كبوات الشيخ مبارك
بعد المفاوضات في السِّلم وأثنائها سرتْ إلى أهل القصيم روحُ الشقاق والفوضى، فكان فريقٌ منهم مع الدولة، وفريق مع ابن سعود، وآخر مع ابن الرشيد، فعاد عبد العزيز إلى الرياض وظاهرُ أمرِه أنه نفض يدَه من هؤلاء الناس المتذبذبين. عاد وهو يقول: إنه تركهم بين عدوَّين يجاملانهم ويشدَّان النير على رقابهم.
ولكن الفريق الأكبر أرسل إلى الشيخ مبارك الصباح يسأله أن يتوسط بين ابن سعود وأهل القصيم الذين لا يبغون سيادةً غير سيادته. وكان عبد العزيز قد أحسَّ بانقلاب في سياسة الشيخ مبارك، فاغتنم الشيخ هذه الفرصة ليُظهرَ أنه الصديق الذي يرعى العهود، فكتب إلى «أوْلِدي عبد العزيز» يشير بالعود إلى القصيم، وبالعفو عن أهله لأنهم مخلصون له، ولا يبغون في البلاد غير السيادة السعودية.
ولكن رسل الشيخ مبارك كانت يومئذٍ «تدرهم» إلى عبد العزيز الآخر حاملةً كتُب التودُّد والولاء التي أسفرت عن صلحٍ بين الأميرَين الصباحي والرشيدي، عقد في آخر سنة ١٣٢٣ / ١٩٠٥ أن لهذا الصلح سببَين؛ الأول هو أن الدولة العلية كانت ناقمة على الشيخ مبارك، وكان يوسف آل إبراهيم، عدوه الألد، مستمرًّا في عدائه. فسعى الشيخ في استرضاء الدولة لتنصره على يوسف، وكان من مساعيه هذه أنه صالَح حليفَها ابن الرشيد. أما السبب الثاني لهذا الصلح فهو ذاك الشاب الظافر «ولده» عبد العزيز، وكان قد بدأ يخشى امتداد سيادته في نجد ويخشى كذلك نتائجها في الكويت. كيف لا وسيد نجد إذا ما استولى على القصيم واجتاز الحفر لا يقف عند حدٍّ دون الخليج. إن عمل الشيخ مبارك إذن هو من باب الدفاع عن النفس.
إني متكدِّر جدًّا من أعمال ابن سعود، وقد جرت الأمور في نجد على غير ما أشتهى، أما الآن فإنا وإياكم عليه، والكويت وحائل شقيقان، ومصلحة البلدين واحدة، ولكن مني ما تشاءون من المساعدة … إلخ.
أولِدي يا ولِدي، أنا معك في كلِّ حال وحين. قوَّاك الله وتولاك، لا تترك هذا الكلب، فحل الشول، ولا تدعه يستريح، ولا تصالحه. وأنا أبوك مستعد لمساعدتك في كلِّ ما تريد.
عندما استأنف الاثنان القتال جاء نجاب من الشيخ مبارك يحمل إلى ابن سعود كلمة وجيزة قاسية كُتِبت على قصاصة من الورق، وفيها أن سيُعلِن الحرب عليه إذا كان لا يعيد «منهوبات» ابن الرشيد. والمنهوبات هذه غنمها من بعض قبائل العراق رجلٌ من الظفير اسمه علي الضَّويحي، وقد كان من أنصار ابن سعود، فليس للشيخ مبارك حجة في تدخُّله بأمره، ولكنه بعد العثرة التي كان الكاتب سببها حاول على ما يظهر أن يُصلِح الأمر مع أمير حائل فلم يسعفْه القدَر؛ لأن الأمير وا أسفاه كان قد قُتِل في المعركة كما سيجيء في الفصل التالي.
إني لك دائمًا يا ولِدي يا عبد العزيز، أنا أبوك وعونك، وعضدك، ولم أصالح ابن الرشيد إلَّا لأقهر الترك، ولكنني مستعدٌّ أن أمدَّك بما تحتاج إليه من المال والرجال المال مالك، يا ولِدي يا عبد العزيز، والحلال حلالك.
ولكن ابن سعود اطَّلع على الحقيقة في حديثه مع النجاب زيد المعرقب الذي كان من رجاجيل الشيخ مبارك.
قال عبد العزيز يخاطب النجاب: «والدي الشيخ مبارك أخبرني أنه أمرك بأن تكتمَ خبر قتْل ابن الرشيد.»
فأجاب النجاب: «ما نام الشيخ والله من شدة الفرح عندما وصله الخبر.»
وكانت ساعة في معسكر ابن سعود مضحكة، فكتب إلى «والده» يُعلِمه بوصول الكتاب الأول وفيه التهديد بالحرب، والكتاب الثاني وفيه التعطفات الطيبة، ثم أخبره بذبحة ابن الرشيد، وختمه بقول الشاعر: