ذبحة ابن الرشيد
قد ألمعتُ فيما تقدم إلى الخلاف الذي كان متأصِّلًا في بُريدَة بين آل مهنَّا وآل عليان الأسرتَين اللتين تنازعتَا السيادة هناك، وقد ظهر هذا الخلاف في أشدِّه يوم قُتل مهنَّا أبو الخيل في أول عهد الإمام عبد الله بن فيصل، فشكى أولاد مهنَّا الأمر إلى الإمام، فلم ينصرهم على أعدائهم آل عليان. وظل الغلُّ كامنًا على ما يظهر في آل مهنَّا إلى الوقت الذي نحن فيه من هذا التاريخ، فتجسَّم في صالح الحسن الخارج على ابن سعود عبد العزيز.
وشرع صالح يتزلف إلى الترك لتحقيق مآربه، بل اتخذ تلك الخطة السياسية التي تتلوَّن بألوان الحوادث والأحوال، فأغضب ابن سعود وابن الرشيد معًا. وعندما ارتحل ابن سعود من القصيم، وظاهرُ أمره التخلي عن أهله، كان قصده الحقيقي أن يدَع صالحًا وشأنه، فيكون له من خطئه وعجزه التأديب الأكبر، فيتأكَّد هو وأتباعه أنهم لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم إذا شهر ابن الرشيد عليهم الحرب.
وقد كان وقتئذٍ في قطر ثورة أهلية، أو بالحري فتنة أثارها على الشيخ قاسم بن ثاني أخوه أحمد، وهو يبغي انتزاع الملك من يده، وكان كذلك القتال محتدمًا بين العجمان وآل مرَّة، فنصر الشيخ قاسم العجمان، ونصر أخوه أحمد أعداءَهم، فاشتدت الحرب بين الأخوَين والقبيلتَين، فأرسل الشيخ قاسم يستنجد ابن سعود، فأنجده حبًّا وكرامة. هي الفرصة التي اغتنمها عبد العزيز ليبعد قليلًا عن نجد، فيخلو الجو لابن الرشيد لينتقم من أهل القصيم.
وقد صحَّ حدْسُه؛ فعندما سارع إلى نجدة ابن ثاني أرسل ابن الرشيد سرية يقودها صالح العذل ومعه حسين العساف إلى الرَّس، فاستولت عليه، فاجتمع بعض أهل القصيم في الشقة للدفاع، وقد انضمَّ إليهم عددٌ من العربان، ولكن ابن الرشيد فاز في هجومه عليهم فذبح أكثرهم، وحاصر البقية في تلك القرية، فضجَّ القصيم وأدرك صالح الحسن وأتباعه أنْ ليس في إمكانهم الدفاع عن أنفسهم، بل أدركوا أن لا خلاص لهم إلَّا بعون الله ثم بابن سعود، فأرسلوا يطلبون من الشيخ مبارك التوسُّط بينهم وبينه كما جاء في الفصل السابق.
أما الحرب في الحساء وقطر فقد كانت الغلبة فيها أول الأمر لآل مرة وأحمد بن ثاني. فلما وصل ابن سعود حمل على القبيلتَين معًا حملةً شعواء فتنفَّس الشيخ قاسم الصُّعَداء، وفرَّ أخوه أحمد إلى البحرين.
ثم بلغت ابنَ سعود أخبارُ القصيم، فعاد مسرعًا إلى نجد، وأرسل أخاه محمدًا على رأس سرية تغزو قبائل ابن الرشيد، فهجمت السرية على حرب وعادت فنزلت وادي السر.
أما صالح الحسن فأرسل أخاه مهنَّا إلى أهل عنيزة يرجوهم أن يُرسلوا معه أحد وجهائهم ليعاونَه في استرضاء ابن سعود. وقد كان هذا الوفد في الرياض يوم وصل إليها عبد العزيز عائدًا من الحساء، فاستقبله مرحِّبًا به وعفا عنه وعن أصحابه، ثم توجَّه إلى القصيم ولكنه لم يكن في ذاك الحين قادرًا على محاربة ابن الرشيد لسببين؛ أولهما: المحل في تلك السنة، وثانيهما: تفرُّق البادية ليهتموا بمواشيهم.
أما ابن سعود فقفل راجعًا إلى نجد ليستنفر العربان من عتيبة ومطير الأعلين، فجمع جيشًا منهم وعاد به إلى القصيم، فأحسَّ عند وصوله أن صالح بن الحسن يسعى سرًّا في مصالحة ابن الرشيد، وقد جاء مع ذلك، ومعه قوم من أهل بُريدَة، ينضم إلى ابن سعود.
قَبِل ابن سعود صالحًا على علَّاته — وهو عالم بما خفيَ من أمره — ونزل الأسياح بجيشه الذي أصبح مؤلَّفًا من البادية والحضر، فأقام هناك عشرين يومًا وقد ثبت صالح طيلة تلك المدة في ولائه، ثم وسوس في صدره ذاك الذي يوسوس في صدور الناس، فهمَّ بأن ينسحب وقومه من الأسياح، فيبقى ابن سعود وعربانه وحدهم فلا يقدرون على ابن الرشيد إذا أغار عليهم.
عاد صالح إلى بُريدَة وسار ابن سعود إلى الزلفى يجمع الرجال لجيشه، ثم رحل منها فنزل غديرًا بالقرب من الأرطاوية، فانضمت إليه قبائل مطير التي يرأسها فيصل الدويش. قد بلغه وهو هناك خبرُ الصلح الذي تمَّ بين الشيخ مبارك الصباح وابن الرشيد، ولم يكتفِ الشيخ مبارك بذلك بل كتب إلى صالح الحسن يحرِّضه على مثل عمله.
١٣٢٤ﻫ / ١٩٠٦م: عاد ابن سعود مسرِعًا إلى القصيم في شهر محرم من هذا العام، ومعه جيشٌ لا يتجاوز الألف وستمائة مقاتل، منهم ألفٌ ومائتان من الحضَر وأربعمائة خيال من البادية. وكان ابن الرشيد نازلًا الثوَير في عقلة الزلفى، وهو مكان وعر كثير الرمال، فسرى إليه فلم يُدركه هناك.
وكان اليوم من أيام الربيع العاصفة الماطرة التي لا يستحبها العرب في الغزو أو في الحرب؛ فقد يدنو المتحاربون بعضهم من بعض دون أن يشعروا بذلك، فإذا هم فجأة في المهلكة الكبرى.
مشى ابن سعود ورجاله حتى أصيل اليوم التالي لذاك الإسراء؛ فوقفوا إذ ذاك لأنهم لم يستطيعوا لشدَّة الأمطار والرياح أن يواصلوا السير، وكان ابن الرشيد يتراجع ليصل إلى الشقة، فيجتمع هناك بصالح الحسن الذي جاءه مصالحًا مناصرًا.
عاد كشافة ابن سعود يُخبرون بأن العدوَّ هو على مسير ساعتين منهم وقد نزل روضة مهنَّا.
إلى الروضة إذن! مشى عبد العزيز ورجاله على الأقدام كي لا يشعر العدوُّ بقدومهم، ولكن بعض كشافة ابن الرشيد رأوهم فبادروا إلى أميرهم بالخبر.
استيقظ عبد العزيز بن الرشيد وشرع يجمع جيشه الذي كان مؤلَّفًا من ستمائة من الحضر وألف ومائتين من خيالة البدو.
وصل عبد العزيز بن سعود إلى ساحة القتال، فهجمت رجاله على مَن تحفَّز من رجال ابن الرشيد، فتصادم الجيشان وتواقعَا تحت جناح الليل في (١٨ صفر / ١٤ نيسان) من هذه السنة، فتقهقر الرشيديون، فاحتلَّ السعوديون مراكزهم.
وكان عبد العزيز الرشيد راكبًا حصانه يدور في معسكره مستنهِضًا محرِّضًا. فلما وصل إلى المكان الذي كان فيه فرقة من جنوده ظنَّ أنها لا تزال هناك، فصاح بحامل البيرق يُحرِّضه على الهجوم: «مَن هان يا الفريخ (اسم صاحب البيرق) مَن هان يا الفريخ!»
وأين الفريخ؟ قد تقهقر وا أسفاه مع المتقهقرين، فحلَّ محلَّه بيرق ابن سعود.
– «مَن هان يا الفريخ!»
عرف رجال ابن سعود الصوت فصاحوا: ابن الرشيد! ابن الرشيد!
ثم تكلَّم الرصاص.
أُطلِقت البنادق السعودية على الأمير التائه، فخرَّ صريعًا وفيه بضعٌ وعشرون رصاصة.
– «وهذا سيفه وهذا خاتمه بالأمام.»
•••
كان عبد العزيز بن متعب بن الرشيد في الخمسين من سنِّه يوم ذُبِح هذه الذبحة في روضة مهنَّا بالقرب من بُريدَة. وتُدعَى الوقعة بذبحة ابن الرشيد.
قلت في كلمة التمهيد لهذه السيرة: إن هذا الأمير الرشيدي كان جبارًا عتيًّا، لا أثرَ للخوف في قلبه، ولا شيء من الرحمة والحنان. وقد كان فوق ذلك قطوبًا عبوسًا يشدُّ عقاله فوق عينَيه، وكوفيته على فمه، فسُمِّيَ العبوس الملثَّم. ألا قلَّما كان يبتسم، بل قلَّما كان يكشف وجهه كله للناس. ولم يكن على شيء من السجايا التي تُحبِّب القائدَ إلى رجاله والأمير إلى رعيته.
ذكرت حادثة تدل على ما كان عليه من التجلُّد والتمرُّد. وإليك بحادثة من الحوادث التي تدلُّ على ظلمه وقساوته.
يوم كان يحارب أهل القصيم مرَّ في طريقه برعاة من تلك الناحية يحشُّون وهم أربعون، فأمر بالقبض عليهم، ثم بإيقافهم صفًّا الواحد جنب الآخر، ثم بقطع رءوسهم أجمعين. فكان كذلك. وهذه المذبحة تُدعَى بحادثة الحواشيش.
فلا عجب إذا كان قد فرح حتى أهل شمر، كما فرح الشيخ مبارك الصباح، عندما بلغهم خبرُ قتْله.