فتح حائل
في صيف هذا العام (١٣٣٩ﻫ / ١٩٢١م) بعد أن عُقِد مؤتمر القاهرة البريطاني، برئاسة وزير الخارجية يومئذٍ المستر تشرشل الذي كان سائحًا في الشرق الأدنى، وتقرر أن يكون الأمير فيصل ابن الملك حسين ملكًا على العراق، عُقِد مؤتمر في الرياض حضرَه العلماء والرؤساء فقرَّروا أن يتخذ حاكمُ نجد الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ومَن يخلفه بعده لقبَ سلطان، فكتب عبد العزيز كتابًا إلى المفوَّض السامي لدولة بريطانية العظمى في العراق يُخبره بما تقرر، ويرجو أن يكون ذلك مستحسَنًا لدى الحكومة البريطانية البهية، وبينما هذا الكتاب في الطريق كان قادمًا من حضرة المندوب في بغداد كتاب إلى ابن سعود يُخبره فيه أن قد تقرر انتخاب الأمير فيصل ملكًا على العراق ويرجو أن يكون ذلك مستحسَنًا لديه. فأجاب عبد العزيز أنه يكون مسرورًا بما يريده العراق والدولة البريطانية للأمير فيصل بشرط ألَّا يكون ذلك مُجحِفًا بحقوق نجد أو مضرًّا بمصالحه، ثم اعترفت الحكومة البريطانية في ٢٢ أغسطس (٢٧ ذي الحجة) لابن سعود ولمَن يخلفه من ذريته بلقب سلطان.
وفي هذا الشهر عاد سعود بن عبد العزيز من حصار حائل ومعه أميرها الشاب عبد الله بن متعب آل رشيد، فبسمت الرياض لطلائع النصر في الحرب، ولبشائر الفوز في السياسة، ولكن الاعتراف بملك أو بسلطان هو أسهل من تحطيم التيجان. وتقارُض الولاء السياسي أسْلَس سبيلًا من حصار المدن. فلا يتبادر للذهن إذن أن في رجوع سعود ومعه أمير حائل الفوزَ المبين. إن فيه طلائع الفوز فقط، أما الأمنية القصوى فدونها شهران من القتال لا يزدريهما التاريخ.
لنَعُد إذن إلى الحوادث التي تقدَّمت الحصار. بعد المصالحة وابن الصباح استنفر ابن سعود أهل نجد ومشى إلى الجبل بعشرة آلاف مقاتل يقود قسمًا منهم أخوه محمد، والقسم الآخر ابنه سعود، وقد عهد إلى الأول في محاصرة حائل وإلى الثاني في مهاجمة شمر، أما هو فتخلَّف في القصيم.
عندما وصل محمد إلى أطراف المدينة قام أهلها يستأذنونه بإرسال وفدٍ من قِبلهم إلى عبد العزيز، فأذن بذلك.
وقد جاء هذا الوفد يقبل بما رُفِض منذ سنة من الشروط التي اشترطها عبد العزيز بخصوص شئون شمر الخارجية. على أن الحوادث خلال سنة تقوم بالممالك وتُقعِدها. وخلال سنة يطرأ على السياسة ما يجعل أمْسَها متنكِّرًا ليومِها.
أجاب الوفد: «سنعرض الأمر على صاحب الأمر، فإذا قَبِل كان خيرًا وإلَّا فأنت بريء الذمة.» وبعد أن عاد الوفد ورُفِضت تلك الشروط خرج ابن طوالة غازيًا بعض قبائل ابن سعود في مكان قريب من حائل على مسير خمس ساعات منها، ولكنه لم يَعُد من تلك الغزوة سالمًا، فقد وافاه فيها الموت.
على أن موت هذا الزعيم الشمري لم يؤثِّر بشجاعة المحاصرين والمرابطين خارج المدينة؛ فقد حدث بينهم وبين جنود ابن سعود مناوشات ومصادمات كانت يومًا لهم ويومًا عليهم، فاستدعى عبد العزيز أخاه محمدًا وأمر ابنَه سعودًا في محاصرة المدينة، فحاصرها شهرين، ولم يكن في نجاحه فوق مَن تقدَّمه لولا مجيء محمد بن طلال من الجوف وفرار الأمير عبد الله بن متعب.
أما ابن طلال هذا فهو أخو عبد الله الذي قتل سعود بن عبد العزيز، وأما عبد الله بن متعب فهو ابن أخي سعود. فلا عجب إذا خامره شيءٌ من الريب فيما ادعاه؛ أي إنه جاء من الجوف ليساعد في الدفاع عن حائل. نعم جاء يساعد في الدفاع بعد أن يقتفيَ أثَرَ أخيه فيستولي على الإمارة. هذا الذي كان يخشاه ابن متعب، وبما أن الحياة لديه، وهو يومذاك لا يتجاوز العشرين سنًّا، كانت أعزَّ من الإمارة فقد فرَّ إلى سعود بن عبد العزيز، فرحَّب به وأخذه إلى الرياض كما تقدَّم غنيمة باردة. وكان عبد العزيز قد عاد إلى العاصمة وأمر سعودًا بالرجوع من الجبل؛ لأنه فَقَدَ هناك، بسبب القيظ وقلَّة المرعى، عددًا كبيرًا من رواحله.
بعد فرار ابن متعب والتجائه إلى ابن سعود، تولَّى الإمارة محمد بن طلال آل رشيد، وهو شاب شجاع مستهتر، فباشر القتال في حَمْلِه على قرى حائل التي كان أهلها موالين لابن سعود حملاتٍ شعواء، فهدمها بعد أن قتل صبرًا أغلبَ رجالِها.
وكان ابن سعود قد أمر فيصل الدويش بالزحف إلى حائل وبمحاصرتها إلى أن يجيئَه هو بنفسه. فمشى رئيس مطير بألفين من رجاله ونزل على ماء ياطب القريب من حائل، فبلغه في اليوم الرابع من وصوله أن ابن طلال خارجٌ بقواته إلى الجثامية، وهي على مسير ثلاث ساعات من المدينة، فشدَّ مُسرِعًا ومشى إليها فاحتلها قبل أن يصل ابن طلال إلى النيصية القرية المجاورة لها، ومعه ألف وخمسمائة مقاتل من الحضر وسبعمائة من البدو ومدفعان.
عسكر ابن طلال في النيصية المحصَّنة بتلال هي متاريس طبيعية، يصعب التغلُّب عليها إلَّا بقوة من الجيش كبيرة. أما الجثامية فهي في منبسط من الأرض تقلُّ فيه المكامن. ولم يتمكن الدويش من احتلال حصنها؛ لأن ابن طلال كان يضربه بمدفعيته ضربًا متواصلًا.
مشى السلطان عبد العزيز بعد عيد الأضحى بيومين (١٦ أغسطس) بعشرة آلاف مقاتل ومعهم بضعة مدافع. فلما اجتاز أُم جريف الواقعة بين قِبَة وجراب، بلغه خبرُ الدويش في الجثامية وأنه وابن طلال في احتراب. فترك في الحال حملة الجيش وراءَه وخفَّ مسرِعًا. قد كان مسراه من ذاك الماء قبل دخول محرم بيوم واحد، فوصل في اليوم الرابع منه (٨ سبتمبر) إلى بقعة — قرية من قرى حائل — فالتقى هناك برسول من الدويش يحمل كتابًا ضمَّنه كتابًا من ابن طلال إليه يقول فيه: «إننا جميعًا مسلمون وبيننا كتاب الله وسنة رسوله.» فقَبِل الدويش السريع التصديق، وما كاد ينسى خدعة سالم الصباح، وكتب إلى ابن طلال يلبِّي الدعوة للتحكيم ويسأله أن يرسل وفده لهذه الغاية. وقد دفعت به الثقة الطائشة إلى إهمال الجانب الشمالي من معسكره فلم يستحرسه، فاغتنم أمير حائل الفرصة وأرسل ثُلَّة من جنوده في الليل فاحتلوا ذاك المكان، فأشرفوا على معسكر الدويش، وشرعوا عند انبلاج الفجر يرمون الإخوان بالرصاص. أركب الدويش نجابًا آخر إلى السلطان يُخبره بأنه وابن طلال مشتبكان في القتال، وأنه خسر عشرة من رجاله وجُرِح عشرون.
وصل النجاب العصر إلى مخيم السلطان فغضب لما حدث وأمر ابنه سعودًا أن يركب بالخيل ويتقدمه مسرعًا، ثم وصل نجاب ثالث يُخبر أن الإخوان كسروا جيش ابن طلال، فأرسل يأمر الدويش بأن يلزم مكانه، وألَّا يأتيَ بحركة أخرى إلى أن يصل إليه.
مشى السلطان وقصدُه الهجوم على ابن طلال تلك الليلة، ولكنه اضطر أن ينتظر الحملة والمدافع فأبطأ في السير. ولم يكن من المستطاع الهجوم في النهار؛ لأن ابن طلال ورجاله كانوا في حصون حصينة؛ ولأن بين الحصون والمهاجمين سهلًا لا يحميهم شيءٌ فيه، ولأن جبل أجا — وهو حصن طبيعي — قريب منهم يلوذون به ساعة الهزيمة.
تقدَّم جيش السلطان عبد العزيز تدريجًا إلى مركز الدويش، فلم ينتبه ابن طلال إلى ذلك، ولم يكن عالمًا بقدومه ناهيك بقربه منه. وعند العصر في اليوم التالي جمع السلطان قوَّاده وتشاوروا في الأمر فقرَّروا أن يكون الهجوم في الهزيع الثاني من الليل.
مشى في ذاك الوقت نصفُ الجيش فقط، فراح قسمٌ منه يلفُّ بابن طلال من جهة حائل ليقطعوا عليه خط الرُّجْعى، وتقدم القسم الآخر إلى المكان المُعَد للهجوم، فانتظروا هناك طَلْقَ المدافع التي بدأت تُرسل قنابلها بعد صلاة الفجر قبل أن ينجليَ الليل.
هجم الإخوان هجمة واحدة، والقنابل تؤزُّ فوق رءوسهم، فقتلوا عددًا من العدوِّ وشتَّتوا صفوفه، ففرَّ ابن طلال وأكثر رجاله إلى جبل أجا ثم إلى حائل، ولاذ الآخرون بحصون النيصية. صُوِّبت المدافع على الحصون فقتلت أكثرَ مَن لاذوا بها وسلَّم الباقون.
قال أحد الذين سلَّموا يخاطب السلطان: «طبجيتكم ماهرون يا مولانا.» فقال عظمته: «لا، لا. كنَّا نضرب على النيَّة في الظلام، ولكنه توفيق من الله.»
بعد تقهقُر ابن طلال إلى حائل أرسل السلطان إلى أهالي المدينة يقول: سلِّموا تَسْلموا. فجاء الجواب بالتسليم على شرط أن يؤمَّر عليهم ابن طلال والكتاب موحًى به منه؛ لأنه كان لا يزال سائدًا بمَن ثبت معه من الجند وحزب بيت الرشيد. ولم يكن لأهل حائل زعيمٌ يوحِّد كلمتهم ويعزِّزها، فأنفذ ابن طلال فيهم سهام إرادته. على أن المغلوب لا يشترط الشروط. إلى الحصار!
إن مدينة حائل كائنة بين جبلَيْ أجا وسلمى، لها سهل يتسع إلى الغرب، ويضيق إلى الشمال، فيفتح من الجهة الشمالية الشرقية طريقًا إلى النجف، ويتقلَّص في الجهة الشرقية وفي شطر من الجنوبية. هي إذن مُحاطة من جهاتها الثلاث بالجبال، ولا يمكن الاستيلاء عليها من غير الجهة الغربية والشطر الجنوبي الغربي الذي تمتدُّ منه الطريق إلى نجد.
في هذا الطريق جاء السلطان عبد العزيز فنقل من الجُثامية، بعد أن تقهقر ابن طلال إلى المدينة، ونزل بينها وبين النيصية، فقسم هناك جيشه إلى فرقتين، فرقة بقيت معه والأخرى تقدَّمت إلى جبل أجا، فملكت مركزًا منه حصينًا. وهناك مركز آخر يُدعَى عَقدة غرب البلد يحسبه أهلُ حائل أحصن حصونهم الطبيعية. تقدم الجنود وهم يضربون العربان النازلين الجبل في طريقهم فيقتلون ويشتتون ويغنمون الغنائم، فاستولوا في اليوم السابع على عَقدة، واستمروا زاحفين إلى حائل، وهم يتمترسون بأكياس من الرمل، حتى وصلوا إلى مكان بينها وبين جبل أجا اتخذوه خطًّا أولًا للدفاع. وكان الهاجمون وراءهم قد أحاطوا بالمدينة من جهتَيها الغربية والغربية الجنوبية.
قلت: إن أهل حائل قبلوا بالتسليم على شرط أن يكون ابن طلال أميرهم، ولكن الأكثرية فيهم نفروا من ابن طلال لظُلْمه وطغيانه وكانوا يئنُّون من الحصار. فقد أرسلوا إلى السلطان عبد العزيز غير مرة يقولون: لا تتركنا فريسةً لابن طلال. وفي الوقت نفسه كانوا يرجونه ألَّا يضرب بالمدافع المدينة. وعندما أدرك ابن طلال أن الإمارة لا تجيئه بواسطتهم كتب إلى المفوَّض السامي لبريطانية العظمى في العراق يسأله التوسط بينه وبين ابن سعود، قال السر برسي كوكس في تقريره إلى حكومة جلالة الملك: «بعد أن سلم الأمير عبد الله (بن متعب) بن الرشيد تولَّى ابنُ عمِّه محمد بن طلال الدفاعَ عن حائل، وأرسل إليَّ مرارًا يرجوني أن أتوسَّط بينه وبين ابن سعود، ولكن ابن سعود لم يقبل بذلك.»
دنت مدة الحصار من الشهر الثالث فكتب السلطان عبد العزيز إلى أصدقائه في حائل يقول: «قد طال الحصار، وأقبل الشتاء، فليعذرنا الأهالي إذا أنذرناهم. لهم ثلاثة أيام ليسلموا المدينة وعائلة الرشيد، وإلَّا فنحن إلى غرضنا مسرعون بالرصاص والنار.»
فجاء الجواب وفيه أن الأهالي ينفضون أيديَهم من ابن طلال وبيت الرشيد، ويسلمون الحصون المحوطة بالمدينة إذا جاءتهم سرايا من الجيش.
أرسل السلطان ألفين من رجاله ففُتحَت لهم الحصون الخارجية المشرفة على حائل، ثم أمَّن الناس على أرواحهم وأموالهم فخرجوا إليه أفواجًا وهم يشكرون الله.
أما ابن طلال، الذي شهد له حتى الإخوان بالبسالة والإقدام، فعندما أدرك أن الأمر تفلَّت من يده تحصَّن وحاشيته في القصر، فأرسل السلطان عبد العزيز يؤمِّنه على حياته إذا هو استسلم، ففعل.
استمر هذا الحصار خمسة وخمسين يومًا؛ أي منذ وصول السلطان في ٤ محرم إلى ٢٩ صفر ١٣٤٠ /٢ نوفمبر ١٩٢١، يوم سلم ابن طلال، ولكن حائل كانت في حال الحرب أكثر من سنة قبل ذلك، وكانت القوافل من الكويت والعراق منقطعة عنها، فشمل أهلها الضيق. وكان السلطان عالمًا بشدَّة حالهم فجاءهم متأهِّبًا لتخفيفها — جاء بالمؤن، وجاء بالثياب وبالمال — فأجزل للناس العطاء، ووزَّع ألوفًا من أكياس الأرز وألوفًا من الكسوات. قال لي أحد الذين سلموا: «كنا ليلة الحصار الأخيرة على آخر رمق نرى شبح المجاعة والموت، فأمسينا ليلة التسليم الأولى وكلُّنا شبعانون، مكسيُّون، مطمئنون.»
بعد ذلك شاورهم الفاتح في أمر أميرهم: «ومَن تريدون أن نؤمِّر عليكم؟» فأجابوا قائلين: «واحدًا من آل سعود أو من كبار رجالك.» فقال عبد العزيز: «لستُ من رأيكم فقد كنَّا وإياكم «قومًا أعداء» مدة طويلة فلا يجوز أن نحْكُمَكم الآن مباشرة. وأنا أعرفكم يا أهل حائل. إنكم أهل قيل وقال. أصحاب فتن، ولكني لا أخشى أن أؤمِّر عليكم واحدًا منكم. وإني أريد أن أحافظ على كرامتكم. هذا إبراهيم السبهان فهو منكم، وهو رجل عاقل. هو أميركم. وإني واثق بالله — وعادته معي جميلة — فهو سبحانه وتعالى ينصفني ممَّن يغدر أو يخون.» أما إبراهيم السبهان فهو الذي مهَّد السبيل لتسليم الحصون واتفق وابن سعود على ذلك فأمَّره بعدئذٍ على حائل.