آخرة آل عائض
في شبه الجزيرة جبالٌ غير أجا وسُلمى، وغير جبال اليمن وعمان، تستحق أن تُنعَت بالزمردية، هناك جبال عسير وقد كساها الاخضرار، فضخمت فيها الأشجار، وغزرت المياه، وتنوَّعت الثمار. هي جبال عسير الممتازة بكنوزها الدفينة، ناهيك بهوائها، وهو في اعتداله مثل هواء الطائف، وبمناظرها وهي أروع من مناظر اليمن. وهي أحصن الجبال للدفاع، ورجالها من صفوة العرب في البأس والبسالة.
ولكن أهل عسير أشد العرب نفرة من الأجانب، وأبعد العرب اليوم عن المدنية. كانوا في الماضي قبائل مستقلة بعضها عن بعض، بل معادية بعضها لبعض. ولا يزال في الجهة الشرقية الجنوبية من أولئك الأعراب الذين يسلكون مسلك الأقدمين في الاستقلال والقتال، فهم لا يدينون لصاحب اليمن، ولا لصاحب عسير، ولا لصاحب نجد والحجاز.
أما أهل الناحية التي أطلق الترك عليها اسم متصرفية عسير، فقد أقبلوا في أيام آل سعود الأولين على مذهب محمد بن عبد الوهاب؛ فترى مساجدهم وقد خلت من الزخرف، وقبورهم ولا قباب فوقها. هم يوحِّدون الله ولا يتوسَّلون إلى سواه. وكانوا في تلك الأيام يدفعون الزكاة للإمام في الدرعية، مثلما يدفعونها اليوم للسلطان عبد العزيز.
أما قاعدة هذه المقاطعة أَبْها، التي تعلو سبعة آلاف وثلاثمائة قدَم عن البحر، فهي قائمة على رأسَي وادي ضلاع ووادي شهران — في جبل سراة — بين آكام وقمم تنتصب كالحراس حولها. وهي مؤلفة من ثلاث قرًى أو أحياء منفصلة بعضها عن بعض، ولا أسوار لها. إنما تحوط بها ثماني قلاع صغيرة — مفاتيل — تَسَعُ الواحدة عشرة من الجنود.
وفي هذه الناحية وادي شعاف الذي يقطنه آلُ يزيد، ومنهم آل عائض الذين يدَّعون أنهم من سلالة معاوية بن أبي سفيان، وأنهم نزحوا إلى عسير بعد سقوط الدولة الأموية في الشام، ولكنهم لم يكونوا قبل الفتح السعودي أمراء في عسير. وعندما أمَّر سعود الكبير في هذه الجبال رجلًا يُدعَى ابن مُجثِّل كان عائض جدُّ الأسرة من الرعاة، ثم جاءت الجنود المصرية، وجاء محمد علي بنفسه يقود الحملة على أهل عسير، فكان آل يزيد من المتقدمين المستبسلين في القتال، وكان عائض بطل آل يزيد فأمَّره ابن مُجثِّل مكانه، وكتب إلى ابن سعود يوصيه به فأثبته في الإمارة، ثم خلفه بعد وفاته ابنُه محمد — محمد الفاتح — الذي بسط سيادة آل عائض فيما دون السراة من البلدان، فوصل شرقًا إلى بيشة، وشمالًا إلى حدود الحجاز، وجنوبًا بغربٍ إلى المخا في تهامة.
وكانت قد تزعزعت في عهده سيادةُ آل سعود، وعادت الدولة العثمانية إلى اليمن، فجهزت على عسير حملة بقيادة المشير رديف باشا الذي قتل محمد بن عائض غدرًا، ثم تأسَّست متصرفية عسير، وظلَّت الدولة تحافظ على نفوذ آل عائض وتستعين به، بل كانت تعيِّن أحد أمراء هذه الأسرة معاونًا للمتصرف. وآخِرُ مَن تولَّى هذه الوظيفة منهم هو حسن بن علي، حفيد الأمير محمد، الذي عيَّنه في سنة ١٩١٢ المتصرف سليمان شفيق كمالي باشا.
ثم شبَّت الحرب العظمى، وجلَا الترك عقب الحرب عن عسير، فتولَّى حسن الإمارة واستقلَّ بها، بل كان مستبدًّا ظالمًا فنفرت منه القبائل خصوصًا قحطان وزهران، وأرسلت وفودها شاكية إلى ابن سعود، فبعث عبد العزيز إليهم بستة من علماء نجد وكتب إلى الأمير حسن وإلى رؤساء قحطان وزهران ينصحهم بالمسالمة ويدعوهم للرجوع إلى ما كان عليه أجدادهم.
ولكن الأمير حسنًا استمرَّ في سياسته، فأبى توسُّط العلماء وردَّهم مكابرًا: «إذا كان ابن سعود يتدخل في شئون قبائل عسير فسنمشي إلى بيشة النخل (قلعة بيشة) ونستولي عليها.»
عندئذٍ أرسل السلطان ابنَ عمِّه عبد العزيز بن مساعد بن جلوي (أمير حائل والجوف اليوم) ومعه ألفان من الجنود، وأمره بأن يدعوَ ابن عائض أولًا للسلم فيكون مع ابن سعود كما كان أجداده الأولون.
مشى ابن مساعد في شعبان سنة ١٣٣٨ /مايو ١٩٢٠، وعندما دنا من أبها في الشهر التالي كفاه ابن عائض مئونة الدعوة للسلم فخرج إليه بجنوده، وتصادموا في مكان يُدعَى حَجلة بين العاصمة وخميس مشيط، فكانت الوقعة شديدة، وكانت الهزيمة على أهل عسير.
قال عبد العزيز: «ما تخلَّينا أبدًا عنكم يا أهل عائض، وعندما سأل الترك الشريف عبد الله بن عون أن يهاجمَكم وينكِّل بكم، أرسل الشريف يستنجد عمِّي الإمام عبد الله فأجابه: ابن عائض رجل منَّا فكيف نساعدك عليه؟»
ثم عرض إمارة عسير على حسن بالشروط التي تقيَّد بها أجدادُه فرفضها قائلًا: «قد عادينا الناس ونخشى إذا أمَّرتنا أن يقوموا علينا، ولكنا نكون معاونين لمن تؤمِّرون، أيَّدكم الله، ولا تقصروا عنَّا من جهة الدنيا.»
لم يقصر ابن سعود؛ فقد أعطاهما خمسة وستين ألف ريال (٦٥٠٠ ليرة ذهبًا) وخصَّهما وأهلهما بالمشاهرات المالية.
عاد الأميران إلى بلادهما راضين مغبوطين، فأقام محمد في أبها عند حاكمها وكانت سيرتُه حسنة. أما حسن فاستأذن بأن يسافر إلى حَرملة بلدته ليجيء بعائلته إلى العاصمة فأُذن بذلك، ولكنه عندما وصلها تمنَّع فيها وشرع يدسُّ الدسائس على ابن سعود.
ثم مشى — بعد فتنة أثارها — بقوَّة من قومه على أبها، فحاصر الأمير فيها عشرة أيام، واضطره إلى التسليم، فسلَّم، فأُسِر في خميس مشيط.
وكان قبل ذلك قد جازف هذا الأمير بسيادة ابن سعود في بني شهر المقربين من الديوان الهاشمي بمكة. فقد كان لابن سعود عامل في تلك الناحية أرسل مرة مع أحد رجاله مالًا إلى أمير أبها، فقتله بعضُ العربان وسلبوا المال، فأرسل الأمير إلى بعض الإخوان من قحطان يأمرهم بمهاجمة بني شهر. هجم الإخوان على أدنى أولئك العربان منهم، فاشتبكوا وإياهم في القتال وكانت الغلبة عليهم. وكان الملك حسين يستنهض بني شهر ليكونوا وابن عائض يدًا واحدة على ابن سعود، ويمدهم بالذخائر وبالمال، فتفاقم الأمر، واشتدَّ الخطر على السيادة النجدية في عسير.
استمرت هذه الحال ما يقرُب من شهرين. وبعد سقوط حائل ببضعة أشهر جهز السلطان عبد العزيز ابنه فيصلًا بحملة على عسير مؤلَّفة من ستة آلاف من جنود نجد، من الإخوان، وأربعة آلاف من عرب قحطان وزهران انضموا إليهم عندما دخلوا تلك الجبال.
مشى فيصل في الشهر العاشر من عام ١٣٤٠ (يونيو ١٩٢٢)، فلما وصل إلى بيشة كان بنو شهر زاحفين إليها يريدون مهاجمتها، فأمر فيصل بابتداء القتال، فهجمت عليهم كتيبة من الجيش فقتلت مائتين منهم وشتَّت الباقين.
وكان محمد بن عائض مرابطًا بجيشه في خميس مشيط، فعندما علم بدنوِّ فيصل تقهقر إلى حَجلة، فتقفَّته سريَّة من الفرسان، فتراجع وجنوده إلى أبها بدون قتال.
سألتُ الأمير: «وهل كان في أبها عندما دخلتموها؟» فقال: «ما وجدنا فيها غير الكلاب والحريم.» فرَّ آل عائض وقومهم وفرَّ معهم هاربًا مَن استطاع، فأرسل الأمير فيصل يؤمِّن الناس بشرط أن يسلِّموا «شوكة الحرب»، فسلَّم فريقٌ من الذين كانوا ثائرين، وظلَّ فريق مع الأمير حسن الذي لجأ إلى بلدته حَرملة وتحصَّن فيها.
جاءت الأميرَ فيصل أخبارُ العائضَين، فأرسل على حسن في معقله بحرملة سرايا من الجيش، الواحدة تلو الأخرى، وبعد تذليل العقبات، ومعركةٍ دامت ست ساعات، استمرَّ الإخوان في التصعيد حتى وصلوا حَرملة فلم يجدوا حسنًا فيها، فهدموا قصورها وحصونها وعادوا إلى أبها.
وكان الأمير قد أرسل قوة من الجيش إلى تهامة لمحاربة القادمين من الحجاز، ولكن تهامة كانت على الإخوان أشدَّ في حرِّها وحمياتها من صخور حرملة، فلم يمعنوا فيها بل عادوا منهزمين — هزمتهم الحمَّى — إلى الجبال، فتقفَّى جيش الحجاز أثَرَهم.
أما القيادة في ذاك الجيش فقد كانت مقسومة غير متفق عليها. قال الشريف عبد الله بن حمزة بخطة في السير، وقال حمدي بك قائد الجنود النظامية بخطة أخرى، ولكن الكلمة الأخيرة كانت للشريف فمشى بالجيش في الطريق التي حذَّره منها حمدي بك.
وكان ذلك من حظِّ الإخوان الناقمين على تهامة، الطالبين الثأرَ من الجيش الذي جرَّهم إليها، إذ ما عتم أن وقع الشريف عبد الله في الشرك، فأحاط به أهل نجد وكادوا يفنون جيشه بالرصاص وبالسيف. نجَا القائدان بقسم من رجالهما — البدو والنظام — ولاذوا ببارق، فتعقَّبهم الإخوان، ففروا منها منحدِرين إلى تهامة، متقهقرين إلى القنفذة.