الأتراك يرحلون
كان قد عزم ابن سعود، بعد ذبحة ابن الرشيد في روضة مهنَّا، أن يباشر الزحف إلى حائل؛ لذلك لم يأذن لرجاله بتعقُّب العدو المنهزم، بل عاد بهم إلى بُريدَة آملًا أن يضاعف صفوفهم بمَن ينضم إليه من أهل المدينة، ولكنهم بالرغم عن تأكُّدهم قتْل ابن الرشيد تقاعسوا وتذبذبوا، وكان صالح الحسن في رأس فريق من المقاومين.
لم يكن لابن سعود يومئذٍ القوة الكافية للزحف إلى جبل شمر ولا لمحاربة مَن استمروا عاصين من أهل القصيم. على أنه كان يحذر دائمًا أن يحسَّ الناس بضعفه يوم ضعفه أو أن يُدرِكوا يوم القوة حقيقة قوته؛ لذلك ترك أهل القصيم وشأنهم وأغار بمَن كان معه على عدوٍّ غير صالح الحسن هو ناهش الذويبي رئيس قبائل حرب الموالين لابن الرشيد، فأدركوه وعربانه في مكان يُدعَى الرحا بين القصيم وحائل، وذبحوهم عن بكرة أبيهم، ثم أغاروا على قبائل من حرب في أبي مغير بأعالي نجد، فشتَّتوهم وغنموا أموالهم.
أما صالح الحسن فلم تَفترْ له همَّة في المؤامرات. وقد علم ابن سعود بينما هو عائد إلى بُريدَة بأنه اتفق وصدقي باشا على أن ينسحب عسكر الدولة من الشيحية ويحتل بُريدَة. فسارع عبد العزيز إلى المدينة، واجتمع هناك بزعمائها، فشكَوا إليه أمر صالح، وطلبوا عزله وإجلاءَه، فقبض عليه، وأجلاه إلى الرياض، ثم أمَّر مكانَه ابنَ عمِّه محمد آل عبد الله أبا الخيل.
أما آل الرشيد فقد تولَّى متعب الإمارة بعد موت أبيه عبد العزيز، وكان راغبًا في السِّلم، فتفاوض الفريقان وتمَّ الاتفاق على أن تكون حائل وملحقاتها وشمر لابن الرشيد، وباقي بلاد نجد بما فيه القصيم لابن سعود، ثم أطلق الأمير متعب سراح مَن كانوا مأسورين من آل سعود في حائل، فجاءوا بُريدَة وأقاموا فيها.
بعد عقد تلك المعاهدة وإجلاء صالح الحسن عاد عبد العزيز إلى الرياض، وما كاد يستريح من الأسفار حتى جاءه مخبِرٌ يقول: إن الأتراك في أطراف القصيم يحاولون استمالة بعض البادية إليهم، وإن لفيصل الدويش يدًا في المسألة.
شدَّ عبد العزيز على الدويش، بعد أن تحقق خيانته، فأغار على بعض قبائله وأخذها، ثم عاد إلى بُريدَة وأظعن مَن كان فيها من آل سعود؛ أي أسرى حائل الذين مرَّ ذِكْرهم، إلى الرياض، ولم يبقَ معه هناك غير حاشيته، فاطمأن أهل القصيم خصوصًا المناوئون منهم، ولكن أمرًا جديدًا أزعجه، وهو أن ابن الرشيد كان يفاوض الأتراك في الشيحية ويُزين لهم الانسحاب منها إلى حائل، وقصدُه في ذلك أن يأخذ ما كان معهم من عتاد الحرب والذخيرة. كأنه يقول أعطونا سلاحكم إذا كنتم لا تحاربون.
ولا كانت الدولة راضية عن صدقي باشا وخطته — لا حرب ولا سلم ولا مفاوضات — فأمرت كبيرًا آخر من كبار جيشها وساستها هو سامي باشا الفاروقي، الذي كان يومئذٍ في المدينة، بالسفر إلى حائل للمفاوضة مع ابن الرشيد. جاء سامي باشا واجتمع بالأمير متعب في سمير، قرية من قرى حائل، فاتفق وإياه على أن يكون القصيم في حوزة الدولة. ما خسر ابن الرشيد شيئًا في هذا الاتفاق؛ لأنه وهب مُلْكًا لم يكن يومئذٍ له.
ثم جاء سامي باشا إلى القصيم ليفاوض الفريق الثاني وقد ظنَّه كالأول، فعزل صدقي باشا وتولَّى بنفسه قيادة الجيش في الشيحية، وأرسل إلى ابن سعود يطلب مقابلته، فوافاه إلى البكيرية، ولكن المذاكرة كانت مناكرة؛ فقد اصطدمت في الجلسة الأولى الإرادتان، والتهبت النزعتان التركية والعربية، لم يكن الفاروقي ليِّنَ العريكة، ولا لبس للحالة لبوسها.
قال يخاطب ابن سعود: «ولكن أهل القصيم يريدون أن تكون السيادة في بلادهم للدولة.» فأجابه ابن سعود قائلًا: «ليس لأهل القصيم رأيٌ في الأمر، فهم من أتباعي.»
فتكلَّم إذ ذاك أحدهم قائلًا: إن صالح الحسن افترى عليهم، وإنه لا يمثلهم بشيء، وإنهم لا يرضون عن ابن سعود بديلًا.
كذلك اجتمع القائدان التركي والعربي وافترقَا، ولكن سامي باشا أرسل بعدئذٍ رسولًا اسمه دياب أبو بكر إلى ابن سعود يقول: «يسلم عليك الباشا، ويقول: إن الدولة تدفع لك عشرين ألف ليرة ومخصصات سنوية إذا كنت تعترف بسيادتها في القصيم.»
فلما سمع عبد العزيز هذا الكلام عمد إلى سيفه قائلًا: «أتتجاسر يا خبيث أن تحمل إلينا مثل هذه الرسالة؟ ألم يردعْك شمم العرب؟ ومتى كان ابن سعود يقبل الرشوة، فيبيع بلاده ورعيته ممَّن يريدون استرقاقها؟ لا أدنِّس سيفي بدمك يا خبيث، ولكن لا أردُّ عنك سيفًا بيد سواي.»
بادر الرسول إلى ذلوله بعد استماع هذا الكلام، وراح مدرهمًا. لم يرجع إلى الشيحية ليؤديَ الجواب بل فرَّ هاربًا إلى المدينة.
وفي ذاك النهار بعد صلاة المغرب، أرسل ابن سعود إلى الفاروقي ثلاثةً من رجاله ليُنبئه، فيكون متأهِّبًا بأنه هاجم عليه في اليوم الثاني بعد صلاة الفجر. وما كان جادًّا فيما فعل، ولكنها تهويلة جاءت بفائدة. فقد أرسل الباشا ثلاثة من ضباطه مع رجال ابن سعود مسترضِيًا، فجاء الضباط يقولون: إن الباشا وعسكره ضيوف عليكم واحسبوهم في معيَّتكم.
١٣٢٤ﻫ / ١٩٠٦م: صفا الجوُّ أو إن الرياح سكنت إكرامًا لرمضان، فصام ابن سعود في عنيزة، ولكنه علم يوم العيد أن ابن الرشيد يواصل السعي في استقدام عساكر الترك إلى حائل. فجهَّز لحِينه حملةً من أهل القصيم ونزل إلى البكيرية، ثم أرسل إلى الفاروقي بلاغًا — وكان هذه المرة جادًّا — يخيِّره بواحد من أمرين؛ إما أن يُنقَل بجيشه في خمسة أيام إلى وادي السر (فيحول بُعْدُه عن القصيم دون المفاوضات وابن الرشيد)، وإما أن يرحِّله ابن سعود من نجد، فيرسل الجنود العراقية إلى العراق والجنود الشامية إلى المدينة، وإذا رفض أحد الأمرين فهو هاجم عليه لا محال.
عندما علم الجنود، خصوصًا الضبَّاط بهذا البلاغ، قاموا يطلبون من سامي باشا الإذعان، بل طلبوا منه أن يُرحِّلهم إلى بلادهم، وقد هدَّده البعضُ بالقتل إذا لم يفعل، والبعض قالوا إنهم سينضمون إلى جيش ابن سعود.
قَبِل الباشا بترحيل الجنود، ولكنه اشترط أن يضمن عبد العزيز سلامتَهم وسلامة معدَّاتهم في الطريق إلى المدينة وإلى بغداد. قَبِل عبد العزيز بذلك، واشترط أن ينقُل الجنود العراقيين إلى بُريدَة فيبقون فيها إلى أن يصل سامي باشا بجنوده إلى المدينة؛ لأنه خشِي أن يسير الباشا إلى حائل فينضم إلى عسكر ابن الرشيد ويعيد الاثنان الكرَّة عليه.
وقد كان عبد العزيز صريحًا على عادته، فقال للفاروقي: «إذا سرتم إلى المدينة رأسًا رحَّلنا جنود العراق، وإذا حِدْتم عن الطريق ذبحناهم، وسنكون عالمين بمسيركم.»
ثم دعا عبد العزيز للسماط شيوخ حرب، التي كانت قد حملت عساكر المدينة عندما جاءوا إلى نجد، وبعد الطعام خاطبهم قائلًا: «أنتم جئتم بالترك من المدينة وأنتم مرجعوهم إن شاء الله، وستبقون عندنا إلى أن يصلوا سالمين.»
حمل عربان حرب العساكر وأمتعتهم وعتادهم على الجمال وارتحلوا، وبعد أسبوعين جاء ابن سعود نجاب يقول إنهم اجتازوا الحناكية ورحلتهم المدينة، فأمر إذ ذاك أن تُجهَّز الركائب للعساكر الذين في بُريدَة، فرُحِّلوا آمنين شاكرين إلى العراق.
وبعد شهرين أرسل السلطان عبد الحميد يشكر الأمير عبد العزيز بن سعود على معاملته عساكر الدولة تلك المعاملة الشريفة، ويسأله أن يُرسِل أحد رجاله لمقابلته. فأرسل صالح العذل ومعه اثنان آخران إلى الآستانة، فنزلوا ضيوفًا على الحضرة الشاهانية، ومُنِحوا الألقاب والنياشين، وسمعوا من الوزراء كلامًا سياسيًّا لم يُجِيبوا عليه بشيء ولا أَثمر بعدئذٍ شيئًا للدولة.
أُتِيح لي الاجتماع بصالح باشا العذل يوم كنت في الرياض، فألفيتُه شيخًا جليلًا يحمل في أيام السِّلم عصًا من الشوحط، ومثل أكثر أهل نجد لا يُكثر الكلام. اجتمعتُ به في بُمخروق يوم خرج عظمة السلطان للنزهة وكنَّا في معيَّته. وكان عظمته قد حدَّثني عن ذاك الوفد فرغبت في التعريف إلى أحد رجاله، ففاجأَني عندما كنَّا جالسين في ذاك الغار قائلًا: «هذا صالح العذل.» ثم ناداه: «يا باشا يا باشا تعالَ تعرَّف إلى الأستاذ.» جاء صالح يبتسم وجلس مثلنا على الأرض، فسأَلته إذا كان قد سُرَّ في إقامته بالآستانة، فأجاب موجِزًا: «ما سُرِرنا بشيء مثل سرورنا يوم رحَّلونا منها.»