إشاعات وحقائق
مرضنا ونحن في جدة ننتظر وصول السلطان عبد العزيز إلى مكة. مرضنا حقيقة ومعنًى — مرضنا كلنا، الملك علي، والسيد طالب، والمستر فلبي، والمؤلف — بالمالاريا وغيرها من الأمراض السارية. وكنَّا في ذلك الأثناء نسمع من الأخبار — أخبار الإخوان — ما لا يزيل الكربة بل يزيد بها.
يا لهول الإخوان! ويا للفظاعة ويا للعار! قد عاهدوا «الجداعين» وأمَّنوهم على حياتهم وأموالهم، ثم ذبحوهم عن بَكْرة أبيهم. قد عاهدوا بني جابر وبعض الأشراف الذين «دينوا» وأمنوهم، ثم حملوا عليهم فذبحوهم كلَّهم الرجال منهم والنساء والأطفال. الإخوان يضربون أهل جاوة بمكة ويمنعونهم عن الصلاة، وعن التدريس في الحرم. الويل لمن يرى الإخوان سيكارة بيده، فإنهم يُشبعونه شتمًا وضربًا. الإخوان يحجزون البيوت بمكة ويبيعونها. الإخوان يهدمون بيت مولد النبي، وبيت السيدة فاطمة الزهراء، وضريح السيدة خديجة. الإخوان هدموا كلَّ قبور الصحابة والأولياء وآل البيت في المعلا. وهدموا مسجد حمزة، ومسجد أبي قبيس. وهدموا …
مرحبًا بالإشاعات، فإنها مثل المصائب بعضها يُنسِي الناسَ البعضَ الآخر، وقد أنسانا الإخوانَ — إلى حين — الخبرُ بسقوط حائل. قالوا إنها سقطت بيد قبائل شمر، وقالوا إن سلطان الدويش قد استولى بمساعدة شمر على حائل.
ومرحبًا بالمكذِّبين، لا صحة للإشاعة بأن مشايخ رابغ «دينوا» وأن رابغ أصبحت في حوزة الإخوان. كذلك كانت الأخبار تترامى إلينا، ونحن على فراش الحمَّى نتململ، ونقول: عجَّل الله قدومَك يا عبد العزيز، ولكننا في تجوالنا أيام النَّقَهِ سمعنا من مصادر شتى، وتحقَّقنا بعدئذٍ ما يقرب من الحقيقة فيما تقدم من الإشاعات. سنعود إذن إليها فنمحِّصها للتاريخ.
عندما دخل الإخوان مكة جاء عربان الجدعان وبني جابر وبعض الأشراف إلى الأمير خالد بن لؤي موحِّدين طائعين، دخلوا في دين التوحيد «دينوا» فأعطاهم خالد الأمان على أرواحهم وأموالهم، وأذن لهم بالرجوع إلى منازلهم التي تبعُد مرحلة ومرحلتين عن جدة إلى الشرق الجنوبي.
ولكنهم بعد أن عادوا من مكة جاءوا يقدِّمون الطاعة للملك علي، وشرع بعضهم يقطع الطريق بين جدة ومكة. فأرسلت القيادة النجدية سرية عليهم للتأديب ولجمع السلاح. أبى الجدعان أن يسلِّموا سلاحهم، فنشبت بينهم وبين الإخوان معركة دامية انتهت بهزيمة الجدعان وفرارهم في السنابيك إلى جدة. أما بنو جابر فمنهم مَن سلَّموا سلاحهم ومنهم مَن فرُّوا هاربين، فركبوا البحر مثل الجدعان، وجاءوا جدة بحريمهم وعيالهم، فأنزلهم الملك علي خارج السور، وبذَل في سبيلهم المستطاع.
اجتمعنا في قنصلية هولندة ببعض الجاويين العائدين من مكة، فسألناهم أن يصدقونا الخبر، فقال أحدهم: «أقمنا حفلة لنتلوَ المولد النبوي — كما هي عادتنا كلَّ سنة — فنصبنا قبة للاجتماع. وعندما حضر عالمنا لتلاوة سيرة المصطفى، جاء الإخوان فطردونا وهدموا القبة. لا، لم يضربوا أحدًا، ولكنهم كانوا يشتموننا ويدعوننا مشركين. نعم، التدخين ممنوع في الأسواق، ولكني ما رأيتهم يضربون أحدًا يدخِّن. هم يشتمون مَن يدخن ويدفعونه جزاءً ربعًا مجيديًّا.»
التقينا ذات يوم عند السور باثنينِ عائدين من مكة، الواحد ضابط تركي كان في خدمة الحسين، والثاني عربي من البدو. فسألنا عن فظائع الإخوان فقال الضابط: «حجزوا البيوت ونهبوها وباعوها والله. وهدموا المقامات كلَّها، حتى مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام.» فقاطعه الإعرابي قائلًا: «لا والله، الذنب ذنبنا — نحن العرب — والخيانة منَّا. يجيء الواحد إلى خالد يقول: هذا بيت الشريف، وهذا بيت عم الشريف، وهذا بيت أحد عبيد الشريف، فيحجز الإخوان هذه البيوت، ويبيعونها بعد أن يُخرِجوا منها الأثاث، ما مسُّوا والله غير أملاك الشريف ودور الحكومة.»
أما هدمهم القبور والمقامات فما انجلت الحقيقة فيها إلَّا بعد أن زار وفْد جمعية الخلافة مكة، فرأوا بأعينهم ما هُدِم منها وما لم يُهدم، وقد قال السيد سليمان الندوي رئيس الوفد في تقريره: «إن القباب والبيبان التي كانت على القبور هُدمَت وكُسرت، ولكن القبور موجودة سالمة كما شاهدنا. والقبة التي كانت على قبر حمزة هُدمَت والمسجد سالِمٌ.» أما مسجد أبي قبيس فقد هُدم قسمٌ منه، فأسف السلطان عبد العزيز لذلك، وأمر بترميمه.
لا ثأر للإخوان على المساجد، ولكن في القباب مصيبة الدين الكبرى. قال محمد بن عبد الوهاب: «المشاهد التي بُنِيَت على القبور التي اتُّخذت أوثانًا تُعبَد من دون الله، والأحجار التي تُقصَد للتبرُّك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاءُ شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته.» وقد ذكر بالحديث: خير القبور الدوارس.
ولكن السخافة في الناس لا تتغير إلَّا في شكلها. إنَّ هادمي القبور ومقدِّسيها لمن أمة واحدة، وإن غضبةً للحجارة مثل غضبة عليها لا تصلح الأمم. كيف لا نستأنس إذن بالإشاعة التي تُنسينا إشاعات القبور؟ كلُّ مَن في جدة صدَّق الخبر بسقوط حائل إلَّا المستر فلبي والمؤلف، وأظن أن بعض الناس شاركونا الرَّيب، واستمروا مع ذلك في نشر الإشاعة. فقد سمعنا جلالة الملك في مجلسه ذات ليلة يقول لقائد فرقة النصر تحسين باشا الفقير: «الخبر بسقوط حائل صحيح، جاءنا اليوم الإثبات من عمان.» أي من المصدر الأعلى فيما كان يُروَى عن نكبات نجد وابن سعود، ولكن عليًّا من الناس الذين لا يُحسنون التمويه، فقد خانتْه اللهجة التي ظهر فيها أنه مشكِّك بما يقول.
وقد كان يشكِّك حتى بمَن يُقسمون اليمين المغلَّظة من البدو: والله بالله نحن رجالك يا علي ونفديك بدمنا! فهل يُقال بعد هذا إن ابن مبيريك صاحب رابغ ومشايخه كلهم «دينوا»؟ وأن رابغ أصبحت في حوزة الإخوان؟
هاكهم في القصر يُقدِّمون الطاعة للملك.
وهاكهم في مكة يُبايعون ابن سعود!
إشاعات وحقائق، تتلو الواحدة الأخرى كأدوار من الحمَّى، وقد كنَّا، بين الحمَّى وبينها، نسترحم الله للعرب أجمعين.