البكيرية
إن أطول وادٍ في البلاد العربية هو وادي الرُّمة الذي يمتد شرقًا من حَرَّة خيبر إلى الرَّس، ثم شرقًا بشمال إلى البصرة. وهذا الوادي يخترق بلاد القصيم بين عنيزة وبُريدَة، فيشطرها شطرين، الشطر الغربي الشمالي والشطر الجنوبي الشرقي. وفي الشطر الأول بين بُريدَة والرس بضعة بلدان منها البكيرية والشيحية والخبرا التي يهمُّنا الآن ذكرها.
في ذاك المنعطف من الوادي تنازع ابن سعود وابن الرشيد السيادة في القصيم. في تلك الزاوية التي يمتد ضلعها بضعة وخمسين ميلًا من الرس إلى بُريدَة ميدان القتال الهائل الذي سنروي خبره الآن. هناك احترب الفريقان ومع أحدهما عساكر الدولة العليَّة وأطوابها واقتتلَا في وقعات عدة تُعرَف عند أهل نجد بوقعة البكيرية ووقعة الشنانة.
١٣٢٢ / ١٩٠٤: وفي ذاك اليوم بل في الليلة الأولى من هلال ربيع الثاني من هذه السنة اصطدمت الجيوش صدمةً شديدة هائلة، فالتحموا وتجالدوا بضع ساعات وكانت خسارة الفريقين عظيمة.
وفي تلك الوقعة أُصيب عبد العزيز بن سعود بشظايا قنبلة في يده اليسرى، ووقع ابن الرشيد من فرسه فطاحت الفرس فوقه فآلمتْه ولم تُقعده. أما أهل القصيم وعرب مطير فقد هجموا بقيادة عبد العزيز جلوي على جناح العدوِّ فبعجوه، ثم أغاروا على بادية شمر فغنموا أرزاقها، ولكن الشمريين كانوا قد هجموا على معسكر ابن سعود فنهبوه. واحدة بواحدة. لم تمِل كفَّة الميزان كثيرًا إنْ في الغنائم وإنْ في القتلى إلى إحدى الجهتين في هذه الوقعة الكبيرة. على أن قوات ابن الرشيد على رغم الخسارة ظلَّت متماسكة.
قال السلطان عبد العزيز: «رُحْت أنا وعشرون من الخيَّالة، أخذ الترك خيامنا وهجم البدو على الترك فأخذوا خيامهم وهربوا.»
فسألت عظمته: «إلى أين رحتم؟»
فأجاب ضاحكًا: «انهزمنا، هربنا.»
على أن أهل القصيم، عندما عادوا من إغارتهم على بادية شمر، جاءوا مركز ابن سعود فوجدوا فيه المدافع وثلاثمائة من عساكر الترك فتواقعوا وإياهم وقتلوهم، فغنموا المدافع وظلوا في البكيرية. ولكنهم عندما طلبوا عبد العزيز ولم يجدوه هناك حملوا الأسلحة الخفيفة وعادوا إلى بلادهم؛ أي إلى بُريدَة وعنيزة.
أُشكِل الأمر على عبد العزيز، فأحبَّ أن يمتحن أهل هاتين المدينتَين ليتأكد إذا كان لهم رغبةٌ حقيقية في محاربة ابن الرشيد، فأرسل إليهم يقول: اثبتوا في مكانكم وإني مستفزِعٌ أهل نجد وراجع إليكم. فكتبوا إليه وكان أهل عنيزة أشدَّ لهجة يقولون: إذا أنت رحلت فلا يستقيم أمرٌ بعدك، وإذا رجعت إلينا فنحن نعاهدك في السرَّاء والضرَّاء، نقدِّم أنفسنا وأموالنا وأولادنا بين يديك، إي والله نحمي أوطاننا أو نموت جميعًا.
رجع ابن سعود إلى عنيزة فخرج أهلها إليه يستقبلونه معتزِّين، وأخرجوا المخدَّرات فرحين به مُزغرِدين، ثم عزَّزوا قولهم فيما قدَّموه من مال ورجال للحرب.
عندما بلغ أهل نجد خصوصًا بوادي عتيبة ومطير هذا الخبر جاءوا كلهم متطوعين مجاهدين، فاجتمع لدى ابن سعود في ستة أيام اثنا عشر ألف مقاتل، فبادر بهذا الجيش إلى البكيرية يهجم على ابن الرشيد فيها، ولكن ابن الرشيد كان قد رحل منها في اليوم السابق وهجم على الخبرا وفيها سرية لابن سعود.
دافع أهل الخبرا مع الجنود الحامية دفاعًا شديدًا، وبالرغم عن المدافع التي ظلَّت تُطلق قنابلها على البلد طيلة ذاك النهار لم يسلِّموا، ولكنهم وقعوا في قبضة عدوٍّ جديد فعلموا لأول مرةٍ ما هو الهواء الأصفر (الكوليرا)، وكان قد سرَى إليهم من جيش ابن الرشيد بعد أن تفشَّى فيه من اختلاطه بعسكر الدولة. وقد قيل: إن الهواء الأصفر لم يكن معروفًا قبل ذاك الحين بنجد.
عندما علم ابن الرشيد بزحف ابن سعود إلى البكيرية التي كانت المركز العام للجيش، وفيها مؤن وذخائر كثيرة، أرسل إليها سرياته الكبرى — ألف وخمسمائة خيَّال — بقيادة سلطان بن حمود الرشيد، فتصادموا وخيَّالة ابن سعود — ستمائة وخمسين — عند انبثاق الفجر قرب البكيرية، وكانت الهزيمة على الرشيديين.
ثم دخل ابن سعود البلدة وفتك بحامية ابن الرشيد فيها، فقتل أكثر رجالها وانهزم الباقون فلاذوا بالفرار، ثم طاردت خيلُه خيلَ ابن الرشيد حتى الخبرا، فرحل ابن الرشيد منها إلى الرس، فهجموا على بواديه وغنموا عددًا كبيرًا من الإبل، ثم تقدَّموا إلى الرس وكان ابن الرشيد قد نزل الشنانة على مسافة ساعة جنوبًا منها.
نصب هناك مدافعَه وشرع يضرب الرسَّ كما ضربها إبراهيم باشا في طليعة القرن الماضي، فدافع أهلها على عادتهم حتى الرمق الأخير. قُتِل أميرهم ولم يسلِّموا. قد أقام ابن سعود ثلاثة أشهر في الرس، منذ منتصف ربيع الثاني حتى منتصف رجب، بينما كان ابن الرشيد في الشنانة، وهم يتناوشون ويتهاجمون ويتطاردون كلَّ يوم، فملَّ أهل نجدٍ هذه الحال وخافوا أن يسريَ الهواء الأصفر إليهم، فرفعوا أصواتهم متذمِّرين شاكين.
سمع ابن سعود الشكوى فأرسل رسولًا من كبار بُريدَة اسمه فهد الرشودي إلى ابن الرشيد يدعوه للصلح، فضحك ابن الرشيد وقال متهكِّمًا متهدِّدًا: مَن يبغي حكم نجد لا يتضجر، وهل يصالح مَن بيده قوة الدولة؟ لا والله، لا صلْح قبل أن أضرب بُريدَة وعنيزة والرياض ضربة لا تنساها مدى الدهر. وأنتم يا أهل القصيم لا يغرنَّكم ابن سعود، لا يغرنَّكم شابٌّ طائش يبغي الدراهم ليأخذها لأمِّه الفقيرة.
رجع فهد الرشودي يحمل هذا الكلام إلى ابن سعود، فألقاه في مجلسه دامع العين، وختمه قائلًا: «والله يا أهل نجد، ما رأيت هناك إلَّا ظالمًا عتيًّا كفرعون، ولا يبغي لنا غير ما كان من فرعون لبني إسرائيل.»
وكان الرشودي رجلًا حصيفًا رصينًا يحترمه الناس، فأثَّرت كلماته فيهم تأثيرًا شديدًا، ولكن بادية ابن سعود كانت قد تفرَّقت، ولم يبقَ لديه غير ثمانمائة من الحاضرة وثلاثمائة من رؤساء القبائل. أما السبب في تفرُّق البدو فهو أنهم كانوا قد ملُّوا الحالة كما أسلفنا القول، وكان فوق ذلك وقت الربيع فذهبوا يرعون مواشيهم. ولم يكن لابن سعود أن يُكرِهَهم على البقاء؛ لأنهم لم يكونوا من الجند، بل من أولئك الذين يجيئون الأمير متطوِّعين متكسِّبين.
قد كانت خطة عبد العزيز الحربية أن يُنهِك خصمه بالمفاجآت والمناوشات فيضربه بعد ذلك الضربة القاضية. عندما عاد مساء ذاك اليوم إلى الرس جاءَه وهو جالس إلى العشاء أحدُ الكشافة يقول: رحل ابن الرشيد. فقام ورجاله عن العشاء وسارعوا إلى الخيل يتقفَّون العدوَّ، فرأوا عندما قربوا منه سوادًا ظنُّوه غنمًا فأغاروا عليها، فإذا بها عسكر الترك، وكان قد جنَّ الليل فنازلوهم ساعة دون نتيجة تُذكَر، ثم عادوا إلى الرس.
أما ابن الرشيد فكان قد نزل الجوعي، ودنا من قصرٍ هناك يُعرَف بقصر ابن عُقيل فيه سرية لابن سعود، فهمَّ في صباح اليوم التالي بالهجوم عليه.
ولكن ابن سعود قبل رجوعه إلى الرس الليلة السابقة ترك حرَّاسه وكشافته حسب العادة في مكان معلوم، ومعهم رجال من أسرته زوَّدهم بهذه التعليمات: إذا رحل ابن الرشيد وقرُب الخنق (دربٌ بين جبلَي أبان)، فأرسلوا أخبروني وأنتم تَقفَّوه لتظلوا عالمين بمسيره، أما إذا مشى إلى قصر ابن عقيل فعليكم أنتم يا أهل سعود أن تسبقوه إلى القصر لتشجعوا أهله وتقولوا لهم: إننا مسارعون إلى إنجادهم. زحف ابن الرشيد إلى القصر الذي لم يكن يُخشَى عليه إلَّا من المدافع؛ لأنه حصن منيع، فسبقه بنو سعود إليه، وكانوا قد أرسلوا يخبرون عبد العزيز.
وصل ابن الرشيد فنصب في الحال مدافعه كلَّها وشرع يضرب القصر، وعندما علم ابن سعود بالحصار بعد ظُهْر ذاك النهار صاح برجاله قائلًا: «انهزم ابن الرشيد ونريد أن نعمل مناورة خارج البلدة.» فاستبشروا وخرجوا للمناورة، فكشف النقاب إذ ذاك عن قصده الحقيقي؛ أمرهم بالزحف إلى قصر ابن عقيل! فتردَّدوا لأنهم لم يكونوا متأهِّبين للرحيل. لم يكن لديهم شيءٌ من الماء والزاد، وقد كانت الساعة الأخيرة من النهار والمسافة أمامهم لا تقلُّ عن العشرين ميلًا.
خطب ابن سعود فيهم محرِّضًا مستنهضًا، ثم قال: «أنا واحد منكم ومثلكم، أنتم ماشون وأنا أمشي، أنتم حفاة وأنا والله لا أنتعل. وهذا نعلي وهذا ذلولي.»
قال ذلك وهو يضع النعل في الخرج ويُلقي بحبل الذلول على غاربه، ثم مشى أمامهم حافيًا، فمشوا وراءه متحمِّسين، وعندما وصلوا إلى القصر قبل نصف الليل بساعة أرادوا أن يهجموا على ابن الرشيد في ذاك الحين، فمنعهم عبد العزيز؛ لأنه كان عالمًا بما حلَّ بهم من التعب والجوع، فدخلوا القصر واستراحوا تلك الليلة.
أما ابن الرشيد فبعد أن شغَّل مدافعه بضع ساعات دون طائل شدَّ في صباح اليوم التالي للرحيل، فتركه ابن سعود يُرحِّل إِبله ويحمِّل أطوابه، وعندما مشى هو ورجاله وعسكر الترك خرجت الخيل للمفاجأة، ومشى الجند السعودي من القصر وراءها، فأدركوا العدوَّ في وادي الرُّمة.
هذي هي وقعة الشنانة والأحرى أن تُدعَى بوقعة وادي الرمة ١٨ رجب ١٣٢٢ﻫ / ٢٩ سبتمبر ١٩٠٤م، وهي القسم الثاني من مذبحة البكيرية التي قضت على عساكر الدولة وأغنت أهل نجد.