سقوط الطائف
مشى الإخوان من مركز الاجتماع في تربة، ولم يعلم بهم أحد في مكة أو في الطائف قبل أن اجتازوا الحدود. لم تعلم الحكومة بهجومهم قبل أن وصلت سرياتهم في اليوم الأول من صفر ١٣٤٣ /سبتمبر ١٩٢٤، إلى قرية الحويَّة التي تبعد بضعة أميال عن الطائف.
استيقظت عندئذٍ الحكومة، فأصدر ناظر الحربية الهاشمية أمير اللواء صبري باشا أوامرَه إلى جنود النظام بالدفاع، فخرجوا من الطائف، وهم نحو أربعمائة ومعهم بعض المدافع الجبلية والرشاشة، خرجوا إلى الحوية يصدُّون الإخوان، فاستعرَتْ بينهم وبين سرايا الجيش هناك معركة دامت بضع ساعات كانت الغلبة فيها للإخوان.
تقهقر النظاميُّون إلى جهة الطائف، فانضمَّ إليهم جندٌ من البدو ورابطوا معهم في الهضاب الغربية من البلد إلى الشمال والشمال الغربي منه. هناك وقفوا ثانية لسرايا الجيش الزاحف، وشرعوا يُطلِقون عليهم المدافع فاستمروا في مناوشتهم، دون أن يتمكَّنوا من ردِّهم ثلاثة أيام. أضف إلى ذلك أن قسمًا من البدو الذين كانوا في المراكز الأمامية انضم إلى الإخوان وسلَّم الباقون.
عندما وصلت أخبار الهزيمة الأولى إلى مكة أمر جلالة الملك ابنَه عليًّا بإنجاد الجيش المدافع، فجاء الأمير مُسرِعًا بسرية من الخيَّالة وأخرى من الهجانة. أما النجدة التي مشت في طريق السيل فلم تصل إلَّا بعد سقوط الطائف.
وكان الجيش النجدي يزداد عددًا وقوة، فاضطر الجنود النظاميون أن يتقهقروا إلى المدينة في صباح يوم الجمعة. تقدَّم الإخوان وصار رصاصهم — قرب الظهر من ذاك النهار — يقع داخل السور، فاستحوذ الذُّعْر والخوف على الأهالي، وكان الأشراف في مقدمة الهاربين.
فقد خرج في أصيل يوم الجمعة أمير الطائف الشريف شرف عدنان، ووزير الحربية وجنوده النظاميُّون، وسائر الأمراء والموظفين، خرجوا من المدينة؛ لأنهم رأوا كما قِيل أنه خيرٌ لسلامتها ولسهولة استردادها أن يلحقوا بالأمير علي.
وبعد خروج الأشراف والجيش بساعة أو ساعتين، في غسق ذاك اليوم، اليوم السابع من صفر (٧ سبتمبر) دخل الإخوان الطائف كالسيل الجارف، وهم يكبِّرون ويعتزون، ويُطلقون بنادقهم في الفضاء، ثم طفقوا يطلقونها في الأسواق، وهم يطوفون في المدينة، فقتلوا عددًا من الأبرياء الذين لم يسارعوا مثل غيرهم من الأهالي إلى بيوتهم مستأمِنين.
أما الشيخ عبد القادر الشيبي سادن الكعبة فقد نجا من الإخوان بحيلة ظريفة، بكى عندما وقع بين أيديهم، فسأله أحدهم وقد استلَّ السيف فوق رأسه، قائلًا: «وليش تبكي يا كافر؟» فأجابه الشيخ: «أبكي والله من شدة الفرح؛ أبكي يا إخوان لأني قضيت حياتي كلَّها في الشرك والكفر، ولم يشأ الله أن أموت إلَّا مؤمنًا موحَّدًا. الله أكبر! لا إله إلا الله!» قد أثَّر هذا الكلام في الإخوان، فبكوا لبكاء الشيخ، ثم طفقوا يقبِّلونه ويهنئونه بالإسلام.
هذي هي الحقيقة كلها في فظائع ليلة الفتح. وفي صباح يوم السبت دخل سلطان بن بجاد ببقية الجيش فكفَّ الجنود عن القتل، ولكنه أمر بجمع السلاح وبتفتيش البيوت، فاضطرَّ لذلك أن يُخرِج الأهالي منها، فسِيقوا نساءً ورجالًا إلى حديقة شبرا، وحُبِسوا هناك ثلاثة أيام، ثم أُطلِق سراحهم وأُذن لمن شاء منهم بالخروج من المدينة.
قلنا في مطلع هذا الفصل: إن فريقًا من عرب الحجاز وأشرافه انضمَّ إلى الجيش النجدي نفرةً من الحسين وابتغاء سقوطه. وقد كان أشراف الحرث في مقدمة الثائرين، فتبعهم حتى مَن كان في الجيش الهاشمي من العربان. على أن ذلك لم يثبِّط من عزم الملك ولا حوَّله مقدار ذرة عن مقاصده. فعندما وصل الأشراف وغيرهم من الهاربين، وعندما علم جلالته بوصول الأمير علي إلى عرفات، غضب غضبةً مضريَّة، وشرع يُعِد العدة لإعادة الكرَّة على الإخوان ولاسترجاع الطائف. جمع شتات الجند وجمع مَن استطاع من البدو، فكانت التجريدة الجديدة خمسمائة من النظام، ونحو ستمائة من قبائل الحجاز الموالين؛ أي من هذيل وقريش وبني سفيان، ومائتين من أهل مكة، ثم أمَرَ الأمير عليًّا بالرجوع إلى ساحة الحرب.
مشى الأمير علي على رأس هذا الجيش إلى الهدى، وكان الإخوان قد علموا بذلك، فحمل نحو ألفين منهم على الحجازيين، واشتبكوا واياهم في ٢٦ صفر (٢٦ سبتمبر) في معركة استمرَّت من نصف الليل إلى الساعة العاشرة صباحًا.
كان الأمير علي يدبر هذه المعركة من قصر يبعُد ألفًا وخمسمائة متر عن ساحة القتال. وفي هذا القصر هاتف يصله، بواسطة مركز الارتباط في سفح جبل كرا، بقصر جلالة والده.
– «هجم المتدينة علينا فرددناهم خاسرين.»
– «أعاد المتدينة الكرَّة فأمطرتْهم مدافِعُنا وابلًا من الرصاص فعادوا مدحورين.»
ولكنهم في الهجمة الثالثة، وعلى رأسهم سلطان الدين نفسه، ضربوا الجبهة ضربة ثَلَّتْها، وكان في وسطها سرية من الفرسان من عرب عتيبة فتقهقروا، فدخل الإخوان من تلك الثلة، وأول من انهزم من بدو الحجاز هذيل وسفيان، ثم أهل مكة ثم جنود النظام.
وفي هذه الساعة، عند صلاة الفجر، سكتت بنادق الإخوان، فهتف موظف الهاتف يخاطب ضابط الارتباط في الكر بسفح جبل كرا، وهذا يخاطب الديوان الهاشمي بمكة: «انهزم المتدينة! سكتت بنادقهم!»
ولكن السبب في سكوت تلك البنادق هو أن أصحابها توقَّفوا عن القتال ليصلوا صلاة الفجر! ثم عادوا مستبسِلين، فتقهقر الأمير علي بشرذمة من الجيش إلى الكر، وعند وصوله إلى سفح الجبل الساعة الثامنة صباحًا، أمره جلالة الملك بالهاتف أن يرجع إلى الهدى: «الطاعة ولو ذُبِحت.» قال هذا وعاد ورجاله أدْراجَهم، فما كادوا يصلون إلى منتصف الطريق حتى انهال عليهم رصاص الإخوان كالمطر، وكان ضابط الارتباط في الكر قد ألحقهم بنجاب، يقول: «قد انقطع التلفون بيننا وبين الهدى.»
قفل الأمير ورجاله راجعين وتوقَّفت الإخوان بعد هذا النصر في الهدى، فلم يتعقَّبوا فلولَ الجيش الهاشمي، ولا هاجموا مكة يومذاك اجتنابًا للقتال في ظلال الحرم.