الملك علي يرحل
قبل أن سقطت المدينة المنورة بشهرين كانت الحالة في جدة تزداد عسرًا من كلِّ الوجوه، فضربت الفوضى أطنابها في الجند، وعرا الحكومة الانحلال وعم الضنك والبؤس الأهالي. فلا مال، ولا ذخيرة، ولا زاد يكفي لحفظ شبه السيادة والقوة إنْ في الملكية أو في الجندية. ولا مال في السوق، ولا آمال تقوم مقامه. فقد كادت تنفد الأرزاق؛ لأن التجار في الخارج توقَّفوا عن التوريد؛ فخيَّمت المجاعة في أطراف المدينة بين مضارب البدو وعشش التكارنة، ومدَّت يدها إلى القلب، فأمست على الأهالي أشد ويلًا من الحرب.
وبما أن السلطان عبد العزيز كان قد أعلن في ربيع الأول العفو العام: كل مَن كان في خدمة الحسين أو غيره هو في أمان الله إذا أراد أن يرجع إلى مكة، وبما أن الطريق انفتحت بين أمِّ القرى وجدة بعد الحج، أخذ يزداد عدد الفارِّين عن طريق الليث ورابغ إلى أمِّ القرى، وعدد القادمين منها. فكان هذا الاتصال بين المدينتَين خير واسطة لتعجيل العمل الذي فيه الفرج.
وإننا نعيد ما طالما قاله السلطان في مجالسه الحربية التي كان يحضرها أمراء الجيش والعلماء: ثلاثة أخَّرته عن الهجوم، وحملته على تفضيل الحصار على القتال، وهي الحرص على جنوده وسمعتهم، والمحافظة على الأجانب، والفرصة المنتظرة. أضف إلى ذلك ثقته بالنتيجة المرغوبة فيما أقدم عليه، ثقته بولاء الفرصة المنتظرة.
وها قد دنت تلك الفرصة ودنا يومها، كيف لا وفي منتصف جمادى الثانية بلغت الحالة في جدة أشدها، فنفد المال، ونفد الزاد، ونفر الجند، خصوصًا الفرقة اليمانية، إلى التمرد والعصيان. وكان السلطان عبد العزيز شأنه في مثل هذه الأحوال، متتبعًا حوادث التطوُّر متنبِّهًا لما فيها ممَّا يمكنه الانتفاع به، فنشر في هذا الوقت بلاغًا عنوانه «لبراءة الذمة» عرض فيه الأمان على مَن في جدة من ضباط وجنود إذا هم أحبوا الخروج إلى معسكره، وعرض فوق ذلك المساعدة المالية على مَن أحب منهم السفر إلى وطنه. كان لهذا البلاغ التأثير السريع المطلوب، فسرحت القيادة الهاشمية عددًا كبيرًا من الجنود الفلسطينيين الذين سافروا في الباخرة «الطويل» إلى العقبة.
لا مال ولا زاد، و«فرقة النصر» تنقص يومًا فيومًا، وها قد عاد الإخوان إلى معسكرهم في الرغامة وفي سفح الجبال، عادوا بأمر السلطان عبد العزيز، يقودهم أخوه الأمير عبد الله وابنه الأمير فيصل.
هي الفرصة المنتظرة قد دنا يومها، وهل يجيء هذا اليوم بالسلم أم بالهجوم العام؟ لم يكن بوسع أحد أن يجيب على هذا السؤال غير واحد في القيادة العامة كلِّها، هو السلطان عبد العزيز. وممَّا بات في قَيْد اليقين أنه كان مصمِّمًا على الهجوم ليخلِّص جدة من المجاعة والفوضى والخراب التي كانت تُنذِر الحالة بها.
أما الملك علي فقد كانت حواسه في اضطراب دائم، وكانت أعصابه في هياج مستمر ممَّا كان يسمعه ويشاهده في قصره، وفي حكومته وفي جنده وفي بلده، كلَّ يوم، بل كلَّ ساعة. فلم يرَ مهربًا والحالة هذه من ذاك العمل الأخير الذي فيه راحة باله، في الأقل، وصون صحته وشرفه.
هي الفرصة المنتظرة قد دنا يومها، بل قد دنت ليلتها. فقد جاء الملك علي مساء الثلاثاء في ٢٩ جمادى الأولى إلى دار الاعتماد البريطانية يعرض على المعتمد، حقنًا للدماء ودفعًا للعسر المستحوذ على البلد والأهالي … ثم ذكر جلالته شروط التسليم، فأبرق المعتمد إلى حكومته في الحال يستأذنها بالتوسُّط.
وفي ظهر اليوم التالي الواقع في ٣٠ جمادى الثانية (١٦ ديسمبر) ركب السلطان عبد العزيز سيارته وخرج من مكة، تتبعه الحاشية وفصيلة من الجند، يقصد إلى الرغامة، وقد بدت وهو في منتصف الطريق، نتيجة الزيارة الملكية إلى دار الاعتماد البريطانية الليلة البارحة، بدت في سيارة قادمة من جدة، التقى بها الموكب في بحرة، وهي تنشر العلم البريطاني وفيها رجل يلوِّح بالعلَم الأبيض.
جدة في ١٦ ديسمبر ١٩٢٥
حضرة صاحب العظمة السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود سلطان نجد.
بعد الاحترام، مراعاةً للإنسانية ولأجل تسهيل عودة السلام والرفاهية بالحجاز أكون مسرورًا إذا تفضَّلتم عظمتكم بالموافقة على مقابلتي في الرغامة غدًا يوم الخميس قبل الظهر أو بعد ذلك بأسرع ما يمكن. هذا وتفضَّلوا بقبول وافر التحية وعظيم الاحترام
الرغامة في ٣٠ جمادى الأولى سنة ١٣٤٤
من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إلى سعادة المعتمد البريطاني المستر جوردن المفخَّم
تحيةً وسلامًا، قد تناولت كتابكم المؤرخ في ١٦ ديسمبر سنة ١٩٢٥ وفهمت ما تضمَّنه، وقد حضرنا لمقابلتكم في المحل الذي يخبركم به المنشئ إحسان الله، هذا وتقبَّلوا فائق احترامي.
عاد إحسان الله مسرعًا إلى جدة، وفي الساعة العاشرة من صباح الخميس وصل المعتمد البريطاني إلى مقرِّ السلطان، وقال بعد السلام: إن الحكومة البريطانية لا تزال مقيمة على الحياد في قضية الحجاز، ولكنه بالنظر لما تجسَّم من حالة جدة، وبالنظر لمعرفته أن عظمة السلطان يفضِّل السلم على الحرب، ويرغب في راحة المسلمين وحقن دمائهم ودماء الأجانب، يتقدَّم إلى عظمته بناءً على طلب الملك علي وحكومته في التسليم، وأن توسُّطه في تقديم هذه الشروط إنما هو لغايةٍ إنسانيةٍ صافية. فأجاب السلطان قائلًا: «هذا أحب ما عندي على شرط أن تكون الشروط موافقة لنا.»
عُرِضَت الشروط فقبلها السلطان مبدئيًّا بعد شيء من التعديل. وأهم ما فيها أن الملك علي يتنازل عن الملك ويبارح الحجاز، ولا يأخذ معه غير أمتعته الشخصية، ومنها سيارته وسجاجيده وخيوله، وأن كلَّ ما في الحجاز من الأسلحة والعدد الحربية، والذخائر، والطيارات وغيرها تسلم إلى السلطان عبد العزيز، وأن البواخر التي هي ملك الحجاز تصير ملكًا له.
ولقاء ذلك يضمن السلطان عبد العزيز لكلِّ الموظفين الملكيين والعسكريين والأشراف والأهالي عمومًا سلامتهم الشخصية وسلامة أموالهم، ويعلن العفو العام، ويتعهَّد أن يُرحل الضباط والعساكر الذين يرغبون في العود إلى أوطانهم، وأن يوزع بنسبة معتدلة على كلِّ الضباط والعساكر الموجودين بجدة خمسة آلاف جنيه.
هي الفرصة المنتظرة، وقد تلا يوم الاتفاقية ثلاثة أيام هادئة رائقة استعدَّت فيها جدة للتسليم. ومساء الأحد عاد المعتمد البريطاني إلى الرغامة ليُخبر السلطان أن الأمير عليًّا قد أقام في البارجة البريطانية «كورن فلاور»، وأنه قرَّر السفر إلى عدن ومنها إلى العراق، ثم جاء صباح اليوم التالي ومعه رئيس الحكومة المؤقتة القائمقام عبد الله زينل، ورئيس العسكرية الضابط صادق بك، فخاطب السلطان قائلًا: إن مهمَّته في التوسُّط قد انتهت، وإنه يقدم رئيس الملكية ورئيس العسكرية ليكونَا مسئولين أمام عظمته.
عاد حضرة الوكيل إلى جدة محبورًا مشكورًا، وظلَّ الرئيسان عند السلطان للمذاكرة في شئون الحكومة وتسليم ممتلكاتها، ثم في صباح اليوم التالي أرسل عظمته طليعةً من حاشيته إلى جدة لمباشرة العمل فيما يختص بالمهمَّات العسكرية وأمور الجنود والضباط.
وفي ذاك الصباح أيضًا، يوم الثلاثاء في ٦ جمادى الثانية، أبحرت البارجة «كورن فلاور» تقلُّ الأمير عليًّا إلى المنفى الذي اختاره لنفسه.
أما السلطان عبد العزيز فلم ينقل من مخيمه في الرغامة حتى صباح اليوم التالي، فتقدَّمه فريقٌ من جند المشاة ورهط من الخيالة بقيادة أخيه الأمير عبد الله إلى الكندرة لاستقباله فيها. وهناك أمام ذاك البيت القائم على طرف من خطِّ الدفاع المحاذي للأسلاك الشائكة، أمام ذاك البيت الذي كان يجتمع فيه رسل السلام الثلاثة الأولون ليتباحثوا في خير الطرق التي تضمن للعرب السلام والفلاح، حيَّت البلاد السلطان عبد العزيز بمائة مدفع ومدفع.
وفي ذاك البيت جلس عظمته للوفود المسلمين المهنئين، فاستقبل معتمدي الدول والقناصل، ثم ضباط الجند، ثم أعيان المدينة. وقد تكلَّم قنصل إيطالية السنيور فارس باللغة العربية مهنِّئًا السلطان، فقال: «نظرًا لكوني كبيرَ القناصل سنًّا، أتقدَّمُ بالنيابة عن نفسي وبالوكالة عن رفاقي بتقديم تهنئتنا لعظمتكم بدخولكم جدة في هذه الطريقة السلمية التي حقنت بها الدماء. ونتمنَّى لعظمتكم التوفيق الدائم والسعادة.» فأجابه السلطان قائلًا: إنه لم يُبطئ في الأعمال الحربية إلَّا لهذه النتائج السلمية، ثم شكر للمعتمد البريطاني مسعاه، وأعرب للقناصل عن سروره بما كان من موقفهم في الانقلاب الأخير فتمَّ سلمًا كما تمنَّاه.
وبعد أن أقام يومه في الكندرة دخل جدة في صباح الخميس، في ٨ جمادى الثانية (٢٤ ديسمبر)، بعد سنة واحدة من يوم أشرف عليها للمرة الأولى من الرغامة، ونزل في بيت الوجيه العالم الشيخ محمد نصيف، ثم باشر العمل في إعادة اليسر والطمأنينة إلى الحجاز.