الأتراك يفاوضون ويتفرَّجون
قد نُكِبَت الدولة نكبتين في البلاد العربية في هذه السنة (١٣٢٢ / ١٩٠٤)؛ الأولى في نجد، والثانية في اليمن. ومن غريب التقادير أن الإمام يحيى الشاب في صنعاء وابن سعود الشاب في القصيم كسرَا الجيوش «المنصورة» كسراتٍ شنيعة، ورفعَا للسيادة العربية أعلامًا لا تزال تخفق في سماء الاستقلال. أما نكبة الدولة في صنعاء فتختلف شكلًا عن نكبتها في القصيم. هناك كان جيشها محصورًا، وهنا تشتَّت ما تبقَّى من الجنود بعد الوقعة الأخيرة فكانت حالتهم محزنة. فقد فرَّ بعضهم مع ابن الرشيد، وهام الآخرون في الفيافي كالسائمة، ومنهم مَن لَجئوا إلى ابن سعود فأواهم وكساهم وأعطاهم الأمان.
أما ابن الرشيد الذي فرَّ هاربًا إلى الكهفة — قرية من قُرَى حائل — فقد أرسل يستنجد الدولة مرة أخرى. وكانت الدولة كمَن خسر في المقامرة فغامر بقسم آخر من ماله أملًا باسترجاع الخسارة. وقد غامرتْ بقسم كبير هذه المرة فأرسلت أحد رجالها الكبار المشير أحمد فيضي باشا الذي اشتُهر بشجاعته وبحسن سياسته، وشفعتْه برجل آخر الفريق صدقي باشا المتصف ببعد النظر وطول الأناة. جاء الأول بثلاثة طوابير وخمسة أطواب من بغداد، وجاء الثاني من المدينة بطابورين، فالتقَوا وعسكروا قُرْب القصيم.
لم تكن تقصد الدولة الحرب ولكنها، وقد رغبت في المفاوضة من أجل السلم، أرسلت هذه القوة من جندها لتعزِّز جانبها. وكانت قد بعثت إلى ابن سعود بواسطة الشيخ مبارك تقول إنها تريد أن تفاوض أباه الإمام عبد الرحمن، وطلبت أن يوافيَ والي البصرة إلى الزبير.
أجاب الإمام طلب الدولة، فسافر إلى الكويت، ومنها والشيخ مبارك إلى الزبير، فاجتمعَا هناك بالوالي، وبعد المفاوضات في أمور نجد والقصيم قرَّروا أن يكون القصيم على الحياد؛ أي أن يتكون منه مقاطعة مستقلة تقوم حاجزًا بين ابن الرشيد وابن سعود، وأن يكون للدولة فيه مركز عسكري ومستشارون.
لم يوافق الإمام عبد الرحمن على هذا القرار، إلَّا أنه قَبِل إكرامًا للشيخ مبارك أن يعرضَه على أهل نجد، ولكن أهل نجد لم يقبلوا ألبتة أن يكون القصيم على الحياد، ولا أن يكون فيه حامية للدولة.
عندما علم ابن سعود بعودة أبيه خرج يلاقيه إلى الحسي، فاجتمع به هناك وسار وإياه إلى شقرا، فأقام الإمام فيها واستمرَّ عبد العزيز سائرًا برجاله إلى القصيم، فنزل العماد التي تبعد خمسة وعشرين ميلًا عن بُريدَة إلى الجنوب. وكان فيضي باشا وصدقي باشا قد اجتمعَا بابن الرشيد فتفاوضوا واختلفوا. أراد ابن الرشيد أن يضغط على أهل نجد، وأن يأخذ أهل القصيم بالسيف، فخالفه المشير ولسان حاله يقول: الرأي قبل شجاعة الشجعان.
عاد ابن الرشيد بعسكره إلى الكهفة حانقًا، وركب المشير على رأس جنوده قاصدًا القصيم، فلما وصل إلى بُريدَة أبى أهلها أن يدخل المدينة، ولكنَّ واحدًا منهم هو صالح الحسن من آل مهنَّا أرسل إليه رسولَين هما ابن عمر ومحمد آل علي أبو الخيل يقول إنه وأتباعه يطلبون حماية الدولة والاستقلال.
ولكن أهل بُريدَة وعنيزة وتوابعهما من القرى لم يقبلوا بالسيادة أو بشبه السيادة التركية، فأرسلوا إلى ابن سعود يستشيرونه في المقاومة. وكان فيضي باشا قد أرسل رسولًا إلى الرياض يقول: إن الدولة لا تبغي محاربة أهل نجد وإنه جاء مسالمًا. ثم أرسل إلى ابن سعود في العماد يؤمِّنه قائلًا: إنني لا أريد إلَّا السِّلم ولست محققًا مقاصد ابن الرشيد. وقد سأله أن يلزم مكانه ويُرسل أباه عبد الرحمن ليُوافيَه إلى عنيزة للمفاوضة. فقَبِل عبد العزيز بذلك وأمر الناس بأن يخلدوا إلى السكينة، فلا يأتون عملًا عدائيًّا أثناء المفاوضات.
ركب الإمام عبد الرحمن من شقرا إلى عنيزة وسار فيضي باشا جنوبًا فنزل على مقربة منها، وقد تواجه الاثنان في المدينة، فطلب المشير أن يكون للدولة مركزان عسكريان الواحد في بُريدَة والثاني في عنيزة، وذلك مؤقتًا إلى أن يتمَّ الصلحُ بين ابن سعود وابن الرشيد، ولكن أهل المدينتَين إلَّا صالح الحسن وأتباعه رفضوا هذا الطلب، فرأى الإمام أن يقبلوه مؤقتًا، وأقنعهم بذلك.
وكادت تتم المفاوضات على هذه الصورة لو لم تَحُل دونها حوادث صنعاء اليمن. فقد كان الإمام يحيى الشاب وعربانه قد شدُّوا نطاق الحصار على المدينة هناك، وفيها ستون ألفًا من الترك العسكريين والمدنيين، وليس عند الدولة قريبًا من مكان النكبة أقدرُ وأشجع من فيضي باشا يُوكَل إليه إنجاد أبنائها المشرفين على الموت؛ لذلك صدر الأمر إلى أحمد فيضي بالإسراع إلى اليمن، فترك القصيم ومشاكله لصدقي باشا يحلُّها بالتي هي أحسن.
تولَّى صدقي قيادة الجيش ونقل إلى الشيحية فعسكر فيها، ولكنه لم يرَ «التي هي أحسن» في بيت المتنبي أو في عكسه. فلا «الرأي قبل شجاعة الشجعان» ولا «الشجاعة قبل الرأي» استفزتْه أو هزَّت منه جارحةً للعمل.
أقام صدقي وجنوده في الشيحية لا محاربين ولا مفاوضين، بل أقاموا هناك متفرِّجين، وقد استأنف ابن سعود وابن الرشيد القتال.