتابًا آخر بمعنى الكتاب الأول.