الطيارات
كان هناك أناسٌ لا يرضون بالسلم، منهم في مكة الإخوان وبعض الأشراف، ومنهم في جدة الجنديَّة وجماعة من وجهاء الأهالي المناوئين للبيت الهاشمي. وقد كان لكلِّ فريق من هؤلاء، في مكة وفي جدة، غرضٌ خاصٌّ في مقاومة المتوسطين وإفساد مساعيهم. على أن غرض الإخوان أطهرهم؛ لأنه ناشئ عن عقيدة راسخة في النفس، ومجرد عن المنافع الشخصية. أما الآخرون، أي الجندية والمناوئون للبيت الهاشمي في جدة، فقد كانوا ينشدون إما الشهرة، وإما الانتقام، وإما المنفعة. وسنسرد الحوادث تبيانًا وبرهانًا.
عندما جاء الإذن من السلطان عبد العزيز بإرسال رسولَي العويني إليه، كرَّر الملك علي أوامره إلى القيادة العالية في أن تؤجِّل إرسال المنشور الحربي إلى أهالي مكة إلى أن يصدرَ أمرٌ آخر بخصوصه، وأن تحتفظ بالنسخ فلا تأذن بنشر نسخةٍ واحدة منه، وأن تشدِّد على الطيارين بألا يتجاوزوا في استكشافهم بحرة.
وكانت قد طارت منذ يومين، أي قبل انقضاء مدة التأجيل التي أمر بها الملك، فشاهدها العويني بعد خروجه ذاك اليوم من المخيم السلطاني وعند وصوله إلى الشمَيسة، سارعت إلى القصر أواجه الملك فأدهشني منه أنه جهل الأمر. وما كان الوزراء ولا رئيس الحكومة عالمين به. فقرع جلالته الجرس الصغير على المائدة الصغيرة أمامه، فجاء أحد كتبة الديوان فقال له: «نادِ تحسين باشا ليحضر حالًا.» جاء تحسين وأقرَّ أن الطيارة تجاوزت بحرة، ولكنه أنكر أنها رمتْ نُسَخًا من المنشور.
أما السبب في تجاوز الأوامر — كلام الباشا — هو أن خللًا صغيرًا في المحرِّك حمل السائق على الإسراع في السير ليقي الطيارة من السقوط إلى الأرض، فطارت بحكم الاستمرار في خطٍّ مستقيم طيرة طويلة، فلم يتمكن أثناء ذلك من ضبطها وردِّها، لم يَفُه جلالته بكلمة، إنما أومأ برأسه أنه مقتنع، فقلت وفي صدري غضب مكموم: «لا أظن يا باشا أن هذا السبب كافٍ لتبرير التجاوز. وأنت أدرى بنتيجة المخالفة للأوامر العالية في أيام الحرب.»
فقال تحسين: «ما هو بالأمر المهم.»
فقلت: «كلُّ أمر ملكي مهم يا باشا.»
فتكلَّم إذ ذاك جلالته مخاطبًا القائد بالتركية، فنهض مسلِّمًا وانصرف.
وفي اليوم التالي جاءتني تفاصيل الحادث، فأثبتت ظني أن تحسينًا لم يصْدُق الملكَ الخبر، فبادرت إلى القصر وكلَّمت جلالته قائلًا: «ماذا يقول السلطان بعد أن يقرأ كتابي ثم يشاهد طيارتكم ويقرأ منشوركم الحربي؟ لا شكَّ أنه يقول إني إما مخدوع وإما مخادع. إن هناك مؤامرة يا مولاي لإفساد مساعينا السلمية، ونقطة الدائرة لتلك المؤامرة هي القشلة. نعم إن هناك زمرة من الضباط وغيرهم لا يريدون السلم. وأنا أسعى بكلِّ ما عندي من القوة، ومن الحب والإخلاص لكم ولابن سعود، في سبيل السلم. فإذا كنتم حقًّا تبغون السلم فعليكم بالشدة في تنفيذ أوامركم. القيادة العليا لجلالتكم لا لتحسين الفقير وأركان حربه. ويجب أن توقفوهم عند حدودهم. يجب أن تتَّخذوا خطة العزم والشدة في تنفيذ أوامركم. وحقي أن أطلب ذلك ما زلت ساعيًا في سبيل السلم وما زلتم أنتم راضين بسعيي.»
عند ذلك أخذ جلالته يدي بيده، وقال: «إني أميل إلى حسن الظن بالناس، ولا أُسيء الظنَّ إلَّا بعد التثبُّت والتحقيق. وقد تحققت أشياء — تحققتها يا أمين — وسيسافر فلان وفلان وفلان في الباخرة القادمة. وسأوبِّخ تحسين باشا، ولكني أفضل أن يكون ذلك في مجلس خاصٍّ له.»
خرجت والشيخ فؤاد إذا ذاك من المجلس وعرجنا على مكتب رئيس الديوان، ثم جاء تحسين امتثالًا لأمر جلالته وخرج من المجلس الخاص متغيظًا. وفي ذاك اليوم صدر أمر ملكي بنقل أعداد المنشور كلِّها من القشلة إلى القصر وبحبس ضابط المراقبة عشرة أيام.
اجتمعتُ بعدئذٍ بهذا الضابط، وهو عبد الفتاح اللاذقي فسألته أن يصدقني الخبر، فقال: «عملت والله بأوامري، نعم طِرْنا فوق الأبطح والشهداء ورمينا المناشير.»
أعود إلى مذكراتي في تلك الأيام:
٣ جمادى الثانية (٢٩ ديسمبر)
لم يَعُد النجاب. أخشى أن يكون المنشور قد أثار غضب السلطان فيعدل عن خطته السلمية.
إننا نعلم أن لا صلاح في أمر دين ودنيا للمسلمين عمومًا، ولهذا البيت وأهله خصوصًا بوجود الحسين وأولاده في الحجاز. فإذا كان هذا ثابتًا عندنا ونعتقده دينًا فما المانع من الزحف عليهم وقتالهم؟ فإن كنت تخاف على أحدٍ من رعايا الأجانب أو أحد من أهل جدة فلك منَّا العهد والميثاق أننا لا نمسُّهم بشرٍّ، إلَّا مَن برز منهم لقتالنا أو بلانا بنفسه، ونحن كما تعلم نتجنب ما تأمرُنا بتجنُّبه … والآن فلا بدَّ لنا من أحد أمرين؛ الأول: أن تُعلمنا الطريق الذي يجب أن نسير فيه ونحن نكفيك مئونة الأمر، الثاني: إذا كنت لا توافق في الزحف لما تراه من الأمور التي أنت أعلم بها منَّا، فلا يجوز أن نظلَّ بعيدين عن أعداء الله هذا البعد، بل يجب أن نقترب منهم ونضيِّق عليهم الخناق حتى يحكم الله بيننا وبينهم. أما الأمر الأول فهو مَرامُنا، وأما الثاني فليس إلَّا مرضاة لخاطرك «يالإمام»؛ لأن الله أوجب علينا طاعتك.
يا عبد العزيز، إني أقول كلمة وإن كانت تغيظك. كنَّا نتحدث فيما بيننا ونقول: قد بدَّل عبد العزيز الشجاعة بالجبانة، وكنَّا قبل قدومه نتمنَّى قدومه. أما اليوم فصرنا نقول: ليته ظلَّ في بلده بعيدًا عنَّا، فإن كان هناك دليلٌ شرعي يؤخِّرنا عن القوم فبيِّنْه لنا حتى نتبعه. وما نحن إلَّا خدام الشرع، وإذا كان لا قصْدَ لك غير الشحِّ بأنفسنا عن الموت، فما من أحد يموت قبل يومه. وما نتمنَّى والله أن نموت إلَّا شهداء. فأي قتال تراه أفضل من قتال الحسين وأولاده؟ وأي عمل جاء فيه الضرر للإسلام والمسلمين أكثر من عمل الحسين وأولاده؟!
هذه من أخبار مكة الرسمية. أعود الآن إلى مذكراتي.
٧ جمادى الثانية (٢ يناير ١٩٢٥)
غيمة سوداء في سماء السلْم. كنت في مجلس الملك صباح اليوم عندما وصل رسول من مكة يحمل إلى جلالته كتابًا سريًّا من أحد أنصاره هناك، فأخبر الرسول أن جنود خالد نُقِلت من الأبطح، ولا يدري أحدٌ أين توجهتْ، وأن خالدًا هو عند السلطان بالشهداء، وأن السلطان يتأهَّب لنقل المخيم إلى بحرة.
كان الملك قد قرأ الكتاب ووضعه وهو عابس مضطرب في جيبه، ثم أخرجه وأعاد قراءة شيءٍ منه على مسمع رئيس الحكومة ووزير الخارجية ومسمعي. اجتمع ابن سعود بالأشراف، أشراف الحرث والفعور والعبادلة، وتباحثوا في انتخاب ملك الحجاز. وكان الاجتماع في قصر الملك حضرَه من المعروفين الشريف شرف عدنان والشريف باشا العبدلي والشريف هزاع بن فتن بن منصور.
هؤلاء أعداء السلم في الجهة الأخرى بمكة، فنراهم وقد ناصروا ابن سعود، يخافون على أنفسهم إذا عاد علي. وقد قالوا للسلطان عبد العزيز: «أتصالح مَن عاديناه من أجلك؟ أتتركنا في بلادنا يُنكِّل بنا ونحن الآن من رجالك؟»
٧ جمادى الثانية مساء الجمعة
وصل جماعة من أهل جاوة من مكة فأخبروا أن ابن سعود ومعه نحو ألف من جنوده وصلوا إلى حداء.
في مجلس الملك: دخل تحسين باشا الفقير وعارف باشا الأدلبي وزيرَا الحربية والبحرية وعلى وجهيهما سيماء الغضب والاضطراب.
– «قبل أن يعود النجاب؟»
– «النجاب لا يعود.»
– «قلتم هذا القول في المرة السابقة، ثم عاد النجاب وسرَّكم الجواب.»
طلبتُ أن تُؤجل الحركات العسكرية يومين آخرين — إلى الأحد — فأُجيب طلبي على شرط أن أكتب في تلك الساعة إلى ابن سعود أستعجل جوابه. فكتبت أقول: «علمتُ هذا المساء أن رجال عظمتكم وصلوا إلى حداء في صورة حربية، فأخذني من ذلك العجب، وأرجو أن يكون الخبر مكذوبًا. في كل حالٍ ألتمس الجواب العاجل.» ثم كتبت الحاشية الآتية: «الطيارة التي أشرفت على مكة تجاوزت الأوامر فعُوقِب الطيار بالحبس.»
السبت في ٨ جمادى الثانية
طار الطيار الروسي صباح اليوم إلى وادي فاطمة، فحلَّق فوق بحرة وحداء والشميسة، وعاد يقول إنه لم يرَ ابن سعود ولا جنوده ولا أحدًا من البشر أو الحيوان في الطريق. أين الإخوان الزاحفون من بحرة؟
الأحد في ٩ جمادى الثانية صباحًا
نائب قنصل هولاندة على الهاتف: «وصل جماعة من مكة في هذه الساعة ولك أن تستخبرهم إذا شئت.» بادرت إلى القنصلية فعلمت أنهم عادوا من مكة يوم الجمعة بعد الصلاة في الحرم، ولم يكن هناك كثيرون من المصلِّين، وأنهم عند خروجهم من جرول رأوا قافلة من الجِمال وفيها بين الأحمال ثلاثة مدافع، وأنهم عند وصولهم إلى حداء رأوا فيها خيامًا عديدة، نحو مائتي خيمة. هناك وقفت القافلة وهناك بات الجاويون. وفي صباح اليوم التالي السبت رأوا طيارة تطير فوق حداء وقد أطلق عليها الإخوان بنادقهم (هي الطيارة التي طارت إلى الشميسة كما ادَّعى الطيار والمراقب، وقالَا إنهما لم يرَيَا أحدًا في الطريق).
جئتُ من القنصلية إلى القصر، فقال الملك بعد أن أخبرته عن الطيارة التي أطلق الإخوان عليها الرصاص: «قد تكون الغيوم حالت دون رؤيتهم.» وكيف أنها لم تحُلْ دون الطيارة ونظر الإخوان؟
دخل إذ ذاك الحاجب يقول: الوكيل الإنكليزي، وكان الوكيل قد جاء يهنِّئ الملك بصحته، وبعد قليل دخل تحسين باشا فدق مهمازي جزمته دقة سريعة شديدة، وسلَّم ثم استأذن بكلمة خاصة، فقال الملك: مهمة؟ فأجابه: مهمة جدًّا، ومشى وراء جلالته إلى الغرفة المحاذية للمجلس. وما هي إلَّا دقيقة فعاد الاثنان يبتسمان والملك يقول: «جاءوا، نحو مائتين خيال منهم، رأتهم القيادة خارجين من بين الجبال.» وقال تحسين يخاطب الوكيل الإنكليزي: «أنا رأيتهم بعيني، صاروا في السهل.»
صدر الأمر بإطلاق المدافع عليهم، وبادر كلُّ مَن في القصر، من الشريف محسن إلى أصغر العبيد، إلى البندقية وزنَّار الخرطوش، ووقف جلالتُه وبعض حاشيته في شرفة القصر يراقبون السهل بالنظارات.
دعاني الوكيل إلى دار الوكالة؛ لأن له منظرة تُشرِف على السهل كلِّه، فخرجنا من القصر ونحن نلامس — رغم الاستعداد — الخوف والذعر. وقد ظنَّ الناس أن الإخوان يهاجمون خطَّ الدفاع في ذاك اليوم ويخترقونه فيدخلون المدينة؛ لذلك أُقفِلت المخازن ولجأ الأكثرون إلى بيوتهم.
وكانت المدافع تُطلق الطلقة تلو الأخرى على الإخوان، وأين الإخوان؟ كنا نرى من منظرة دار الوكالة البريطانية غبارًا هنا وهناك، في أطراف السهل، غبارًا تُثيرُه القنابل المتفجِّرة، ولا أحد في جوارها.
ثم خرجت الخيَّالة من بين الجبال، فعَدَت تجاه الخط إلى الجنوب. وظهرت فرقة أخرى في الشمال الشرقي من السهل، هي خيالة التوحيد! نحو ثلاثمائة منهم، جالوا في ذاك السهل في رابعة النهار جولاتٍ عدَّة، وقنابل المدافع تُثير الغبار بينهم حينًا وأحيانًا وراءهم. وقد كان هناك قطيعٌ من الغنم فساقوه أمامهم وهم يتراجعون. وكان قد خرج إليهم ثلاثون من خيَّالة الدروز في الجيش الحجازي، فجالوا مثلهم بضع جولات، ووصلوا إلى نزلة بني مالك التي ظنُّوها مكمنًا لبعض الإخوان، فلم يجدوا أحدًا هناك.
وفي ذاك اليوم — ساعة الظهر — وصل النجاب عائدًا من مقرِّ السلطان يحمل إليَّ جوابًا هو، لِما تقدم من الأسباب، عكس جوابه الأول.
قد كان في القصر كما كان في القشلة أناسٌ لا يملك الملك عليٌّ قيادَهم.