علينا وعلى رسل الرحمة
عاد السيد طالب النقيب من جدة حانقًا على ابن سعود، وعاد المستر فلبي مريضًا فكان حنقه على جدة وكلِّ مَن فيها، وسافرت أنا منها حاملًا في حقيبتي قنبلة من قنابل المدفعية النجدية.
ولكني قبل أن ظفرت بها عرضت نفسي لقنابل الغضب السلطاني؛ ذلك لأني لم أقطع الأمل وأزمع الرحيل قبل أن استنفدت كلَّ ما في الوسع، واغتنمت كلَّ فرصة سنحت في سبيل ما جئت جدة من أجله.
نعم، كنت أعتقد وأتيقَّن أن الخير كلَّ الخير في الصلح بين نجد والحجاز، وما همَّني أن تُجرَح كرامتي في هذا السبيل. لا والله، فما كرامة المرء إذا قيست بكرامة الأمة؟! وما ضرُّ امرئٍ إذا صُدَّ في سبيلٍ وطنيٍّ شريف، بل ما ضرُّه إذا استطاع ولو في تعريض نفسه للإهانة أن يحقن دماء المتحارِبين من أهل وطنه؟! إن أصالة الرأي في مثل هذه الحال لفي التضحية الشخصية، والذي يُحزِن المجاهد المخلص هو إخفاق السعي لا امتهان الحرمة.
ومع ذلك ظللت مقيمًا على ظني أن الصلح ممكن حتى بعد المناوشات الأولى خصوصًا؛ لأن في العشرة الأيام التي تلت الهجوم الأول لم تبدُ من الإخوان حركة ما، ولا ظهر شيء من طلائعهم في سهل جدة، وعندما حضر طبيب التكية المصرية بمكة وهو عائد بالإجازة إلى مصر، اجتمعتُ به في مخيم الهلال الأحمر فظهر لي من حديثه أنه عالم بشيء ممَّا كتبته إلى عظمة السلطان، ونقل إليَّ بعض كلماتٍ دلَّت على أنه من الذين يحضرون مجلس عظمته الخاص. وممَّا قاله: «السلطان يحترمكم وينوِّه دائمًا بذِكْركم، فاكتبوا إليه مرة أخرى ولكن لطِّفوا اللهجة.» ثم تطرَّق إلى ذكر الهلال الأحمر وسألني، بل ألحَّ عليَّ أن أسعى لدى الحكومة لتأذن بإرسال قسم من البعثة إلى مكة.
الهلال الأحمر المصري يستوجب كلمة في هذا التاريخ. فقد أرسلتِ الجمعية المركزية في القاهرة بعثةً إلى الحجاز مؤلَّفة من ستة أطباء وصيدلي وثمانية ممرضين وأربع ممرضات وحكيمة واحدة، وكانت البعثة مزوَّدة بكمية وافرة من الأدوية والعقاقير، وبمستشفى متنقِّل مؤلَّف من ستين سريرًا بمعدَّاتها اللازمة.
نصبت هذه البعثة خيامها في الطرف الجنوبي من جدة عند وصولها، ثم نُقِلَت إلى الطرف الشمالي، إلى مكانٍ أنظف وأفسح من الأول، على شاطئ البحر وراء القنصلية الإفرنسية، وأمام البيت الذي كنت مقيمًا فيه. فكنت ورئيسها الدكتور حسن حلمي كرارة نتزاور من حين إلى حين.
وعندما ظهرت طلائع الجيش النجدي في ٤ يناير، وقطع الناس الأمل بمفاوضات الصلح، طلب الدكتور كرارة من الحكومة أن تأذن بإرسال قسم من البعثة إلى الجهة الأخرى لتتمَّ وظيفتها، فرفضت الحكومة قائلة: إن الطريق غير آمن، وإنها لا تستطيع تأمينه. فجاء رئيس البعثة يسألني أن أعرض المسألة على الملك فوعدته بذلك. وفي ذاك الصباح، بعد خروج الدكتور، زارني رئيس الحكومة فكلَّمته في الموضوع وبيَّنت له الخطأ في رفض الطلب؛ لأن المشروع خيري ولا دخل فيه للسياسة، إلى أن قلت: «هؤلاء رسل الرحمة فلا يجب أن يقال فيكم: إنكم صدَدْتموهم عن العمل الذي انتُدبوا له.»
وعدني عطوفة الرئيس خيرًا، ولكنه بعد يومين عندما راجعته في الموضوع، قال معتذرًا: «لا جِمالَ عندنا لنقل البعثة وأحمالها.» ففهمت من لهجته أن هناك غير هذا العذر ممَّا لا يجوز التصريح به.
ثم جاء طبيب التكية بمكة يجدد الطلب، فسألته: «وهل يُرسل السلطان إلى منتصف الطريق جمالًا تنقل أحمال البعثة؟» فأجاب: «نعم هو يرسل خمسين جملًا»، فذهبت إذ ذاك إلى القصر وعرضت الأمر على الملك علي. سألته باسم الإنسانية أن يأذن بإرسال جزء من البعثة إلى ما دون الخط، وقلت إنها فرصة أغتنمها لأكتب إلى السلطان مرة أخرى في موضوع السلم، بل هي فرصة يجب أن يغتنمها جلالته ليُظهِر أن لا حقد في قلبه على المصريين. وإذا لم تأتِ بفائدة سياسية فلا أظن أنه يحول دون فائدتها الأصلية الشريفة. الهلال الأحمر خير محض، لا سياسة له، ورجاله رسل الرحمة.
فقال الملك وقد وضع يده بلطف على يدي: «هل هو محض خيري يا أستاذ؟» ثم أسرَّ إليَّ السببَ الحقيقي في رفض الطلب: «قد جاءتني كتبٌ من مصر يحذِّرني أصحابُها من هذه البعثة الخيرية. تأكد يا أستاذ أنها ليست محض خيرية. إن لها صبغة سياسية، وإن لم تظهر للعيان. وأنت تعلم موقف مصر السياسي تجاه الحجاز في السنين الأخيرة، فهل أُلامُ، والبلاد في حرب إذا تحذرت؟ وهل كنتَ أنت تتساهل في الأمر لو كنت من المسئولين في الحكومة؟»
سمعت كلام الملك ولكني لم أقتنع. وحزنت لأني لم أستطع أن أُقنِع جلالته بما أعتقده في تجرُّد البعثة عن السياسة. وهبْ أن ما جاء الملك علي من المعلومات هو محقَّق كله أفما كان في وسعه وهو المعروف بكرم الأخلاق، المتصف بالشهامة، أن يُحسِن معاملة أعضاء البعثة فيستميلهم إليه؟ لم أرَ مرة في مجلسه أحدًا من الأطباء المصريين. وما علمت أنه مرة دعا رئيسها للطعام مثلًا في القصر.
نعم قد كان في إمكانه أن يكتسب ثقة رجالها ويستخدمهم — إذا فرضنا أن ذلك ممكن — لغرضه. قد كان في إمكانه أن يُصلِح من هذا القبيل ما أفسده والده، فيغتنم الفرصة التي سنحت البعثة بها ليعقد حبل الولاء بينه وبين مصر، وليفتح بابًا جديدًا للسلم بينه وبين ابن سعود.
عدتُ من القصر يائسًا، ولكني مع ذلك كتبت إلى السلطان عبد العزيز كتابًا آخر أقول فيه: إني لا أزال في جدة وعلَّ في بقائي، نظرًا لتطور الأمور، فائدة لعظمته، فجاءني منه الجواب الذي فيه فصل الخطاب.
ثم ختمه في صباح اليوم التالي بقنبلة انفجرت في الشارع أمام البيت الذي كنت مقيمًا فيه، وتلتْها قنبلة انفجرت خارج السور، في مخيَّم الهلال الأحمر! إن الحرب قائمة، وهي ذي قنابلها تُنذِر رسل السلام ورسل الرحمة معًا.