والمقدمة التي تجرَّأتْ على تكرار الكتاب وإعادة تشكيله في اتِّساق
آخر؛ تؤدِّي هذه الحالةَ بالفعل: تكراراتُ الكتاب هي، دائمًا، شيءٌ
آخرُ غير الكتاب. والواقع أنه ما من «كتاب» سوى هذه التكراراتِ
المختلفة دائمًا: «الكتاب» — بكلماتٍ أخرى — «نصٌّ» تُشكِّله دائمًا
لعبة الهُويَّة والاختلاف. وكلُّ مقدمةٍ مكتوبة تُعيِّن مؤقتًا المكان
الذي يعمل فيه دائمًا وأبدًا، بين قراءةٍ وقراءة، وبين كتابٍ وكتاب،
تفاعلُ الكتابة بين القارئ (القرَّاء) والكاتب (الكُتَّاب) واللغة.
فأمَّا هيجل فأغلق الدائرة بين الأب والابن، بين النَّص والمقدمة. إذ
أشار، كما يُبيِّن دريدا، إلى أنَّ المفهوم المتحقِّق — الذي هو غاية
طريقة النَّص الفلسفي الفاعل ذاتيًّا — يُعدُّ في علاقته بالمقدمة
مسنَدًا إليه، سابقًا على قولها، سابقًا على ملاقاتها. وأمَّا في إعادة
صياغة دريدا فتصبح بنيةَ مقدِّمةِ نصٍ مفتوحةٍ من كِلا طرفَيها. فليست
للنص هُويَّةٌ ثابتة. لا، ولا أصلٌ ثابت، كَلَّا ولا نهايةٌ ثابتة.
وكلُّ فعل قراءةٍ ﻟ «النص» مقدمةٌ إلى نَص تالٍ. وليست قراءة المقدمة
المعلِنة عن نفسها استثناءً من هذه القاعدة.
وإنَّه لَمِن غير الدقيق، وإنْ كان ضروريًّا، القولُ إنَّ شيئًا
يُسمَّى نصُّ كتاب «في علم أنساق الكتابة» [الجراماتولوجي]
De la
grammalotogie يكون (كان) أصلًا
مؤقتًا لمقدمتي. وأتوقَّع، حتى وأنا أكتبُ، اللحظةَ التي ستجِدُ عندها
مقدمتي، أثناء قراءتك، أصلًا مؤقتًا لقراءتك كتاب «في علم أنساق
الكتابة». وبطبيعة الحال، يمكن أن يوجد عددٌ لا نهائي من الاختلافات
حول هذه الفكرة.
لماذا يجب أن نقلق من شيءٍ بسيط هكذا كإنشاء مقدمة؟ ما من إجابةٍ
حقيقية عن هذا النوع من الأسئلة بطبيعة الحال. وأقصى ما يمكن أن يُقال
— وقد ذكَّرنا دريدا بذلك من جديد — إنَّ نظرةً محددة للعالَم والوعي
واللغة قد جرى قبولها بوصفها النظرة الصحيحة. وإذا فُحِصَت التفاصيل
الدقيقة لهذه النظرة؛ فستظهر صورةٌ مختلفة نوعًا ما (وهي أيضًا كما
سنرى لا-صورة). ويتضمَّن هذا الفحص تحقيقًا في «نشاطِ» أكثرِ إيماءاتنا
ألفةً. ولْنقتبس من هيجل ثانيةً:
وإذا كان افتراض مسئولية أحدنا عن خطابه يؤدي إلى استنتاجٍ مفادُه
أنَّ كلَّ الاستنتاجات مشروطة حقا ومن ثَم غير قاطعة، وأنَّ كلَّ
الأصول غير أصلية بالمثل، وأنَّ المسئولية نفسَها يجب أن تتعايش مع
الطيش، فلا داعي إلى أن يكون هذا سببًا في الكآبة. ومن هذه الزاوية على
وجه التحديد، يقابل دريدا بين سوداويَّة
melancholy روسُّو
Rousseau وبهجةِ نيتشه
Nietzsche الإثباتية: «التيمةُ
البنيوية، تيمةُ الآنيَّة المبدَّدة، في اتجاهها نحو حضورٍ مفتقدٍ أو
مستحيلٍ لأصلٍ غائبٍ، هي من ثَم الوجه الروسُّوي الحزين السلبي الحنيني
الشاعر بالذنب من فكر اللعب الذي سيكون الإثباتُ النيتشوي وجهَه الآخر:
إثباتٌ مبتهجٌ بلعب العالَم، ولعب براءةِ الصيرورة
becoming، إثباتُ عالَم علاماتٍ من
دون ذنب، من دون حقيقة، من دون أصل، متاحٌ لتفسيرٍ نَشِط
active interpretation (ED 427, SC
264).
وإذن، هناك دائمًا مقدمة بين يدَين تُمسكان كتابًا مفتوحًا. ولا
تحتاج هذه «الواجهة السابقة» [أي المقدمة]، التي تحمل اسم «المؤلف» أو
اسمًا آخر، إلى الاعتذار عن تكرار «النص».
١
وكما ذكرتُ أعلاه: «إنَّه لَمِن غير الدقيق، وإنْ كان ضروريًّا،
القولُ إنَّ شيئًا يُسمَّى نصُّ كتاب «في علم أنساق الكتاب» يكون
(كان) أصلًا مؤقتًا لمقدمتي.» غير دقيق ولكنه ضروري. وتشبه ورطتي
اضطرارًا فلسفيًّا بعينه دفَعَ دريدا إلى كتابة
sous rature [= تحت الشطب]
التي أُترجمها إلى under erasure
[= تحت الشطب]. وهو ما يعني كتابة كلمة مشطوبة بحيث تظهر لنا
الكلمة وشطبها في الطباعة (فبما أنَّ الكلمة غير دقيقة شُطِبَت،
وبما أنها ضرورية تظلُّ مقروءةً). ولْنأخذْ مثالًا من دريدا
سأقتبسه ثانيةً: «العلامة هي
ذلك الشيء المسمَّى برداءة
the sign is that ill-named thing … الذي يفلت من السؤال
المؤسِّس للفلسفة …» (١٩، ٣١).
عند فحص أشياءَ مألوفةٍ نتوصَّل إلى مثل هذه الاستنتاجات غير
المألوفة، فلغتنا نفسها متشابكةٌ ملتفَّة منحنية حتى عندما ترشدنا.
والكتابةُ «تحت الشطب» علامةٌ على هذا الانحناء والالتفاف.
ويوجِّهنا دريدا إلى «سؤال الوجود»
Zur
Seinsfrage لمارتن هيدجر بوصفه «مرجع» هذه
الممارسة المهمَّة استراتيجيًّا
٢٢ التي لا يمكننا فَهْمها من دون إلقاء نظرة على صياغةِ
هيدجر لها.
«سؤال الوجود» هو رسالةٌ من هيدجر إلى إرنست يونجر
Ernst Jünger، تسعى إلى تأسيس
تعريفٍ تخميني للعدمية nihilism.
ومثلما واجه هيجل، وهو يكتب مقدِّمة، مشكلة المقدمات من الناحية
الفلسفية؛ يواجه هيدجر، وهو يضع تعريفًا، مشكلة التعريفات من
الناحية الفلسفية: لكي تُعَرَّف طبيعةُ أيِّ شيء بوجهٍ خاص على أنه
كائن entity، لا بد من التطرُّق،
بوجهٍ عام، دائمًا إلى سؤال الوجود
being والإجابة عنه بالإثبات.
فذلك الشيء [أنْ يوجد الوجود]، يفترض سلفًا أنَّ أيَّ شيء يمكن أن
يوجد.
فما سؤال الوجود هذا، المفهوم سلفًا بالضرورة، حتى يحدث التفكير
نفسه؟ ونظرًا إلى أنه سابق دائمًا على التفكير؛ فلا يمكن أبدًا
صياغته بوصفه إجابةً عن السؤال «what
is …»: «جودة التعريف الملائم المطلوب بحقٍّ،
تجِدُ تصديقَها في تخلِّينا عن الرغبة في التعريف بقدْرِ ما يجب أن
يتأسس على تأكيدات يخبو فيها التفكير … لا يمكن إعطاء أيِّ معلومات
عن اللاشيئية nothingness والوجود
والعدمية، وعن ماهيتها، وعن الماهية (الفعلية) [it
is]
لماهية (اسميَّة) [it is] يمكن تقديمها بوضوحٍ
في شكلِ تأكيدات [it is …] (QB 80-81). لا
بد من منح الإنسان إمكانَ الوجود هذا (أو بالأحرى قد مُنحَ إيَّاه
بالفعل) حتى يقول «أنا أكون» I am،
ناهيك عن أن يقول «أنت تكون»، «هي تكون». فحتى مفاهيم النفي تلك، ﮐ
«اللاشيئية» أو «العدمية»، تُوضَع في ذلك السؤال عن الوجود المفهوم
سلفًا، الذي يُسأَل ويُجاب عنه بطريقة غير فعلية وغير اسمية ومن
دون فاعل. لذا، لا يمكن بناء هذا السؤال ليطابق إجابةً جازمة.
والإنسان هو المحلُّ أو المنطقة التي تلعب فيها هذه المشكلة عينها؛
لا الإنسان بوصفه فردًا بل الإنسان بوصفه دازاين Dasein — الكائن هناك ليس إلا —
بوصفه المبدأ الذي يَسأل ويَفترض: «لا يقف الإنسان في منطقة نقدية
حرجة فقط … فهو نفسه هذه المنطقة، غير أنه ليس لنفسه، وعلى وجه
الخصوص ليس من خلال نفسه بمفرده» (QB 82–83). ولكن
هيدجر ينبهنا إلى أنَّ هذا ليس تصوُّفًا
mysticism؛ بل نتيجة محيِّرة
من جرَّاء فحص الواضح، ورفع النسيان الأكثر طبيعية.
«ماذا لو أنَّ لغة الميتافيزيقا [القَضويَّة
propositional] والميتافيزيقا
نفسها — سواء كانت لغةَ الله الحيِّ، أو الميت، بوصفها ميتافيزيقا
— قد شكَّلت ذلك الحاجز الذي يحظر عبور [سُلَّم] الخطِّ الفاصل [من
تأكيد الوجود إلى السؤال عن الوجود؟]» (في موضع آخر، يفترض هيدجر،
كما افترض نيتشه من قبله، أنَّ اللغة القَضويَّة للعلوم تنسى
تمامًا سؤال الوجود).
٢٣ «وإذا كانت هذه هي الحال، أفلن يصبح عبور الخطِّ
[بشكلٍ مائل] عندئذٍ تحويلًا للغة بالضرورة، ويستلزم علاقة
متحوِّلة بماهية هذه اللغة؟» (
QB
70–71).
وعلى سبيل الخطوة نحو هذا التحوُّل، يشطب هيدجر كلمة «الوجود»،
فنرى الشطب والكلمة على حدٍّ سواء؛ إذ من غير الدقيق استعمال كلمة
«وجود» هنا، لأن تمييز «مفهومٍ» للوجود قد انزلق بالفعل عن سؤال
الوجود المفهوم سلفًا. وبرغم ذلك، من الضروري استعمال الكلمة،
لأنَّ اللغة لا يمكن أن تفعل أكثرَ من ذلك:
لا يمكن لنظرةٍ عميقة في مملكة «الوجود» إلا أن تكتبه
تحت علامة الشطب الوجود. ورسم هذَين الخطَّين المتقاطعَين
يكفُّ، بوجهٍ خاص، عادةَ فَهْم «الوجود» بوصفه شيئًا يقف
بحدِّ ذاته … ولا شكَّ في أنَّ علامة الاختراق … ليست
علامةَ شطب سلبية وكفى … الإنسان في ماهيته ذكرى وجود [أو
مُذكِّرٌ به] ولكنه الوجود المشطوب وجود. وذلكم يعني أنَّ ماهية
الإنسان جزءٌ من ذلك الذي في الخطَّين المتقاطعَين ﻟ
الوجود يضع
التفكيرَ قيد مطالبة أمرٍ أكثر أصالةً
(QB 80-81,
82-83).
تَتوتَّر اللغة، ها هنا، حقًّا؛ فعبارة اﻟ «إنسان في ماهيته ذكرى
وجود (مُذكِّر به)» تتجنَّب نسبةَ فاعلٍ إلى سؤال الوجود الذي لم
يُسَأل. ويعمل هيدجر مع موارد لغة قديمة، لغة نمتلكها فعلًا،
وتَملكنا. ويخاطر إنشاءُ كلمة جديدة بنسيان المشكلة أو الاعتقاد
بأنها محلولة: «يخضع تحويل اللغة التي تتأمَّل ماهية الوجود
لمتطلبات أخرى سوى إحلال مفردات جديدة محلَّ مفرداتٍ قديمة، وهو
أمرٌ يبدو واضحًا». فهذا التحويل ينبغي أن يقتضي، بالأحرى، «شطبَ»
المصطلحات القديمة ذات الصلة، ومن ثَم تحريرها، وتعرية «الادِّعاء
المتغطرِس بأنَّ [الفكر] يعرف حلَّ الألغاز ويجلب الخلاص»
(QB
72-73).
ثمَّة، الآن، اختلاف بعينه بين ما يضعه هيدجر تحت الشطب وما
يفعله دريدا. ﻓ «الوجود» كلمةٌ رئيسة يشطبها هيدجر. ولا يعترض
دريدا على ذلك. ولكنَّ كلمته هي «الأثر»
trace (كلمةٌ فرنسية تحمل
تضميناتٍ قويةً للكلمات الإنجليزية:
track
وfootprint
وimprint)، وهذه الكلمة لا
يمكن أن تكون رئيسةً، إذ تقدِّم نفسها بوصفها علامةً على حضورٍ
سابق وأصلٍ سابق وسيادةٍ سابقة. ويمكن أن يحلَّ محلَّ كلمة أثرٍ
تعبيرُ «كتابة أصلية» arche-writing
(archi-écriture) أو «الاختلافُ المُرجِئ»
differance، أو في واقع الحال بضعُ
كلماتٍ أخرى يستعملها دريدا بالطريقة نفسها. ولكنني سأبدأ بمفردة
«الأثر» trace/track، لأنها كلمةٌ
بسيطة؛ ويبدو أنَّ ثمَّة أيضًا — ولا بد أن أعترف — شيئًا من
الإشباع الطقوسي يحقِّقه البدء ﺑ «الأثر».
لا ريب في أنَّ هيدجر عندما يضع
الوجود قبل كلِّ المفاهيم؛ يحاول تحرير اللغة من
مغالطة الأصل الثابت الذي هو أيضًا غايةٌ ثابتة. لكنه يؤسِّس
بطريقة معيَّنة الوجودَ متساميًا به إلى مرتبة ما يسمِّيه دريدا
«المدلول المتعالي [المتسامي]»
transcendental
signified. ومهما يكُن ما قد «ﻳﻌﻨﻴ»ﻪ مفهومٌ؛
فإنَّ أيَّ شيء يجري تصوُّره في وجوده لا بد أن يقودنا إلى سؤال
الوجود المُجَاب عنه بالفعل. وبهذا المعنى — معنى المرجع النهائي —
يكون الوجود هو المدلول النهائي الذي تشير إليه كلُّ الدوالِّ.
ولكنَّ هيدجر يوضِّح أنَّ الوجود لا يمكن أن تحتويه دلالة؛ فهو
سابق عليها دائمًا، بل يتجاوزها في واقع الحال. وذلكم من ثَم موقفٌ
يتحكَّم فيه المدلول في كلِّ الدوالِّ برغم تحرُّره منها؛ موقف
لاهوتي معروف.
٢٤ غاية الفلسفة، طبقًا لهيدجر، استعادة ذكرى ذلك المدلول
المتحرِّر والمتحكِّم من أجل اكتشاف الكلمات الأصلية
Urwörter في لغاتِ العالم
بتعلُّم مهاجمةِ منطق الدلالة المحدود، وهو مشروع يصفه دريدا
بأنَّه: «الجانب الآخر من الحنين، حنين سأسمِّيه
أملًا هيدجريًّا …
وسأربطه بما يبدو لي محتفَظًا به من الميتافيزيقا في «شذرات
أناكسيماندر»
Spruch des
Anaximander [لهيدجر]؛ أي
البحث عن الكلمة الصحيحة
proper
word والاسم الفريد»
(
MP
29, SP
159-60).
ويبدو أنَّ دريدا لا يُظهر أيَّ حنين إلى حضورٍ مفقود. ويرى في
مفهوم العلامة التقليدي عدمَ تجانُس
heterogeneity — ﻓ «آخر
المدلول ليس متزامنًا أبدًا، وفي أفضل الأحوال يكون قلبًا
متعارِضًا أو متوازيًا ببراعة؛ متعارضًا خلال زمن النَّفَس — لنظام
الدالِّ» (١٨، ٣١). وللحقِّ، هو حنينٌ لا مفرَّ منه إلى حضورٍ يجعل
من هذا اللاتجانُس وحدةً بإعلان أنَّ العلامة تُولِّد حضور
المدلول؛ وإلَّا فسيبدو واضحًا أنَّ العلامة هي الموضع الذي «يجري
فيه الإعلان عن الآخر بحدِّ ذاته في تمامه — من دون أيِّ تبسيط أو
أيِّ هُويَّة أو أيِّ تشابه أو أيِّ استمرارية — بما لا يَكونه»
(٤٧، ٦٩). والواقع أنَّ الكلمة والشيء أو الفكر لا يصبحان واحدًا.
ويجري تذكيرنا ﺑ، وإحالتنا إلى، ما يُنشِئُه عُرْف الكلمات بوصفه
شيئًا أو فكرًا، من خلال تنظيمٍ خاصٍّ للكلمات. وتعمل بنية المرجع،
ويمكن أن تستمر في العمل، لا بسبب التطابق بين ما يُسمَّى جانبا
العلامةِ المكوِّنان لها، بل بسبب علاقة الاختلاف بينهما. العلامة
تشير إلى موضعِ اختلاف.
إحدى طرائق إشباع الرغبة المُلِحَّة في الوحدة هي القول إنَّه لا
توجد بنيةُ اختلاف داخل العلامة الصوتية (الكلام بدلًا من
الكتابة)، وأنَّ هذا اللااختلاف يُجرَّب بوصفه حضورًا ذاتيًّا في
فكر الذات الصامت المنعزِل. وهذه حجةٌ مألوفة نتقبَّلها بسهولة إذا
لم نتوقَّف لنفكِّر فيها. ولكننا إذا فكَّرنا فيها سنلاحظ أنه لا
يوجد سببٌ ضروري يجعل صوتًا بعينه يتطابق مع «فكرةٍ أو شيء»؛ وأنَّ
الحجَّة تنطبق حتى عندما «يتحدَّث» أحدنا في صمت إلى نفسه. لقد كان
لزامًا على سوسير، وَفقًا لذلك، الإشارةُ إلى أنَّ الدالَّ الصوتي
عُرْفيٌّ كالدالِّ الخطي سواءً بسواء (٥١، ٧٤).
ويشير دريدا، مسلَّحًا بهذا الاستبصار البسيط ولكنه قويٌّ —
قويٌّ بما يكفي ﻟ «تفكيك المدلول المتعالي» [المتسامي]، ألا وهو
الاستبصار بأنَّ العلامة، الصوتية والخطيَّة معًا، هي بنية اختلاف
— يشير إلى أنَّ ما يَفتَح إمكان الفكر ليس سؤالَ الوجودِ فقط،
وإنما الاختلاف غير المُلْغَى عن «الآخر في تمامه» أيضًا. ذلكم هو
«كيان» العلامة الغريب؛ نصفها «لا يوجد» دائمًا، والنصف الآخر «ليس
هذا» دائمًا. وأثر ذلك الآخر الغائب أبدًا هو الذي يحدِّد بنيةَ
العلامة. ولا يمكن العثور على هذا الآخر، بطبيعة الحال، في وجودها
الكامل. وحتى في الأحداث التجريبية كالإجابة عن سؤال طفل أو الرجوع
إلى المعجم نفسه نجِدُ ذلك؛ فالعلامة تؤدي إلى علامة أخرى، وهكذا
إلى أجل غير مُسمًّى. ويقتبس دريدا من لامبرت
Lambert وبيرس
Peirce، مقارنًا إيَّاهما
بهوسرل وهيدجر: «[ينبغى على الفلسفة] أن تختزل نظريةَ الأشياء إلى
نظرية العلامات» … ﻓ «فكرة الظهور هي نفسُها فكرة العلامة» (٤٩،
٧٢). وعلى طريقة الأثر، يجب وضع كلمة «علام» تحت الشطب: «العلامة
هي هذا الشيء المسمَّى برداءة، العلامة
الوحيدة التي تفلتُ من السؤال المؤسِّس للفلسفة: ما هذا …؟»
وإذن، يعطي دريدا الدورَ الذي يلعبه الآخر الجذري داخل بنية
الاختلاف التي تُكوِّنها العلامة اسمَ الأثر (سألتزم باستعمال كلمة
trace في ترجمتي لأنها «تبدو
هي نفسها» كلمة دريدا، وعلى القارئ أن يذكِّر نفسَه بكلمتَيْ
track
و
spoor، على الأقل، اللتين
تشملهما الكلمة الفرنسية). وتُسلِّم لغويات سوسير، رغمًا عنها،
ببنية العلامة على أنَّها بنيةُ أثر. ويُسلِّم التحليل النفسي لدى
فرويد
Freud — إلى حدٍّ ما، رغمًا
عنه — ببنية التجربة نفسها على أنها بنيةُ أثر، لا بنيةَ حضور.
ويضع دريدا كلمةَ «التجربة» تحت الشطب، متبعًا حجَّةً مشابِهة
للحجَّة بشأن العلامة:
وأما بالنسبة إلى مفهوم التجربة، فهو الأصعب للغاية هنا.
فككلِّ المفاهيم التي أستعملها، ينتمي إلى تاريخ
الميتافيزيقا، ولا يمكننا استعماله إلا تحت الشطب. تُعيِّن
«التجربةُ» دائمًا العلاقةَ بحضورٍ، سواء اتَّخذتْ تلك
العلاقةُ شكل الوعي أو لم تتَّخذه. وبرغم ذلك يجب علينا،
بوساطة نوع من الانحناء والتذرُّع الذي يلتزم الخطاب
بتجشُّمه، استقصاء مصادر مفهومِ التجربة واستنفاده قبل أنْ
نصِل، ولكي نصل، إلى أساسه المطلق؛ عن طريق التفكيك. تلك
هي الطريقة الوحيدة للإفلات من «النزعة التجريبية»
empricism والانتقادات
«الساذجة» للتجربة في الوقت نفسه (٦٠، ٨٩).
ونبدأ، الآن، في معاينة كيف يختلف تصوُّر دريدا ﻟ «تحت الشطب» عن
تصوُّر هيدجر. ربما يشير
الوجود عند هيدجر إلى حضورٍ غير مُفصَحٍ عنه.
وأمَّا
الأثر عند دريدا فهو
علامةٌ على غياب حضورٍ، حاضر غائب دائمًا، علامةُ افتقار إلى الأصل
الذي هو شرط الفكر والتجربة. ولأنَّ الاحتمالات الطارئة مختلفةٌ
برغم تشابهها، يعلِّمنا هيدجر ودريدا على السواء استعمالَ اللغة من
منظورِ بنية الأثر، الأمر الذي يمحوها حتى عندما تقدِّم مقروئيةً.
ويجب أن نتذكَّر هذا عندما نرغب في مهاجمة دريدا، أو في هذا الصدد
هيدجر، بشأن أنواعٍ معيَّنة من الأسس المنطقية المباشرة؛ وذلك
لأنَّ أحدنا قد ينسى دائمًا الشطب غير المرئي، «فيتصرَّف كما لو
أنه لا يُحْدِث اختلافًا» (
MP 3, SP
131).
٢٥
هكذا، يكتب دريدا عن استراتيجية التفلسُف حول الأثر:
يجب أن تجعل قيمةُ الأصل المتعالي arche
[origin] transcendental ضرورتَه
محسوسةً قبل تَرْك نفسه ليُشطَب، ويجب أن يستجيب مفهومُ
الأثر-الأصل the
arche-trace لكلٍّ من تلك الضرورة
وذلك الشطب. وهو ما يُعدُّ في الواقع متناقِضًا وغير مقبول
داخل منطق الهُويَّة
identity. ليس الأثر
اختفاءً للأصل فحسب … وإنما يعني أنَّ الأصل لم يختفِ حتى،
وأنَّه لم يتأسَّس إلا تبادليًّا بوساطة لا-أصل
non-origin، الأثر
الذي يصبح من ثَم أصل الأصل the origin of
the origin. ومنذئذٍ فصاعدًا، لانتزاع
مفهوم الأثر من المخطط الكلاسيكي الذي يَستمده من حضورٍ أو
من لا-أثر أصلي، والذي يجعله علامةً تجريبية، يجب على
أحدنا أن يتحدَّث فعلًا عن أثرٍ أصلي
originary trace أو
أثر-أصل (٦١، ٩٠).
وإذن، من داخل تقليد هيجلي وهيدجري معيَّن ومن خارجه، في آنٍ،
يطلب منَّا دريدا تغيير عادات عقلية بعينها؛ فسُلطة النص المرجعية
مؤقتة، والأصل أثر؛ يجب علينا، مناقضين المنطق، تعلُّم استعمال
لغتنا وشطبها في الوقت نفسه.
في الصفحات القليلة السابقة، رأينا هيدجر ودريدا يشاركان في
عملية هذه الممارسة غير المألوفة. ويعي دريدا، بوجهٍ خاص تمامًا،
أنها مسألةُ استراتيجية: استراتيجية استعمال اللغة الوحيدة المتاحة
من دون التورُّط في فرضياتها أو «الاشتغال وفقًا لمفردات الشيء
نفسه الذي يحدِّده أحدنا» (
MP 18, SP
147). وبالنسبة إلى هيجل، كما يشير هيبوليت،
يتضمَّن «الخطاب الفلسفي نقدَه داخل نفسه»
(
SC
336, 158). وعلى نحو مماثل، يشير دريدا الذي
يصف استراتيجية «خطاب يقترض من التراث المصادرَ الضرورية من أجل
تفكيك ذلك التراث نفسه»، إلى «لغة تحمل داخلها ضرورة نقدها»
(
ED
416, SP
254). وتصبح الإشارة أوضح في ضوء الكتابة «تحت
الشطب»: «في كلِّ خطوة، كنتُ مضطرًّا إلى المُضي قُدمًا عبر
انتقالاتٍ مفاجئة، وتصحيحات، وتصحيحاتِ التصحيحات، سامحًا لكلِّ
مفهوم أنْ يدخل في اللحظة نفسها التي احتجتُ إلى استعماله فيها، إلخ.»
٢٦
هناك بعض التشابُه بين هذه الاستراتيجية وما يسمِّيه ليفي شتراوس
«المُوالَفة»
bricolage في كتابه
«العقل الهمجي».
٢٧ ويشير دريدا نفسه إلى ذلك قائلًا:
سيظلُّ ليفي شتراوس مخلصًا دائمًا لهذا القصد المزدوج:
أن يحتفظ بما له قيمة حقيقية ممَّا ينتقده بوصفه أداة،
مستبقيًا … كلَّ هذه المفاهيم القديمة، في الوقت نفسه الذي
يعرِّي فيه … حدودَها، فيتعامل معها بوصفها أدواتٍ لا تزال
مفيدة. ولم يَعُد لها أيُّ قيمة حقيقية [أو معنًى حاسم]
منسوب إليها؛ وثمَّة استعداد للتخلِّي عنها إذا لزم الأمر،
وكلما ظهرتْ أدواتٌ أخرى تبدو أفيد. وفي غضون ذلك، يجري
استغلال فعاليتها النسبية، فتُوظَّف لتدمير الماكينة
القديمة التي تنتمي إليها والتي هي نفسها أجزاء فيها.
وهكذا، تنتقد لغةُ العلوم الإنسانية نفسَها
(ED 417; SC 255, 254).
ثمَّة فرقٌ واحد بين ليفي شتراوس ودريدا واضحٌ بما يكفي. يبدو
أنَّ الأنثروبولوجي عند ليفي شتراوس حرٌّ في اختيار أداته؛ ويعرف
الفيلسوف عند دريدا أنه لا توجد أداة إلا وتنتمي إلى صندوق
ميتافيزيقي تنطلق منه. لكنَّ هناك اختلافًا آخر بينهما تجب الإشارة
إليه عندما نُعيِّن الخطوط العريضة لاستراتيجية دريدا.
يقارن ليفي شتراوس
المُوالِف bricoleur بالمهندس
engineer (ليس ﻟ «المُوالِف»
في الإنجليزية مقابِلٌ دقيق. إنَّه رَجُل يقوم بأعمالٍ حِرَفية
odd jobs ويزاول كلَّ المهن
Jack of all trades أو هو نوعٌ
من المحترفين الذين يُنجزون كلَّ شيء بأنفسهم، ولكنَّ وضعه يختلف
عن، مثلًا، في الإنجليزية «الرجل الحِرَفي»
odd job
man أو «اليدوي متعدِّد الوظائف»
handyman).
٢٨ يجب أن يكون خطاب الأنثروبولوجيا وغيرها من العلوم
الإنسانية خطابَ «مُوالَفة»: خطابات المنطق الشكلي والعلوم المحضة
يمكن أن تكون، فيما يفترض أحدُنا، خطاباتِ هندسة. ﻓ «أداة» المهندس
«تتكيف، بوجهٍ خاص، مع حاجةٍ تقنيةٍ محدَّدة»؛ أما
المُوالِف
فيتعامل مع أشياءَ ربما كانت مخصَّصة لغاياتٍ أخرى.
٢٩ الأنثروبولوجي متعدِّد الحِرَف
tinker لأنه، على الأقل كما
يذهب ليفي شتراوس في كتابه «النيِّئ والمطهوُّ»
Le cru et le
cuit، يستحيل عليه في الواقع
إتقان المجال كله. ويُشير دريدا، على النقيض من ذلك، إلى أنَّ
المجال غير ممكن معرفته، لا من الناحية النظرية، كلَّا ولا
التجريبية (
ED
419 f., SC 59
f.). لا ولا حتى في عالَمٍ مثاليٍّ به عددٌ
مختزَل تجريبيًّا من الاحتمالات ستتطابق «الغاية» المتوقَّعة
للمعرفة مع «وساﺋﻟ»ها. ومثل هذا التزامن [الآنيَّة] — «الهندسة» —
حلمٌ مستحيل بالكمال. ومبرِّر
المُوالَفة أنه لا يمكن أنْ يوجد
شيءٌ آخر. ولا يمكن لأيِّ مهندس أنْ يجعل «الوسيلة» — العلامة —
و«الغاية» — المعنى — متطابقين ذاتيًّا. ستقود العلامة دائمًا إلى
علامة، علامة تحلُّ محلَّ أخرى (على نحوٍ لعوب؛ لأنَّ «العلامة»
تكون «تحت الشطب») بوصفها دالًّا ثم مدلولًا وهكذا دَوالَيك. وفي
الواقع، فكرة اللعب مهمَّة هنا. فالمعرفة ليست تتبُّعًا نظاميًّا
لحقيقةٍ مخبوءة، ويمكن العثور عليها مع ذلك. إنَّها بالأحرى مجالٌ
من «اللعب الحر، أي مجال من الاستبدالات اللانهائية في سياجِ طاقمٍ
محدود» (
ED
423, SC
260).
وبالنسبة إلى دريدا، يصبح مفهوم «استجواب العالَم» عند «المهندس»
«مثالًا لاهوتيًّا»، فكرةٌ نحتاج إليها لنشبع رغبتنا في الكمال
والسيادة، كالأب-النص عند هيجل الذي يحيط بالابن-المقدمة ويكتنفه،
أو كالوجود عند هيدجر بوصفه مدلولًا متعاليًا. ويشير دريدا إلى
أنَّ شتراوس مُبتَلًى بالحنين كهيدجر: «فالمرء … يرى في عمله نوعًا
من أخلاقيات الحضور، وأخلاقيات الحنين إلى الأصول، وأخلاقيات
البراءة البدائية والفطرية، أخلاقيةَ نقاء الحضور وحضور الذات في
الكلام؛ أخلاقيةً وحنينًا بل ندمًا، يقدِّمها غالبًا بوصفها
تحفيزًا للمشروع الإثنولوجي عندما ينتقل إلى مجتمعات بدائية، وهي
المجتمعات النموذجية في نظره. وهذه النصوص جِد معروفة»
(ED
427, SC
264).
ولا يقدِّم دريدا مقابلًا لهذا الحنين؛ فهو لا يرى في طريقةِ ما
يُسمَّى العلوم الدقيقة نموذجًا معرفيًّا للدِّقة. فكلُّ المعرفة،
سواء عرَفَ أحدنا ذلك أم لا، هي نوعٌ من المُوالَفة، وعينها على
أسطورة «الهندسة». ولكن هذه الأسطورة دائمًا ما تكون أخرى تمامًا،
فتترك أثرًا أصليًّا داخل «المُوالَفة». ومثل كلِّ الكلمات
«المفيدة» يجب أن تُوضع «المُوالَفة»، أيضًا، «تحت الشطب». لأنَّه
لا يمكن تعريفها إلا عبْر اختلافها عن ضدِّها: «الهندسة». ولكنَّ
هذا الضدَّ، وهو معيار ميتافيزيقي، لا يمكن أن يكون حاضرًا حقًّا،
وإذن لا يوجد مفهوم — بالمعنى الدقيق — ﻟ «المُوالَفة» (ما هو ليس
بهندسة). وبرغم ذلك، لا بد من استعمال المفهوم؛ المفهوم لا يمكن
الدفاع عنه ولكنه ضروري. «منذ اللحظة التي نكفُّ فيها عن الإيمان
بهذا المهندس … ما إن يُسَلَّم بأنَّ كلَّ خطابٍ محدودٍ مطوَّقٌ
بمُوالَفةٍ معيَّنة … تكون فكرة المُوالَفة نفسُها مهدَّدة،
ويَتفسَّخ الاختلافُ الذي اكتسبت من خلاله معناها»
(ED
418, SC
256). وهنا تتلاشى الحركة الهَرَمية الممكنة
والضمنية التي تذكِّرنا بأنَّ المُوالَفة بوصفها نموذجًا هي
«قبل-علمية» تحتلُّ موقعًا متدنيًا في سلسلة تطوُّر غائي. ولا يسمح
دريدا بإمكان النظر إلى المُوالَفة بوصفها طريقةً في البحث فِجَّة
ما قبل-علمية تحتلُّ مرتبةً متدنية على سُلَّم التطوُّر. ويمكن
لأحدنا أنْ يبدأ الآن في فَهْم عبارةٍ غامضة، نوعًا ما، ترِد في
كتاب «الجراماتولوجي»: «من دون ذلك الأثر [أثر كتابة تحت الشطب] …
سيشبه النصُّ مفرطُ التعالي [المُوالَفة تحت الشطب]، إلى حدٍّ
بعيد، النصَّ ما قبل-النقدي [المُوالَفة العادية البسيطة] شبهًا
يتعذَّر معه تمييزه عنه» (٦١، ٩٠).
إنَّ تفكيك التضادِّ بين المُوالَفة والهندسة، وفي الوقت نفسه
الاحتفاظ بالتضادِّ بينهما، يناظر موقفَ دريدا نحو كلِّ التضادات.
موقفٌ «يشطب» (بهذا المعنى الخاص) كلَّ التضادات. وسأعود إلى هذه
البادرة مِرارًا وتكرارًا في هذه المقدمة.
•••
(وبينما يطوِّر دريدا تصوُّرًا لاستراتيجية مرِحة، ولكنَّها
شاقَّة، لإعادة كتابة اللغة القديمة — لغة يتصادف أنَّ علينا
معرفتها حقَّ المعرفة — يذكُر «سياجَ» الميتافيزيقا
clôture of metaphysics. يجب
علينا معرفة أننا داخل «سياج» الميتافيزيقا حتى عندما نحاول
تفكيكه. وإنَّه لخطأٌ تاريخي تمثيلُ «سياج» [اختتام وإغلاق]
closure الميتافيزيقا هذا،
بوصفه نقطةَ نهايةٍ زمنية للميتافيزيقا. فتلك، أيضًا، رغبةٌ
ميتافيزيقية في جَعْل الغاية تتزامن مع الوسيلة، وإنشاء سياج،
وجَعْل التعريف يتزامن مع المُعرَّف، اﻟ «أب» مع اﻟ «ابن»، داخل
منطق الهُويَّة من أجل تحقيق توازُن المعادلة، وغَلْق الدائرة.
وتعكس لغتنا هذه الرغبة. لذا، فمن داخل هذه اللغة يجب أن نحاول
«فتحًا».)
٢
يستعمل دريدا كلمةَ «ميتافيزيقا» استعمالًا جِد بسيط، بوصفها
اختصارًا لأيِّ علمٍ يتعلَّق بالحضور. (وإذا حاول وضعَ تعريفٍ قاطع
للميتافيزيقا؛ فستوضع الكلمة من دون شكٍّ «تحت الشطب») ولكن
استعمال المُوالِف البسيط هذا للكلمة، يسمح لدريدا بإتاحة احتمالٍ
لميتافيزيقا «ماركسية» أو «بنيوية». وهو ما يطرحه بإيجازٍ في
مقالةٍ مبكِّرة اقتبستُ منها سابقًا:
تاريخ الميتافيزيقا، كتاريخ الغرب، هو تاريخُ هذه
الاستعارات والكنايات.
٣٠ ومُولِّده — إذا كنتَ ستعذرني على قلة الشرح
وقفزي حتى أصِل سريعًا إلى فكرتي الرئيسة — هو تعيين
الوجود على أنه
الحضور بكلِّ معاني هذه الكلمة. فمن الممكن
بيانُ أنَّ كلَّ الأسماء المرتبطة بأسس أو مبادئ أو مركز
قد حَدَّدت دائمًا عدمَ انقطاع الحضور: آيدوس [= جوهر،
شكل]
eidos، بداية أصل
مبدأ أول
archè، تيلوس [=
سبب نهائي، غاية]
telos،
إنيرجيا [= طاقة]
energeia، كائنية
ousia (ماهية
essence، وجود عيني
existence، جوهر
substance، ذات
subject)، أليثيا
[كشف، انكشاف]
aletheia،
التعالي [التسامي]
transcendentality،
وعي
consciousness، أو
ضمير
conscience، الله
god، الإنسان
man … وما إلى ذلك
(
ED 410-11, SC 249).
لقد تمهَّلتُ عند «مسألة المقدمة» والممارسة الدريدية المتغلغلة
ﻟ «تحت الشطب» كي أتسلَّل إلى أجواء فِكر دريدا. وأمَّا الآن
فسأتحدَّث عن «أسلاﻓ»ﻪ المعترَف بهم: نيتشه، فرويد، هيدجر، هوسرل.
٣١ وسأهتم بنيتشه بتفصيلٍ أكبر، لأنَّ رؤيتنا المتداوَلة
له تختلف عن رؤية دريدا، ولأنَّ علاقة دريدا به لا مفرَّ منها.
وسأعلِّق بعد ذلك على مواقف دريدا من البنيوية، وعلى مفرداته
وممارسته، وعلى بنية كتاب «الجراماتولوجي». وأخيرًا، سأتحدَّث
بكلماتٍ قليلة عن الترجمة، ثم ندخُل إلى النص.
٣٢
•••
يقدِّم لنا دريدا قائمتَين لمَا ينبغي أن نبحث عنه عند نيتشه:
«عدم الثقة المنهجية في الميتافيزيقا ككل، المدخل الشكلي إلى
الخطاب الفلسفي، مفهوم الفيلسوف-الفنان، السؤال البلاغي
والفيلولوجي المُثار في تاريخ الفلسفة، الشَّك في قِيَم الحقيقة
(«عُرفٌ مطبَّق جيدًا»)، الشَّك في المعنى والوجود و«معنى الوجود»،
الانتباه إلى الظواهر الاقتصادية للقوة واختلاف القوى، وما إلى
ذلك» (MP
362-63). و«تجذير مفاهيم التفسير والمنظور
والتقييم والاختلاف … لقد أسهم نيتشه، بعيدًا عن البقاء ببساطة (مع
هيجل، وكما أراد هيدجر) داخل الميتافيزيقا، بقدْرٍ كبير في تحرير
الدالِّ من استناده إلى اللوجوس
logos أو اشتقاقه منه،
والمفهوم المرتبِط بالحقيقة أو المدلول الأوَّلي» (٣١–٣٢،
١٩).
ولا بد أنه قد اتَّضح، الآن، أنَّ دريدا يُشارِك نيتشه بحقٍّ في
«الشكِّ في قيمة الحقيقة … والمعنى والوجود، و«معنى الوجود»،
و«مفهوم … المدلول الأوَّلي». وأما البنود الأخرى في القائمتَين
فيمكن وضعها تحت عنوانٍ واحد: الخطاب الفلسفي بوصفه خطابًا شكليًّا
formal بلاغيًّا
rhetorical مجازيًّا
figurative، شيئًا يجب فكُّ
شفرته decipherment. وسيتضح مع
نهاية هذه المقدمة كيف يلتزم دريدا التزامًا عميقًا بمثل هذه
الفكرة. وسأعلِّق، هنا، على الآثار المترتِّبة على «فكِّ شفرة
الخطاب المجازي» عند نيتشه.
في وقتٍ مبكِّر من عام ١٨٧٣م، وصَفَ نيتشه الاستعارة بأنَّها
عمليةٌ أصلية لمَا يقدِّمه العقل بوصفه «حقيقة». ﻓ «العقل، بوصفه
وسيلةَ حفاظ على الفرد، يطوِّر قوته الرئيسة بالإخفاء [والخداع]
dissimulation.»
٣٣ «مثيرٌ عصبي، نُسخَ أولًا في صورة! استعارة أولى!
وتُنسَخ الصورة مرةً أخرى إلى صوت! استعارة ثانية! وفي كلِّ مرة
يقفز [مُنشِئ اللغة] كليةً من مجالٍ إلى وسط مجالٍ مختلف تمامًا»
(
NW
III. ii. 373, TF
178). يبدو تعريف الاستعارة عند نيتشه، في
حدِّها الأبسط، تأسيسًا للتطابُق بين أشياءَ متباينة. والعبارة
التي يستعملها نيتشه هي
Gleich
machen [= عمل الشيء نفسه]، إنشاء مساوٍ
(
make equal)، وهو ما يُذكِّر
بالكلمة الألمانية
Gleichnis: صورة
image، تشبيه
simile، تشابُه
similitude، مقارنة
comparison، أمثولة
allegory، مَثَل
parable؛ وذلكم مؤشرٌ لا لبْس
فيه على ممارسةٍ مجازيةٍ بوجهٍ عام. «كلُّ فكرةٍ تنشأ عبْر مساواةِ
غير المتساوي» (
NW III. ii. 374, TF 179). «ما الحقيقة إذن؟
جيشٌ متحرِّك من الاستعارات والكنايات والتجسيدات … الحقائق أوهامٌ
نسي أحدُنا أنها أوهام … عملاتٌ نقدية طُمِس وجهاها، فلم تَعُد
تُحسَب الآن على أنها عملاتٌ نقدية بل معدنٌ ليس إلا»
(
NW
III. ii. 374-75, TF
180). وأتمسك هنا بمفاهيم عملية المجاز وعملية
النسيان.
يصِف نيتشه، في هذا النصِّ المبكِّر، الدافعَ المجازي بأنه «ذلك
الدافع نحو تكوين استعارات، دافعٌ أساسي لدى الإنسان، لا يمكننا
التفكير بمعزل عنه لحظةً واحدة وإلا وَجَب علينا التفكير بمعزل عن
الإنسان نفسه» (
NW III. ii. 381, TF 188). وسيُطلق نيتشه على
هذا الدافع، في وقتٍ لاحق، اسمَ «إرادة القوة». وما نسمِّيه إرادة
الحقيقة لدينا هو إرادة قوة؛ لأن «ما يُسمَّى الدافع إلى المعرفة
يمكن إرجاعه إلى دافع الاستيلاء والتغلُّب.»
٣٤ ويأتي إحساسُ نيتشه بالإلزام الحتمي للمسألة وممارسة
القوة، من حروفه المائلة: ««التفكير» في شروط بدائية (قبل عضوية)
يعني تبلورًا للأشكال … في فكرنا، السمة الأساس هي ملاءمة مواد
جديدة في مخططات قديمة … إنشاء مساوٍ لمَا يكون جديدًا.»
٣٥
ليس لدى الإنسان أكثر من مجموعةِ مثيراتٍ عصبية. ولأنَّه لا بد
أنْ يكون مطمئنًا في معرفته ﺑ «العالَم» (الداخلي أو الخارجي)، ومن
ثَم سلطانه عليه، يجري شرح المثيرات العصبية ووصفها عبر فئات
المجاز التي تتنكَّر بوصفها فئاتٍ «حقيقة». هذه الشروح والأوصاف
«تفسيرات»، تعكس عدم قدرة الإنسان على تحمُّل الهيولي غير الموصوف:
«ذلك الطابع العام للعالَم … هو في مجموعه هيوليةُ الأبدية؛ لا
بمعنى الافتقار إلى الضرورة بل الافتقار إلى النظام، والترتيب،
والشكل، والجمال، والحكمة، وإلى أيٍّ ممَّا قد يوجد من أسماءٍ أخرى
في نزعاتنا التجسيدية الجمالية [الضَّعف البشري: الإنسانية].»
٣٦ وكما يشير نيتشه؛ تُجبر هذه الحاجةُ إلى القوة، من
خلال تعريفٍ تجسيدي، البشريةَ على خلقِ توالدٍ لا ينتهي من
التفسيرات، «أصلها» الوحيد الذي يرتجف في الأوتار العصبية، وكونها
علامةً مباشرةً على لا شيء، لا يؤدِّي إلى أيِّ مدلولٍ أوَّلي.
وكما يقول دريدا، يقدِّم نيتشه «موضوعاتٍ كاملةً لتفسيراتٍ فاعلةٍ
نَشِطة، تحلُّ محلَّ فكِّ الشفرة المستمر للكشف عن الحقيقة بوصفها
تقديمًا للشيء نفسه» (
MP 19, SP
149).
التفسير هو «مدخلٌ إلى المعنى»، (أو «مخاتلةٌ عبْر المعنى»)،
وإنشاء علامة هو إنشاء صورة؛ لأنه لا وجود في هذا الفكر لاحتمالِ
معنًى حَرْفيٍّ حقيقيٍّ متطابِق مع نفسه. المطابقة (إنشاء
المُساوِي أو الشيء نفسه) تؤسِّس فعلَ المجاز. ولذا، «لا يُفهَم
شيءٌ إطلاقًا إلا وهو معيَّن محرَّف». ويمتدُّ هذا، بطبيعة الحال،
إلى التطابُق بين الفعل (التأثير) وغرضه (السبب): «في كلِّ مرةٍ
يُفعَل فيها شيءٌ لغرض، يحدُث شيءٌ مختلفٌ جوهريًّا، يحدُث شيءٌ
آخر» (
WM II.
59, 130; WP 301,
351). وإرادة القوة هي عمليةُ «فكِّ شفرةٍ
متواصل»: مجاز وتفسير وعلامة تدلُّ عبْر مطابقة ظاهرة. وهكذا، فحتى
لو افترضنا أنه يمكن عزلُ فعلٍ ضمن خطوطه العريضة، لقياس العلاقة
بينه وبين وعيه «الناشئ عنه»؛ فلا بد أن تعكس النظرة النقدية
(بالضرورة على نحوٍ غير متطابق) هذا الفكَّ للشفرة، فتَقتَفِي
«المسار المنحرِف»، وتقرأ الفعل في نصيَّته. ومن هذه الناحية
المهمَّة، «لم يكُن ليُثار أبدًا» سؤالُ النص لولاه [نيتشه]، على
الأقلِّ بالمعنى الدقيق المعمول به اليوم.»
٣٧
وفي كتابه «جينالوجيا الأخلاق»
The Genealogy of
Morals، يقرأ نيتشه تاريخ الأخلاق
بوصفه نصًّا. ويفسِّر
المعاني المتعاقبة لأنظمة الأخلاق. ﻓ
«الأغراض والمنافع ليست سوى
علاماتٍ على أنَّ إرادة قوةٍ أصبحتْ
سيِّدةً على شيءٍ أقلَّ قوة، ومن ثَم طبعتْ عليه معنى وظيفةٍ.
[صورة النقش والدمغ والطبع — هذا «المجاز» بمعنًى آخر مع ذلك — هي
الأهمُّ عند نيتشه، وتتكرَّر باستمرار في هذا السياق على الأخصِّ].
والتاريخ الكامل ﻟ «شيء»، عضو، عُرْف أو عادة؛ يمكن أن يكون بهذه
الطريقة سلسلةَ علاماتٍ متصلة لأيِّ تفسيراتٍ جديدة دائمًا،
ولأعذارِ التحوُّل التي يجب ألَّا ترتبط أسبابها أحدها بالآخر عن
طريق الصدفة المحضة.»
٣٨ ﻓ «كل المفاهيم التي تكون فيها العمليةُ بأكملها
مضغوطةً سميولوجيًّا، تُفلت من التعريف» (
NW, VI. ii. 333, GM 80). وبطبيعة
الحال، سيعلِّق دريدا مفهومَ صيرورة العلامة
semiosis بأكمله، ويضع العلامة
تحت الشطب. ومن الممكن قراءة مثلِ هذا التعليق في «سلاسل العلامة
المستمرة» عند نيتشه، من دون أصلٍ وانتهاء إلى «حقيقة». ومن ثَم،
يمكن اكتشاف تقارُبٍ بين ممارسة دريدا في كتابه «الجراماتولوجي»
وتفسير نيتشه لأنظمة القيم بوصفها نصيَّةً غير متناهية؛ ونرى في
فكِّ دريدا لشفرة التقييم السلبي للكتابة داخل هَرَمية
الكلام-الكتابة علامةً على «جينالوجيا» نيتشوية.
ولكن من الممكن، أيضًا، انتقاد توسيع نيتشه غيرِ المحدود لمفهوم
الاستعارة أو المجاز بوصفه إيماءةً تنعكس على نَفْسها. يقول دريدا:
يوسِّع نيتشه حدود الاستعاري إلى درجة أنه يَنسب القوةَ
الاستعارية إلى كلِّ استعمال للصوت في الكلام؛ أفلا
يتضمَّن هذا انتقالًا في زمن الكلام إلى شيءٍ له طبيعةٌ
مختلفة في ذاته؟ … والغريب بما فيه الكفاية أنَّ ذلك يرجع
إلى معاملة كلِّ دالٍّ بوصفه مجازًا إلى المدلول، على حين
لا يشير مفهوم الاستعارة الكلاسيكي سوى إلى استبدال مدلول
بآخر سيصبح بدوره دالًّا على مدلولٍ آخر. أفلا يكون إجراء
نيتشه، هنا، توسيعًا على وجه التحديد لكلِّ عنصر في الخطاب
باسم
الاستعارة، ما عَدَّته البلاغةُ الكلاسيكية على نحوٍ
لا يقلُّ غرابةً؛ صيغةً بلاغيةً محددة تمامًا، كناية
العلامة [العلامة بوصفها «جزءًا» يمثِّل المعنى «الكامل»]؟
٣٩
ولا بد بطبيعة الحال من ملاحظة أنَّ نقْد دريدا مؤطَّر في
سؤالَين، بدلًا من سلسلة أقوالٍ خبرية. وبرغم ذلك، فحتى إذا أخذنا
العبارة الخبرية الوحيدة في فقرتنا السابقة؛ فسيتضح أنَّ دريدا
ينتقد نيتشه. وعلى وجه التحديد لأنَّ ما يفكُّ نيتشه شفرته يجعله
دريدا قابلًا لفكِّ الشفرة، ولأنَّ الاستعارة (أو المجاز) الذي جرى
توسيعه على هذا النحو الكبير يمكن أن يصبح ببساطة اسمًا لعملية
الدلالة بدلًا من انتقاد تلك العملية. ولعله سيكون أكثر قبولًا لو
وضَعَ نيتشه الاستعارة، أو المجاز، أو التفسير، أو المنظور، أو في
هذا الصدد الحقيقة، تحت الشطب. وسأفترض أنَّ التحرُّك نحو هذا
الشطب يمكن تتبُّعه عبْر انتقاد نيتشه للوعي و«الذات». عندما
تُقلقَل حدود «الذات»، يندرج مفهوما المجاز أو الاستعارة —
المرتبطان بالمعنى الكامل — تحت فئاتٍ أوسع للاستملاك ولعب القُوى
المقاوِمة. ويُنظَر إلى كلمة «استعارة» على أنها «تحت الشطب»،
بوصفها ملاءمة منهجية؛ لأنها تُشير إلى بنيةٍ أشمل غير متضمَّنة
بالضرورة في إنشاء المعنى. ودعونا نتابع الكشف عن هذا
النموذج.
«الذات» مفهوم موحَّد، ولذا هي نتيجة «التفسير». وغالبًا ما
يؤكِّد نيتشه أنها عادةٌ مجازيةٌ لغوية من عادات موقف جِد قديم:
«عندما يُعتقَد أنه يجب أن يوجد شيء «يفكِّر»، يكون ببساطة صياغةً
لعادتنا التركيبية النَّحْوية التي تُضيف فاعلًا إلى كلِّ فعلٍ
واقع» (WM II.
13, WP
268). «إقحام الذات» هنا «خياليٌّ مختلَق»
(WM
II. 110, WP
337). ولهذا السبب، لا بد من مساءلة إرادة
القوة will to power بوصفها
استعارةَ الذات أو مجازًا إليها أو مدخلًا إلى المعنى لديها. وعلى
هذا يستفسر نيتشه، وهو يفكِّر في «إنشاء المُساوِي» في الأحاسيس
المتقاربة، عن الفرض المتعلِّق بكيف «تنشأ الصور … ثم الكلمات …
وأخيرًا المفاهيم في الروح»، «ومن ثَم، اختلاط إحساسَين جِد
متقاربَين، ونحن نلاحظ هذه الأحاسيس؛ لكن مَن يلاحظ؟»
(WM
II. 23, WP
275). وعليه، يحتفي نيتشه بمفهوم إرادة القوة
بوصفها عمليةً مجازيةً (تفسيرية) مجردةً وبلا موقع: «ربما لا
يتساءل أحدُنا: «مَن يفسِّر إذن؟» لأنَّ التفسير نفسه شكلٌ من
إرادة القوة، يوجد (لا بوصف «كائنًا» بل بوصفه عملية، صيرورة)
بوصفه تأثيرًا» (WM II. 61, WP 302).
أحيانًا، يضع نيتشه إرادة القوة المجرَّدة هذه، وهي مجازٌ مستمر،
لا تحت إمْرة أيِّ ذاتٍ عارفة، بل تحت الأرض، في اللاوعي. وعند
نيتشه، اللاوعي ساحةٌ واسعة للعقل الذي يُسمَّى «ذاتًا» لا تعرف
شيئًا. وكما يشير دريدا: «كلاهما [فرويد ونيتشه] يسائلان، بطريقة
جِد متشابهة، يقين الذات بالوعي … وبالنسبة إلى نيتشه «النشاط
الرئيس المهم هو اللاوعي»» (MP 18, SP 148).
ولكن إذا أردنا التمسُّك ﺑ «النشاط الرئيس المهم»، فعلينا الذهاب
إلى أبعدَ من اللاوعي، علينا أن نصل إلى الجسد والكائن الحي. وإذا
كان «اللاوعي» غيرَ معروفٍ لنا؛ فكمْ بالحَريِّ الجسد! وللحقِّ،
يُقيم نيتشه الروابط بينهما في المقالة المبكرة بعنوان «عن الحقيقة
والزَّيف بمعناهما فوق الأخلاقي»
On Truth and
Falsity in their Ultramoral Sense:
ماذا يعرف الإنسان حقًّا عن نفسه؟ … ألَا تُخفي الطبيعةُ
عنه معظمَ الأشياء، حتى ما يتعلَّق بجسده، على سبيل المثال
الْتواءات الأمعاء، التدفُّق السريع لتيارات الدم،
اهتزازات الألياف المعقَّدة، من أجل إبعاده وحبْسه في
معرفةٍ فخورة مضلِّلة؟ لقد ألقت الطبيعة المفاتيح بعيدًا،
وويلٌ للفضول المشئُوم الذي ربما يتمكَّن لِلحظة من
النَّظر إلى الخارج وأسفل من خلال شقٍّ في غرفة الوعي؛
فيكتشف أنَّ الإنسان غيرُ مكترِث بجهله، يستند إلى قسوته
وجشعه وشَرَهه والقتل، وإذا جاز التعبير: معلَّقٌ في
أحلامٍ على ظَهْر نَمِر. فمن أين ينشأ في العالَم الواسع،
والحالة هكذا، الدافعُ إلى الحقيقة؟
(NW III. ii, 371, TF
175-76).
وإليك إشارة مبكِّرة إلى سؤالٍ شامل كهذا في كتابه «العلم
المرِح»
The Gay
Science: «التمويه اللاواعي
للاحتياجات الفسيولوجية تحت عباءات الموضوعي والمثالي والروحي
الخالص؛ يذهب إلى أمداء مرعِبة، وكثيرًا ما سألتُ نفسي عمَّا إذا
كانت الفلسفة من منظورٍ واسع لم تكُن سوى تفسيرٍ للجسد وإساءةِ
فَهْم للجسد» (
NW V. ii. 16, GS 34-35). وهناك شذرةٌ
تصريحية أشمل: «أقدس قناعاتنا، العناصر الثابتة في قيَمنا العليا،
هي أحكام عضلاتنا» (
WM I. 370, WP 173). يبدو الأمر كما لو
أنَّ الممارسة المجازية المتحكِّمة التي تشكِّل كلَّ إدراكنا
المعرفي، يجري تسليمُها إلى الجسد. وللحقِّ، تذهب تكهُّنات نيتشه
إلى مدًى أبعد؛ إذ يُنظَر إلى «إنشاء المُساوِي» على أنه عَرَض
للكائن الحي، وليس «امتيازًا» للإنسان. فإرادة القوة «تستحوذ» في
الكائن الحيِّ قبل طرح «اسم الإنسان»: «كل الفكَر والحكَم والإدراك
الحسِّي بوصفها مقارنة، تنطوي على افتراضِ المساواة بوصفه شرطَها
السابق، فلا يزال «إنشاء المُساوِي» هو السابق. وعملية إنشاء
المُساوِي هي نفسها عمليةُ دمج المواد المستولَى عليها في الأميبا
… [و]تقابل تمامًا العملية الميكانيكية الخارجية (التي هي رمزها)،
وبوساطتها يجعل البروتوبلازم باستمرارٍ ما يستولي عليه مساويًا له،
وينظمه في أشكاله وصفوفه» (
WM II. 21, 25; WP 273-74, 276). الاستحواذ
ورمزه، إنشاء المُساوِي، افتراضه بوصفه مساويًا: تحدُث هذه العملية
في الكائن الحي من أجل حفظ بقائه وتشكيله قبل أن يستولي عليها
الوعي البشري ويُعلنها عمليةً لاكتشاف الحقيقة وتأسيس المعرفة.
وتميِّز هذه العمليةُ نفسَها في رسم خرائط الكون الأخلاقي: «هل
يُعدُّ خيرًا أن تحوِّل خليةٌ نفسَها إلى وظيفةٍ لخليةٍ أقوى؟ يجب
عليها فعل ذلك. وهل يُعدُّ شرًّا أن تمتصَّ خليةٌ أقوى خليةً أضعف؟
… تظهر البهجة والرغبة معًا في الأقوى الذي يريد تحويل شيءٍ إلى
وظيفةٍ له، وأمَّا البهجة والأمل في أن يكون مرغوبًا فيظهران معًا
في الأضعف الذي يريد أن يصبح وظيفة» (
NW. V. ii. 154, GS 175-76).
وهنا، تتَّضح العلاقة بين المجاز من ناحية، والاستحواذ ولعبة القوى
من ناحيةٍ أخرى. وعندما يتحدَّث نيتشه عن إرادة الحقيقة لدى
الإنسان، يكون المجاز اللغوي هو الصورة التي يجب أن يستعملها. ومع
«العودة» إلى الكائن الحيِّ بوجهٍ عام، تبدأ الفروق بين الخير
والقوة والحقيقة في أن تكون ضبابيةً، ويصبح الاستحواذ مصطلحًا
أشملَ من التفسير. ومن المسلَّم به أنَّ هذه الصرامة المحايدة ليست
صريحةً عند نيتشه كثيرًا. ولكنَّها عندما تكون فاعلةً يظهر وصفُ
إرادة القوة غيرُ القابل للاختزال بوصفها بحثًا عمَّا يقاومها. «لا
يمكن أن تتجلَّى إرادة القوة إلَّا في مواجهة المقاوِمات، ولهذا
السبب تبحث عمَّا يقاوِمها» (
WM II 123, WP 346). ضعْ في
حسبانك أيضًا تلك السلسلة المثيرة للفضول من الملاحظات التي صدرتْ
بين نوفمبر ١٨٨٧م، ومارس ١٨٨٨م؛ حيث يحاول نيتشه تجاوز اللغة
للتعبير عمَّا يمكن أن نسمِّيه، مؤقتًا، إرادة القوة بوصفها لعبةَ
إرادة ولا-إرادة. ولكن اللغة تتخلَّل فقرةً كاملة، أقتبسها هنا
لأعطي إحساسًا بالمشكلة:
ما من وحداتٍ نهائيةٍ دائمة، ولا ذرَّات، كَلَّا ولا مونادات،
٤٠ وهنا أيضًا نحن الذين نقدِّم الكائنات …
«القيمةُ»، في الأساس، منظورٌ لزيادةٍ أو نقصٍ في هذه
المراكز المهيمِنة («أشكال التعدُّد» على أيِّ حال، بل
«الوحدات» لا توجد في طبيعة الصيرورة). ووسيلة التعبير
اللغوية غير مُجْدية في التعبير عن «الصيرورة»؛ فهي تتوافق
مع حاجتنا الحتمية إلى الحفاظ على أنفسنا لنفترض عالَمَ
ثباتٍ فِج، عالم «أشياء»، إلخ. وقد نجازف فنتحدَّث عن
ذرَّات ومونادات بمعنًى نسبي؛ ولا ريب في أنَّ العالَم
الأصغر هو العالَم الأدْوَم، لا توجد إرادة؛ هناك فواصل
إرادة تتزايد قوتها باستمرار أو تنقص
(
WM II. 171–72, WP
380–81).
يستعمل نيتشه مجازَ النقطة (السمة والعلامة المائزة) العريق في الزمن،
٤١ بوصفه صورةَ الوحدة الآمَن نسبيًّا فقط، لا بوصفه —
حتى ذلك الحين —علامةً على الدوام أو الاستمرارية، بل الأحرى
مشاركةً في دوراتٍ فاصلةٍ تنشيطية (إيجابية أو سلبية)، فصلًا أو
ترقيمًا ربما أيضًا بمعنى توزيع الفضاء أو استخدامه على أنه يشكِّل
ما يُعدُّ عادةً استمراريةً زمنيةً أو تاريخيةً. وكما سنرى لاحقًا،
يلفت النظرَ هنا الشَّبَه البنيويُّ مع آلة الزمن النفسية
psychic time-machine عند
فرويد. وأمَّا في الوقت الحالي فتكمُن حجَّتنا في هذه الصورة
المتوتِّرة والمُعاقة لفواصل الإرادة
Willens-Punktationen (حيث لا
يتَّضح حتى ما إذا كان الموضوع هو إرادة قوةٍ بشريةٍ مقيَّدةٍ أو
مبدأ إرادةِ القوة؛ لأنَّه مَن يستطيع برغم كلِّ شيءٍ أنْ «يعبِّر
لغويًّا» عن إرادة القوة؟)، تنفجر نظريةُ الاستعارة أو المجاز عند
نيتشه متحوِّلةً إلى «تحت علامة شطب»، وتَتحيَّد إلى لعبةِ قُوى
مقاوِمة. وتِلكم هي الطريقة التي يجب أن أفسِّر بها تعليقَ دريدا
الذي قاله خارج سياق نظرية نيتشه عن الاستعارة: «الخلاف «النَّشِط»
(في الحركة) للقُوى المختلفة والاختلافات بين القوى يُعارِض به
نيتشه نظامَ القواعد الميتافيزيقية بأَسره»
(
MP
19, SP
149).
والآن، إذا كانت «الذات» موضعَ تساؤلٍ هكذا، فمن الواضح أنَّ
الفيلسوف الذي أنشأ نظامه يجب ألَّا يثق في نفسه كما لا يثق به
غيرُه. وللحقِّ، يُفصح نيتشه عن هذه الإشكالية كثيرًا. ويصوغ أجرأ
استبصاراته في شكل أسئلةٍ لا يمكننا استبعادها بحجَّة أنَّها حيلةٌ
بلاغية. فقَدْ كتَبَ نيتشه عن «استعمالات التاريخ وإساءات
استعماله»
The Uses and Abuses of
History في وقتٍ مبكِّر من عام ١٨٧٤م،
يحذِّرنا: «تُظهِر هذه الأطروحة الحالية، وهو ما لن أحاول إنكارَه،
الملاحظةَ الحديثة لشخصيةٍ ضعيفة في إفراط نقدها، وعدم نضج
إنسانيتها، في تحوُّلاتها المتكرِّرة للغاية من السخرية إلى
الكلبيَّة، ومن الغطرسة إلى الشكِّ.»
٤٢ روحُ تشخيصِ الذات قويةٌ في كلِّ نصِّ نيتشه. «يميل
كلُّ مجتمع إلى اختزال خصومه في كاريكاتور — على الأقلِّ في الخيال
— … من بين اللاأخلاقيين هو الأخلاقي، أفلاطون مثلًا يصبح
كاريكاتورًا بين يدي» (
WM I. 410-11, WP 202). كما يضع نيتشه،
بشكلٍ عابِر تمامًا، إطارًا تحذيريًّا حول تفلسُفه: «يفتِّش أحدُنا
عن صورةٍ للعالَم في
تلك الفلسفة التي نشعُر فيها بأننا أكثر
حريةً؛ أيْ حيث يشعُر أقوى دوافعنا بحريَّة العمل. وذلكم الحاصل
معي أيضًا!» (
WM I. 410–11, WP 224 –25). وفي فقرة من
كتابه «العلم المرِح»، يصوغ رؤيته للمشكلة الخاصة التي قادت هيدجر
ودريدا إلى كتابة تحت الشطب:
إلى أي مدى يمتدُّ الطابع المنظوري للوجود العيني
existence أو ما إذا
كان له حقًّا طابعٌ آخر غير هذا؛ وما إذا كان الوجود
العيني من دون تفسير ومن دون «معنى» لا يصبح «هُراءً»؛ ومن
ناحيةٍ أخرى ما إذا كان الوجود العيني ليس وجودًا
تفسيريًّا في الأساس؛ ذلكم ما لا يمكن أن يقرِّره حتى
التحليل والفحص الذاتي الأكثر اجتهادًا والأنقى ضميرًا
للفكر؛ لأنه في أثناء هذا التحليل لا يمكن للفكر البشري أن
يتجنَّب رؤية نفسه في أشكاله المنظورية وفقط فيها. فنحن لا
نستطيع فحصَ زاويتنا (NW V. ii. 308,
GS
336).
ويمكن أن تتعدَّد الأمثلة. ولكنْ، يجب ألَّا نكتفي بتسجيل إدراك
نيتشه هذه المشكلةَ، وإنما يجب تسجيل إدراكه بعضَ طرائقه في
التعامل معها أيضًا. ولعل إحداها استراتيجية إحلال الأضداد محلِّ
بعضها، المتغلغلة عند نيتشه. فإذا كان أحدنا مقيدًا دائمًا
بمنظوره، فيمكنه على الأقل عكس المنظورات بطريقةٍ متعمَّدة، كلما
أمكن، في عملية تفكيكٍ للمنظورات المتضادة، الأمر الذي يُبيِّن
أنَّ طرفَي التضادِّ ليسا إلا شريكَين أحدهما للآخر. وسيتطلَّب
الأمر تحليلًا تفصيليًّا للممارسة النيتشوية لإثبات ما سأُشير إليه
هنا فقط: الفكرة مفادها أنَّ تكوين أضدادٍ تكاملية هو أداةٌ
ونتيجةٌ ﻟ «إنشاء المُساوِي»، وأنَّ حلَّ الأضداد هو بادرة
الفيلسوف ضدَّ إرادة القوة التي من شأنها أن تُربِك نفسَها.
ولْنكتفِ هنا بملاحظةِ تمثيلية: «لا توجد أضدادٌ؛ نحن الذين نشتقُّ
مفهومَ الأضداد من المنطق، وننقله بشكلٍ خاطئ إلى الأشياء»
(WM
II. 56, WP
298).
لقد أسهبتُ إسهابًا في إشكالية التضادِّ بين «الاستعارة»
و«المفهوم»، و«الجسد» و«العقل»، عند نيتشه. وأيُّ عينة من كتاباته
ستتقاطع مع أشكالِ الفكِّ تلك. وفيما يلي بعض الأمثلة الاستفزازية
التي أذكرها، ها هنا، حتى يشعُر القارئ باشتغالاتها الضمنية أو
الصريحة وهو يقرأ كتاب «الجراماتولوجي»:
الذات subject والموضوع
object؛ كِلاهما مسألةُ تفسير:
«كلَّا، فالحقائق (الموضوعية) هي على وجه التحديد ما ليست كذلك، هي
تفسيراتٌ فحسب. فنحن لا نستطيع تأسيسَ أيِّ حقيقة «في حدِّ ذاتها»
… «كل شيء ذاتي» كما تقول؛ لكنْ حتى هذا تفسير. الذات ليست شيئًا
معطى، إنَّها اختراعٌ فائق، يَعْلَق في ذيل صفٍّ طويل من
الاختراعات» (WM II. 11-12, WP 267).
الحقيقة truth والخطأ
error؛ لا «حقيقة» في الأصل،
سوى «حقائق» و«أخطاء» — فلا وصفَ أدقُّ من الآخر — تجمعهما معًا
موجات التفسير التي تحافظ على السيطرة: «وقبل كلِّ شيء، ما حقائق
الإنسان؟ إنها أخطاء الإنسان الدامغة» (NW V. ii. 196, GS 219).
«الحقيقة نوعٌ من الخطأ الذي من دونه لا يمكن أن يعيش نوعٌ معيَّن
من الكائنات الحية» (WM II. 19, WP 272).
الخير good والشر
evil (الأخلاق
morality والفُجور
immorality): افتراضٌ سابقٌ
سخيف … يَحسَبُ الخيرَ والشرَّ وقائعَ تتعارضُ إحداها مع الأخرى
(لا بوصفهما مفهومَي قيمة متكاملَين) … (WM I. 397, WP 192).
«الأخلاق نفسها حالة خاصة من الفجور» (WM I. 431, WP 217).
النظرية theory والممارسة
practice: تمييزٌ خطيرٌ بين
«النظري» و«العملي» … كما لو أنَّ روحانيةً خالصة أَنتجت … مشكلات
المعرفة والميتافيزيقا … ويْكَأَنَّه يجبُ الحكم على الممارسة
بمقياسها الخاص، مهما كانت إجابةُ النظرية»
(WM I.
481, WP
251).
الهدف
purpose والصدفة
accident، الموت
death والحياة
life: «ما إنْ تعرف أنه لا
توجد أهدافٌ حتى تعرف أيضًا أنه لا توجد صدفة؛ لأنه بجانب عالم
الأهداف فحسب يكون لكلمة «صدفة» معنًى. ولْنحترس من القول إنَّ
الموت ضدُّ الحياة، الأحياءُ ليسوا إلا نوعًا من الموتى، ولو أنه
نوعُ جِد نادر» (
NW V. ii. 146, GS 168؛ ومرةً أخرى، يلفت
النظرَ التواطؤُ مع تكهُّنات فرويد حول الفرد، والحياة العضوية،
والعَطالة أو الجمود
inertia).
٤٣
ويُعدُّ تفكيك نيتشه للأضداد نسخةً من ممارسة دريدا في تفكيكها
عبْرَ مفهوم «الاختلاف المُرجِئ»
(deferment-difference) differance، الذي سأناقشه لاحقًا.
ودريدا نفسه يلاحظ هذا التقارب بينهما:
وإذن، بمستطاعنا تناوُل جميع الأضداد الثنائية التي
بُنيتْ عليها الفلسفة، وتقتاتُ منها لغتنا، لا من أجل رؤية
التضادِّ يتلاشى بل لنرى انبثاق الضرورة التي يَظهر بها
أحدُ طرفَي التضاد بوصفه اختلافًا مُرجِئًا للآخر، والآخر
بوصفه «مختلفًا» داخل الترتيب المنهجي [اقتصاد] للشيء نفسه
(على سبيل المثال: المعقول بوصفه مختلفًا عن المحسوس،
وبوصفه المحسوسَ مختلفًا. والمفهوم بوصفه مختلفًا عن
الحدس، وبوصفه الحدسَ مختلفًا. والحياة بوصفها مختلفةً عن
المادة، وبوصفها المادةَ مختلفةً. والعقل بوصفه مختلفًا عن
الحياة، وبوصفه الحياةَ مختلفةً. والثقافة بوصفها مختلفةً
عن الطبيعة، وبوصفها الطبيعةَ مختلفةً …). وثمَّة — عند
نيتشه — موضوعاتٌ كثيرةٌ يمكن أن تُربَط بمبحث الأعراض
symptomatology الذي
يشخِّص دائمًا مراوغات وحِيَل أيِّ شيء يتخفَّى في اختلافه
المُرجِئ (MP 18-19, SP 148-49).
وإحدى محاولاتِ اتخاذِ إجراءٍ ضدَّ استحالة الخروج من سِياج
«التفسير» هي «الأسلوب التعدُّدي»
plural
style. ففي مقالةٍ مترجَمةٍ بعنوان «نهايات
الإنسان»
Ends of Man، يقول دريدا:
«كما قال نيتشه، لعل ما نحتاج إليه هو تغييرُ الأسلوب. ويذكِّرنا
نيتشه بأنَّه إذا كان هناك أسلوبٌ فلا بد أن يكون
تعدُّديًّا.»
٤٤ وبعد ذلك بوقتٍ طويل يقول: «يمكن لسؤال الأسلوب — ويجب
— أن يمتحِن قوتَه ضدَّ السؤال الكبير المتمثِّل في التفسير —
التفسير ليس إلا — إمَّا لحلِّه أو استبعاده من بيانه»
(
QS
253). وقد يكون مثالًا على ذلك الأسلوب
التعدُّدي الخلطُ بين الأضداد، مع ما يصاحبه من تبديلٍ للمنظور.
وكذلك ربما يستعمل نيتشه الكثير من سجلات الخطاب في أعمالٍ مثل:
«هكذا تكلَّم زرادشت»
Thus
Spoke Zarathustra، و«العلم
المرِح»، و«ذلكم الإنسان»
Ecce Homo، أو تنقُّلات دريدا
بين التعليق والتفسير و«الأدب» في الأعمال التالية مباشرة لكتابه
«في علمُ أنساق الكتابة»، ولعبه الطباعي بأنماطٍ من الخطاب في
كتابَيه «هوامش الفلسفة» أو «نواقيس».
ولعلَّ استبصارُ نيتشه الأجرأ، في مواجهة الحدِّ الذي لا مفرَّ
منه، هو الحثُّ على إرادة الجهل will to
ignorance: «لا يكفي أن تَفهَم ما يعيش فيه
الإنسان والحيوان من جهل؛ يجب أن يكون لديك أيضًا إرادةُ الجهل وأن
تكتسبها» (WM
II. 98, WP
328). وما يُسمَّى تقليديًّا
joyful unwisdom [= «الطيشُ
المرِح»] (NW
III. I. 252, UA 15) في نصٍّ مبكِّر، سُمِّي
لاحقًا joyful wisdom [= «الحكمة
المرِحة»] — العلم المرِح the gay
science — الذي يُعدُّ أعظمَ تهديدٍ لسلسلة
التفسيرات التي تحافظ على الذات وتقبَل نشاطها بوصفه «حقيقيًّا»
و«خيِّرًا»: «الخطر الأعظم الذي ظلَّ يحوم طيلةَ الوقت فوق
البشرية، ولا يزال يحوم حولها، هو اندلاع الجنون الذي يعني انفجار
العشوائية في المشاعر والرؤية والسمع، متعة افتقار العقل إلى
النظام، والبهجة في اللاعقل البشري. فلا الحقيقة، كلَّا ولا
اليقين، ضدَّان لعالَم المجنون، بل الشمولية وقوة الإيمان الشامل
الملزم؛ وباختصار، الطابع اللاعشوائي للأحكام»
(NW V.
ii. 107-08, GS
130). وإرادة الجهل، الحكمة المرِحة، يجب أن
تكون مستعِدَّة أيضًا للفرح بعدم اليقين، للفرح بقَلبِ كلِّ القيم
التي قد تبدو مقبولةً ويمكن الدفاع عنها، بل الابتهاج حتى بإرادة
قَلبِها: «لم يَعُد الفرح في يقين، بل في اللايقين … لم تَعُد
إرادة حفظٍ بل إرادة قوة» (WM II. 395, WP 545).
وهذه المخاطرة المستمرَّة هي اللعب الإثباتي عند نيتشه الذي
سيعلِّق عليه دريدا كثيرًا. يقول نيتشه: «لا أعرف أيَّ طريقةٍ أخرى
للارتباط بمهمَّاتٍ عظيمة سوى
اللعب.»
٤٥ «الحكمة: تبدو للرِّعاع نوعًا من الهروب، حيلة ووسيلة
لإخراج الذات من اللعبة الخطِرة، ولكنَّ الفيلسوف الحقيقي — كما
يبدو لنا يا أصدقائي — يعيش «على نحوٍ غير فلسفي» و«غير حكيم»،
وقبل كلِّ شيء
على نحوٍ طائش … يخاطر بنفسه دومًا، ويلعب اللعبة الخطِرة.»
٤٦ وهذا الطيش، الذي يحاول باستمرار اجتنابَ حكمةِ
الاستقرار عبْرَ «التفسير»، هو عِشق القدَر
amor
fati، حُب ما يسمِّيه دريدا «لعبة الصدفة مع
الضرورة، لعبة الاحتمال مع القانون» (
Dis 309). تلكم
رقصة الإنسان الفائق
over–man،
رقصةٌ يصِفُها نيتشه من منظوره بحَرافةٍ معينة: «كَم هو رائعٌ
وجديد، وكَم هو مروِّعٌ وتهكُّميٌّ مع ذلك، أنْ أجِد نفسي مقابل
الوجود العيني بأكمله في ضوء بصيرتي! … وفجأةً استيقظتُ في خضمِّ
هذا الحُلم، ولم أكُن أعي إلَّا أنَّني أحلُم وأنَّه عليَّ
الاستمرار في الحُلم لئلَّا أموت … ومن بين كلِّ هؤلاء الحالمين،
أنا الذي «يعرف» أنني أرقص رقصتي» (
NW V. ii. 90-91, GS 116).
«معرفة» الفيلسوف تضَعُه بين الحالمين، فالمعرفة حُلم. لكنَّ
الفيلسوف يستجيب «عن علمٍ» للحُلم، الحُلم بالمعرفة. ويستجيب ﻟ
«نسيان» درسِ الفلسفة؛ من أجل «إثبات» ذلك الدَّرس … إنَّها حركةٌ
دائرية يمكن أنْ تستمرَّ إلى أجلٍ غير مُسمًّى، أو إذا استعملنا
لغةً نيتشوية، عودةٌ أبديَّة
return
eternally. هذا «النسيان» المحفوف بالمخاطر،
«النسيان الفعَّال» [النَّشِط الإيجابي]
active
forgetfullness، هو ما يؤكِّده دريدا في
الإنسان الفائق عند نيتشه؛ فيقول مرةً أخرى في «نهايات الإنسان»:
وهكذا سينفجر ضحكه [الإنسان الفائق] نحو عودةٍ لن يكون
لها بعد الآن شكلُ العودة الميتافيزيقية في النزعة
الإنسانية، أكثر ممَّا ستأخُذ بلا شكٍّ، «متجاوِزةً»
الميتافيزيقا، شكلَ ذِكرى معنى الوجود أو شكلَ حارسه، أو
شكلَ منزل الوجود وحقيقته. سيرقص، خارج المنزل، ذلكم
النسيان الفعَّال، ذلكم العيد الوحشي [الذي] تحدَّث عنه
[نيتشه] في كتابه «جينالوجيا الأخلاق». ويقينًا، ما
يسمِّيه نيتشه نسيانًا نشِطًا فاعلًا للوجود لم يكُن
ليتَّخذ الشكلَ الميتافيزيقيَّ الذي نسَبَه إليه هيدجر.
(MP 163, EM 57).
وهذا النسيان، ككلِّ شيءٍ آخر عند نيتشه، ذو حدَّين على الأقل.
وحتى في كتاباته المبكِّرة، يَظهر «النسيان» في شكلَين متضادَّين:
يبدو بوصفه قيدًا يحمي الإنسانَ من ضوء الذاكرة التاريخية المطلَقة
الذي يُعمِي (وهو ما سيكشف، من بين أشياءَ أخرى، عن أنَّ «الحقائق»
تنبع من «تفسيرات»)، وكذلك صفة اختارها الفيلسوف بجرأةٍ كي يتجنَّب
السقوط في فخِّ «المعرفة التاريخية». في عمل سبعينيات القرن التاسع
عشر، هناك — من ناحية — فقراتٌ كالتالية (يجب أن نفهم فيها
المفارقة الكاملة التي تنطوي عليها كلمة «حقيقة»):
نحن لا نعرف حتى الآن من أين يأتي الدافع إلى الحقيقة،
لأننا لم نسمع حتى الآن إلا عن الالتزام الذى يفرضه
المجتمع لكي يوجد؛ أن نكون صادقين، بمعنى أن نستعمل
الاستعارات المعتادة، وإذْن التعبير بطريقةٍ أخلاقية. لم
نسمع إلا عن الالتزام بالكذب
lie وفقًا لعُرفٍ
ثابت، الكذب بطريقةٍ جماعيةٍ بأسلوبٍ ملزمٍ للجميع.
وبطبيعةِ الحال، ينسى الإنسان، الآن، أنَّ أمورًا مثلَ هذه
تعيش معه من ثَم، ولهذا يكذِّب بتلك الطريقة المشار إليها
من دون وعيٍ ووَفقًا لعاداتِ قرونٍ متعاقِبة، وبوساطة هذا
اللاوعي نفسه، وبهذا النسيان، يصلُ إلى إحساسٍ بالحقيقة
(NW III. ii. 375, IF
180-81).
وإذا كنا نقدِّر المفارقة الكاملة في هذه الفقرة؛ فسيصبح
مستحيلًا لنا أن نحمل فقرةً كالتالية، مكتوبةً أيضًا في سبعينيات
القرن التاسع عشر، على قيمتها الظاهرة؛ ﺑ «المعنى التاريخي» على
أنه شريرٌ بلا جدال (ومن المسلَّم به، مع ذلك، أنَّ علينا التمييز
بين المعنى الأكاديمي والحافظ للتاريخ [من جهة] والمعنى الفلسفي
والتدميري للتاريخ [من جهة أخرى])؛ «المعنى التاريخي يجعل
خُدَّامَه سلبيين واستعاديين. ففي لحظات النسيان فقط، عندما يكون
ذلك المعنى متقطِّعًا [قارِنْ هذا التقطُّع بنشاط فواصل الإرادة
المتقطِّعة]، يتصرَّف الإنسان المريض بحُمَّى تاريخية»
(NW
III. I. 301, UA
68). ونبدأ عبْرَ هذه الشبكة من القيم
المتغيِّرة في لمْحِ تعقيد فعل اختيار النسيان، الذي قُدِّم فعلًا
بوصفه حلًّا جزئيًّا لمشكلة التاريخ في المقالة المبكِّرة نفسها:
«ترياقات التاريخ «غير تاريخية» و«فوق تاريخية» … وأقصد بكلمة «غير
تاريخية» القوة وفنَّ النسيان ورسم أفقٍ محدود حول الذات»
(NW
III. i. 326, UA
95).
لن أُسهِب في التعليق على فكر النسيان عند نيتشه، إلا أنني أُشير
— فحسب — إلى أنه حتى في الفقرة من كتاب «جينالوجيا الأخلاق» التي
يُحيل إليها دريدا صراحةً؛ تتَّضح هذه الازدواجية بجلاء. فعلُ
النسيان الإثباتي المرِح هو أيضًا كَبتٌ متعمَّد:
ليس النسيان مجرَّد مقابلٍ للعَطالة أو الجمود
inertiae كما يعتقد
السطحيون؛ إنه بالأحرى ملَكةُ تثبيطٍ وكَبتٍ فاعلة بأدقِّ
المعاني الوضعيَّة، مسئولةٌ عن أنَّ ما نُجرِّبه ونمتصُّه،
يدخل إلى وعينا بقدْرٍ ضئيلٍ أثناء هضمه (وهو ما يمكن
للمرء أنْ يسمِّيه عمليةَ «هضْم بالنَّفْس
inpsychation») كما
تفعل عملية الثنايا الألف thousandfold
process المتضمَّنة في التغذية
الجسمية، التي تُسمَّى «الدمج»
incorporation. أن
نغلق أبوابَ الوعي ونوافذَه لبعض الوقت؛ أن نظلَّ غيرَ
مشوَّشين من جرَّاء ضجيجِ أعضائنا النافعة لنا، وعِراكها
في عالمنا السفلي؛ إذ تعمل مع بعضها وضدَّ بعضها. قليلٌ من
الهدوء، قليلٌ من صفحة الوعي البيضاء؛ من أجل إفساح المجال
لشيءٍ جديد، في المقام الأول من أجل وظائفَ نُبْلَى
وموظفين أنبل، من أجل التنظيم والتبصُّر والتدبُّر (لأنَّ
كائننا الحيَّ موجَّهٌ بشكلٍ أوليجاركي). ذلكم هو الغرض من
النسيان الفعَّال، الذي يُشبه البوَّاب، حافظُ النظام
النفسي والسَّكينة واللياقة. وهكذا سيتضح على الفور كيف
أنه لا يمكن أن توجد سعادة ولا بهجة، لا ولا أمل أو
كبرياء، كلَّا ولا حاضر؛
من دون نسيان (NW VI. ii., 307-08; GM
57-58).
«يعرف» الفيلسوف أنه لا توجد وحدةٌ معزولة في أيِّ مكان، كلَّا ولا حتى وحدةٌ ذرِّية،
وأنَّ تصورات حاضرٍ موحَّد ليست سوى تفسير، ثم بفعل «نسيانه» تلك المعرفة يربح لنفسه
«حاضرًا». ضمن هذا الإطار المبتكَر يتحدَّث الفيلسوف، الذي ارتاب في إمكان أيِّ أخلاقٍ
مستقرَّةٍ وأيِّ إمكانٍ للحقيقة، يتحدَّث مع ذلك بصوتٍ من أقوى الأصوات الجدلية في
الفكر الأوربي، فلا يتَّخذ جانب خصومه بل يدمِّرهم تدميرًا. فأعمال نيتشه ملعبٌ لا
هُدنة فيه لهذه «المعرفة» وهذا «النسيان». تأسيسُ المعرفة (التي تقدِّم كلَّ المعرفة
بوصفها عرَضًا
symptom ليس إلا) مقنعٌ إقناعَ صوت
النسيان (الذي يعطينا نبوءةً لا تُنسَى). والمأزق الأكثر شيوعًا في قراءة نيتشه هو
إحباط النفس في محاولة تحقيق تماسُك بين المعرفة والنسيان. ولكن خدعة نيتشه الرائعة
تكمن في الحفاظ على عدم التماسك؛ لجعل القطبَين مترابطَين بطريقةٍ طريفة، فيتوقف أحدهما
على الآخر. ما ينجح فيه
أسلوب style نيتشه هنا — ولْنقتبس
جِناسَ دريدا — هو ما يؤدِّيه
القلم stylus، في بادرة «تحت الشطب»، عندما يحذف وفي الوقت
نفسه يترك ما يحذفه واضحًا. هناك تلميحٌ كامن في وصف نيتشه ﻟ «مشكلة سيكولوجية من نمطِ
زرادشت»: «كيف أنه يقول
لا، ويفعل
لا بدرجةٍ لم يُسمَع بها من قبل، فتطول كلَّ شيء يقول
له المرء
نعم حتى الآن، ومع ذلك يكون ضدَّ
الرُّوح التي تقول
لا.»
٤٧
وأما مارتن هيدجر، كما رأينا، فيحلم بإلغاء النسيان الأول لسؤال
الوجود. فعنده: «يجب على البناء الأنطولوجي الأساسي … في خطته
العامة أن ينتزع من النسيان ما خُطِّطَ له. ولهذا السبب، ليس الفعل
الأنطولوجي الأساسي الجوهري لميتافيزيقا الدازاين
metaphysics of Dasein، سوى تذكُّر.»
٤٨ وهكذا، يقدِّم نيتشه عبر فكرة النسيان الفعَّال — فيما
يعتقد دريدا — مَزلَقًا لهيدجر. ولْنتذكر الفقرة التي اقتبستُها
سابقًا من دريدا: لن يكون ﻟ «ضحك» الإنسان الفائق «شكل ذِكرَى … أو
شكل حارس … شكل منزل الوجود وحقيقته. سيرقص، خارج المنزل، ذلكم …
النسيان الفعَّال.»
يقِفُ هيدجر بين دريدا ونيتشه. ففي كلِّ مناسبة، تقريبًا، يكتب
فيها دريدا عن نيتشه يستحضر قراءة هيدجر له، كما لو أنَّ دريدا
يكتشف نيتشاه من خلال هيدجر وضدَّه. يقول دريدا في
«الجراماتولوجي»: «… بدلًا من حماية نيتشه من القراءة الهيدجرية،
ربما ينبغي أن نعرضه عليها، مع التأمين على هذا التفسير بلا
تحفُّظ؛ فبطريقةٍ معيَّنة، وحتى
النقطة التي يكون عندها محتوى الخطاب النيتشوي مفتقِدًا تقريبًا
سؤالَ الوجود، يستعيد شكلُه غرابتَه المطلَقة؛ حيث يستدعي نصُّه في
النهاية نمطًا مختلفًا من القراءة، أَخلَص لنمطِ كتابته» (١٩،
٣٢).
يصِفُ هيدجرُ نيتشه بأنَّه آخرُ ميتافيزيقي في الغرب.
والمتيافيزيقي، وَفْقًا لهيدجر، هو مَن يسأل السؤال: «ما وجود
الكائن؟» وتأتي إجابة نيتشه عن هذا السؤال، وَفقًا لهيدجر، هكذا:
وجود الكائن هو إرادة القوة. وكما أشار هيدجر باستمرار: محلُّ
إثارة سؤال وجود الكائن هو الإنسان. وبدءًا من هذه «الفرضية
الميتافيزيقية»، يطوِّر هيدجر قراءةً متماسكةً تمامًا لنيتشه،
ويذكِّرنا مرارًا وتكرارًا بأنَّ النظر إلى نيتشه بوصفه غير متماسك
يعني ببساطة عدم إدراك أنَّ سؤاله الرئيسي هو نفسه سؤال
الميتافيزيقا الغربية كلِّها: «ما وجود الكائن؟» فيبدو الأمر كما
لو أنَّ هيدجر — فيلسوف ذلك الحنين الخاص إلى الكلمة الأصلية —
يرفض بحزمٍ الاعترافَ بأنَّ اتِّساق نيتشه يتأسَّس بفضل النسيان
الفعَّال للشروط التي جرى تضمينها أيضًا في النصِّ
النيتشوي.
وكثيرًا ما يقتبس هيدجر من نيتشه عبارةً، ويعلِّق قائلًا: «وهذا يعني …» ومن هذا
النَّهج التعليمي للغاية، تأتي صيغةٌ قوية مثل:
سنكون قادرين على تحديد الاتجاه الرئيس للفرضية الميتافيزيقية عند نيتشه،
عندما نفكِّر في الإجابة التي يُعطيها عن سؤالِ
تأسيس الكائن
وطريقته في
الوجود … يقدِّم نيتشه إجابتَين: الكائن في كلِّيته يكون
is إرادةَ قوة، والكائن في كلِّيته يكون
is العودةَ الأبدية
eternal
return للشيء نفسه … تعني
is في هاتَين القضيتَين [العبارتَين
الخبريتَين] أشياءَ مختلفة. فالكائن في كلِّيته «يكون» إرادةَ القوة، تعني:
الكائن في حدِّ ذاته يتأسَّس على النحو الذي يحدِّده نيتشه بأنَّه إرادةُ
القوة. وأمَّا الكائن في كلِّيته «يكون» العودةَ الأبدية للشيء نفسه؛ فتعني:
الكائن في كلِّيته
يكون مثلَ كائنٍ في
العودة الأبدية للشيء نفسه. ويُجيب تحديدُ «إرادة القوة» عن سؤال الكائن
بالإحالة إلى تأسيسه؛ وأمَّا تحديدُ
«العودة الأبدية للشيء نفسه» فيُجيب عن سؤال الكائن في كلِّيته
بالإحالة إلى طريقته في الوجود. ومع ذلك،
ينتمي التأسيس وطريقة الوجود أحدهما إلى الآخر بوصفهما تحديدَين لكائنية الكائن
entity-ness of entity.
٤٩
والحاصل أنَّ كلَّ شيءٍ يجري وضعه في مكانه من منظورِ سؤال
الوجود. فمفاهيم مثل «الكائن»
entity و«الكلية»
totality عند نيتشه تُثير
إشكاليةً عميقة («لا توجد «كلية» … ولا يمكن إجراء أيِّ تقييم
للوجود البشري العيني، كلَّا ولا للأهداف البشرية، بالنظر إلى شيءٍ
لا يوجد …» [WM
II. 169, WP
378])، كما لا يتحدَّث نيتشه، تقريبًا، عن
العودة الأبدية للشيء نفسه، بل عن العودة الأبدية؛ ومثل هذه
التفاصيل الجسيمة يجري تنحيَتُها جانبًا. إذ يجري تجاهُل سخرية
نيتشه من «إنشاء المُساوِي» و«جَعْل الشيء نفسه» في طاقة فعْلِ
الربط الوجودي الهيدجريِّ الذي يُساوي بين إرادة القوة والعودة
الأبدية للشيء نفسه: «إرادة القوة تكون is، في جوهرها وطبقًا لإمكانها
الداخلي، العودةَ الأبدية للشيء نفسه» (HN I.
467).
ولأنَّ هيدجر لا يعترف بتعدُّدية أسلوب نيتشه، فلا يسمح له
بامتياز كونه فيلسوفًا ﻟ «تحت الشطب». فيظلُّ نيتشه، بالنسبة إلى
هيدجر، ميتافيزيقيًّا يسأل سؤالَ الوجود، ولكنَّه لا يستشكل السؤال
نفسه! «فلا نيتشه، ولا أيُّ مفكِّر قبله — كلَّا ولا هيجل أيضًا
على وجه التحديد، الذي فكَّر لأولِ مرةٍ قبل نيتشه في تاريخ
الفلسفة فلسفيًّا — يصِلُ إلى البداية الاستهلالية، بل يرون
البداية فعلًا وحسب، في ضوء ما يُعدُّ حقًّا انحدارًا عن البداية
وسكون البداية؛ ففي ضوء الفلسفة الأفلاطونية … يُعيِّن نيتشه
نفسُه، في وقتٍ جِد مبكِّر، فلسفتَه بوصفها أفلاطونية مقلوبة. ولا
يستبعد هذا القلبُ الفرضيةَ الأفلاطونية، بل يقوِّيها من خلال ظهور
الاستبعاد» (HN
I. 469).
وداخل الإطار الشامل الذي يقلِّص ميتافيزيقا نيتشه «
بوصفها
ميتافيزيقا الذاتية» (
HN II. 199)؛ تُعدُّ قراءة
هيدجر لنيتشه رائعة. ولسوء حظِّ اهتماماتي واهتمامات دريدا، من
الأهمِّ في هذه المرحلة القول إنَّ هيدجر يشعُر بأنَّه مضطرٌ إلى
تجاوُز الكثير عند نيتشه أو تفسيره تفسيرًا بعيدًا. وأدَّخر الفرصة
لانتقاد النَّص الهيدجري عن نيتشه انتقادًا أشمل. وأمَّا هنا
فدعوني أُشير إلى بعض الأمثلة العامة. عندما يتحدَّث نيتشه عن
العالَم وعن أحاسيسنا بوصفهما هيوليًّا
chaos، يفسِّر هيدجر الهيولي
بأنَّه: «
مخطط أوَّلي حصري للعالَم في كلِّيته وعمله … ولا يمكن أن
تعني «الهَيولي» ببساطة اضطرابًا عقيمًا، بل خفاء مجال الصيرورة
الذي لا يقبل الإخضاع» (
HN I. 566). ثم يُوصف الفن
(الذي تُعدُّ مكانته عند نيتشه جِد مراوغة وإشكالية)
٥٠ بأنَّه الإرادة العليا للقوة، التي تُعطي الهَيولي
شكلًا، (وقد يغمغم نيتشه متذمِّرًا: «سلسلة علامةٍ أخرى متداخِلة
ومتشابِكة هناك») فيصبح «تجربةً إبداعيةً للصيرورة»
(
HN I.
568). وعندما يستحضر نيتشه الجسد والكائن
الحيَّ عمومًا بوصفهما حدَّين للوعي، يقدِّم هيدجر ببراعة مفهوم
«العقل الجسمي»
the bodying
reason، ويفسِّر بادرة نيتشه بأنها توسيعٌ لمفهوم
الذاتية نحو البهيمية
animality
واﻟ «جسد» … [بوصفه] اسمًا لذلك الشكل من إرادة القوة التي تكون
متاحةً على الفور للإنسان بوصفه «الذات» المتميزة»
(
HN
II. 300). وعندما يقول نيتشه: «أن ندمغ على
الصيرورة سمة الكائن؛ فتِلكم إرادة عليا للقوة»
(
WM
II. 101, WP
330)، لا بد أنْ يقرأ هيدجر هذه العبارة من
دون إفادة من السخرية المنتشرة في موقف نيتشه المزدوِج. بل يجب
عليه حتى التغاضي عن الآثار المترتبة على استعارة الدمغ
imprinting (aufzuprägen) وهي
الكلمة التي تُترجَم إلى «يدمغ»
to
impose في النسخة الإنجليزية. كما يجب عليه،
في كثيرٍ من الأحيان، أن يتجاهل عمليًّا الطابع الشَّذري لكتاب
«إرادة القوة»
The Will to
Power، وكذلك لا بد أن يتغاضى
عن الشكل الاستفهامي للعديد من استبصارات نيتشه الأكثر عدوانيةً.
يجب عليه أن يفسِّر انعدام الهدف لدى الإنسان الفائق بوصفه «سيادةً
غير مشروطة للإنسان على الأرض. وإنسانُ هذه السيادة هو الإنسان
الفائق» (
HN
II. 125).
يعتقد دريدا أنَّ ثمَّة جدوى، ربما، من الدَّفع عبْر قراءةٍ
هيدجريةٍ صارمةٍ لنيتشه، قراءة من شأنها أن تطوِّر في تماسُكها
النهائي نيتشه الذي ينسى بفعالية نصِّ «معرﻓﺘ»ﻪ الرهيب. وعند
الحدِّ الأقصى ستنفتح مثل هذه القراءة؛ «فيستعيد شكلُه غرابتَه
المطلقة، حيث يستدعي نصُّه، في النهاية، نمطًا آخرَ من
القراءة».
ويبدو أنَّ انتقادَ دريدا قراءةَ هيدجر لنيتشه — في مقاله «سؤال
الأسلوب»
La Question du style —
يتحرك حول لحظةٍ غير مهمَّة بجلاءٍ في النصِّ الهيدجري.
فاستراتيجية التفكيك — كما سنرى لاحقًا — تركِّز على مثل هذه
اللحظة البسيطة التافهة ولكنها منذرةٌ فاضحة. وفي هذا المقال بوجهٍ
خاص، تكون اللحظة هي لحظة إغفالِ هيدجر كلمات: «إنَّه يصبح
امرأةً»، في الفصل المعنوَن ﺑ «كيف أصبح «العالَم الحقيقي» في
النهاية حكاية خيالية: تاريخ الخطأ»
How the ‘True
World’ Ultimately Became a Fable من كتاب
نيتشه «غسق الأصنام»
The
Twilight of the Idols.
٥١
يقدِّم فصلُ نيتشه الموجز ذاك، تاريخَ الميتافيزيقا الغربية في
ستِّ فقراتٍ متعادِلة مصحوبة ﺑ «إرشادات مسرحية»، مكتوبةٍ بنبرةٍ
نيتشويةٍ متميِّزة يختلط فيها الهزل بالجِد. ففي اللحظة التي
تتحوَّل فيها الميتافيزيقا من الأفلاطونية إلى المسيحية «تصبح
الفكرةُ امرأةً». ولا ينتبه هيدجر إلى هذا في تعليقه الموسَّع على
الفصل. فيُثبِّت دريدا نظرتَه على هذا الإغفال، وفي بادرةٍ جريئة
وأكثر إدهاشًا يُلقي الضوء على «سؤال الأسلوب» عند نيتشه عبْرَ
مناقشة «سؤال المرأة».
والقراءة العامة لنيتشه ستراه كارهًا عنيفًا للنساء. ولكنَّ
قراءةَ دريدا الدقيقة تفضُّ اشتباكَ مجموعةِ مواقفَ أعقدَ نحو
المرأة. فيقسمها دريدا إلى ثلاثةِ مواقف، ويفترض أنَّ كلَّ موقفٍ
من مواقف نيتشه يتماسُّ مع «موقف» تحليليٍّ نفسي؛ بمعنى شكل لعلاقة
الذات بالموضوع. وسألخِّص هذه «المواقف» على النحو الآتي:
المرأة … مُدانةٌ بوصفها … رمزَ كذب أو قوة كذب … وكان
يخشى هذه المرأة المَخصيَّة.
المرأة … مُدانةٌ بوصفها … رمزَ حقيقة أو قوة حقيقة …
وكان يخشى هذه المرأة الخاصِيَة.
المرأة … معترَفٌ بها، وراء هذا النفي المزدوِج، ومثبَتة
بوصفها إثباتيَّةً، ومتظاهِرة، وفنَّانة، وديونيزيَّة …
وكان يحبُّ هذه المرأةَ الإثباتيَّة
(QS 265, 267).
وينبِّهنا دريدا، عبْرَ مناقشة مفصَّلة حول سؤال الأسلوب، إلى
أنَّ هذه المواقف الثلاثة لا يمكن التوفيق بينها في وحدةٍ أو حتى
«شفرة شاملة» (QS 266). ولكن إذا وضعنا هذا
التنبيه في الحسبان وركَّزنا هنا على المخطَّط الثلاثي وألقينا
نظرةً مرةً أخرى على «تاريخ الخطأ»؛ فلربما نستخلص قراءةً دريديةً
لنيتشه.
طبقًا لنيتشه، بدأتْ فترة الإخصاء
castration مع مجيء
المسيحية. والفكرة
idea، التي تصبح امرأةً (مَخصيَّةً
وخاصِيَةً)، يتعقَّبها فيلسوفٌ من النوع الذكوري بهدف التملُّك والاستيلاء. ويمكن
إلْحاق نيتشه بهذا المخطَّط، فهو يتحدَّث بلسان الرجال، ويقترح
الرَّجُل الفائق. ولكنَّ نصَّه قادرٌ على الإشارة إلى
أنَّ المرأة تقوِّض فعلَ التملُّك الذكوري ﺑ «منح نفسها» (بمعنى لعب دور؛ هي نفسها
اللاعبة)، حتى في فعل «منح نفسها» للهيمنة الجنسية.
٥٢ وأما عن «الحقيقة بوصفها امرأةً»، فلا يستطيع أحدنا بعدئذٍ أن يسأل السؤالَ
الأنطولوجي «ما هي؟»
what is she?؛ ويتوقَّع إجابةَ
الافتراض الهرمنيوطيقي: «في كلِّ مرة يظهر فيها ذلك السؤال عن الصحيح
proper [عن الشيء نفسه، عن التخصيص، عن المعرفة
بوصفها امتلاكًا] … يُبيِّن الشكلُ الأنطوهرمنيوطيقي
onto-hermeneutic
form للاستفسار حدودَه» (
QS 274). في فعل الاستسلام نفسه، تتظاهر المرأة.
وهنا، نجِد وصفًا جنسيًّا لسجِلِّ نسيان المعرفة المزدوِج ذاك، الذي يفكِّك إلى الأبد
أسلوب نيتشه. لكي تَمتلك المرأةَ لا بد أن
تكون
المرأةَ («الشخصية التأمُّلية … تتألَّف من أمَّهات ذكورية» [
NW V. ii. 106, GS 129])، وبرغم ذلك فوجود المرأة غيرُ معروف.
والأسلوب الذكوري في التملُّك عبْرَ القلم، الخنجر، المِهماز؛ ينهار بوصفه وقايةً من
الأنوثة الغامضة للحقيقة. «لعلَّ الحقيقةَ امرأةٌ لديها من الأسباب ما لا يسمح لنا
بفَهْم أسبابها! لعل اسمها — ولْنتحدث باليونانية —
Baubo [= عضو الأنثى التناسلي
female genitals]! (
NW V. ii. 20, GS
38). «وحتى الفضول الشفوق لأحكَم طلابِ البشرية غيرُ كافٍ لتخمين
كيف يمكن لهذه المرأة أو تلك أن تنجح في التلاؤم مع هذا الحلِّ للُّغز [الجنسي] … وكيف
تُلقي فلسفةُ المرأة المطلقة والشكوكية المرساةَ في هذه المرحلة!» (
NW V. ii. 105, GS 128). وما إن نكون على الطريق حتى
تظهر الفقرات المفاجئة، ويبدأ النصُّ في الانفتاح. يجب أن يحاول الرَّجُل، باستمرار،
أن
يكون الحقيقةَ بوصفها امرأةً (إبانة
النسيان) لكي
يعرفها، وذلكم أمرٌ مستحيل. ﻓ
«الرجل والمرأة يغيِّران مواقعهما، ويتبادلان أقنعتهما بلا نهاية»
(
QS 273).
هل يشير دريدا إلى أنَّ نيتشه بمُساءلته «حقيقة» أصليةً قابلةً للاستعادة والامتلاك؛
يسائل رمزيًّا كما فعَلَ فرويد حقيقة «مشهد أساسي»،
٥٣ حقيقة أشياء بدأتْ، بوجهٍ عام، مع إخصاء القضيب
phallus، والتقسيم المتميِّز إلى رجلٍ
وامرأة؟
هل تُشبه رغبةُ نيتشه (كما يراها دريدا) في وضع الفكرة الخاصِية
داخل تاريخٍ؛ إعادةَ كتابة فرويد ﻟ «المشهد» الأساسي
في «فنتازيا» أساسية لدى الطفل؟
٥٤ هل يفكِّك النصُّ النيتشوي — على افتراض أن الفيلسوف لكي
يمتلك الحقيقةَ (المرأةَ) يجب عليه أن
يكون الحقيقةَ (المرأةَ) — مركزيةَ الفالوس الأوَّلي
incipient phallocentrism [= مركزية القضيب
الأوَّلي من حيث هو رمزٌ أعلى] عند فرويد التي تقدِّم بديلًا جِد مختلِف: إذا أنكر
الابن (الذكر) الاختلاف الجنسي؛ فسيسعى إلى أن
يكون الفالوس
phallus للأم (المرأة) ويصبح «الشيءَ المفقودَ».
وعندما يُعترَف بالاختلاف الجنسي
يمتلك الابن
(الذكر) الفالوس عبْرَ التطابق مع الأب. فهل يسعى نيتشه إلى تفكيك «إنكار الأنوثة» عند
الذكر — والجانب الآخر منها هو الامتلاك — الذي يفترضه فرويد بوصفه «لا شيء سوى حقيقةٍ
بيولوجية» (
GW XV I. 99, SE XXIII. 252)، ويصف أنوثةً لا
تعرِّفها رغبةُ ذكرٍ في إكمال نقصٍ؟
٥٥
(لعل نيتشه الدريديَّ يمضي إلى «أبعدَ من» هيجل الدريدي. فترخيم
دريدا المتناغِم ﻟ savoir
absolu [= المعرفة المطلَقة]
الهيجلية في كتابه «نواقيس» هو Sa. وليس هذا
خطأً إملائيًّا ﻟ ça [هذا، هو]
[id, it]، والترخيم الفرنسي
المعتاد ﻟ «الدال» [signifier]
signifiant، وإنما هو أيضًا ضمير ملكية لشيء
أنثويٍّ غير مُسمًّى في هذه الحالة. ربما تكون المعرفة المطلقة كما
أبان عنها هيجل مُلْحقةً داخل إرادة «شيء أنثوي»
chose feminine [شيء أنثوي
بكلِّ معنى الكلمة] غير مُسمًّى [غير ممكن تسميتُه].)
ويُنهي دريدا مقالته بفقرةٍ تحذيريةٍ طويلةٍ أخرى عن مشكلةِ
قراءة نيتشه،
٥٦ مشكلة أنَّ في نصِّه بوجهٍ خاص، كما حاولنا أن نبيِّن،
قراءةً متَّسقة تمحو نفسَها باستمرارٍ وتستدعي نقيضَها، وهكذا بلا
نهاية: «لا تَستنتج من هذا أنَّ على أحدنا التخلِّي فورًا عن معرفة
ما يَعنيه … ولكي يكون أحدُنا واعيًا، على نحوٍ صارم قَدْر
المستطاع، بهذا الحدِّ البنيوي … يجب عليه دفْعُ عملية فكِّ الشفرة
هذا إلى أقصى حدٍّ ممكن … فإذا قصد نيتشه [أراد أن يقول] شيئًا،
ألن يكون هذا الحدُّ للمعنى [إرادة القول] كأثرِ إرادة القوة
الاختلافية بالضرورة، ومن ثَم منقسِمًا ومطويًّا ومتضاعفًا دائمًا؟
… بقَدْر ما نقول إنَّه لن يعود هناك «كليَّة لنصِّ نيتشه»، حتى لو
كانت مجزَّأةً أو شَذريَّة» (
QS 285).
يقول دريدا، مفتتِحًا لنا موقفًا سأطوِّره لاحقًا في هذه
المقدمة: «يمكن أن يظلَّ النصُّ دائمًا مفتوحًا ومقدَّمًا
ومطلسَمًا في آنٍ، حتى من دون معرفتنا بأنَّه مطلسَم»
(QS
286).
وتنبغي الإشارة، هنا، إلى أنَّ دريدا يقوم دائمًا ببادرةٍ
طقوسيَّة (صائبة من دون ريب) تستبعد هؤلاء الآباء: «لقد عمِلَ
نيتشه وفرويد وهيدجر داخل المفاهيم الموروثة عن الميتافيزيقا»
(ED
413, SC
251). وقد اقترب هيدجر من تفكيكها، و«تدميرها»
destroying (وهي كلمة هيدجر)،
ولكنه استسلم لها. وكان فرويد يعتقد دائمًا، على وجه التقريب،
أنَّه يعمل داخلها. وأمَّا نيتشه فصدَّعها تصديعًا ثم أخَذَ يدافع
عن نسيان هذه الحقيقة! ولعلَّ هذه المناقشة برمَّتها تتوقَّف على
مَن كان يعرف مقدار ما كان يفعله. فليس من السهل التخلُّص من إرادة
المعرفة. وعندما يزعم دريدا لنفسه أنه داخل سِياج الميتافيزيقا
ودونه مع ذلك، أليس الفرق على وجه التحديد أنه يعرف ذلك على الأقل؟
إذ من الصعب أن نتخيَّل حلًّا للمشكلة يتجاوز حلَّ نيتشه: أن يعرف
ثم ينسى بفعالية، وأن يقدِّم في نصِّه إساءةَ قراءته بشكلٍ
مقنِع.
•••
يميز إدموند هوسرل في كتابه «تأملات ديكارتية» بين
«فينومينولوجيا الوعي المتعالية» و«سيكولوجيا الوعي الخالصة»؛ ففي
دراسة فينومينولوجيا الوعي المتعالية تكون «مكوِّنات الإنسان
النفسية … المعطيات التي تنتمي إلى العالَم … غير مقبولةٍ بوصفها
حقيقةً واقعة، بل بوصفها ظاهرةً واقعية ليس إلا»، معلنةً أنَّها
«موازٍ دقيق» مع ذلك. وها هنا تمييزٌ آخر يجب أن تفكِّكه الرؤية النيتشوية.
٥٧ وبالنسبة إلى دريدا، فإنه فرويد هو مَن يتَّجه نحو
عملِ النفس الذي «يمحو التمييز المتعالي بين أصل العالَم
والوجود-في اﻟ-عالَم؛ يمحوه أثناء إنتاجه.»
٥٨ ولا ينظُر دريدا إلى التحليل النفسي بوصفه فرعًا
علميًّا خاصًّا أو «محليًّا»، بل بوصفه طريقةً في القراءة تفكُّ
«الكلمات المفاهيمية المؤسِّسة للأنطولوجيا، والكائن في امتيازه»
(
٢١، ٣٥). وبعبارةٍ أخرى،
وطبقًا لأهدافه، ليس التحليل النفسي علمًا يقدِّم بالضرورة صورةً
صحيحة للمعيار النفسي ويصِفُ علاجاتٍ لغير الأسوياء، وإنما يعلِّم
نَهْجًا معيَّنًا لفكِّ شفرة أيِّ نص، عبْرَ استعماله في هذا
الصدد.
ويُلمِح فرويد، سواء اعترف بذلك أم لا، إلى أنَّ النفس هي بنيةُ علامةٍ «تحت الشطب»؛
لأنَّها، كالعلامة، مسكونةٌ بآخر جذري radical
alterity، بما يَكونه الآخر في تمامه totally
other: «يُعطيه فرويد [هذا الآخر الجذري] اسمًا ميتافيزيقيًّا هو
اللاوعي unconscious» (MP 21, SP
151): «اللاوعي واقعٌ نفسيٌّ حقيقي، وهو
في
طبيعته
الأعمق
غيرُ
معروفٍ
لنا
بقدْرِ
ما
لا
نعرف
حقيقة
العالم
الخارجي،
وتقدِّمه
معطياتُ
الوعي
على
نحوٍ
ناقص
بالقَدْر
نفسه
الذي
تقدِّم
به
شبكةُ
أعضائنا
الحسِّية
العالمَ
الخارجي»
(GW II–III. 617-18,
SE V. 613).
وعندما
«يستبدل»
فرويد بالتضاد بين «الوعي» و«اللاوعي» التضادَ
بين الأنا ego والهُو
id (الهو، الآخر)، يظلُّ مفهوم الآخر على حاله:
«الهُو … عالمُه الخارجي الآخر [عالمُ الأنا]» (GW XIII. 285, SE XIX.
55). ولا يمكن جَعْل هذا الآخر حاضرًا في حدِّ ذاته إلى الوعي الذي
لا يتعامل إلا مع ما قبل الوعي preconscious من حيث هو
منطقة بين الوعي واللاوعي. و«يقدِّم مجموعُ العمليات النفسية بأكمله نفسَه إلى الوعي
بوصفه عالَم ما قبل الوعي» (GW X.
290, SE XIV. 191). ومع ذلك،
«تظلُّ الرغبات اللاواعية نَشِطةً دائمًا … وللحقِّ السمةُ البارزة لعمليات اللاوعي
غيرُ قابلة للتدمير» (GW II-III.
583, SE V. 577).
ثمَّة شيءٌ يُحمل في داخله أثرٌ آخرُ دائم: بنية النفس، بنية
العلامة. ويعطي دريدا هذه البنية اسم «الكتابة»
writing. فلا يمكن أن تُعدَّ
العلامةُ وحدةً متجانسة تُجسِّر بين أصلٍ (مرجع، أو مشار إليه)
وهدفٍ (معنًى)، وكأنَّ «السميولوجيا»
semiology، علمُ دراسة
العلامات، تمتلكه. لا بد أن تُدرَس العلامة «تحت الشطب»، فدائمًا
ما يسكنها بالفعل أثرُ علامةٍ أخرى لا تظهر بحدِّ ذاتها. ويجب أن
تُفسح «السميولوجيا» مكانًا ﻟ «الجراماتولوجيا»
grammatology [علم الكتابة أو
الشطب]. وكما أشرتُ، ترتبط هذه الخطوة ارتباطًا وثيقًا بدراسة
نيتشه «الجينالوجية» للأخلاق بوصفها «سلاسل علامة» لا
تنتهي.
«الكتابة»، إذن، اسمُ بنيةٍ مسكونةٍ بالأثر دائمًا. وذلكم مفهومٌ
أوسع من مفهوم الكتابة التجريبي، الذي يُشير إلى نظامٍ واضح من
علامات الرَّقْم notations على
جسمٍ مادي. ويلاحِظ دريدا أنَّ هذا التوسُّع قد حقَّقه استعمالُ
فرويد لاستعارة الكتابة في وصف محتوى النفس
psyche وآليةِ عملها. ففي
مقالةِ دريدا المترجَمة بعنوان «فرويد ومشهد الكتابة»
Freud and the Scene of
Writing، وهي مثالٌ على التحليل البلاغي الذي
تحدَّث عنه نيتشه للنصوص الفلسفية، يتتبَّع دريدا ظهورَ استعارةِ
الكتابة عبْرَ ثلاثة نصوصٍ أنجَزَها فرويد على مدى ثلاثين عامًا في
مسيرته المِهنية: «مشروع لسيكولوجيا علمية»
Project for A
Scientific Psychology
(١٨٩٥م)، و«تفسير الأحلام» The Interpretation of Dreams
(١٨٩٩م)، و«ملاحظة على «لوح كتابة باطن»» A Note Upon the ‘Mystic
Writing-Pad’ (١٩٢٥م). فعبْرَ
هذه النصوص الثلاثة، يواجه فرويد مشكلةَ إيجاد وصفٍ لمحتوى النفس
وجهازها. وأخيرًا، يصِلُ فرويد في نصِّه «ملاحظة على لوح كتابة
باطن» عام ١٩٢٥م إلى وصف النفس بأنَّها «مساحةٌ للكتابة». وللحقِّ،
ليس هذا مفهومنا التجريبي عن الكتابة؛ فها هنا «الكتابة … لا تخضع
أبدًا للكلمة المنطوقة، لا ولا هي خارجية أو تالية عليها»
(ED
296, FF
75). كلَّا وليست استعارةً للغة. وفي كتاب
«تفسير الأحلام»، «يجري التعبير» عن محتوى الحُلم — بَرادايم لعمل
ذاكرة النفس كله — «في كتابة تصويرية
pictographic [وليست صوتية]»
(GW
II–III. 283, SE IV.
277). وفي نصِّ «ملاحظة على لوح كتابة باطن»،
باستحضاره المُسهَب للعبةِ كتابةٍ writing
toy فعليةٍ؛ لا يثير فرويد مسألةَ منزلة
الكلام ببساطة: «لا أعتقد أنه من المبالغة مقارنةُ الشريط
السينمائي والورق المُشمَّع بنظامِ وعي الإدراك الحسِّي
pcpt.-cs. ودرعه الواقي، ولوح
الشمع باللاوعي خلْفَهما، وظهور الكتابة [صيرورتها مرئيةً]
واختفائها بوميض الوعي وتلاشيه في عملية الإدراك الحسِّي»
(GW
XIV. 7, SE XIX.
230-31). وفي الفصلَين الأخيرَين من كتاب
«تفسير الأحلام»، بينما يتأمَّل فرويد بقدرٍ كبير من التفصيل «عمل
الحُلم» و«سيكولوجيا عملية الحُلم» يُضطر، بمخاطرةٍ من بعض حيرته
الذاتية، إلى تفجير أيِّ فاعليةٍ
agency موحَّدةٍ للنفس. وبحلول
الوقت الذي وصَلَ فيه فرويد إلى كتابة نصِّ «ملاحظة على لوح كتابة
باطن»؛ كان قد أثبت بما لا يدَعُ مجالًا للشكِّ أنَّ أعمال الجهاز
النفسي ليست بحدِّ ذاتها متاحةً للنفس. فذلك الجهاز هو الذي
«يتلقَّى» المثيرات من العالم الخارجي، على حين تكون النفس
«محميَّة» من هذه المُثيرات. فما نفكر فيه بوصفه «إدراكًا حسيًّا»
perception هو، دائمًا، نقشٌ
inscription فعلًا. وإذا كانت
المثيرات تؤدِّي إلى «آثار ذاكرة»
memory-traces دائمة — علامات
ليست جزءًا من ذاكرة واعية conscious
memory وستشكل لعبةَ النفس بمعزل عن وقت تلقي
المثيرات — فلا يوجد إدراكٌ حسيٌّ واعٍ. و«تنشأ ظاهرة الوعي
متعذَّرةَ التفسير [دوريًّا وعلى غير انتظام] في نظام الإدراك
الحسِّي بدلًا من الآثار الدائمة» (GW XIV. 4-5, SE XIX. 228).
وإذن، هناك فتراتٌ لا يجري فيها تنشيطُ نظام الإدراك الحسِّي، وذلك
على وجه التحديد عندما يُحدَّد التأسيس الدائم للنفس. وفترات
تنشيطه الفعلي هي التي تمنحنا الإحساس بالزمن. «يبدو أن فكرتَنا
المجرَّدة عن الزمن مشتقةٌ بأكملها من طريقة عملِ نظامِ وعي
الإدراك الحسِّي، ومتوافِقة مع إدراكٍ حسِّي [وعي ذاتي] من جانبه
لذلك النَّهج في العمل» (GW X III. 28, SE XVIII 28). وفي نصِّ
«ملاحظة على لوح كتابة باطن»، يقوِّض فرويد حِصنَ الذاتية الأوَّلي
— استمرارية الإدراك الحسِّي للزمن — تقويضًا أجرأَ وأكثرَ
تردُّدًا معًا؛ فإحساسنا باستمرارية الزمن هو وظيفةٌ لنشاط الفترات
المتقطِّع في آلة الإدراك الحسِّي، وللحقِّ ليس الإدراكُ الحسِّي
أكثرَ من عمل تلك الآلة: «وتكمن هذه الطريقة المتقطِّعة لعمل نظامِ
وعيِ الإدراك الحسِّي في صميمِ تكوين [ظهور بدلًا من أصل] مفهوم
الزمن» (GW
XIV. 8, SE XIX.
231). وهكذا، يكون الإدراك الحسِّي «كتابة
أصلية منقوشة» داخل موضوعات النفس الفرويدية. ويصبح الزمنُ، الذي
هو طبقًا لكانط «شكل الحدس» الضروري ذو الامتياز، علامةَ «اقتصاد
الكتابة» (ED
334, FF
112) على لوحِ كتابة النفس الباطن.
لقد فكَّك نيتشه الذاتَ السيِّدة بانتقاده السببيةَ والجوهر.
وأشار إلى جهلنا بالتفاصيل الدقيقة التي ينطوي عليها فعلٌ بشريٌّ
«واحد». ويفكِّك فرويد الذات السيِّدة بتأمُّله في تلك التفاصيل
الدقيقة.
ويفتِنُ دريدا اكتشافُ فرويد البطيء لاستعارة الكتابة؛ لأنها لا
تحتوي على الشروط المعتادة الملحَقة بها. ففي قسم «الدال والحقيقة»
The Signifier and Truth من
كتاب «الجراماتولوجي»، يناقش دريدا إحدى السمات غير المألوفة في
الاستعمال العام لاستعارة الكتابة: حتى عند استعمالها، تتباين عن
الكتابة بمعناها الحرفي. ﻓ «الكتابة في الفَهْم العام هي الحرف
الميت، حاملة الموت [لأنها تدلُّ على غياب المتكلِّم] … ومن وجهة
نظرٍ أخرى، وعلى الوجه الآخر للعبارة نفسها، تكون الكتابةُ في
معناها الاستعاري، الكتابةُ الحية والإلهية والطبيعية، مُبجَّلةً؛
مساويةً في سموِّها لأصل القيمة، لصوت الضمير بوصفه قانونًا
إلهيًّا، وللقلب، والوجدان، وما إلى ذلك» (١٧، ٢٩). ولأنَّ البَشَر يحتاجون إلى تعزية أنفسهم
بمفاهيم الحضور؛ فيجب أن تُنبَذ الكتابة في معناها الحَرْفي
الدالِّ على غياب المؤلِّف الفعلي، حتى عندما «تُقبَل» بوصفها
استعارة. واستعمال فرويد لاستعارة الكتابة غيرُ ملوَّث بهذا
التعامل المزدوِج. فللحقِّ، يتكهَّن فرويد بأنَّ منزل الحضور الفخم
نفسه، أيْ الذات المدرِكة، يتشكَّل بالغياب و-الكتابة.
لقد وجد سياجُ الميتافيزيقا أصلَ دراسته ومنتهاه في الحضور.
وتحرَّك مُسائلو ذلك السياج — ومنهم نيتشه وفرويد وهيدجر — نحو
الإفصاح عن الحاجة إلى استراتيجية «تحت الشطب». نيتشه يضع
«المعرفة» تحت الشطب، وفرويد يضع «النفس» تحت الشطب، وهيدجر يضع
«الوجود» صراحةً تحت الشطب. وكما أوضحتُ سابقًا، اسمُ هذه البادرة
التي تمحو حضور شيءٍ مع إبقائه مقروءًا رغم ذلك؛ هو في قاموس دريدا
«الكتابة»: بادرة تحرِّرنا من السِّياج الميتافيزيقيِّ وتحرسنا
داخله في آنٍ.
ولا يضع فرويد النفس تحت الشطب بإعلانِ أنها مسكونةٌ بآخرَ جذري،
لا ولا بإعلان أنَّ الإدراك الحسِّي والزمنية هما وظائفُ كتابةٍ
فحسب، وإنما يضعها أيضًا بمساءلاته العديدة الصريحة لقصة العقل
الطوبولوجية نفسها التي يستعملها باستمرار. ولا يبدو صحيحًا أنَّ
نماذجَ فرويد المختلفة للنظام النفسي غيرُ إشكالية، لا ولا يبدو
صحيحًا تسميتُها: ««وجهات نظر» متغيِّرة يستعملها ليمثِّل النظام النفسي.»
٥٩ فالنقطة الأساسية، ها هنا، أنَّ فرويد يستعمل صورة
النفس الدينامية (لعبة القوى)، أو صورتها الوظيفية؛ ليلغي تقريبًا
الصورة الطوبولوجية. وبرغم ذلك يستعمل الصورةَ الطوبولوجية أوسعَ
استعمال؛ خفَّة يدٍ نموذجية في استعمال «تحت الشطب». فهو لا يكتب
قائلًا إنَّه ﺳ«يتجنب حذِرًا إغراءَ تعيين الموقع النفسي بأيِّ
شكلٍ تشريحيٍّ» فحسب (
GW II-III 541, SE V. 536)؛ وإنما يشير أيضًا
إلى أنه حتى داخل الطوبوغرافية النفسية «المفترضة»:
الفكر اللاواعي الساعي إلى نقل [ترجمة] نفسه [بعد
الترجمة] إلى ما قبل الوعي حتى يكون قادرًا على شقِّ طريقه
عابرًا إلى الوعي … ليس تشكيلًا لفكرٍ ثانٍ يقع في مكانٍ
جديد، مثل نسْخٍ يستمرُّ موجودًا إلى جانب الأصل؛ ويجب أن
يبقى مفهومُ شقِّ طريقٍ عابرٍ إلى الوعي متحرِّرًا برويَّة
من أيِّ فكرةٍ تتعلَّق بتغييرِ الموقع … فما نفعله هنا هو
— مرةً أخرى، وفي الحال — أن نستبدل بالوسيلة الطوبولوجية
لتمثيل الأشياء وسيلةً ديناميَّة … وبرغم ذلك أرى من
المناسب والمبرَّر الاستمرار في استعمال صورةٍ مجازيةٍ
للنظامَين (GW II-III. 614-15, SE
610-11).
وبعد حوالي خمسة عشر عامًا، يكتب فرويد عن اللاوعي فيؤكِّد لنا
قائلًا: «ستُخيِّب دراسةُ مشتقات اللاوعي، تمامًا، توقُّعاتنا بشأن
التمييز الواضح تخطيطيًّا بين النظامَين النفسيَّين»
(GW X.
289, SE XIV.
190).
وبرغم ذلك، يستمرُّ استعمال القصة الطوبوغرافية؛ لأنَّها، فيما
أرى على وجه التحديد، طوبوغرافيةٌ قابلةٌ للتمثيل بيانيًّا: «بنية»
بهذا المعنى الأرثوذكسي. لقد فكَّك فرويد سيادة الذات، ويَسمح له
وصفُه الطوبوغرافي بافتراضِ إنتاجِ تلك الذات في بناء نصِّ النفس.
وسيقول دريدا: «من الضروري فقط إعادةُ النَّظر في مشكلة تأثير
الذاتية كما تنتجها بنيةُ النص» (Pos F 122, Pos E
45).
ويقول فرويد: «أفترض أنه عندما ننجح في وصف عمليةٍ نفسيةٍ من
جوانبها الدينامية والطوبوغرافية والاقتصادية؛ ينبغي أن نتحدَّث
عنه على أنه تقديم ميتاسيكولوجي» (GW X. 281, SE XIV. 181).
ومفهوم التقديم «الاقتصادي» لعمليةٍ عقليةٍ وثيقُ الصِّلة بقراءة
دريدا.
الاقتصاد استعارة طاقة؛ حيث تشكِّل قوتان متضادتان تلعبان
إحداهما ضدَّ الأخرى ما يُسمَّى هُويَّة الظاهرة. وفي «التقديمات
الميتاسيكولوجية» عند فرويد، يأتي خطُّ النَّهْج الاقتصادي لتعديل
النَّهْجَين الطوبوغرافي والدينامي، برغم أنَّ الأوصاف الأخرى —
كما أشرتُ أعلاه — لا يجري التخلِّي عنها أبدًا. ﻓ «الأمور
النهائية التي يمكن أن يتعلَّم بشأنها البحثُ السيكولوجي شيئًا
[هي] سلوك غريزتَين أوَّليتَين وتوزيعهما واختلاطهما وانشطارهما؛
أمورٌ لا نستطيع التفكير فيها بوصفها مقتصرةً على منطقةٍ واحدة في
الجهاز العقلي، الهُو the id أو
الأنا ego أو الأنا الأعلى
super-ego. فنحن لا نستطيع
تفسير التعدُّدية الغنيَّة [تعدُّد الألوان، التلوُّن] في ظواهر
[مظاهر، أطياف] الحياة إلا بوساطة فعلٍ متزامِن أو متضادٍّ على
نحوٍ تبادُلي.» وبعبارة أخرى، اقتصادٌ «لغريزتَين أوَّليتَين —
غريزة الإيروس Eros وغريزة الموت
death instinct — لا بوساطة
واحدة منهما من دون الأخرى» (GW X VI. 88-89, SE XXIII,
242-43).
ليس الاقتصاد مصالحةً بين الأضداد، بل حفاظٌ على الانفصال
بالأحرى. فالهُويَّة التي يؤسِّسها الاختلاف هي اقتصاد. وفي عالَم
فرويد، يجري الحفاظ على تسلسُل الأفكار من خلال ضدها، حيث تنطوي
وحدة المعنى على إمكانِ ضدِّها: «كلُّ سلسلةٍ من الأفكار يكاد
يرافقها دائمًا نظيرُها الضدُّ، فترتبط به عن طريق رابطةٍ طِباقية»
(GW
II-III. 316, SE IV.
312). فالسَّواء
normality — «خيال مثالي»
(GW
XVI. 80, SE XXIII,
235) — والعُصَاب
neurosis شريكان: «لا يجِدُ
البحث التحليلي النفسي فروقًا أساسية، بل كَمية فقط، بين الحياة
السَّوية والحياة العُصابية … ويجب علينا الاعتراف بأنَّ
الميكانيزم النفسي الذي يستخدمه العُصاب لا ينشأ بتأثير اضطراب
باثولوجي [مَرَضي] في العقل، بل هو موجودٌ فعلًا في بنية الجهاز
العقلي السَّوية» (GW II-III. 378, 613; SE V. 373, 607). وسيقول
فرويد، متبِعًا استراتيجيةً مماثِلة، بعد أن يطوِّر بعناية
التضادَّ بين مبدأ اللذة pleasue
principle وغريزة الموت death
instinct: «يبدو أنَّ مبدأ اللذة يخدم حقًّا
غرائزَ الموت» (GW XIII. 69, SE XVIII. 63). وتُعرَض غريزة
الموت نفسُها من منظورٍ اقتصاد جريء للحياة والعَطالة
inertia: «العَطالة أصيلةٌ في
الحياة العضوية» (GW XIII 38, SE XVIII. 36). ولن نتفاجَأ
عندما يقترح فرويد اقتصادًا للجسد والعقل: «يجري أيضًا توفير نشاط
التفكير من خلال التسامي
sublimation بالقوى الإيروسية
المحفِّزة» (GW
XIII. 274, SE XIX.
45). ولسْنَا هنا داخل إطارِ تفكيكِ الأضداد
والإبقاء عليها فقط، الذي يجِدُه دريدا متوائمًا عند نيتشه أيضًا؛
فهذه الفقرة الأخيرة تقدِّم، للحقِّ، ما يسمِّيه نيتشه «سيكولوجيا
جديدة»؛ إذ يُشير إلى الحاجة إلى الجمع بين «الفيلولوجيا»
(جينالوجيا اللغة) و«الفسيولوجيا» (مجال الإيروسية).
لقد ذكرتُ أعلاه الحُجة الفرويدية القائلة إنَّ تشكيل آثارٍ
دائمةٍ في الجهاز النفسي يَحول دون إمكان الإدراك الحسِّي
المباشِر. ويقول دريدا رابطًا آليةَ التأجيل هذه باقتصاد الأضداد:
«توافُقًا مع مخطَّطٍ يوجِّه باستمرار تفكيرَ فرويد؛ توصف حركةُ
الأثَر بأنَّها مثابَرةُ الحياة لحماية نفسها بتأجيل deferring الاستثمار الخَطِر،
وتكوينِ احتياطي (مخزون Vorrat).
وكلُّ الأضداد المفاهيمية التي تُشقِّق الفكرَ الفرويدي، تربط كلَّ
مفهومٍ بالآخر فيما يُشبه حركات الْتفافٍ ودورانٍ وانعطافٍ
detour، داخلَ اقتصادِ
الاختلاف المُرجِئ differance. فكلُّ مفهومٍ ليس سوى
المفهومِ الآخر مؤجَّلًا deferred،
وكلُّ مفهومٍ يختلف differing عن
الآخر» (MP
19-20, SP
150).
وهذه الفقرة مأخوذةٌ من مقال «الاختلاف المُرجِئ»
La différance. وتؤكِّد حضورَ
فرويد في الإفصاح عمَّا يقترب من أنْ يصبح مفهوم دريدا الرئيس:
«الاختلاف المُرجِئ» differance بحرف
a. ودعونا نركِّز على ثلاثِ
لحظات في هذا الاقتباس: detour، deferring، differing. سبَقَ أن تحدَّثتُ عن الآخر الذي يكون
مختلفًا وغير متطابق دائمًا. أضِفْ إلى هذا بنية التأجيل المستمرِّ
perennial postponement لمَا
لا يتأسَّس إلا عبْرَ التأجيل. وكلاهما معًا — «الاختلاف»
difference و«الإرجاء»
deferment — حاضران في الفعل
الفرنسي «différer»، وكلاهما
«خاصَّتان» للعلامة تحت الشطب under
erasure؛ وهو ما يسمِّيه دريدا «الاختلاف
المُرجِئ». وهذا الاختلاف المُرجِئ — كونه بنيةَ نفسنا
our psyche (بنية لا توجد
فعلًا، ولا ندركها، وهي نفسها مؤجَّلة ومختلفة) — هو أيضًا بنية
«حضور» presence، وكلمة «حضور»
بحدِّ ذاتها تحت الشطب؛ وذلك لأنَّ الاختلاف المُرجِئ — الذي
يُنتِج البنيةَ الاختلافية لتشبُّثنا ﺑ «الحضور» والاستمرار فيه —
لا يُنتِج الحضورَ بحدِّ ذاته أبدًا.
بنية «الحضور» يؤسِّسها، إذن، الاختلاف والإرجاء. ولكن بما أنَّ
«الذات» التي «تدرك» الحضورَ متأسِّسة على نحوٍ مماثِل أيضًا؛
فإنَّ الاختلاف المُرجِئ differance ليس
إيجابيًّا فاعلًا active ولا
سلبيًّا منفعِلًا passive.
واللاحقةُ «-ance» علامةٌ على هذا
الوضع المعلَّق. وبما أنَّ الاختلاف
difference بين
“difference”
و“differance” جِد خافت يتعذَّر
سماعه؛ تذكِّرنا هذه «الكتابة غير المألوفة»
neographism بأهمية الكتابة
بوصفها بنية. فالحرف a يعمل على
تذكيرنا بأنَّه حتى داخل البنية الخطية، تغيب دائمًا الكلمة
المُتهجَّاة كلُّها، وتتشكَّل عبْرَ سلسلةٍ لا تنتهي من أخطاء
الهجاء.
ويَعزو دريدا، في مقاله «الاختلاف المُرجِئ»، فكرَ الاختلاف
المُرجِئ إلى نيتشه وفرويد وهيدجر. ولكنَّه يبدو أكثرَ تأثُّرًا
بالاختراق الفرويدي Freudian
breakthrough. ويَظهر أنَّ الانفصال بين
الإدراك الحسِّي والأثر الدائم permanent
trace يجعل الفكرَ نفسَه اختلافًا مُرجِئًا
للإدراك الحسِّي. وكذلك الاشتراك أو التواطؤ بين الكائن الحيِّ
وعَطالة الحالة غير العضوية يجعل الحياةَ اختلافًا مُرجِئًا للموت
(ED
333 n., FF 112
n.). ومن خلال هذه الاستبصارات الفرويديَّة،
ومفهوم فرويد عن أنَّ إدراكنا الحسِّي لآثار اللاوعي يحدُث «بعد
الحدث» بفترة طويلة؛ يعزِّز دريدا ما رصَدَه في بناء الحاضر المعيش Living
Present عند هوسرل في مقدمة ترجمته كتاب «أصل
الهندسة»، ألَا وهو «وعي التأجيل الخالص» (p.
171).
يقتبس دريدا من كتاب «ما وراء مبدأ اللذة»
Beyond the
Pleasure Principle الفقرة
الآتية: «بتأثير غرائز الأنا في الحفاظ على الذات، يُستبدَل بمبدأ
اللذة مبدأُ الواقع
reality
principle. ولا يتنازل مبدأُ الواقع عن نيَّة
الحصول على اللذة في نهاية المَطاف، ولكنَّه يطالب مع ذلك بتأجيل
الإشباع وينفِّذه، فيتخلَّى عن عددٍ من إمكانات الفوز بالإشباع
ويحتمل مؤقتًا عدمَ اللذة بوصفه خطوةً على الطريق الطويل غير
المباشر إلى اللذة (أي إرجاءها).» ويربط دريدا بين هذا التأجيل
(الإرجاء) و«العلاقة بالآخر المطلق [الاختلاف المُرجِئ] الذي
يفكِّك على ما يبدو أيَّ اقتصاد» بمناقشةٍ كالآتية:
لا يعني الطابع الاقتصادي للاختلاف المُرجِئ، بأيِّ حال
من الأحوال، أنَّ الحضور المؤجَّل يمكن استعادته دائمًا،
وأنه يمثِّل ببساطة استثمارًا يؤجِّل
delay، مؤقتًا فحسب
ومن دون خسارة، تقديمَ الحضور … فاللاوعي ليس … حضورًا
للذات خفيًّا وافتراضيًّا واحتماليًّا … فلا فرصة لأنْ
«توجد» ذاتٌ مفوَّضة في مكانٍ ما، وأن تحضر أو تكون «هي
نفسَها»، والأقلُّ احتمالًا أن تكون واعيةً … فهذا الآخر
الجذريُّ المُزاح عن كلِّ طريقةِ حضورٍ ممكنة، يتميَّز
بتأثيراتٍ مؤجَّلة. ولكي نصِفها، ولكي نقرأ آثارَ الآثارِ
«اللاواعية» (وما من آثار «واعية» [لأنَّ الآثار يجري
تمييزها، على وجه التحديد، عندما لا يوجد إدراكٌ حسيٌّ
واعٍ])؛ لا تكفي من حيث المبدأ لغة الحضور أو الغياب، لا
يكفي خطاب الفينومينولوجيا الميتافيزيقي
(MP
21. SP
152).
ولا بد أن أكرِّر هنا، ببعض التعديلات، سؤالًا أثرتُه في نهاية
مناقشتنا لنيتشه، ولعلِّي أحاول تقديمَ إجابةٍ جزئيةٍ عنه؛ سؤال
السيادة عبْرَ المعرفة عند دريدا. لقد اكتشف نيتشه الحاجة إلى
تعزيز الانفصال والتفكُّك، وحبِّ المصير، ورعاية عشق القدَر.
ولكنَّ تعبيره الخاص عن فكره وفعله يُلقيان المسئوليةَ على كاهلِ
ذاتٍ يجادل ضدَّ وجودها. ومن ثَم، يصبح نصُّه ملعبًا عنيفًا
ومتعمَّدًا للاختلاف المُرجِئ. وقد أتاح فرويد لدريدا الاعتقادَ
بأنَّ الحركة الفلسفية لا تقتضي بالضرورة عنفًا نيتشويًّا. يكفي
ببساطة إدراكُ أنَّ المرء يتشكَّل عبْرَ الاختلاف المُرجِئ، وأنَّ
«الذات» تتشكَّل من خلال كونها غير مدرَكةٍ تمامًا. وليس من الواجب
علينا رعاية النسيان أو حُب المصادَفة؛ فنحن لعبةُ المصادفة
والضرورة. ولا ضررَ في إرادة المعرفة؛ لأنَّ إرادة الجهل تلعب معها
لتُشكُّلها. فإذا كنَّا نتوق إلى المعرفة؛ فنحن نتوق أيضًا، بشكلٍ
واضح، إلى أن نكون مخدوعين؛ لأنَّ المعرفة تخدع. ومن ناحية أخرى،
رأى نيتشه «النسيانَ
الفعَّال لسؤال الوجود» حماسةً هائلة. ولعلَّه
برغم كلِّ شيءٍ اختلافٌ في فروقٍ دقيقةٍ مجازية. إذ يَكمُن فَهْم
دريدا لمِثل هذا النسيان — من خلال بحث فرويد في الذاكرة — في أنه
إيجابيٌّ فاعل في تشكيلِ «ذواﺗ»نا
our
“selves” على الرغم من «ذواتنا»
ourselves؛ فنحن مستسلمون
لنقْشِه. ولعلَّ ما يميِّز «دريدا» على المدى الطويل، كما ذكرتُ،
أنَّه
يعرف أنه مستسلم دائمًا، بالفعل، للكتابة وهو يكتب. ومعرفته
هي قوَّته برغم كلِّ شيء. ومن المفارقات أنَّ نيتشه كان
يعرف حتى
هذا، بحيث كان نسيانُه الإثباتي الإيجابي الفاعل (المعرفة) حركةً
ضدَّ حتميَّة المعرفة التي تفخر بنفسها عَرَضيًّا عند التذكُّر.
ومن الغريب أنْ يعلِّق دريدا مِرارًا وتكرارًا، في حديثه إلى جون
لوي هودبين عن استراتيجيته في مقابلةٍ معه، قائلًا: «ولكنِّي أعرف
ما أفعل.»
٦٠ فليس من السهل التملُّص من إرادة القوة. ومن الغريب
أيضًا أن يتحدَّث دريدا كثيرًا عن لعب نيتشه المتفجِّر والإثباتي
والمفتوح، على حين يتحدَّث نادرًا عن تحليل فرويد للعب بوصفه
بادرةَ تقييدٍ للقوة؛ وأهمُّه في تعليقات فرويد على لعبة
«ذهبتْ-عادت»
fort-da حيث يخضع
اقتصادُ الحضور والغياب نفسه للسيطرة (
GW XIII. 11–15, SE XVIII.
14–17).
وبرغم ذلك، إذا تَهيَّبنا خطاب دريدا فلَنْ نستطيع معرفةَ حقيقته
بهذه السهولة. ما الذي يُظهِره سوى أنَّ دريدا عالقٌ ومحتَجزٌ في
السِّياج الميتافيزيقي حتى عندما يسائله، وأنَّ نصَّه ككلِّ النصوص
الأخرى، مفتوحٌ لتفسيرٍ مُفاده أنه فعَلَ الكثير حتى يصِفه؟ لم
ينجح دريدا في تطبيق نظريته على أكمل وجه؛ لأن التطبيق الناجح
مؤجَّل إلى الأبد. الاختلاف المُرجِئ/الكتابة/الأثر بوصفها بنية؛
لا تقلُّ عن إفصاح حصيفٍ عن لعبة المعرفة والنسيان
النيتشوية.
(وبعد هذه الكتابة، استمعتُ إلى محاضرات دريدا التي لم تُنشَر
بعدُ عن فرانسيس بونج
Francis
Ponge وهيدجر، والتي ألقاها في جامعة ييل خريف
عام ١٩٧٥م، حيث يُثير فيها دريدا نفسُه سؤالَ الاختلاف المُرجِئ
والسيادة بوصفه سؤالَ الرغبة في التفكيك.
٦١ وسأقدِّم مناقشته بإيجازٍ في نهاية القسم الرابع من
هذه المقدمة.)
•••
يتلقَّى دريدا من فرويد نَهْجًا فِعليًّا لفكِّ الشفرة بالمعنى
الضيِّق. وأحد الفروق المهمَّة بين نَهْج «التدمير والهدم
destruction» الهيدجري و«تفكيك
de-construction» دريدا؛ هو
اهتمام دريدا بالتفاصيل الدقيقة في النَّص، لا بالتركيب والبناء
فقط وإنما بأشكال الكلمات وتَمَظهُراتها فيه أيضًا. دريدا مفتونٌ
بفكرة فرويد عن أنَّ الأحلام تُعامِل «الكلمات» بوصفها «أشياء».
ويظلُّ النَّهج التحليلي المستعمَل في الباب الثاني من كتاب
«الجراماتولوجي» محافظًا تجاه وجهةِ النظر هذه، ويحترم عمومًا
حدودَ الكلمة في حدِّ ذاتها. ولكنَّ دريدا منذ كتابه «الانتثار»
La
dissemination بدأ يلاحظ لعبة
الكشف revelation والحجب
concealment موجودة في
أجزاء من كلماته
المفردة. ويصبح هذا الميل منتشرًا في كتابه «نواقيس»
Glas؛ حيث كثيرًا ما يجري استحضار
وحدات الصوت/وحدات الكتابة التي تُشكِّل الكلمات، في رقصةٍ
مستقلَّة. فيمضي دريدا عبْرَ نَهْج فرويد المتطرِّف في الاهتمام ﺑ «تركيب وبناء» نصِّ
الحُلم. وأقدِّمُ أدناه ملخِّصًا هيكليًّا
لنَهْج فرويد الثري المعقَّد.
يعدِّد فرويد في كتابه «تفسير الأحلام» أربع تقنيات يوظِّفها
عملُ الحُلم في الجهاز النفسي ليُحرِّف
distort أو «يَحرِف»
refract أفكار الحُلم (المحتوى
النفسي) لإنتاج كتابة الحُلم التصويرية: التكثيف
condensation والإزاحة
displacement واعتبارات قابلية
التمثيل
considerations of
representability والمراجعة الثانوية
secondary revision. ويمكن
ترجمة «التكثيف» و«الإزاحة» بلاغيًّا إلى استعارة
metaphor وكناية
metonymy.
٦٢ أمَّا «اعتبارات قابلية التمثيل» فتشير إلى تكنيك
يُحرِّف الفكرة بحيث يمكن تقديمها بوصفها صورةً. ويستدعي وصفُ
فرويد ﻟ «المراجعة الثانوية» كلماتِ نيتشه عن إرادة القوة الساعية
إلى الحفاظ على التوحيد، وكذلك وصف دريدا للنَّص بوجهٍ عام:
«الحُلم كتلةٌ مختلِطةٌ يجب، لأغراض البحث، تقسيمها مرةً أخرى إلى
شظايا … وتعمل القوة النفسية في الأحلام فتخلق هذا الترابطَ الظاهر
… وتقدِّم المادةَ التي يُنتجها عمل الحُلم إلى «المراجعة
الثانوية»» (
GW
II-III. 451-52, SE V.
449). وسأستأنف مسألةَ فرويد والنصيَّة
لاحقًا.
هذه الفكرة القائلة إنَّ النَّص اللفظي يشكِّله الحَجْب بقَدْر
ما يشكِّله الكشف، وأنَّ الحجب هو نفسه كشفٌ والعكس صحيح؛ تُقرِّب
بين نيتشه وفرويد. إذ يفترض فرويد أيضًا أنه حيثما لا تكون الذات
مُسيطِرةً على النَّص. وحيثما يبدو النَّص فائقَ الانتظام أو فائقَ
الطَّيْش؛ فتلك هي اللحظة التي يثبِّت فيها القارئُ نظرَه، بحيث لا
يقرأ فحسب وإنما يفكُّ شفرة النص، ويرى لعبَه داخلَ نصيَّة مفتوحة
للفكر واللغة. ينطوي داخلها على حدودٍ مغلَقةٍ مؤقَّتًا فحسب.
ويفهم فرويد هذه الفكرة على النحو الآتي: «كثيرًا ما توجد فقرة،
حتى في الحُلم الذي يجري تفسيره كلُّه، يجب تركها غامضةً … عند تلك
النقطة يوجد تشابُك في أفكار الحُلم لا يمكن حلُّه، ولا يضيف شيئًا
إلى معرفتنا بمحتوى الحُلم.» وهكذا، يمكن صياغة «تقدُّم» دريدا على
فرويد: لا يمكن حلُّ هذا التشابك من منظورِ محتوى نصِّ الحُلم داخل
الحدود التي وضَعَها بنفسه، ولا يضيف إليه شيئًا. وبرغم ذلك، إذا
لم يكُن لدينا شيءٌ يَئُول إلى هُويَّة نصِّ الحُلم الافتراضية؛
ففي هذه الفقرة يمكننا أن نعيِّن مؤقتًا لحظةَ انتهاك النَّص
للقوانين التي يبدو أنه وضَعَها لنفسه، ومن ثَم تفسُّخ — تفكيك —
النَّص نفسه. وذلكم يلقي ضوءًا على سطورٍ عند فرويد تلي الفقرةَ
السابقة: «هذه هي سُرَّة الحُلم dream’s
navel، الموضع الذي يصل فيه إلى المجهول.
أفكار الحُلم … لا يمكن … أن تكون لها أيُّ نهاياتٍ محدَّدة؛ إنها
تتَّجه إلى التشعُّب في كلِّ اتجاه نحو الشبكة المعقَّدة لعالَمنا
الفكري» (GW
II-III 530, SE V.
525).
ومن الصعب إبراز العلاقة الوثيقة، وإنْ كانت غيرَ مباشِرة
بالضرورة، بين نَهجَي فرويد ودريدا في التفسير النَّصي من دون
الخوض في تفاصيلَ إضافية. وبرغم ذلك، كما يقول دريدا نفسُه، ليس
كتابه «في علم أنساق الكتابة» ونصوصه السابقة سوى افتتاحٍ للمشاركة
في التناصِّ الفرويدي Freudian
intertextuality على وجه التحديد. فالاستثمار
الإيروتيكيُّ للكتابة عند الأطفال يُثير اهتمامه في هامشٍ طويلٍ في
الصفحة ١٣٢ (٣٣٣). وإنَّ الإسهاب
في موضوعات الاستمناء masturbation
والكتابة، وموضوعات سمة التكملة والإنابة
supplementarity في سلسلة
بدائل الأم، كما يعيِّنها دريدا في نصِّ روسُّو؛ لَهوَ تيماتٌ
تحليليةٌ نفسية بمعنًى عامٍّ للغاية فحسب. وبطبيعة الحال، ينبغي أن
يكون واضحًا تمامًا، حتى على مستوًى عامٍّ كهذا، أنَّ دريدا لن
يستعمل نَهجًا تحليليًّا نفسيًّا ليُرشدنا إلى «مدلول سيكوبيوجرافي
يصبح ارتباطه بالدالِّ الأدبي حينئذٍ خارجيًّا وعَرَضيًّا»
(٢٢٨-٢٩، ١٥٩). وللحقِّ، يحثُّ
دريدا في هذا العمل المبكِّر على أهمية التحليل النفسي لعلم أنساق
الكتابة [الجراماتولوجي]، الذي كان قد حرَّر نفسَه من موقفٍ يرى
كلَّ النصيَّة textuality مصدرًا
للأدلة الموضوعية يمكن الاستغناء عنه. ويصبح استعمالُ بنياتِ
التحليل النفسي الجنسية بوصفها أداةَ تفسير؛ أوضحَ بشكلٍ مطَّرِد
في أعمال دريدا اللاحقة. والمثال على ذلك مقاله عن نيتشه الذي
يعلِّق على «سؤال الأسلوب» بوصفه «سؤال المرأة». وينال دريدا-فرويد
حقَّه كاملًا في كتاب «نواقيس» على نحوٍ أشدِّ إقلاقًا. وسأتناول
تعديلَ دريدا لموضوعة الإخصاء
castration من حيث العلاقة
بقراءته جاك لاكان Jacques
Lacan.
يحذِّرنا دريدا في ملاحظةٍ رئيسةٍ تتصدَّر مقاله «فرويد ومشهد
الكتابة»، من أنَّ تأسيس الجراماتولوجيا عبر الاعتراف ﺑ «الكبت»
repression المنظَّم للكتابة
طوالَ تاريخ الغرب لا يمكن عَدُّه مسعًى تحليليًّا نفسيًّا على
نطاقٍ ضخم. وذلك لأنَّ حاجة فرويد إلى وصف تعايُش نصِّ النفس
المزدوِج (على الأقلِّ) من منظور محتوياتٍ كامنةٍ وظاهرة، أو في
حقيقة الأمر الكبت والتسامي، هي نفسها عالقةٌ في شَرَك مصطلحات
الأضداد الثنائية binary
oppositions المشكوكِ فيها. والأكثرُ من هذا
أنَّ نمطَ الكبت ذاته في الفرد لا يمكن أن يكون ممكنًا إلا بسبب
حاجته إلى رفضِ كلِّ ما يُعترَف بأنَّه مسكونٌ ببنيةِ الكتابة:
الإخصاء (فقدان السيادة) وحَسَد القضيب
penis-envy (الخوف من الغياب).
وسأقدِّم لاحقًا حججَ دريدا المضادَّة: الانتثار وغشاء البكارة
hymen. ولا يمكن استبعاد فرويد
من دون تردُّد. هل أَحسَّ هو نفسُه بهذه الحاجة إلى رفض الكتابة؟
يُنهي دريدا مقاله «فرويد ومشهد الكتابة» بهذا الاقتباس من مقالةِ
فرويد «كفٌّ وعَرَض وقلَق» Inhibitions, Symptoms,
and Anxiety: «ما إنْ تفترض الكتابةُ، التي
تتطلَّب جَعْل سائلٍ يتدفَّق من أنبوب على قطعةِ ورقٍ أبيض، دلالةَ
الجِماع copulation، أو ما إنْ
يصبح المشيُ على الأرض بديلًا رمزيًّا لوطء جسد الأرض الأم؛ حتى
يجري إيقاف الكتابة والمشي على السواء لأنهما يمثِّلان أداءَ فعلٍ
جنسي محظور» (GW XIV. 116, SE XX. 90). وفي غضون ذلك،
تبقى الكلمةُ ضدَّ فرويد: «ضرورة القيام بعملٍ هائلٍ لتفكيك هذه
المفاهيم والعبارات الميتافيزيقية المتكثِّفة والمترسِّبة لديه»
(ED
224). وللحقِّ، يمكن أن تكون هذه الكلمة هي
الكلمة الباقية أبدًا ضدَّ كلِّ بوادر الاستسلام للأسلاف: وأنت
تتَّبعُ فكِّكْ أيضًا؛ لأنه وأنت تُفكِّكُ لا بدَّ أن
تتَّبعَ.
أُؤكد … أنَّ نصَّ هيدجر ذو أهميةٍ قُصوى، وأنَّه يشكِّل تقدُّمًا غير مسبوقٍ
ولا رجعةَ فيه، ولا نزالَ جِد بعيدَين عن استثمار موارده النقدية … [وبرغم ذلك
هناك] عباراتٌ يُربكني اضطرابُها. وعلى سبيل المثال لا الحصر: «الجراماتيقا
الدريدية Derridian grammatics»، «مُنمْذَجةٌ»
في خطوطها العريضة، وَفقَ استعاراتٍ هيدجريةٍ، تسعى إلى «تفكيكها» مستبدِلةً ﺑ
«حضور اللوجوس» أسبقيةَ الأثر؛ وذلكم على نحوٍ تصبح معه الجراماتيقا الدريدية
أنطوثيولوجيا onto-theology تستند إلى الأثر
بوصفه «قاعدﺗ»ﻬﺎ أو «أساﺳ»ﻬﺎ أو «أﺻﻠ»ﻬﺎ (Pos F 73, 70, Pos EI 40,
39-40).
يوضِّح دريدا — معترِضًا على إليزابيث رودينسكو
Elisabeth Roudinesco التي
اقتبسَها أعلاه — علاقته بهيدجر، ويحذِّر من توصيفاتٍ زائفة لها.
وقد تأمَّلتُ سابقًا انخراطَه في استعمال «تحت الشطب» الهيدجري
وإعادة كتابته له، واستخدامه هيدجر بوصفه منظورًا لقراءة نيتشه.
والآن، أُلقي نظرةً سريعةً على جانبٍ آخرَ من إعادة كتابة دريدا
لهيدجر: نَهْج التفكيك كما تمارسه الميتافيزيقا الهيدجرية.
ما يرفضه دريدا في وصف رودينسكو؛ أنْ توصف «الجراماتولوجيا»، وهي
علمُ شطب الأثر، بأنَّها مُنمذجَة وَفقَ «الميتافيزيقا» وهي علم
الحضور؛ وأن تُسمَّى «أنطوثيولوجيا» وهو علم الوجود والله بوصفهما
حضورَين منظِّمَين؛ وأن يُسمَّى «الأثر» وهو علامة الأسبقية
الجذرية تسميةً مغلوطةً على أنه «أصل». سنتنبَّه إلى هذه الأخطاء
ونتجنَّبها، ونواصل القول كما يفعل دريدا بشأن «الاختلاف
المُرجِئ»: «عبْرَ تأسيس هذه العلاقة بين نظام مقيَّد
[الميتافيزيقا الهيدجرية] ونظام عام [الجراماتولوجيا]»، «يغيِّر»
دريدا «مشروع الفلسفة نفسه ويحوِّله مستأنفًا إيَّاه»
(MP
21, SP
151).
ويشير هيدجر فعلًا إلى العلاقة بين طرائقه والطرائق
الجراماتولوجية، بتجاهُله سُلطة النَّص المرجعية في ممارسته
القراءة. فعندما «يقرأ» هيدجرُ هيجلَ أو كانط أو نيتشه، «يفحص» على
المدى الطويل «ليس ما يقوله [المؤلِّف]» بل «ما يفعله»
(
KPM G
193, KPM E
221)، ملاحِظًا البناء المستتر وانحسار
السُّلطة المرجعية
authority عن
المؤلِّف السيِّد. ويعتقد أنَّ مهمَّته هي «إرخاء وتخفيف»
«التقاليد الجامدة» ﻟ «الأنطولوجيا» عبْرَ «هدمٍ وضعي»
positive destruction،
٦٣ عبْرَ «استعادةٍ تدميريةٍ لتاريخ الأنطولوجيا تكشف عن
الطابع الداخلي» للنَّص «أو تَطوُّره» (
KPM G 194, KPM E 222). (من
المثير للاهتمام ملاحظةُ أنَّ دريدا يستعمِل في الطبعة الأولى من
كتابه «في علم أنساق الكتابة» كلمةَ
destruction [= هدم وتدمير]
بدلًا من
deconstruction [= تفكيك
وتقويض]) ويقدِّم لنا بول دي مان في وصفه إجراءَ دريدا شيئًا جِد
قريب من تلك الفقرات الهيدجرية: «نصُّه، على حدِّ تعبيره، تدميرٌ
للبناء. ومهما بدا الأمر سلبيًّا، ينطوِ التفكيك على إمكان إعادة البناء.»
٦٤ ولأنَّ المؤلف يتخيَّل نفسه صاحبَ السيادة، يشير هيدجر
إلى نقطةٍ يُعمِيه عندها مفهومُه للنَّص: «كان على ديكارت
Descartes أن يُهمل سؤال
الوجود تمامًا»، «ومذهب التخطيطية
٦٥ … كان لا بد أن يبقى مستغلِقًا أمام كانط.»
٦٦ وكالمحلِّل النفسي الذي يتحرك مع مريضه في تأرجح
«علاقة التحويل»،
٦٧ يجب على الناقد المُفكِّك أنْ «يحرِّر و… يحمي» القُوى
الجوهرية «للمشكلة» (
KPM G 185, KPM E 211). وبكلماتِ دريدا:
يجب أن تهدف القراءة دائمًا إلى علاقةٍ معيَّنة، لا
يدركها الكاتب، بين ما يسيطر عليه وما لا يسيطر عليه من
مخطَّط اللغة التي يستعملها. وهذه العلاقة ليست توزيعًا
كَميًّا للظلِّ والضوء، أو الضعف والقوة، بل بنيةٌ دالَّة
يجب أن تُنتجها
القراءة النقدية … و[من دون] كلِّ أدوات النقد التقليدي …
قد يخاطر الإنتاج النقديُّ بالتطوُّر في أيِّ اتجاه، ويعطي
نفسَه حقَّ قولِ أيِّ شيءٍ تقريبًا. ولكنَّ حاجز الأمان
هذا، الذي لا غنى عنه، يحمي دائمًا القراءة فقط، ولا
يفتحها أبدًا (١٥٨،
٢٢٧).
فَكِّك القراءةَ وأَنْتِجها، وانفتحْ على نصيَّة النص. يتشارك
دريدا مع هيدجر في هذه الإرشادات الإجرائية. وقد ساعد فرويد على
دفعِ هذا الإجراء إلى مدًى أبعد، مانحًا دريدا بعض وسائل تعيين
«سُرَّة» النَّص إذا جاز التعبير، أي اللحظة التي تكون غيرَ قابلةٍ
للحسم undecidable من منظورِ نظام
المعنى الظاهر في النَّص، لحظةً في النص يبدو أنَّها تنتهك نظامَ
قيمه. الرغبة في الوحدة والنظام تضطر المؤلف والقارئ إلى تسوية
توازُن هو نفسه نظامُ النص. ويهتك القارئ التفكيكي بنيةَ النَّص
الجراماتولوجية، كاشفًا تسرُّب «أﺻﻠ»ﻬﺎ و«غاﻳﺘ»ﻬﺎ إلى اللغة بوجهٍ
عام (ما يسمِّيه فرويد «عالَم الفكر غير المعروف»)، وذلك من خلال
تعيين لحظةٍ في النصِّ تُئْوي اختلالَ توازُنه، خفَّة يدٍ عند حدٍّ
في النَّص لا يمكنه رفضَهَا ببساطةٍ على أنَّها تناقُض. وفي قراءة
«الجراماتولوجي» لروسُّو، تكون هذه «اللحظة» هي كلمة «المكمِّل
والنائب» supplement ذات الحدِّ
المزدوِج. وفي «صيدلية أفلاطون» La pharmacie de
Platon تكون كلمة «فارماكون» [=
السم والدواء] pharmakon ذات
الحدِّ المزدوِج، وكذلك غياب كلمة
pharmakos [= كبش الفداء]. وفي
قراءة دريدا الموجزة ﻟ «فيزياء» physics IV
أرسطو الجزء الرابع، تكون هذه اللحظة هي الكلمة المتقلقِلة
ama، التي تحمل
عبء الاختلاف المُرجِئ (Dis 69–197, MP 31–78).
ويكمن أحدُ الاختلافات المهمَّة بين هيدجر ودريدا في مفهومهما عن
الزمن. فمن خلال تحليلٍ دقيقٍ لن أحاول استنساخه هنا، يوضِّح دريدا
أنَّه برغم أنَّ هيدجر سيطهِّر كانط وهيجل — في الواقع ممَّا يراه
هيدجر التقليد الأرسطي كلَّه — من «المفهوم العاميِّ للزمن»؛ فلا
يمكن أنْ يوجد مفهومٌ للزمن لا يكون واقعًا في شَرَك السِّياج
الميتافيزيقيِّ: «راغبًا في إنتاج ذلك المفهوم
الآخر، سرعان ما يرى أحدنا أنه
سيجري بناؤه بمحمولاتٍ ميتافيزيقية أو أنطوثيولوجية أخرى»
(
MP
73).
٦٨ ويُومِئ هيدجر إلى ذلك عبْرَ شطْبِه كلمةَ «الوجود».
وبرغم ذلك، لا يزال هيدجر في مرحلة كتابه «الوجود والزمان»
Sein und
Zeit، يفكِّر في «الزمن» على
أنَّه «
يحتاج إلى شرحٍ أصلي بوصفه
أفقًا لفَهم الوجود.»
٦٩ لا يزال الزمن نموذجًا لوجدانٍ ذاتيٍّ
auto-affection خالِص، حيث
يجري إنتاج شيءٍ مثاليٍّ —
الوجود في حدِّ ذاته — من دون حاجةٍ إلى
ربطه بشيء. (يضع دريدا الوجدان الذاتيَّ موضعَ تساؤلٍ ويشير إلى
أنه يحمل دائمًا، حقًّا، عنصرَ وجدانٍ مغايرٍ لا يمكن اختزاله،
يرغب في آخرَ ويتعلَّق به، ألَا وهو في هذه الحالة
سؤالُ الوجود أو
الوجود تحت الشطب.) وبالنسبة إلى هيدجر في مرحلته المبكِّرة، يبدو
«سؤال الوجود» إذن، كما يشير دريدا في «الكائنية ووحدة الكتابة»
Ousia et grammé، قابلًا
للتبادُل. وبحلول وقتِ «شذرات أناكسيماندر»،
٧٠ يرى هيدجرُ نفسُه الوجودَ مدرَكًا سلفًا وغير قابلٍ
للإشارة إليه، ويرى
الحضورَ الذي يبدو مدلولًا عليه في النَّص
الوسيلةَ الوحيدة أمام اللغة للإشارة إلى الأثر المشطوب
(
MP
76-77). وعندئذٍ، يكون هيدجر قد وصل إلى شطْبِ
الوجود، ولا يجِدُ معنى الوجود في الزمان. ولكنَّ الزمنَ نفسَه
يبدو عند دريدا مشطوبًا أكثر عبْرَ الافتراض الفرويدي بأنَّ الزمن
هو إدراكٌ حسيٌّ متقطِّعٌ للآلية النفسية.
•••
نيتشه، فرويد، هيدجر. اهتمَّ الثلاثة أجمعون بمشكلةٍ يُفصح عنها
هيدجر على النحو الآتي: «الأكثر أصالةً
من الإنسان تناهي الدازاين فيه»
(KPM G
207, KPM E
237). والثلاثةُ أجمعون أولُ الجراماتولوجيين:
نيتشه فيلسوفٌ يمزِّق أوصال أُسس المعرفة، فرويد سيكولوجيٌّ يضع
النَّفس موضعَ تساؤل، هيدجر أنطولوجيٌّ يضع الوجود تحت الشطب.
وإنَّه — دريدا — لَهو الذي «أبرز» قوَّتهم الجوهرية، و«اكتشف»
الجراماتولوجيا، علم «تحت الشطب». خفَّة اليد تلك موجودةٌ في الاسم
نفسه «لوجوس وحدة الكتابة» the logos of the
grammé. وحدةُ الكتابة إشارةٌ مكتوبة، واسمٌ
لعلامةِ «تحت الشطب». و«اللوجوس» من ناحيةٍ «قانونٌ»، ومن ناحيةٍ
أخرى «وحدةٌ صوتية»؛ الصوت. وكما رأينا، ستُسائل وحدةُ الكتابة
سُلطةَ القانون المرجعية، وتفكِّك امتيازَ الكلمة المنطوقة. ومن
ثَم، تنشِّط كلمةُ «الجراماتولوجيا»، بشكلٍ مناسب، تناقُضًا لم
يُحلَّ. ويحدِّد دريدا معنى هذا التناقض في قسمٍ من كتابه «في علم
أنساق الكتابة» تحت عنوان «في الجراماتولوجيا بوصفها علمًا
وضعيًّا» Of Grammatology as A Positive
Science. وأمَّا نصوص نيتشه وفرويد وهيدجر؛
فهي ما قبل نصِّ هذا التناقُض.
(تكمُن أهمية نصِّ هوسرل، بالنسبة إلى دريدا، في صراعه الذاتي
self-conflict على وجه
التحديد. ويبدو هوسرل لدريدا قامعًا حازمًا أكثرَ من المعتاد
للتلميحات الجراماتولوجية الذكية أكثر من المعتاد، التي ينطوي
عليها النصُّ الهوسرلي.)
ولا جدوى، بطبيعة الحال، من تتبُّع أصلِ فكرةٍ معيَّنة: «نحن
نعرف أنَّ الاستعارة التي ستصِفُ جينالوجية نصٍّ وصفًا صحيحًا لا
تزال محظورة» (١٠١، ١٤٩). وبرغم
ذلك، ربما يتساءل أحدُنا عمَّا إذا كانت فكرة «الكتابة» عند دريدا
ليست نوعًا من الإجابة عن سؤال «الهندسة» عند هوسرل. وكما ذكرتُ،
كان كتاب دريدا الأوَّل ترجمةً وتقديمًا لكتاب هوسرل «أصل
الهندسة». والسؤال الذي أثاره هوسرل هو، على وجه التحديد، سؤال
العلاقة بين البنيات الذاتية والبنيات الموضوعية. كيف يمكن لأشكال
الموضوعية المثالية ideal
objectivity — جوهر الهندسة (وليس أنظمةَ
الهندسة الفعلية) — أنْ تنشأ داخل بنيات الذات؟ ويشير دريدا في
نهاية مقدمته الطويلة إلى أنَّ إجابة هوسرل إذا «أُنتِجت» بالكامل؛
ستكون: إمكانُ الموضوعية قائمٌ في الحضور الذاتي للذات. فالموضوع
المثالي للذات المتعالية هو الذات نفسُها. ولا يمكن للذات في
تأمُّلها نفسَها أن تظلَّ داخل «آنيةٍ بسيطة simple
now-ness في حاضر معيش Living Present»؛ إذ يجب أن تعطي
نفسَها تاريخًا، وتميِّز نفسَها عن نفسِها عبْرَ نظرةٍ إلى الوراء
تجعل النظرة إلى الأمام ممكنةً أيضًا: «الوعي الأصلي بالتأجيل لا
يمكن إلا أن يكون له شكلٌ نقيٌّ من التوقُّع … ومن دون هذا [الوعي]
… لن يكون الخطاب والتاريخ [والهندسة بوصفها إمكانَ التاريخ]
ممكنَين.»
ويبدو هوسرل، عبْرَ هذَين المفهومَين عن تمايُز الذات وتأجيل
الذات، مستهِلًّا فكرةَ الاختلاف المُرجِئ: «الاختلاف المُرجِئ
الأصلي للأصل المطلق …
ربما
هو ما يُقال دائمًا عبْرَ مفهوم «المتعالي» [المتسامي] … هذه
المسيرة الغريبة للاستفسار [التحقُّق مرةً أخرى] حركةٌ
مخطَّطة
تقريبًا في «أصل الهندسة».»
٧١ والفكرة لعلَّها موجودةٌ عند هوسرل، وإذا كان الأمر
كذلك، فهي
مخطَّطة تقريبًا فحسب؛ لأنَّه كما سنرى لاحقًا في
مناقشتي مركزيةَ الصوت
phonocentrism، يُحيط هوسرل
فكرةَ الاختلاف المُرجِئ هذه بذاتٍ تأسيسية، ذاتٍ تُولِّد، ولذا هي
أصلٌ مطلَقٌ لبنية الاختلاف. ولاستخلاص فكْرِ هوسرل، الذي يخطط عن
غير قصد لبنيات الجراماتولوجيا، في خطاب جراماتولوجي؛ سيَتعيَّن
إجراء إعادةِ كتابةٍ هائلة: «هذا التحديد ﻟ «الذاتية المطلقة» …
سيَتعيَّن شطبه ما إن نفهم الحاضرَ على أساس الاختلاف المُرجِئ،
وليس العكس. ينتمي مفهوم الذاتية قبليًّا وبوجهٍ عام إلى نظامٍ من
الذاتية المؤسَّسة [بدلًا من المؤسِّسة] … فما من ذاتيةٍ مؤسِّسة.
ولا بد من تفكيك مفهوم التأسيس
constitution ذاته»
(
VP 94
n., SP 84-85
n.).
ويبدو أنَّ هوسرل يفتح عامدًا إمكان الجراماتولوجيا في مجال
المعرفة الذاتية والموضوعية معًا، ويُغلقه عامدًا أيضًا. وإذا كان
هناك «أفقٌ افتراضيٌّ عامٌّ غير محدَّد» لمَا هو قابلٌ للمعرفة؛
فإنَّ هوسرل يضعه في نطاق سيطرة التوليف اللامتناهي لتوجيه
(قصديَّة) الأنا، أنا لا يمكن الكشف عنها للفيلسوف إلا بوضعها بين
أقواس، «وَضْع كلِّ المواقف المتَّخذة تجاه العالَم الموضوعي
المعطَى سلفًا خارج اللعب.»
٧٢ وإذا بدا أنَّ هوسرل يشير، رغمًا عنه تقريبًا، إلى
أنَّ التعبير لا يمكن أن يكون كُفئًا للإحساس الذي يعبِّر عنه؛
فإنه يغطي نفسَه بأن يمنح فعلَ الكينونة
is أو العبارة الإسنادية
امتيازًا. ومرةً أخرى، لا بد أن يضطلع دريدا بالقلب على الفور.
«ربما يُعتقَد عندئذٍ [وَفْق هوسرل] أنَّ
الإحساس بالوجود قد جرى
تحديده بفرضِ
شكلٍ عليه، من شأنه أن يُعيِّن — بسُلطة فعل الكينونة
is المرجعية — الإحساسَ بالوجود
على أنه سِياج الحضور، أو «شكل-اﻟ-حضور»، أو «الحضور-في-الشكل»، أو
«شكل-حضور» … [أو] أنَّ فكرة الشكل لديها القدرة على مدِّ نَفْسها
إلى ما وراء فِكْر الوجود … ومهمَّتنا … هي تأمُّل الدائرية التي
تجعل أحدهما يمرُّ إلى الآخر على نحوٍ غير نهائي»
(
MP
206-07, SP
127-28).
لقد وجد فرويد في لوح الكتابة الباطن نموذجًا يحتوي على مشكلات
النفس: سطحًا بِكرًا لا يزال يحتفظ بآثارٍ دائمة. وواجَهَ هوسرل
مشكلةً مماثِلةً عندما افترض وجود «إحساس» سابقٍ على فعْلِ
«التعبير» أو «المعنى». ويتساءل دريدا: «كيف يكون بمستطاعنا أن
نتصوَّر يومًا استعادةً دائمةً للمعنى في حالته البِكْر [ضمن
تاريخٍ يخصُّ الأنا]» (MP 197, SP 118). ولا يتوقَّف هوسرل
عن النَّظر في السؤال. فهو ببساطةٍ «يُفشي اضطرابًا معيَّنًا …
ويعزو عدمَ حسمِ [تردَّدَ]
indecisiveness وَصْفِه إلى
طابع اللغة المجازي اعتباطًا» (MP 198, SP 119). ومرةً أخرى، لا بد
أن يَخلُص دريدا، عبْرَ تأمُّله المتأني في استعارات حجَّة هوسرل
على وجه التحديد، إلى الاستنتاج الآتي: «يَتعيَّن علينا استنتاج
أنَّ الإحساس بوجهٍ عام، الإحساس القابل للمعرفة في كلِّ تجربة، هو
شيء لا بد أن يكون قادرًا فعلًا، بحُكم طبيعته، على أن يدمغ معنًى،
أن يَدعَ، أو يَتلقَّى، تحديدَه الشكليَّ في معنًى. ولذا، سيكون
الإحساس، حقًّا، نوعًا من كتابةٍ هامدةٍ وصامتةٍ تتضاعف في معنًى»
(MP
197, SP
117).
أحد أعظمِ استبصارات هوسرل المبتكَرة أنَّ الكلام يمكن أن يكون
أصيلًا من دون «معرفة»، وأنَّ العلاقة بالموضوع التي «تُنشِّط جسمَ
الدالِّ» لا يحتاج المتحدِّث أو السامع إلى أنْ «يعرفها» بالحدس
المباشِر
direct intuition.
«وباتِّباع منطق هذه التمييزات [عند هوسرل] وضرورتها»
(
VP
102, SP
92)، يفكِّك دريدا عُرَى افتراضٍ
أكثر راديكاليةً:
… إنَّه لا يعني فحسب … إنَّه لا يعني، أساسًا، الحدسَ
بالموضوع بل … يستبعده استبعادًا في الأساس … عدم إدراكي
الحسِّي، عدم حدسي، وغياب هُناي وآني [هنا والآن الخاصة بي
my hic et nunc]،
يقولها الشيءُ نفسُه الذي أقوله، من خلال ذلك الذي أقوله
ولأنني أقوله …
غياب الحدس — ومن ثَم فاعل الحدس — لا يسمح به الكلام فقط،
وإنما تتطلَّبه البنية العامة للدلالة أيضًا، عند النظر
إليها في ذاتها. وإنَّه لَمطلبٌ جذري: الغياب التام لفاعل
الجملة ومفعولها — موت الكاتب و/أو غياب الموضوع الذي كان
قادرًا على وصفه — لا يمنع نصًّا من أن «يعني» شيئًا. فهذا
الإمكان، على العكس، يُولِّد المعنى بحدِّ ذاته، وينشره
ليجري سماعه أو قراءته (VP 102, 108; SP
92-93).
ويجب أن تكون بنيةُ الآخرية
alterity (الآخرية
otherness وغياب المعنى أو
الذات) ساريةً في العلامة حتى تعمل بحدِّ ذاتها. ولكنَّ هوسرل لا
يمكنه الإفصاح تمامًا عن أثرِ بنية التعبير التي يُومِئ إليها
نصُّه: «موضوعة «الحضور» التام، والأمْريَّة الحدسية [وجوب أن
يتحقَّق التعبير عبر الحدس] ومشروع المعرفة، تستمرُّ جميعًا في
توجيه — من مسافة، كما قُلنا — كلِّ وصفٍ. إنَّ هوسرل يصِفُ، في
حركةٍ واحدة وفي الحركة نفسها يشطب، تحريرَ الكلام بأنَّه عدم
معرفة» (VP
109, SP
97).
وتعمل الأمْريَّة الحدسية بطريقةٍ غريبة في حالةِ الكلمة «أنا»
I. فلَنْ يمنحها هوسرل إمكانَ
النُّطق بها من دون أن تكون معروفةً حدسيًّا.
يجب أن تصادق فرضيات هوسرل على قولنا العكسيِّ حرفيًّا. فكَمَا
لا أحتاج إلى أن أدرك من طريق الحسِّ لكي أفهم عبارةً عن الإدراك
الحسِّي؛ فلا حاجةَ إلى حَدْسِ الموضوع «أنا» لكي أفهم الكلمةَ
«أنا» … فسواءٌ أكان الإدراك الحسِّي يصاحب عبارةً عن الإدراك
الحسِّي أم لا، وسواءٌ أكانت الحياة بوصفها حضورًا ذاتيًّا تُصاحب
نطقَ اﻟ «أنا» أم لا؛ فذلكم غيرُ مهمٍّ تمامًا فيما يتعلَّق بأداء
المعنى. إنَّ موتي ضروري بنيويًّا لكي أنطق كلمة «أنا» … ومجهولية
«أنا» المكتوبة، عدم مناسبة [الافتقار إلى ملاءمة] «أنا» أكتُبُ،
عكس ما يقوله هوسرل، هي «الوضع العادي» (VP 107-08, SP
96-97).
وإذن، «يُنتِج» دريدا ظاهريًّا أكثر قراءات هوسرل مناهضةً
لهوسرل: وَفْق هوسرل، كما رأينا، يكون الصوتُ — ليس الكلام
التجريبي بل بنية الصوت الفينومينولوجية — هو الدليل الأقوى
مباشرةً على حضور الذات. ففي ذلك المونولوج الداخلي الصامت، حيث لا
حاجة إلى تقديمِ دالٍّ ماديٍّ غريب، يكون التواصلُ الذاتيُّ
الخالصُ النقيُّ pure
self-communication (الوجدان الذاتي) ممكِنًا.
ويُبيِّن دريدا أنَّ هوسرل نفسه، إذا اتَّبعنا النظرية الهوسرلية
بصرامةٍ، يبدو غيرَ راغبٍ في القيام بهذا الإجراء؛ حيث يُنظَر إلى
بنية الكلام أو الصوت على أنَّها تَتأسَّس بغيابٍ ضروريٍّ لكلٍّ من
الموضوع والذات، المفعول والفاعل على حدٍّ سواء. وبكلماتٍ أخرى،
تُؤسِّسها بنيةُ الكتابة: «استقلال المعنى فيما يتعلق بالإدراك
المعرفي الحدسي intuitive
cognition … [الذي] أنشَأَه هوسرل … يجِدُ
معيارَه في الكتابة» (VP 108, SP 96-97). (سيُشير
دريدا، في الصفحة ٦٠ هنا وهناك الصفحة ٤٠ من كتابه «في علم أنساق
الكتابة»، إلى أنَّ سوسير Saussure
أيضًا غيرُ قادرٍ على قبول عدم الحدس بوصفه معيارًا، بل يتوجَّب
عليه أن يراه «أزمةً».)
ذلكم هو لعبُ دريدا الحميميُّ مع نصِّ هوسرل: أن يُنتِج دائمًا
من تَحوُّط نصِّ هوسرل الوقائي قراءةً مضادَّة. ولعلَّ كلَّ النصوص
مزدوِجةٌ على الأقلِّ، وتحتوي بداخلها على بذورِ تدميرها وهدمها.
وفي حالة هوسرل، يكشف الازدواجُ عن نفسه بشفافيةٍ غير عادية.
«موتيف كامن … يشوِّش ويطعن في سلامة … [اﻟ] تمييزات التقليدية
[القائمة في نصِّ هوسرل] من الداخل» (VP 92, SP 82؛ والإمالة من عندي).
(«وبرغم أنه لم يُنشِئ تِيمةَ … عملِ الاختلاف في تكوين الإحساس
والعلامات؛ فقد اعترف في الأساس بضرورته»
(VP
114, SP
101؛ والإمالة من عندي). ولا شكَّ في أنَّ
الجهد المبذول لمساعدة خطاب هوسرل على التفتُّح والتفلُّق، زاد من
حِدَّة أفكار دريدا في الجراماتولوجيا. ولكنَّ العلاقة بين هوسرل
ودريدا تفسيريةٌ بلا نهاية، ولا محلَّ لها في مقدمة. ويأتي كتابُ
«الكلام والظواهر» Speech
and Phenomena، دراسةُ دريدا
لهوسرل، نصًّا فلسفيًّا مصاحِبًا لدراسة روسُّو في الباب الثاني من
كتاب «الجراماتولوجي».)
•••
ظِلُّ هيجل على دريدا منتشرٌ بَيِّن، وهائلٌ جسيم. وستغيب عن
بالنا الخطوطُ العريضة التمهيدية لكتاب «الجراماتولوجي» إذا
تعقَّبنا الأسلاف البعيدين للاسم المشترَك «الجراماتولوجيا».
ومناقشةُ دريدا لهيجل، «فيلسوف الكتابة الأول»، في كتاب
«الجراماتولوجي» وفي مقالة «البئر والهَرَم: مقدمة في سميولوجيا
هيجل» Le puits et la pyramide: introduction à la
sémiology de Hegel, (MP
79–127)؛ صريحةٌ واضحةٌ. فهي تؤهِّلنا لقراءة
التَّشقُّق المرِح والرائع لبعض نصوص هيجل في كتاب دريدا «نواقيس».
إنه تناصٌّ حميمٌ ألفِتُ انتباهكم إليه، وبه أختم. وسأتحدَّث عن
هيجل قليلًا قُربَ نهاية هذه المقدمة.
•••
ولْنقُل أخيرًا، في هذا الإطار، إنَّه لا بد من الاعتراف بأنَّ
تعدادَ أسماءِ الأسلاف الصحيحة الملائمة؛ هو من قبيل القصِّ
المناسب. فكلُّ اسمِ عَلَم يؤسِّس ذاتًا سيِّدةً في مواجهةِ
مجهولية النصيَّة. ويتظاهر كلُّ اسم عَلَم بأنَّه أصلُ مجموعةٍ
بعينها من الأفكار التي قد تبدو موحَّدة، أصلها ومنتهاها: «لا
قيمةَ كبيرةً هنا لأسماء المؤلِّفين أو المذاهب. فهي لا تشير إلى
هُويَّات، كلَّا ولا إلى أسباب. وسيكون من العبث الاعتقاد بأنَّ
«ديكارت» و«لايبنز» Leibniz
و«روسُّو»، إلخ؛ هي أسماء مؤلِّفين أو أسماء مؤلفي حركاتٍ أو
إزاحاتٍ نُعيِّنها من ثَم. والقيمة الدلالية التي أنسبها إليهم، هي
أولًا اسم المشكلة وعنوانها» (١٤٧-٤٨، ٩٩). أسماء الأعلام ليست أكثرَ من «ترخيمات
كنائية» صالحةٍ للاستعمال.
٣
«البنيوية» structuralism هي
اسمُ الإشكاليات التي نتعرَّف عليها بسهولةٍ أكبر في المشهد
الأوروبي ستينيات القرن العشرين. فما علاقة دريدا
بالبنيوية؟
دائمًا ما تكون تعريفاتُ حركاتِ الفكر مشروطةً مؤقتة. وسأستعمل،
هنا، بغرض الإيضاح تعريفًا مختصَرًا: البنيوية هي محاولةُ عزْلِ
بنيات النشاط البشري العامة. وإذن، البنيوية التي أتحدَّث عنها هي،
إلى حدٍّ كبير، دراسةُ الأدب واللغويات والأنثروبولوجيا والتاريخ
وعلم الاقتصاد الاجتماعي وعلم النفس. وأمَّا البنية فهي وحدةٌ
مركَّبة من بضعةِ عناصرَ توجد بشكلٍ ثابتٍ في العلاقة نفسها داخل
«النشاط» الموصوف. ولا يمكن تقسيمُ الوحدة إلى عناصرها المفردة؛
لأنَّ وحدة البنية لا تُحدِّدها طبيعةُ العناصر القائمة في ذاتها
بقدْرِ ما تحدِّدها العلاقات بينها. عندما وصَفَ أرسطو التراجيديا
tragedy بأنَّها «محاكاة [=
تقليد]
imitation فعلٍ جادٍّ
وكاملٍ في ذاته وله جسامةٌ جليلة … بأحداثٍ تُثير الشَّفقة
pity والخوف
fear على نحوٍ يحقِّق التنفيس
catharsis عن هذَين
الانفعالَين والتطهُّر منهما.» كان يصِفُ البنيةَ النَّشِطة
الفاعلة في التراجيديا. ونحن نعرف «وصف» فرويد للنَّفْس من منظورِ
البنيات النرجسية والأوديبية. وعلى حدِّ تعبير رولان بارت
Roland Barthes: «للعثور فيه
[الموضوع] على أجزاءٍ حركيَّة معيَّنة، يولِّد موقفُها الاختلافي
معنًى بعينه؛ فالجزء لا معنى له في حدِّ ذاته، وبرغم ذلك فأدنى
تغيُّر يحدُث في تكوينه يُنتِج تغييرًا في الكلِّ.»
٧٣ ولن يجِدَها دريدا [أي البنية]، كنيتشه سواءً بسواء،
إلا عرَضًا من أعراض الرغبة الإنسانية في التحكُّم لعزل مثل هذه
«الوحدات» في «موضوع» بأيِّ طريقةٍ عدا الطريقة الأكثر مشروطيةً:
«… دراسة بنيوية لكلٍّ تاريخيٍّ
historical
ensemble: مفاهيم، مؤسسات … كيف يجري تنظيم
هذه العناصر في «كلية تاريخية»؟ ما «المفهوم»؟ وهل تحظى المفاهيم
الفلسفية بامتيازٍ؟ وكيف ترتبط بالمفاهيم العلمية؟»
(
ED
70).
ودراسة النشاط البشري من منظور العلامة قد نُطلِق عليها اسم
البنيوية السميوطيقية semiotic أو
السميولوجية semiological. هل يمكن
أن نسمِّي دريدا — الذي يستبدل ببنية العلامةِ بنيةَ الكتابة
(العلامة «تحت الشطب») — مؤرِّخًا بنيويًّا جراماتولوجيًّا
للفلسفة، وينتهي الأمر بكلِّ بساطة؟ نعم، من دون شكٍّ. ولكنْ
لفهْمِ الآثار المترتِّبة على هذا الوصف النمطي؛ ربما نضع ليس
تعريفًا مختصَرًا فحسب، وإنما «مخطَّطًا تاريخيًّا» مصغَّرًا،
الأمر الذي سيكون مفيدًا لمقتضيات المناقشة الحالية. ويجب أن
نتذكَّر، بطبيعة الحال، أنَّ أيَّ مخطَّطٍ من هذا القبيل لا بد من
تفكيكه بصرامة، إذا كان «الهدف المباشر» من الدراسة هو الحركة
«نفسها».
كانت الأوصاف البنيوية معنا دائمًا بمعناها الواسع؛ فمن المعتاد
الاستشهاد بأرسطو
Aristotle
وأفلاطون
Plato. ولكنَّ من المعتاد
تعيينَ بدايات البنيوية الحديثة في معناها الضيِّق بأسماء الأعلام
الآتية: الشكلانيِّين الروس
Russian
Formalists في النقد الأدبي، مارسل موس
Marcel Mauss في
الأنثروبولوجيا، فرديناند دي سوسير وتروبيتسكوي
Troubetzkoy في اللغويات. لقد
انخرط الشكلانيُّون الرُّوس في عزل الفئات الموضوعية التي تصِفُ
«أدبية»
literariness النصِّ
الأدبي، ردُّ فعل منهم ضدَّ ما بدا وكأنَّه الأسلوب العاطفي
الفضفاض في النقد الرمزي
symbolist
criticism (النقد الرمزي المفكَّك يؤسِّس
تنوعَه الخاصَّ به على نحوٍ صارم.)
٧٤ ومن هذه الحماسة جاءت هذه النصوصُ المهمَّة كتصنيفِ
موتيف/بنيات الحكايةِ الشعبية عند فلاديمير بروب؛
٧٥ موتيف/البنيات التي يمكن النظر إليها على أنها قارَّةٌ
في أعقد القِصص. وكانت بنيويةَ أوروبا الشرقية تطوِّر الطرائق
البحثية لدى الشكلانيِّين الرُّوس على مدى العقود القليلة الماضية،
ولكن دريدا اهتمَّ أشدَّ الاهتمام بالبنيوية عندما جاءت لتستقرَّ
في فرنسا.
وأما بالنسبة إلى دراسة «قوانين» التغيُّرات في تكوين البنيات؛
فجاءت التناظُرات الوظيفية من دراسة البنيات اللغوية. فقَدْ أعطى
تروبيتسكوي، الذي درَسَ تكوين الوحدات الصوتية في إنتاج المعنى،
تناظُرًا وظيفيًّا. وأعطى سوسير، الذي وصَفَ بنية العلامة نفسَها —
«أعني بالعلامة الكلَّ الناتج عن ارتباط الدالِّ بالمدلول» —
٧٦ تناظرًا وظيفيًّا آخر. لقد وجَدَ النشاط البنيوي
تناظراته الوظيفية في اللغويات والسميوطيقا. ويعترف كلود ليفي
شتراوس بالجميل لمارسل موس، في مقدمة كتابه «السوسيولوجيا
والأنثروبولوجيا»، قائلًا: «مستلهِمين مبدأ موس القائل إنَّ جميع
الظواهر الاجتماعية يمكن استيعابها في اللغة؛ فإننا نرى … [فيها]
التعبير الواعي عن تشكيلٍ دلالي.»
٧٧ وهنا بجميلِ تروبيتسكوي (وبالنسبة إلى مناقشة دريدا
لهذه الفقرة؛ ننتقل إلى الصفحات ١٥١ من «الجراماتولوجي» الأصل
الفرنسي، و١٠٢ من ترجمته الإنجليزية):
يقينًا، ستلعب اللغويات البنيوية الدور التجديديَّ نفسه في العلوم الاجتماعية
الذي لعبته الفيزياء النووية، مثلًا، في العلوم الفيزيائية. ففيما تكمن هذه
الثورة؟ … يختزل تروبيتسكوي، مؤسِّس اللغويات البنيوية اللامع … النَّهج
البنيوي إلى أربع عمليات أساسية؛ أولًا: تنتقل اللغويات البنيوية من دراسة
الظواهر اللغوية
الواعية إلى دراسة
بنيتها التحتية
اللاواعية unconscious
infrastructure. ثانيًا: لا يعامل النَّهجُ البنيوي
العناصرَ بوصفها كياناتٍ مستقلَّة،
بل يتَّخذ من
العلاقات بين العناصر
أساسَه في التحليل. ثالثًا: يقدِّم النَّهجُ البنيوي مفهومَ النظام [= النَّسق]
system؛ «فيُبيِّن أنظمةً صوتيةً معيَّنةً
ويشرح بنيتها». رابعًا وأخيرًا: تهدف اللغويات البنيوية إلى اكتشاف القوانين
العامة
general
laws … ففي دراسةِ مشكلاتِ القرابة، يجِد
الأنثروبولوجيُّ نفسَه، عند دراسته مشكلات القرابة (ولا شكَّ، عند دراسة
مشكلاتٍ أخرى أيضًا)، في موقفٍ يشبه من الناحية الشكلية موقفَ اللغوي البنيوي.
فعناصر القرابة، مثلها مثل الوحدات الصوتية
phonemes، هي عناصر المعنى؛ ولا تكتسب
علاقاتِ القرابة، مثلها مثل الوحدات الصوتية، معنًى إلا إذا اندمجتْ في أنظمةٍ
[= أنساق]. و«أنظمة القرابة»، مثل «الأنظمة الصوتية»، يَبْنيها العقلُ على
مستوى الفكر اللاواعي. وأخيرًا، يقودنا تكرارُ نماذج القرابة … في مناطق
متفرِّقة من العالم، وفي مجتمعاتٍ مختلفة تمامًا، إلى الاعتقاد بأنَّ الظواهر
التي يمكن ملاحظتها في حالة القرابة وكذلك اللغويات؛ تَنتج بفعل قوانينَ عامة،
ولكنها كامنةٌ مستترة.
٧٨
الْتقى رومان ياكوبسون
Roman
Jakobson، عضو مدرسة براغ الشكلية، بكلود ليفي
شتراوس في الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٥٠م. وأحد أسباب صعود
«البنيوية» هو أنَّ ما يجري الاعترافُ به اليوم على أنه النَّهجُ
البنيويُّ السائد في تفسير النصوص؛ قد نشأ عن هذا اللقاء المؤقَّت.
٧٩
وأسترسلُ في هذا النوع من القصِّ التاريخي الإجمالي؛ لأنَّ نقدَ
دريدا ﻟ «البنيوية»، حتى عندما يسكنها، سيكون — كما ألمحتُ — نقدًا
إجماليًّا. سيتعلَّق بإمكان قانونٍ عام. فقانون الاختلاف المُرجِئ
مفادُه أنَّ أيِّ قانونٍ يَتشكَّل بالتأجيل والاختلاف الذاتي.
وإمكان وجود قانون عام يُهدَّد على هذا المستوى العام.
كما سيثير دريدا أيضًا مشكلة إمكان الوصف الموضوعي. فالبيان
البنيوي للمقاصد البنيوية يُقيم نفسَه على التمييز بين الذات
والموضوع. والنتائجُ البنيوية موضوعٌ تُسلِّط الذاتُ عليه ضوءًا:
«غايةُ كلِّ نشاطٍ بنيوي، سواءٌ أكان انعكاسيًّا أم شِعريًّا،
إعادةُ بناء «موضوع» على نحوٍ يُظهِر القواعد التي بوساطتها يؤدِّي
هذا الموضوع وظائفَه. ولذا، البنيةُ
نُسَخ محاكِية simulacrum للموضوع، ولكنها نُسَخ
محاكِيةٌ
مهتمَّةٌ موجَّهة؛ لأن الموضوع المحاكَى يجعل شيئًا غيرَ
مرئيٍّ أو … غير واضح في الموضوع الطبيعي، يَظهر.»
٨٠ وأمَّا عند دريدا فالنَّص — كما ندعوه؛ سواءٌ أكان
«أدبيًّا» أم «نفسيًّا» أم «أنثروبولوجيًّا»، أو غير ذلك من نصوص —
هو لعبُ حضورٍ وغيابٍ، ومحلُّ الأثر المشطوب. («وإذا فُهِم الأمر
بشكلٍ جذريٍّ؛ فيجب التفكيرُ فيه [اللعب] قبل خيار الحضور والغياب»
[
ED
426, SC
264].) ولا تنطبق النصيَّة على «موضوع»
الدراسة فحسب، وإنما على «الذات» الدارسة أيضًا. وتشطب التمييزَ
المُحكم بين الذات والموضوع. والبنية الجراماتولوجية، بوصفها أداةَ
وصفٍ، هي تلك البنية التي تُفلت إلى الأبد من إجابة السؤال «ما هو
…؟
what is …?»؛ السؤال الذي هو
أساس الوصف الموضوعي. وحتى عندما تظلُّ البنيةُ، من حيث هي بنيةٌ،
واضحةً مقروءة؛ فهي تشطب الهدفَ من البنيوية، تشطب الأوصافَ
الموضوعية.
وبصورةٍ عامَّةٍ مرةً أخرى، ربما يقال إنَّ نَهْج البنيوية يضع
في حسبانه أنَّ
موضوعات
دراسته لا يمكن أنْ يكون لها أصولٌ بسيطة في ذات
«المؤلف» السيِّدة. ولكنَّ سُلطة
الذات
الباحثة، التي تجلب الوضوحَ إلى الموضوع الطبيعي عن
طريق محاكاته بوصفه بنيةً، برغم الكثير من الحجج الدقيقة الدائرة
حول هذا الأمر، لا يمكن إنكارها في نهاية المطاف داخل إطار الدراسة
البنيوية. فالبنية — ويجب أن نكرِّر — هي الموضوع الطبيعي مضافًا
إليه الذكاء الذاتي للبنيوي: «النسخة المحاكية هي عقلٌ مضافٌ إلى
موضوع. وهذه الإضافة لها قيمةٌ أنثروبولوجيةٌ؛ من حيث هي الإنسانُ
نفسُه وتاريخه وموقفه وحريَّته، والمقاومة نفسُها التي تعرضها
الطبيعة على عقله.»
٨١
ومفهوم «التواصل» communication
(«وظيفة» البنيات البشرية)، المهمُّ للبنيوية بوصفه أداةَ بَحْث،
يحمل معه أيضًا مفهومَ الذوات الموحَّدة، ومفهومَ المعنى بوصفه
ملكيةً قابلةً للحَمل والنَّقل: «التواصل، الذي يعني في الواقع
إرسالًا مكلَّفًا بنقل،
من ذاتٍ إلى أخرى، هُويَّة الشيء المدلول عليه في معنًى أو مفهومٍ يمكن فصْلُه، من
حيث المبدأ، عن عملية النقل وعملية السَّيرورة الدالَّة»
(Pos F
34).
ويجِدُ دريدا مفهومَ العلامة الثنائية بحدِّ ذاته، في دوره بوصفه
مرشدًا لهذا المشروع الموضوعي، ملتزمًا بعلم الحضور
science of presence. ويُفصح
بارت إفصاحًا بليغًا قائلًا: «العلامة ليست موضوعَ معرفةٍ معيَّنة
فحسب، وإنما هي أيضًا موضوعُ رؤية مماثِلةٍ لرؤية المدارات
السماوية في كتاب شيشرون
Cicero
«حُلم سكيبيو»
Somnium
Scipionis أو مرتبطةٍ
بالتمثيلات الجزيئية التي يستخدمها الكيميائيون؛ فالسميولوجي
يرى العلامة تتحرَّك في
مجال الدلالة، ويُعدِّد تكافؤاتها، ويتتبَّع تكوينها: العلامة
بالنسبة إليه فكرةٌ حسيَّة.»
٨٢ ويقول دريدا مشخِّصًا أعراضَ هذا التَّوق إلى الحضور:
«السميولوجيا … بمفاهيمها وافتراضاتها الأوَّلية الأساسية يمكن
تعيين حدودها على النحو الأدقِّ من أفلاطون إلى هوسرل، مرورًا
بطريق أرسطو، وروسو وهيجل، إلخ» (
Pos F
33).
ومع ذلك، بما أنَّ بنيةَ وحدةِ الكتابة
grammé، كما ذكرتُ، هي علامة
تحت الشطب — بمعنى
إبقاء العلامة وشطبها في آنٍ — فلا بد أنْ
يستعمل دريدا مفهومَ العلامة. ولهذا السبب، علاقته بالبنيوية
حميمةٌ. ويذكُر دريدا، في مقابلته مع جوليا كريستيفا
Julia Kristeva، أنَّ مفهوم
العلامة الثنائي عند سوسير الذي يسائل أوَّليةَ المعنى القابلة
للانفصال — المدلول المتعالي
the transcendental
signified — قد أشار إلى مخرج من ميتافيزيقا الحضور:
لاحظتْ سميولوجيا دي سوسير، على عكس التراث، أنَّ
المدلول كان غير قابل للانفصال عن الدالِّ، وأنَّهما
[المدلول والدال معًا] وجهان لشيءٍ واحد، وللإنتاج نفسه …
وبإيضاح أنه «من المستحيل أن ينتمي الصوت وحده، العنصر
المادي، إلى اللغة» وأنَّ «[الدالَّ اللغوي في جوهره] ليس
صوتيًّا بأيِّ حال» (
p.
164)؛
٨٣ وبنزع المادية عن محتوى المدلول و«جوهر
التعبير» في آنٍ — التي لم تَعُد لهذا السبب صوتًا على وجه
الحصر — يُسهم سوسير إسهامًا كبيرًا في الانقلاب على
التراث الميتافيزيقي الذي يستعير منه مفهوم العلامة»
(
Pos F 28).
يحلِّل دريدا كتابَ سوسير «دروس في علم اللغة العام»
Cours de
linguistique générale ولغويات
النصف الأول من القرن العشرين في فصلٍ من كتاب «الجراماتولوجي» تحت
عنوان «اللغويات والجراماتولوجيا»
Linguistics and
Grammatology؛ فيقدِّم أفضل مناقشةٍ حول
سوسير. ومن الممكن أن نقول ببساطة إنَّ سوسير لم يكُن
جراماتولوجيًّا؛ لأنه بعد أن دشَّن ثنائية العلامة، لم يشرع في
وضعها تحت علامة شطب. ويُعدُّ التضادُّ الثنائي
binary opposition داخلَ
العلامة عند سوسير نَمْذجةً، بمعنًى من المعاني، لبنية المنهجية
البنيوية. «لا بد أن نلجأ، من دون شكٍّ، إلى أزواجٍ من قبيل
الدالِّ/المدلول
signifier/signified
والآني/التعاقُبي
synchronic/diachronic من أجل
استشراف ما يميِّز البنيوية عن طرائق الفكر الأخرى.»
٨٤
وفي الفقرة التي يعترف فيها ليفي شتراوس بِدَينه لتروبيتسكوي؛
نلاحظ، مثلًا، الإشارةَ إلى دراسة البنية التحتية اللاواعية
unconscious infrastructure.
وعند دريدا، عبْرَ فرويد، ستوجد صعوبةٌ في تأسيس التضادِّ بين
الوعي واللاوعي داخل الذات بوصفه المبدأَ التأسيسي لدراسةٍ منهجية.
فاللاوعيُ غير قابلٍ للحسم؛ فهو إمَّا الآخر البعيد دائمًا عن
متناوَل الأوصاف النفسية، أو مشاركٌ بصورةٍ كاملةٍ وتأسيسيةٍ فيما
يُسمَّى النشاط الواعي. والأكثرُ من هذا، أنَّ النَّهج
الجراماتولوجي — كما أشرتُ — يضع التضادَّ بين الذات والموضوع،
الذي يستند إليه إمكان الأوصاف الموضوعية، موضعَ تساؤلٍ أيضًا.
وذلك أن وصفَ الموضوع مَشوبٌ بأنماط رغبة الذات بقَدْر ما تُؤسِّس
الرغبةُ غير المتحقِّقة الذاتَ. وبمستطاعنا الذهاب إلى أبعد برغم
ذلك، فنكرِّر قائلين إنَّ الجراماتولوجيا تُسائل بنية التضادِّ
الثنائي بوجهٍ عام. ويدعونا الاختلاف المُرجِئ إلى فكِّ الحاجة إلى
مُعادِلاتٍ متوازِنة، لمعرفة ما إذا كان كلُّ طرفٍ في تضادٍّ ليس
متواطئًا في النهاية مع الطرف الآخر: «عند هذه اللحظة التي يتدخَّل
فيها مفهوم الاختلاف المُرجِئ … تصبح كلُّ التضادات المفاهيمية في
الميتافيزيقا التي تحظى بحضورِ الحاضر؛ حتى تكون مرجعًا نهائيًّا …
(دال/مدلول، حسي/عقلي، كتابة/كلام، كلام/لغة، تعاقبي/آني،
مكان/زمن، سلبية/نشاط)؛ تصبح غيرَ ملائمة»
(Pos
41).
ولهذا السبب، ليس من المبالغة القول إنَّ «الكتابة» أو «الاختلاف
المُرجِئ» بنيةٌ تفكِّك البنيويةَ؛ كما تفكِّك حقًّا كلَّ النصوص؛
لكونها — كما سنرى — بنيةَ تفكيك غيرَ متجانِسةٍ دومًا
فعلًا.
ولا بد أنه قد اتَّضح الآن أين توقَّف البنيويُّون، أو ما الذي
لم يبدءُوا به. لم يفكِّر البنيويُّون في «تحت الشطب».
٨٥ يبدو الأمر كما لو أنَّهم لم يستوعبوا سوى «معرفة»
نيتشه، فبيَّنوا لنا القوة التفسيرية التي تعمل عبْرَ المجتمع
البشري، وهكذا تصبح كلُّ دراساتهم «جينالوجية»، وفكًّا لا نهائيًّا
لشفرة سلاسل العلامة. وكمْ تقترب هذه الفقرة، لرولان بارت، من ذلك
الوجه لنيتشه!: «الإنسان البنيوي … يُنصت أيضًا إلى الطبيعي في
الثقافة، فلا يُدرك فيها، باستمرارٍ، معانيَ ثابتةً ومحدودةً
و«حقيقية» بقَدْر ما يدرك اهتزازَ آلةٍ هائلة، تتعهَّد الإنسانَ من
غير كلَلٍ بخلقِ معنًى من دونه لن يعود إنسانًا.»
٨٦ ولكنَّ الأمرَ يبدو كما لو أنَّ الدرس الأخطر لتلك
المعرفة، أيْ حاجتها إلى التنازُل عن نفسها، لم يتخيَّلْه
البنيويُّون. ليس بمستطاعِ البنيوية اللاجراماتولوجية أنْ تنمِّي
إرادةَ الجهل: «الدلالات البشرية: ذلكم الإنسان الجديد في البحث البنيوي.»
٨٧
ولا يكون الحلُّ الاكتفاءَ بالقول: «أنا لن أُموضِع.» فذلكم
بالأحرى اعترافٌ، في الآن نفسه، بأنَّه لا توجد لغةٌ أخرى سوى لغةِ
«التَّموضُع»
objectification،
وأنَّ أيَّ تمييزٍ بين «التذويت» [جَعْل ذاتٍ]
subjectification
و«التَّموضُع» مشروطٌ بقَدْر استعمالِ أيِّ مجموعةٍ من التضادات
الهَرَمية. ويوضِّح دريدا هذه المسألة على نحوٍ أنشطَ في مقالتَين
مبكِّرتَين يتناول فيهما ناقدَين بنيويَّين يتبنَّيان تدابيرَ
وقائيةً محكمةً ضدَّ التَّموضُع. وقد أشرتُ بالفعل إلى إحداهما —
«البنية والعلامة واللعب في العلوم الإنسانية»
Structure, Sign, and Play in the Science of
Man — حيث يفسِّر دريدا فيها محاولة ليفي
شتراوس من أجل نقْدِ ميثومورفي
mythomorphic
criticism للأسطورة. والمقالة الثانية هي
«الكوجيتو وتاريخُ الجنون»
Cogito et l’histoire de
la folie التي تُعدُّ نقدًا لكتاب فوكو «تاريخ
الجنون في العصر الكلاسيكي».
٨٨
يقول دريدا إنَّ فوكو يكتب كما لو أنه «يعرف ما يَعنيه الجنون»
(
ED
66). ومن ثَم، يتحدَّث فوكو عن العقل، عن آخر
الجنون؛ على اعتبار أنَّ تضادَّه الثنائي يجب الوثوق فيه. وبرغم
ذلك، يريد فوكو أن يتحدَّث عن «الجنون
نفسه» (
ED 56)، وأنْ يكتب:
«أركيولوجيا ﺻﻤﺘ[ﻪ].»
٨٩ ولكن كيف يمكن لتلك الكتابة أن تكون أكثرَ من بلاغةٍ
ليس إلا؟ ولأنَّ الأركيولوجيا تُجترَح عبْرَ الخطاب؛ فالذي يجري هو
فرضُ تركيب العقل وبنيته على صمتِ الجنون. وللحقِّ، يُدرك فوكو
المشكلة، ويُفصح عنها أحيانًا.
ولكن «قول الإشكال المُعضِل، قول إشكال القول، لا يعني التغلُّب
عليه مع ذلك» (ED 61). ويقول دريدا إنَّ
فوكو يتجنَّب هذه المسألةَ على وجه التحديد بإساءةِ قراءة
misreading ديكارت.
يرى فوكو في ديكارت أحدَ الفاصِلِين النموذجيِّين بين العقل
والجنون. وتُعدُّ قراءة دريدا لديكارت عن الجنون، قطعةَ تفكيكٍ
أنيقةً؛ إذ يسلِّط الضوءَ على لحظة نسيان الأثر في نصِّ ديكارت.
فيقول دريدا إنَّ ديكارت يعطي الكوجيتو قبل أنْ ينعكس على نفسه
pre-reflexive cogito اسمَ
«الجنون»: قبل أنْ ينعكس
واﻟ «أنا أفكِّر» على نفسه ويُفصح عنها. إنَّ «جنون» الكوجيتو قبل
الانعكاسي و«أنا أفكر» قابلان للتبادُل فيما بينهما والاستعاضة
بأحدهما عن الآخر. ولا يَظهر ثمَّة تمييزٌ بين العقل والجنون. لا
يمكن أن يكون «الكوجيتو» تواصليًّا بجَعْله يظهر لذاتٍ أخرى كما
يَظهر لذاتي. ولكن عندما يشرع ديكارت في الحديث عن الكوجيتو
وتأمُّله؛ يعطيه بُعدًا زمانيًّا ويميِّزه عن الجنون. والعلاقةُ
بين الكوجيتو قبل الانعكاسي (الذي هو أيضًا الجنون) والكوجيتو
الزمني (الذي يتميَّز عن الجنون)؛ مناظِرةٌ — من ثَم — للعلاقة بين
سؤال الوجود السابق على الفَهْم والمفهوم القَضَوي للوجود [بمعنى
صياغته في قضيةٍ وعبارةٍ خبريَّة]. فإمكانُ الخطاب قَارٌّ في
الحركة المتكرِّرة، لا نهائيًّا، من أحدهما إلى الآخر: من «بنيةٍ
فائضة» excess structure إلى
«بنيةٍ مغلَقة» closed structure
(ED
94). فيظلُّ فوكو، غيرُ المدرِك هذا، محصورًا
داخلَ عِلمٍ بنيويٍّ للبحث عبْرَ التضادَّات.
ذلكم فوكو المؤرِّخ، فوكو ستينيات القرن العشرين. وحتى ذلك الحين
كان راغبًا بقوةٍ عن أن يُسمَّى بنيويًّا، وهو يدخل في هذا القسم
من مقدمتي لأنَّه يُشخِّص عصرًا من منظور معرفة [إبستيما] ذلك
العصر، أي البنية المحدَّدة ذاتيًّا لمعرفته. ولم تتلاشَ هذه
الميزة الخاصة بعمل فوكو. لقد شَخَّص البنيةَ الإبستيمية بتأكيداتٍ
متكرِّرة على العكس، ليخطو خارج البنيات الإبستيمية بوجهٍ عام،
مفترِضًا أنَّ هذا الخروجَ ممكِن. وكان ينبغي عليه، حتى يكتب
«أركيولوجياته»، أنْ يحلِّل الاستعارات التي تتمتَّع بامتيازٍ في
عصرٍ بعينه، فيما سيُسمِّيه دريدا «ما وراء الاستعارية»
meta-metaphorics. وأمَّا
دريدا عندما يصِفُ الجراماتولوجيا بأنَّها «تاريخٌ لإمكان التاريخ
الذي لن يعود أركيولوجيًّا» (٢٨، ٤٣)؛ فيبدو أنه يُعلن تقدُّمًا
على فوكو. وبإنكاره أن تكون الجراماتولوجيا علمًا وضعيًّا، «يشطب»
على تقدُّمه ذاك. ولعلَّ هناك محاولةً لإعادة كتابة نَهْج فوكو في
«الميثولوجيا البيضاء» التي تُعدُّ مقالةَ دريدا الموسَّعة عن الاستعارة:
ألَا نحلُم … بما وراء فلسفةٍ، بخطاب أعمَّ من شأنه أنْ
يظلَّ من النوع الفلسفي عن استعاراتٍ من «الدرجة الأولى»،
عن تلك الاستعارات غير الحقيقية التي تجعل الفلسفة
موارِبةً بابَها؟ سيكون مهمًّا في عملٍ تحت عنوان ما وراء
الاستعارية كهذا … أن نركز، بادئَ ذي بَدء، على مراباة
usure بعينها
[الاستنزاف عبْرَ البَريِ والحكِّ، والتكميل عبْرَ الربا،
في آنٍ] للإلحاح الاستعاري في علاقةٍ فلسفيةٍ تبادُلية.
وسيتَّضح أنَّ هذه المراباة ليست عاملًا عارضًا يعدِّل
نوعًا من التفسُّخ المجازي الذي من المقدَّر له أنْ يظلَّ سليمًا من
غيرها؛ إذ سيتضح أنَّ هذه المراباة على
العكس من ذلك، هي التي تؤسِّس تاريخ الاستعارة الفلسفية
نفسَه وبنيتها (MP 308, 249; “White
Mythology” 61, 6؛ والإمالة من
عندي).
(تجدر الإشارة ها هنا إلى أنَّ فوكو أضاف، في نهاية الطبعة
الثانية من كتابه «تاريخ الجنون» التي ظهرتْ بعد أحد عشر عامًا من
الطبعة الأولى، ردًّا من عشرين صفحة على انتقاد دريدا له، تحت
عنوان: «جسدي، هذه الورقة، هذه النار» Mon corps,
ce papier, ce feu. وتحليلُ فوكو لإساءة قراءة
دريدا [كما يعتقد فوكو] لديكارت شاملٌ مقنِع في مواضعَ كثيرةٍ منه،
وينبغي فحْصُه بعناية. ولأغراضنا هنا، تكفي ملاحظةُ أنَّ فوكو لا
يشغلُ نفسَه بالكوجيتو السابق على الفَهْم. وإنما انشغاله الأساس،
بالأحرى، إثباتُ أنَّ ديكارت يستبعد الجنون فعلًا، ولا يستبعد
الحُلم. ويرى فوكو أنَّ قراءة دريدا «تُعمِّم الشكَّ» وتسحب اليقين
الديكارتيَّ Cartesian certitude
من ديكارت. وبطبيعة الحال، ليست قراءة فوكو خاطئةً تمامًا، وإنما
لا تَمسُّ صُلب افتراضِ دريدا الأكثرِ إثارةً للاهتمام، ألَا وهو
أنَّ اليقين الديكارتي يستند إلى فئةٍ يمكن وصفُها بسهولةٍ بأنَّها
إمَّا يقينٌ أو شكٌّ بقَدْر ما تُوصف بأنَّها ليست يقينًا ولا
شكًّا. وللحقِّ، عندما يبيِّن لنا فوكو، متحدِّثًا ضدَّ دريدا،
أنَّ ديكارت يُجرِّد
الجنونَ من أهلية إعطاء دليلٍ [بدلًا من استبعاد الجنون تمامًا]،
بوصفه «دليلًا مفرِطًا ومستحيلًا» [p.
596]؛ فقد نذهب إلى أنَّ قراءةَ فوكو في هذه
الحالة لا تختلف تمامًا عن قراءة دريدا.)
ولكنَّ الشيء الأكثر إثارةً للاهتمام في تفنيد فوكو لدريدا، هو
ضراوته في النهاية. ولن أقوم هنا بمحاولة الدفاع عن دريدا، وإنما
سأستلُّ فقرةً من ردِّ فوكو؛ لأبيِّن لك مقدار عَداء فوكو لتهديد
«تحت الشطب»، وهو مفهومٌ لا يبدو أنَّ فوكو يُوليه عنايةً في هذه
السطور، ولا يقتصر هذا على ميشيل فوكو بالضرورة:
يُعدُّ دريدا، اليوم، الممثِّل الأكثرَ حسمًا لنظامٍ
[كلاسيكي] في تألُّقه الأخير: اختزال الممارسة الخطابية
إلى آثار نصيَّة، استبعاد الأحداث التي ينتجها النصُّ من
أجل ألَّا يحتفظ بشيء سوى علاماتٍ للقراءة، اختراع أصواتٍ
خلْفَ النصوص حتى لا يُضطر إلى تحليلِ طرائقِ تضمين الذات
في الخطاب، إيكال المنطوق وغير المنطوق في النصِّ إلى
مكانٍ أصلي؛ حتى لا يُضطر إلى إرجاع الممارسات الخطابية في
مجال التحوُّلات حيث يجري تنفيذها … إنَّها بيداجوجيا
pedagogy بسيطةٌ
محدَّدة تاريخيًّا بما يكفي، وتعلن عن نفسها بطريقةٍ أوضح.
بيداجوجيا تُخبر التلميذَ بأنَّه لا شيء خارج النصِّ؛
وإنما في داخله، وفي ثغراته وفجواته وفي مساحاته البيضاء
المتكتِّمة، يتحكَّم احتياطيُّ الأصل وبديلُه. وليس من
الضروري إطلاقًا البحثُ في مكانٍ آخر؛ لأنه ها هنا على وجه
التحديد، لا في الكلمات يقينًا، بل في الكلمات بوصفها
شُطوبًا erasures، وفي
استجوابها بقسوة، يتحدَّث «معنى الكائن» عن نفسه. إنَّها
بيداجوجيا تمنح صوتَ المعلم تلك السيادةَ غير المحدودة
التي تأذن للتلامذة بقراءة النصِّ من دون نهاية
[p. 602].
يدافع دريدا عن التحليل النفسي ضدَّ فوكو، ويسمِّيه «مونولوج
العقل عن الجنون».
٩٠ «وليس من قَبيل الصدفة أنه اليوم فقط يمكن لمِثل هذا
المشروع [مشروع فوكو] أنْ يتَّخذ شكلًا … لا بد من افتراض أنَّ
تحريرًا بعينه للجنون قد بدأ، وأن الطبَّ النفسيَّ
psychiatry مفتوحٌ مهما كانت
محدوديةُ نِطاقه، وأنَّ مفهوم الجنون بوصفه لاعقلًا، حتى إذا انطوى
سابقًا على وحدة، قد تَفكَّك» (
ED 61).
وجاك لاكان
Jacques Lacan، أعظمُ
شارحٍ معاصِر لفرويد، هو المحرِّض على مثل هذا التفكُّك. لم
يُؤمِّن لاكان على إنكار فرويد الاختلافَ في النوع بين النفس
«السَّوية»
normal والنفس «غير
السَّوية»
abnormal فحسب، وإنما
رفَضَ أيضًا الدوجما التي أطلقها سيكولوجيُّو الأنا
ego الأمريكيون فيما يقول،
٩١ والتي مفادها أنَّ الأنا هي المحدِّد الأوَّلي للنفس.
يتعامل لاكان بالأحرى مع «ذاتٍ» لا يمكن أبدًا أنْ تكون «شخصيةً
كلية»، ولا بد أن تنفصل «ممارسةُ وظيفتها» إلى الأبد عن موضوع
رغبتها (إذ يحسب لاكان العلاقات البنيوية بين الحاجة، وطلب الحُب،
والرغبة)، وتؤسِّس نفسَها في اللعب التحريفي للاستعارة والكناية —
الإزاحة والتكثيف — الذي يُبعِد الآخرَ، موضوعَ رغبتها، عن نفسها
إلى الأبد (
Ec
692). لم يكن فرويد يسمح للكلمات أن تسكُن
فيما هو أعمق من منطقة
ما قبل
الوعي، ومن ثَم حماية آخرية
اللاوعي الميتافيزيقية. ويوسِّع لاكانُ فرويدَ في
اتجاهٍ سيؤيِّده دريدا؛ إذ يُعرِّف اللاوعي من منظورِ بنية اللغة:
«ليس الإنسانُ وحده هو الذي يتكلَّم، وإنما … في الإنسان وبوساطة
الإنسان يتكلَّم الهُوَ [
id] …
وتصبح طبيعته منسوجةً بالآثار؛ حيث تُستعاد بنيةُ اللغة التي يصبح
هو مادَّتها» (
Ec 688-89).
ويدرك دريدا التقارُبَ بين فكر لاكان وفكره: «في فرنسا، لم يُثِر
«النقدُ الأدبي» المدموغ بالتحليل النفسي سؤالَ النص … وبرغم أنَّ
لاكان لم يهتمَّ اهتمامًا مباشِرًا ومنهجيًّا بما يُسمَّى النص
«الأدبي» … فإنَّ السؤال العام للنصِّ يعمل باستمرار [في خطابه]»
(FV 100-01).
ومع ذلك، فبرغم هذا التقارُب، وربما بسببه، فإنَّ العلاقة بينهما
مشحونةٌ بعدم الارتياح. كان لاكان يَنأَى بنفسه عن «إساءات
الاستعمال والتحريفات» التي ولَّدتها أعماله بين عامي ١٩٥٣ و١٩٦٧م،
ولكنَّه وجَدَ أنه من الواجب عليه التدخُّل: «خطابي … نوعُ طافيةٍ
buoy مختلِفٌ في هذا المدِّ
الصاعد للدالِّ، والمدلول، واﻟ «هو يتكلم»، والأثر، و
وحدة الكتابة،
والفتنة، والأسطورة. خطابٌ مختلفٌ عن هذا التداول الذي أسحبُ نفسي
منه. ومن أفروديت هذه الرَّغوة، نشأ مؤخرًا
differance بحرف
a [= الاختلاف المُرجِئ]».
٩٢ ويحسم دريدا، في بادرةٍ وضعيةٍ غير معهودة، مسألةَ
تأثير لاكان عليه، في هامشٍ طويلٍ في مُقابَلة
(
Pos F.
117 f., Pos E. II.
43-44). ولكنْ دعونا نعترف بأنَّ دريدا لن
يُجيز، أحيانًا، للاكان اللعبَ نفسَه بالكلمات الذي يُجيزه لنفسه.
٩٣
وليس للعلاقة بين جاك لاكان وجاك دريدا تأثيرٌ واضح في مسألة
الذات في «الجراماتولوجي». ولكنَّ الجدل المحكوم والمحدود بينهما
يُلقي ضوءًا على قضيتَين مهمتَين من أجل فَهْم «الجراماتولوجي»
داخل الإطار العام لفكر دريدا، ألَا وهما: منزلة «الحقيقة»
truth في الخطاب، ومنزلة
الدالِّ signifier بوجهٍ
عام.
وأنظُر أولًا في منزلة «الحقيقة» في خطابِ لاكان كما يفسِّره
دريدا.
هدفُ تحليل لاكان، استخلاصُ «حقيقة» الذات وتأسيسها؛ فهو ليس
سؤالًا بسيطًا عن تَموضُع موقفٍ ذاتي. ولأنَّه «لا يمكن لأيِّ لغة
أن تقول الحقيقة عن الحقيقة، ولأنَّ أسُسَ الحقيقة هي التي تتحدَّث
عنها؛ فليس بمُستطاعها أن تؤسِّس نفسَها بأيِّ طريقةٍ أخرى»
(
Ec 867-68). «اللغة تؤسِّسُ بُعدَ
الحقيقة (ولا يمكن تصوُّرها خارجَ الخطاب أو خارجَ ما يُبنَى بوصفه
خطابًا)، حتى عندما تَستبعد كلَّ ضمانات هذه الحقيقة». وبرغم ذلك،
فكما أنَّ هيدجر، حتى عندما يؤسِّس مفهوم «تحت الشطب» لا يمكنه
التخلِّي عن الحنين إلى إلغاء النسيان، فكذلك فِكْر لاكان يجب أن
يعمل من منظورِ نقطةٍ مرجعية، هي الحقيقة الأوَّلية. وتستمرُّ
الفقرة أعلاه على النحو الآتي: «فيما يتعلَّق بغياب الضمانات هذا،
يتولَّد إثباتٌ أوَّلي، هو أيضًا
حقيقةٌ أولية» (
SC I. 98). وكما
هو الحال عند هيدجر، يمكن قراءة الإجابة عن سؤال الوجود السابق على
الفَهْم بوصفه مدلولًا كافيًا بذاته لكلِّ الدوال، فكذلك الحقيقة
الأوَّلية غير القابلة للوصف عند لاكان تصبح ضمانًا لها. ويوضِّح
دريدا الصِّلات بهيدجر:
الحقيقة — مفصولةٌ عن المعرفة [أو مَشوبةٌ بها] — يجري
تعريفها دائمًا بأنَّها جلاءٌ وكشْفٌ، من دون حجاب؛ أيْ:
بوصفها حضورًا بالضرورة، تقديمًا للحاضر، «وجود الكائن» (حضور
Anwesenheit). أو
بصيغة هيدجريَّة أشدَّ حَرْفيةً، بوصفها وحدةَ حجْبٍ
وكشْف. وكثيرًا ما تكون الإحالة إلى نتائج تقدُّم هيدجر
صريحةً في هذا الشكل («الغموض الجذري الذي أشار إليه هيدجر
إلى حدِّ أنَّ الحقيقة تعني كشفًا [= إلهامًا]»،
[Ec] p. 166، «شغفًا
بكشفٍ موضوعُه: الحقيقة» [Ec] p. 193, etc.)
(Pos F 117,
Pos E. II.
43).
لقد أعطى فرويد «اسمًا ميتافيزيقيًّا» للآخر الجذري الساكن في
النفس: اللاوعي. ويبدو لدريدا أنَّ لاكان، برغم إعطائه اللاوعي
بنيةَ اللغة، قد لفَّق ترسيخ فرضيات فرويد الميتافيزيقية بجَعْل
اللاوعي مقرَّ التحقُّق و«الحقيقة». فكثيرًا ما يتحدَّث لاكان،
وبتفصيلٍ تام، عن «ذات اللاوعي الحقيقية»
(
EC
417)، وعن ذات «الحقيقة» في اللاوعي بوصفها
«علةَ» الأعراض الدالَّة على الذات. ويفسِّر المحللُ النطقَ
المحرَّف (حَدَث الكلام) للعَرَض على الذات بأنَّه
المنطوق الحقيقي (الحدث المحكي)
للاوعي: «بقَدْر ما تتحدَّث [الذات]، تكون في منزلة
الآخر الذي يبدأ في تكوين تلك الكذبة
الصادقة [
mensonge veridique] التي
من خلالها يبدأ ما يشارك في الرغبة على مستوى اللاوعي في إطلاق نفسه.»
٩٤
«كذبةٌ صادقة»؛ ذلكم هو موقف لاكان الواضح من الخيال
fiction، كما يرى دريدا.
فبينما يذهب دريدا إلى أنَّ «الحقيقة»
truth (إذا كان بمستطاع أحدنا
المجازفةُ بهذه الكلمة) تَتأسَّس ﺑ «الخيال» (إذا كان بمستطاع
أحدنا المجازفة بهذه الكلمة)، يبدو أنَّ لاكان يستعمل الخيال بوصفه
دليلًا إلى الحقيقة. وثمَّةَ مناقشةٌ تفصيلية نوعًا ما لذلك في
مقالِ دريدا «عاملُ الحقيقة» Le facteur de la
vérité: «ما إنْ يميِّز أحدُنا بين الحقيقة
والواقع، كما يفعل التراث الفلسفي بأكمله، حتى يكون غنيًّا عن
البيان أنَّ الحقيقة «تؤسِّس نفسَها في بنية الخيال». ويُلحُّ
لاكان إلحاحًا قويًّا على تضادِّ الحقيقة/الواقع الذي يقدِّمه
بوصفه مفارقةً paradox. فهذا
التضادُّ، الأرثوذوكسي كلما أمكنه ذلك، يسهِّل مرورَ الحقيقة عبْرَ
الخيال: سيؤدِّي الحسُّ السليم common
sense دائمًا إلى فصلٍ بين الواقع والخيال»
(FV 128). ومرةً أخرى، يبدو لدريدا
أنَّ لاكان يمضي بالجانب الأقلِّ ميلًا إلى المغامرة عند فرويد —
الجانب الذي يحلُّ الألغاز — على حساب فرويد الذي يستهلُّ
جراماتولوجيا النفس. وتُعدُّ إساءةُ قراءة لاكان للمقتبَس من
كريبيلون Crébillon في نهاية قصة
«الرسالة المسروقة» لإدجار آلان بو Poe’s The
Purloined Letter — حيث يحِلُّ كلمة
“destin” (destiny) [= قدر،
مصير] محلَّ الكلمةِ الأكثرِ إشكالًا “dessein”
(design) [= غرض، خطة] — نموذجًا لهذا
الموقف.
وتتعلَّق نقطةُ خلاف دريدا الثانية مع لاكان ﺑ «الدالِّ المتعالي
[المتسامي]» transcendental
signifier. ففي ملاحظة في الصفحة ٣٢
(٣٢٤) من كتاب
«الجراماتولوجي»، يحذِّرنا دريدا من أننا عندما نعلِّم أنفسَنا
رفضَ مفهوم أوَّلية المدلول — أوَّلية المعنى على الكلمة — لن
نُشبع تَوقَنا إلى التعالي [السموِّ]
transcendence بمنح الدالِّ
أوَّليةً: أوَّلية الكلمة على المعنى. ويرى دريدا أنَّ لاكان ربما
ارتكب هذا الفعل على وجه التحديد.
الدوال
signifiers عند لاكان هي
الرموز
symbols التي تربط الذات
عبْرَ بنية الرغبة باللاوعي. «وهكذا تعمل استجابة الدالِّ [للذات]،
فوق كلِّ الدلالات وأبعدَ منها»؛ «أنت تعتقد أنَّك تتصرَّف عندما
أُحرِّكك تحت رحمة الروابط التي أُنشِّط عبْرها رغباتك. وهكذا تنمو
وتتكاثر في موضوعات، معيدةً إيَّاك إلى تشظِّي طفولتك المحطَّمة»
(
Ec
40, FF 71-72). «وستدرك سببَ كونِ
علاقة الذات بالدالِّ هي المرجع الذي نضَعُه في طليعة التقويم
العام للنظرية التحليلية؛ لأنها أوَّلية وتأسيسية في تكوين التجربة
التحليلية، بقَدْر ما هي أوَّليةٌ وتأسيسيةٌ في وظيفة اللاوعي الجذرية.»
٩٥ ولها «أسبقيَّة على المدلول»
(
Ec
29, FF
59). و«الدالُّ، دون غيره، يضمن التماسُكَ النظري
لتماميَّة [الذات] بوصفها تماميَّة» (
Ec 414). وكلُّ
دالٍّ في الذات فريدٌ وغيرُ قابلٍ للانقسام. وبذلك يشارك، كما يذهب
دريدا، في الحضور المتفرِّد الحصين الممنوح تقليديًّا ﻟ «الفكرة»
idea. ولأنَّ السمة المائزة
للفكرة الواضحة فلسفيًّا هي أنه يمكن تكرارها من دون نهايةٍ بوصفها
الفكرةَ «نفسها»؛ فهي فريدةٌ وغير قابلة للانقسام
(
FV
121, 126). ولْنكرر خلاصةَ مبادئنا
our catechism: وَفْق دريدا،
فإنَّ الدالَّ والمدلول على عكس كلِّ هذا، قابلان للتبادُل؛
فأحدهما اختلافٌ مُرجِئ للآخر. ومفهوم العلامة نفسه ليس أكثر من
أداةٍ مقروءة برغم كونها مشطوبة، ولا يمكن تجنُّبها. ويؤدِّي
التكرار إلى نُسخٍ محاكية
simulacrum، لا إلى «الشيء
نفسه».
ويجمع وصفُ لاكان الجذريُّ لوظيفة الدالِّ بين الحضور والغياب
معًا. «وذلك أنَّ الدالَّ وحدةٌ في تفرُّده نفسه؛ كونه بطبيعته
رمزًا فحسب للغياب»
(Ec
24, FF
29). الدالُّ يدلُّ على رغبةٍ في شيءٍ تفتقده
الذات، آخر الذات. والدالُّ السيِّد المسيطِر على دوالِّ الرغبة
هذه، هو الفالوس [= القضيب من حيث هو رمزٌ أعلى]
phallus، الذي يعكس المشاعر
البشرية القوية: الخوف من الإخصاء (من الأمِّ) لدى الذَّكر، وحسد
القضيب لدى الأنثى. وليس المقصود بالفالوس العضو الفعلي، قضيب
الذكر penis أو بَظْر الأنثى
clitoris، بل المقصود الفالوس
بوصفه دالًّا يمكن أن يحلَّ
محلَّ كلِّ الدوالِّ التي تدلُّ على الرغبات جميعها في حالات
الغياب كلِّها. «علاقته الأعمق علاقةٌ جسَّد بها القدماء العقلَ
الفيَّاض Nous واللوجوس
logos»
(Ec 695). «الفالوس دالٌّ، وهو
دالٌّ وظيفتُه … ربما رفْعُ الحجاب عمَّا يتوارى في المُعمَّيات.
إنه الدالُّ المقدَّر له أن يصمِّم آثار المدلول في تماميَّتها،
بالقَدْر الذي يشترطه الدالُّ بحضوره دالًّا»
(Ec
690). وموقعُ الفالوس «على سلسلة الدوال التي
ينتمي إليها حتى عندما يجعلها ممكنة» (FV 132)، موقعٌ
متعالٍ [متسامٍ] بالمعنى الدقيق للكلمة. الوجود عند هيدجر، حتى وهو تحت الشطب، يمكن أن
يكون مدلولًا متعاليًا متساميًا. والفالوس عند لاكان، الذي يدلُّ
على غيابٍ، دالٌّ متعالٍ متسامٍ.
وداخل هذه الحكاية الجنسية sexual
fable عن إنتاج المعنى، تكون كلمة دريدا هي
الانتثار dissemination؛ إذ
يستغلُّ دريدا قرابةً إتيمولوجية متكلَّفة بين الكلمة الدالَّة على
علم الدلالة semantics والكلمة
الدالة على المَنيِّ semen،
ويقدِّم هذه النسخة من النصيَّة: بَذرٌ لا يُنتج نباتًا، ولكنه
يتكرَّر من دون حدودٍ بكلِّ بساطة. إمناء
semination ليس تخصيبًا
insemination بل انتثار
dissemination، بَذرٌ
seed عديمُ الجدوى، قذْفٌ
emission لا يرجع إلى أصله في
الأب. ولا تَتعدَّد المعاني تعدُّدًا دقيقًا ومحكومًا، بل تتكاثر
معانٍ مختلفة دائمًا، ومؤجَّلة دائمًا. يقول لاكان متحدِّثًا عن
الرسالة المسروقة بوصفها دالًّا: «رسالةٌ تصل دائمًا إلى وِجْهتها»
(Ec
41, FF
72). وأمَّا القول إنَّ الرسالة «ربما لا تصِلُ
دائمًا» (FV
115)؛ فهو طريقةُ استجابة دريدا. فالإخصاءُ،
الافتقار إلى قَوامة السُّلطة المرجعية القضيبية
phallic authority، يحوِّل
«المؤلِّف» أو «الكتاب» إلى «نصٍّ» . والحضور لا يمكن الإفصاح عنه
إلا إذا جُزِّئ إلى خطاب، و«الإخصاء» والتَّفتيت يهدِّدان إمكان
الخطاب، ويشترطانه، سواءً بسواء. وبمبالغةٍ نوعًا ما، قد يُنظَر
إلى الفالوس بوصفه السِّكين الذي يُقطِّع نفسَه ليُديم انتثارَه.
ويبدأ أحدُنا ارتيابًا في أنَّ حكاية المعنى المتمركِزة قضيبيًّا
phallocentric fable لن تكفي
ببساطة.
يقدِّم لنا دريدا حكاية الهايمن [= غشاء البكارة]
hymeneal fable، وهو ما يبدو
مُرْضيًا بالنسبة لي أن أفسِّره على أنه بادرةٌ نِسْوية
feminist. الهايمن فضاءٌ
مطويٌّ دائمًا (ولذا، هو ليس مفردًا ولا بسيطًا) يكتُب فيه القلمُ
انتثارَه. ويعني «مجازيًّا» إتمامَ الزواج [جِماعَ العُرْس وفضَّ
البِكارة]، ويدلُّ حضوره «حرفيًّا» على غياب الجِماع [البِكارة].
وتِلكم بنيةٌ تُبرِز لعبَ الحضور والغياب. فالهايمن
hymen يلغي التضادات؛ لأنَّه
يَفعل مثلما يُفعَل به. هذا الهايمن
hymen الخيالي الرائع، الذي هو
جناسٌ ناقصٌ لكلمة hymne [= نشيد وطني]، «حائلٌ
من نسيجٍ رقيق، بِكرٌ دائمًا مثلما هو منتهَكٌ دائمًا»، يُفكِّك
«ضمان السيادة» (Dis 260). وأُحيل القارئَ إلى
مقالةِ دريدا «الجلسة المزدوِجة» La double
séance، حيث يُطوَى الهايمن ويُفضُّ فيها
بسخاء.
«إذا تخيَّلنا يدًا تكتب على لوحِ كتابةٍ باطن، واليد الأخرى
ترفع بشكلٍ دوريٍّ ورقةَ غلافه من شريحةٍ شمعية؛ فسيكون لدينا
تمثيلٌ عينيٌّ للطريقة التي أحاول بها تصوير أداء جهاز الإدراك
الحسي في عقلنا» (GW XIV 11, SEXIX 234). حكاية المعنى عند
دريدا تُفكِّك مركزية الفالوس
phallocentrism عند فرويد
عبْرَ مفهومٍ مزدوِج المفاصل، مثل لوحِ الكتابة الباطن الفرويدي
الموضَّح أعلاه. لم يَعُد الإخصاء (تحقيق الاختلاف الجنسي بوصفه
نموذجًا للاختلاف بين الدالِّ والمدلول) أصلًا للدلالة. وإنما
يشارك الاختلافُ الجنسي، بالأحرى، في «التمثيل العيني» لإنشاء
المعنى (ولا بدَّ، بطبيعة الحال، من انتقاد هذه الكلمات على المدى
الطويل): الانتثار في الهايمن. ففي هايمن التفسير
hymen of interpretation
البِكر أبدًا (غير البِكر)، المنتهَك أبدًا (غير المنتهَك)،
الإكمالي دائمًا عبْرَ طَيِّه، الذي هو أيضًا فتْحُه، يُهرَق
مَنيُّ المعنى؛ مَنيٌّ ينثر نفسَه في الخارج بدلًا من أن يُلقِّح.
أو بقلب الحدود: هايمن التفسير هو بادرةُ تفسيرٍ مشتِّتةٌ لَعوبة،
بدلًا من أن تكون هرمنيوطيقية تملُّكية، تخترق هايمن النصِّ أبدًا
(ولا تخترقه). اتحادٌ جنسيٌّ مؤجَّل إلى الأبد. ويقول دريدا
منتصِرًا للعاميَّة الدارِجة ما يمكن ترجمتُه تقريبًا إلى: «إنَّه
[الانتثار] يأتي بسرعةٍ جدًّا.» “It
[dissemination] comes too soon”. ولكنَّ لعب
العبارة في اللغة الفرنسية أوضح: “Elle-le [le
sens] laisse d’avance tomber” [= «هي تتركه
[المعنى] يتدلَّى سلفًا»] (Dis 300). ويستفيد دريدا من
حقيقةٍ جراماتيقيةٍ grammatical
بسيطة، ألَا وهي أنَّ كلمةَ
dissemination [= الانتثار] —
الفعل الذَّكري — لكونها اسمًا ينتهي ﺑ
tion؛ مؤنثةٌ في اللغة
الفرنسية. والضمير elle يُربِكُ
الفاعليةَ الجنسية. واﻟ «-» بين الفاعل والمفعول تُحيي ذكرى
التأجيل الساكن في نثر هايمن المعنى.
سيرى دريدا في عباراتِ لاكان المميَّزة — «حُسْن النيَّة وسوء
النيَّة»، و«الأصالة»، و«الحقيقة» — بقايا أخلاقيِّ «وجودي» ما
بعدَ الحرب العالمية الثانية. وسيرى في عمل لاكان الكثير من الديون
غير المعترَف بها لفينومينولوجيا هيجل وهوسرل، التي يسخر منها
المحلِّل النفسي (Pos F 117, Pos E. II. 43). وكثيرًا ما
يقدِّم لاكانُ نفسَه بوصفه النبيَّ الذي ينزع النِّقاب عن فرويد
«الحقيقي». وتُزعج هذه المهمَّة النبويَّة دريدا المفكِّك، الذي
تُعدُّ ذاتية الناقد عنده عُرْضةً للنصيَّة؛ كالنصِّ نفسِه سواءً
بسواء.
•••
لقد اهتمَّ القسم السابق من هذه المقدمة بثلاثِ بادراتٍ
جراماتولوجية مهمَّة: فريدريك نيتشه، سيجموند فرويد، مارتن هيدجر.
ونعود إليهم بطريقةٍ أخرى في نهاية هذا القسم. وبالنسبة إلى دريدا،
فإنَّ نقطةَ التمهيد إلى البنيوية والوعي ببنائية الأشياء، التي
يمكن تعيينُها مؤقتًا، لا تكمن فحسب في اكتشاف البنيات «الموضوعية»
للغة، التي توفِّر نماذجَ «علميةً» لدراسة «الإنسان». وإنما تكمُن
أيضًا في إعادة فتْحٍ حاسمةٍ لسؤال العلاقة بين البنيات «الذاتية»
والبنيات «الموضوعية»؛ بنْية الرغبة التي تضع مكانةَ الإنسان، وذلك
التمييز عينه موضع التساؤل:
أين، وكيف، يظهر فكُّ تمركُز مفهوم بنائية البنية هذا؟
سيكون من السذاجة نوعًا ما الإشارةُ إلى حدَثٍ أو مذهبٍ أو
مؤلفٍ لكي نعيِّن هذا الظهور؛ فهو من دون ريبٍ جزءٌ من
حقبةٍ كاملة
٩٦ … وبرغم ذلك، إذا كنتُ أرغب في إعطاء نوعٍ من
الإشارة باختيار «اسم» أو «اسمَين»، وباستدعاء أولئك
المؤلِّفين الذين حافَظَ هذا الظهورُ في خطاباتهم على
أشدِّ صياغاته راديكاليةً تقريبًا؛ فلربما أستشهد بنقد
نيتشه للميتافيزيقا، ونقد مفاهيم الوجود والحقيقة التي
حلَّتْ محلَّها مفاهيمُ اللعب والتفسير والعلامة (علامة من
دون حقيقةٍ حاضرة)، وبالنقد الفرويدي لحضور الذات، أيْ نقد
الوعي والذات والهُويَّة الذاتية والقرب من الذات أو
امتلاكها. وعلى نحوٍ أشدَّ راديكاليةً، أستشهد بالهدم
الهيدجريِّ للميتافيزيقا والأنطولوجيا، وتعيين الوجود
بوصفه حضورًا (
ED 411-12, SC 249-50).
٤
كان انطلاق النَّهْج البنيوي يعني «تضخُّم
inflation» لغة «العلامة»، ومن
ثَم كما رأينا «تضخُّم العلامةِ نفسها»
(١٥، ٦). وذلكم يعني — في حقيقة أمره —
تضخُّمًا، لا للعلامة المكتوبة graphic
sign، بل الصوتية
phonic، ولدور عنصر الصوت في
إنتاج المعنى، أي اللغة language
بوصفها كلامًا speech. ويتناول
الفصل الثاني من كتاب «الجراماتولوجي» الطريقةَ التي وصَفَ بها
سوسير اللغويات، حتى تقتصر على دراسة الكلام وحده بدلًا من الكلام
والكتابة writing. ويشارك سوسيرَ
في هذا التأكيد ياكوبسون وليفي شتراوس، بل كلُّ البنيوية
السميولوجية في واقع الحال. وأمَّا لاكان، الذي يتعامل ظاهريًّا مع
الدالِّ وحده، فيرى الدالَّ نصفَ «تضادٍّ صوتي»
(EC
419)، ويسمِّيه لغةَ الذات. وعندما يشير
الدالُّ إلى مهمَّةِ حقيقة اللاوعي؛ يكون «كلامًا كاملًا»
full speech.
ويذهب دريدا، في كتابه «الجراماتولوجي»، إلى أنَّ رفضَ الكتابة
هذا بوصفها مُلحقًا وتقنيةً ليس إلا، فضلًا عن كونها خطرًا مدمجًا
في الكلام يهدِّده — كبشُ فداءٍ في واقع الأمر — عرَضٌ على مَيلٍ
أوسع. ويَربط هذا التمركُزَ الصوتي
phonocentrism بتمركُزٍ
لوجوسيٍّ logocentrism، ألَا وهو
الاعتقاد بأنَّ الأشياء الأولى والأخيرة هي اللوجوس
Logos والكلمة
Word والعقل الإلهي
Divine Mind، وفَهْم الله
المطلق، والذاتية الخلَّاقة بلا حدود، والأقرب إلى زمننا حضور
الذات self-presence في الوعي
الكامل بالذات. ويقول دريدا، في كتابه «الجراماتولوجي» وفي مواضعَ
أخرى، إنَّ الدليلَ على هذا الحضور الأصليِّ والغائي يمكن العثور
عليه عادةً في الصوت voice.
ويقدِّم هذه المسألةَ بشكلٍ أوضح، من منظورِ فكر هوسرل، في الفصل
السادس من كتابه «الكلام والظواهر» وعنوانه «الصوت الذي يحفظ
الصمت» The Voice that Keeps
Silence. ولقد رأينا، وَفْق دريدا، كيف أنَّ
نصَّ هوسرل معذَّبٌ باستبصارٍ مقموعٍ مفاده أنَّ الحاضرَ المعيش مسكونٌ دائمًا
بالاختلاف حقًّا. وما يسمح لهوسرل بتفعيل هذا القمع
suppression هو الدليل على
حضور الذات الذي يجِدُه في الصوت؛ ليس الصوتُ «الحقيقيَّ
الواقعيَّ»، بل مبدأُ الصوت في مناجاة النفس الباطنة
interior soliloquy: «لماذا
تكون الوحدةُ الصوتية phoneme هي
الأكثر «مثالًا» للعلامات؟ … عندما أتكلَّم، ينتمي الصوتُ إلى
الجوهر الفينومينولوجي لهذه العملية التي أسمعُ فيها نفسي [أُنصِت
je m’entende: أسمع وأفهم] في الوقت نفسه الذي
أتكلَّمُ فيه … ويبدو أنَّ عملية سماع أحدِنا نفسَه يتكلَّم،
بوصفها وجدانًا تلقائيًّا خالصًا، تختزل حتى السطح الداخلي لجسده …
ولا شكَّ في أنَّ هذا الوجدانَ التلقائيَّ إمكانٌ لمَا يُسمَّى
الذاتية» (VP
86-87, 88, 89; SP 77,
79).
الفرضية، إذن، أنَّ هذا التمركُز حول الصوت-التمركز حول اللوجوس؛
يتعلَّق بالمركزية نفسِها: الرغبة البشرية في افتراضِ حضورٍ
«مركزيٍّ» بدايةً ونهايةً:
مفهوم العلامة … يظلُّ داخل تراثِ مركزية اللوجوس، التي
هي أيضًا مركزية الصوت: القرب المطلَق بين الصوت والوجود،
بين الصوت ومعنى الوجود، بين الصوت ومثالية
ideality المعنى … نحن
لدينا بالفعل هاجسٌ مفادُه أنَّ التمركُز حول الصوت يندمج
بالتحديد التاريخيِّ لمعنى الوجود عمومًا بوصفه حضورًا،
وبكلِّ التحديدات الفرعية التي تستند إلى هذا الشكل العام
… (حضور الشيء إلى النَّظر بوصفه آيدوس [= جوهر، شكل]
eidos، الحضور بوصفه
جوهرًا/ماهية/وجودًا عينيًّا (كائنية
ousia)، الحضور الزمني
بوصفه نقطةَ (سمةَ stigmè)
الآن أو اللحظةِ (nun)،
حضور الذات في الكوجيتو، والوعي، والذاتية، حضور الآخر
والذات معًا، تفاعُل الذوات
intersubjectivity
بوصفه ظاهرةً قصديةً للأنا
ego، وما إلى ذلك.)
وإذن، تدعم مركزيةُ اللوجوس تحديدَ وجودِ الكائن بوصفه
حضورًا (٢٣، ١١-١٢).
وتتناسب مركزية الفالوس عند لاكان، التي توسِّع — كما يرى دريدا
— العبودية الميتافيزيقية metaphysical
bondage عند فرويد، مع هذا النموذج: «يصف
فرويد، مثل أتباعه، ضرورة مركزية الفالوس فقط … وليس ذلك بغلطةٍ
قديمةٍ ولا تخمينية … وإنما جذرٌ قديمٌ هائل»
(FV
145).
وإنَّ هذا التَّوق إلى مركزٍ، ضغط إيجادِ سُلطة مرجعية، لَهُو
الذي يولِّد التضادات المتسلسلة هَرَميًّا. الطرف الأعلى
superior فيها ينتمي إلى
الحضور واللوجوس؛ وأمَّا الطرف الأدنى
inferior فيعمل على تحديد
مكانته ووَسْم التدنِّي. ويبدو أنَّ التضادات بين العقلي والحسي،
وبين الروح والجسد، قد استمرَّت على امتداد «تاريخ الفلسفة
الغربية»، ووَرَّثتْ حُمولتَها للتضادِّ في اللغويات الحديثة بين
المعنى والكلمة. ويحتلُّ التضادُّ بين الكتابة والكلام موقعَه في
هذا النموذج.
لقد وصفتُ، بروحِ التفسير بدلًا من التعليق، بنيةَ الكتابة
بأنَّها العلامة تحت الشطب. ولعلَّه من المناسب الآن استدعاء
الصفحات الافتتاحية من هذه المقدمة، وأن نُطلق على بنية الكتابة
اسم «الميتافيزيقا تحت الشطب». إنَّ بنية الأثر، حيث كلُّ شيءٍ
مسكونٌ دومًا بأثرِ شيءٍ ليس إيَّاه، تُسائلُ بنيةَ الحضور. وإذا
كان «حاضر حضور الذات … [يبدو] غير قابلٍ للانقسام بقَدْر ما تبدو
غَمْضةُ العين» (VP 66, SP
59)؛ فيجب أن نعترف بأنَّ «هناك مدَّة
للغَمْضة، وهي تُغلق العين» (VP 73, SP 65). حضور الأثر هذا، وأثر
الحضور، يسميه دريدا «كتابة أصلية» archi-écriture
[arche-writing].
وستشارك — أنت — في الكشف البطيء عن هذه الحجج في الباب الأول من
كتاب «في علم أنساق الكتابة»، ولن «أكرِّرها» هنا تفصيلًا. ولكنني
سأُشير، مرةً أخرى، إلى ما أشرتُ إليه قبلًا: يُعطَى اسمُ
«الكتابة» إلى بنيةٍ كاملة من البحث، لا إلى مجرَّد «الكتابة
بمعناها الضيِّق» الذي يشير إلى الرَّقْم الخطِّي على مادةٍ
ملموسة. وإذن، لا يهدف كتاب «في علم أنساق الكتابة» إلى تثمينٍ
بسيطٍ للكتابة، بحيث تكون أعلى من الكلام؛ أيْ إلى قلبٍ بسيطٍ
للتسلسل الهَرمي، ضدَّ ماكلوهان.
٩٧ قمع الكتابة بمعناها الضيِّق أحدُ الأعراض المنتشرة
على المركزية، وذلكم السبب في أنَّ الكثير من كتاب «الجراماتولوجي»
يشغل نفسَه بهذا على وجه التحديد. ويحتوي التصور المعتاد للكتابة
في معناها الضيِّق على عناصر بنية الكتابة عمومًا: غياب «المؤلف»،
وغياب «مسألة الذات»، وقابلية التفسير، والانتشار في مكان وزمان
«لا يخصُّها». ونحن «نعترف» بوجود كلِّ هذا في الكتابة بمعناها
الضيِّق و«نقمعه»؛ الأمر الذي يسمح لنا بتجاهُل أنَّ كلَّ شيءٍ آخر
مسكونٌ أيضًا ببنية الكتابة عمومًا، وأنَّ «الشيءَ نفسَه يفلتُ
دائمًا» (
VP 165, SP 104). ومن ثَم، اختيار
دريدا تعبيرَي «كتابة» أو «كتابة أصلية» ليس من باب الصُّدفة.
فللحقِّ، وكما يشير دريدا مرارًا في القسم الخاصِّ بليفي شتراوس،
لا يمكن التمييز الحاسم بين الكتابة بمعناها الضيِّق والكتابة
بمعانيها العامة؛ فإحداهما تنزلق إلى الأخرى، الأمر الذي يضع
التمييز بينهما تحت الشطب. وقد كان للكتابة امتيازٌ سلبيٌّ لكونها
كبشَ فداءٍ يمثِّل استبعادُه تعريفَ السِّياج الميتافيزيقي.
وبرغم ذلك، فاختيار «الكتابة» جدليٌّ أيضًا، ويناهض التمركز حول
الصوت الجَليِّ في البنيوية. وذلكم على وجه التحديد ما أدَّى،
أحيانًا، إلى إساءة فَهْمٍ عامة، إلى نظرةٍ متسرِّعة يبدو معها
دريدا وكأنَّه يُعيد الأولوية للكتابة على الكلام في دراسة اللغة.
ولكنَّ هذه النظرة جِد متسرِّعة بطبيعة الحال. فالقراءة الدقيقة
لكتاب «الجراماتولوجي» تُبيِّن بيانًا مباشِرًا أنَّ دريدا يشير،
بالأحرى، إلى أنَّ الكلام أيضًا — المُطعَّم
grafted في سياقٍ تجريبي، في
بنية المتكلِّم والمستمع، وفي السياق العام للغة، وإمكان غيابِ
المتكلِّم والمستمع — هذا الكلامَ مبنيٌّ بناءَ كتابةٍ، وأنَّ هناك
— بهذا المعنى العام — «كتابةً في الكلام»
(ED
294). الباب الأول من كتاب «الجراماتولوجي»
عنوانه «الكتابة قبل الحرف» Writing Before the
Letter، أي الكتابة قبل واقعةِ الكتابة
بمعناها الضيِّق. ويُبيِّن الباب الثاني، وعنوانه «الطبيعة،
الثقافة، الكتابة» Nature, Culture,
Writing، كيف يُفكَّك، في نصوص جان جاك روسُّو
وكلود ليفي شتراوس، التضادُّ المعلَن بين الطبيعة والثقافة بوساطة
كلٍّ من واقعة الكتابة
التجريبية وبنية
الكتابة.
ولكن إذا لم يكُن يوجد تمييزٌ بنيويٌّ بين الكتابة والكلام؛
فسيكون اختيار «الكتابة» بوصفها طرفًا فاعلًا اختيارًا مشكوكًا فيه
بحدِّ ذاته، ومرشحًا لتحت الشطب المقروء. وهو ما يصُوغه دريدا بهذه
الطريقة: «هذا الجذر المشترَك ليس بجذرٍ بل حجبٌ للأصل، وليس
مشترَكًا؛ لأنَّه لا يصِلُ إلى الشيء نفسه إلا بإصرارٍ غير رتيب
على الاختلاف. وحركة الاختلاف في حدِّ
ذاته غير القابلة للتسمية، التي لقَّبتُها
استراتيجيًّا باسم الأثر trace أو الاحتياط والبديل
reserve أو الاختلاف المُرجِئ
differance، يمكن تسميتُها
كتابةً writing داخل السِّياج
التاريخي فقط، أيْ داخل
حدود الميتافيزيقا» (٩٣،
١٤٢).
وبكلماتٍ أخرى، إذا كان من الممكن أن يكون تاريخ الميتافيزيقا
مختلفًا عمَّا هو عليه، فمن الممكن أنْ نسمِّي هذا «الجذر
المشترَك» الإشكالي «كلامًا». ولكنَّ نصَّ الفلسفة (نصَّ ما
يُسمَّى «علوم الإنسان»، ونصَّ الأدب …)، وَفْق الميتافيزيقا
الوحيدة واللغة الوحيدة التي نعرفها أو التي يمكن أن نعرفها،
دائمًا ما يكون مكتوبًا (فنحن نقرؤه في كتبٍ وعلى شريط، عبْر آلة
النفس)؛ وبرغم ذلك، تُعيِّنه الفلسفةُ دائمًا بوصفه كلامًا («قال
أفلاطون …»، أو على الأكثر «يبدو كما لو أنَّ أفلاطون قال …»).
«تُقمَع الكتابةُ على الفور»؛ فالمكتوب يُقرَأ بوصفه كلامًا أو
نائبًا surrogate عن الكلام.
«الكتابة» اسمٌ لمَا لا يُسمَّى. ولكن بالنظر إلى الاختلاف
المُرجِئ، فمن العنف حتى تسميتُها، أو تسميتُها باسمٍ حَرْفيٍّ
خاصٍّ صحيح proper. ولا يمكن
لأحدنا أن يستسيغ أكثرَ من تسمية المُوالَفة
bricolage.
لن يعطي دريدا دالًّا امتيازَ العلوِّ أو السموِّ
transcendence. وحركة
«الاختلاف في حدِّ ذاته»، التي ينقذها بطريقةٍ خَطِرة «تناقُضها»
المقيمُ فيها، لها ألقابٌ كثيرة: الأثر، الاختلاف المُرجِئ،
الاحتياط والبديل، المكمِّل والنائب، الانتثار، الهايمن، التطعيم
greffe، فارماكون [= سمٌّ
ودواء] pharmakon، الإطار والإضافة
التكميلية parergon، وما إلى ذلك.
وتشكِّل هذه الكلمات سلسلةً حيث يمكن استبدال أيٍّ منها بالأخرى،
ولكن ليس بدقَّة (فبطبيعة الحال، أيُّ استعمالَين للكلمة نفسِها لن
يكونا متطابقَين تمامًا): «لا يتداخل مفهومٌ مع أيِّ مفهومٍ آخر»
(Pos F
109, Pos E
41). وكلُّ استبدال هو إزاحةٌ أيضًا، ويحمل
شحنةً استعاريةً مختلفة، كما يذكِّرنا دريدا كثيرًا. وهو حريصٌ
بشكلٍ خاص في حالة «الاختلاف المُرجِئ»؛ فليس من اليسير صياغةُ
كلمةٍ من دون أن يتراءى امتيازُها بوصفها كلمةً مرجعيةً نهائية.
ولهذا السبب، يستهلك مقالُ «الاختلاف المُرجِئ» كثيرًا من طاقته في
تذكيرنا بأنَّ «الاختلاف المُرجِئ ليس كلمةً ولا مفهومًا»، وأنه
«ليس لاهوتيًّا، ولا حتى في الترتيب الأكثرِ سلبيةً في اللاهوت
السلبيِّ negative theology.
فاللاهوت السلبي … يسارع دائمًا إلى تذكيرنا بأنَّه إذا أنكرنا
إسناد الوجود العيني existence إلى
الله، فما فعَلْنا ذلك إلا لكي نُقِرَّه بوصفه طريقةً في الوجود
أعلى غيرَ قابلةٍ للتصوُّر ولا الوصف» (MP 6, SP 134). ومع ذلك، فإعطاءُ
اسمٍ محدَّدٍ هو بادرةُ سيطرةٍ وتحكُّمٍ، على النحو الذي تَأذن به
الممارسة الميتافيزيقية. ولهذا السبب، اضطر دريدا إلى تحذيرنا في
نهاية المقال قائلًا: «يظلُّ الاختلافُ المُرجِئ، بالنسبة لنا،
اسمًا ميتافيزيقيًّا … «أقدم» من
الوجود نفسه، ولغتنا ليس
لديها اسمٌ لهذا الاختلاف المُرجِئ. … كلَّا ولا حتى الاسم
«الاختلاف المُرجِئ»، الذي … يتبدَّد باستمرارٍ في سلسلةٍ من
البدائل المُرجِئة (MP 28, SP 158-59) differant». ويقول دريدا عن
«الهايمن»: «هذه الكلمة … ليست ضرورية … فلو استبدل أحدُنا ﺑ
«الهايمن» hymen «النِّكاح»
marriage أو «الجريمة»
crime أو «الهُويَّة»
identity أو «الاختلاف»
difference، إلخ. فستظل النتيجةُ
واحدةً، باستثناء التكثيف أو التراكم الاقتصادي …»
(ED 149-50).
ويمارس دريدا هذا التحذير بطريقةٍ غير جازمة؛ إذ لا يحتفظ بكلمةٍ
مفاهيميةٍ رئيسة لفترةٍ طويلة. فكلماتٌ مثلُ «كتابة أصلية» و«أثر»
و«الإكمال والإنابة»، وهي الكلمات المهمَّة في كتاب
«الجراماتولوجي»، لا تظلُّ كلماتٍ مفاهيميةً رئيسةً مهمَّة
باستمرارٍ في نصوصه اللاحقة. فكلماتُ دريدا في حركةٍ دائبة أبدًا.
ولا يتخلَّى عن كلمةٍ منها كليَّةً. وإنما ينزل بها إلى أدنى حالات
اسم الجنس common noun؛ حيث يؤسِّس
كلُّ سياقٍ تعريفَه المؤقَّت مرةً أخرى مع ذلك.
وإزاء طاقةٍ نصيَّة تضعُ نفسَها في مواجهة التجمُّد، قدَّمتُ
بالفعل أوصافًا تقريبيةً لكلماتِ الأثر والاختلاف المُرجِئ
والانتثار والهايمن. وليس تعليق دريدا الذي أدلى به لجان لوي
هودبين من باب الاحتشام: «الانتثار في النهاية ليس له معنًى، ولا
يمكن توجيهُه إلى تعريف. ولن أبذل أيَّ محاولةٍ في هذا الصَّدد
هنا، وأُفضِّل الإحالة إلى اشتغال النصوص»
(Pos F
61, Pos E
37). وبوضع هذا التحذيرِ في الحسبان، دعونا
نقول بإيجازٍ إنَّ «التباعد
spacing … «هو» مؤشِّر الخارج
غير القابل للاختزال، وفي الوقت نفسه مؤشِّر حركةٍ، مؤشِّر إزاحةٍ تشير إلى
آخريَّة غير قابلةٍ للاختزال» (Pos F. 107-08, Pos E. II. 40).
ويعكس بحدِّ ذاته بنيةَ الاختلاف المُرجِئ، كما هو الحال في
«الاحتياطي والبديل»، و«الاجتراح والبداية»
entame: بدءُ شيءٍ واقتحامُ
شيءٍ، سواء الأصل والأثر. المكمِّل والنائب
supplement «هو» «إضافةٌ تأتي
لتسدَّ نقصًا … تعويضُ عدم حضورٍ أساسي للذات»
(VP
97, SP
87). وتُعرَض بنيةُ التكميل والإنابة
supplementarity في النصف
الثاني من كتاب «في علم أنساق الكتابة». وأمَّا كلمةُ الفارماكون
[= السُّم والعلاج] pharmakon فهي كلمةٌ يونانية،
تشمل بين معانيها السمَّ والدواء، والجَرعة السحرية. وتُستعمَل
لوصف الكتابة في محاورةِ أفلاطون «فايدروس»
Phaedrus، حيث يصِفُ أفلاطونُ
سقراطَ بأنَّه صيدليٌّ pharmakeus:
مُسمِّمٌ ومُفسِد، ورجلُ طبٍّ، ساحرٌ ومشعوِذ. ولكنَّ أفلاطون لم
يستعمل في وصف الكتابة ولا في وصف سقراط الكلمةَ المرتبِطة
pharmakos [= كبْش فِداء]:
scapegoat [= كبْش فِداء].
وحول هذه الثغرة lacuna يَروِي
دريدا حكايةَ الكتابة (وسقراط) بوصفها كبْشَ فِداء، ويحتفي
بالفارماكون [= سُم ودواء] في هذه السلسلة من بدائل «الكتابة»
ecriture. وأمَّا كلمةُ جِريف
greffe فتعني عمل تطعيم
النبات، سواء في البَسْتنة أو غيرها من أعمال البراعة والحكمة
(Dis 230).
وأخيرًا، كلمة parergon الوافدة
متأخرًا بين هذه التسميات، وتعني الإطارَ و«الإضافة» التكميلية على
حدٍّ سواء.
ولعلَّه ينبغي أنْ يُفلت تعريفُ هذه التسميات من السيادة التي
يمثِّلها فعلُ الكينونة الرابط
«
is». وبهذه الروح يقول دريدا:
الفارماكون pharmakon لا هو
دواءٌ ولا هو سمٌّ، لا هو خيرٌ ولا هو شرٌّ، لا هو داخل
ولا هو خارج، لا هو كلامٌ ولا هو كتابة. المكمِّل والنائب
supplément لا هو
زائدٌ ولا هو ناقصٌ، لا هو خارج ولا هو تكملةٌ للداخل، لا
هو عارِضٌ ولا هو جوهرٌ، وما إلى ذلك. والهايمن [= غشاء
البِكارة] hymen لا هو اختلاطٌ
ولا هو تمييزٌ، لا هو هُويَّةٌ ولا هو اختلافٌ، لا هو
جِماعٌ ولا هو عُذْريةٌ، لا هو حاجبٌ ولا هو آذِن، لا هو
داخل ولا هو خارج، إلخ. ووحدة
الكتابة grammé لا هي دالٌّ
ولا هي مدلولٌ، لا هي علامةٌ ولا هي شيءٌ، لا هي حضورٌ ولا
هي غيابٌ، لا هي إثباتٌ ولا هي نفيٌ، إلخ. والتباعد
l’espacement
[spacing] لا هو مكانٌ ولا هو زمنٌ.
والاجتراح [= البدء والاقتحام] entame
لا هو سلامةُ اكتمالِ بدايةٍ [مَشوبة] أو قطع بسيط، ولا هو
حالةٌ ثانويةٌ بسيطة. بنيةُ النفي المزدوِج — لا ولا —
تعني هذا أو ذاك في الآن نفسِه (Pos F 59, Pos EI.
36).
ربما يبدو هذا عالَمًا من النسبية المتهرِّبة جاذبًا. ولكنَّ
المتعة الرهيبة في هذا العالَم المتهرِّب هي الشعور بتحدِّي
السُّلطة المرجعية. فهذا الأساس المطلَق للسُّلطة المرجعية هو ما
يرفضه دريدا. وإنَّه لمن دواعي السرور المختلَق أن يشعُر الناقد
الأدبي أنَّ ذلك العالَم ينتمي إلى الأسلوب الأدبي أكثرَ من
انتمائه إلى اللغة القَضَويَّة الصارمة التي نربطها عادةً بالفلسفة
الحقَّة. فالنصيَّة تسكن الفلسفة والأدب، ويظلُّ التمييز بينهما في
حاجة إلى تفكيك. وما إنْ يُستوعَب هذا حتى يمكن ملاحظةُ أنَّ الوعي
بضرورةِ التفكيك يبدو أنسبَ للخطاب «غير المسئُول» الذي يُطلَق
عليه تقليديًّا الأدب. «مَيْل
النظرية الطبيعي — الميل إلى ما يوحِّد الفلسفةَ
والعلم في الإبستيما
epistémè
[الوصف المقبول
لكيفية
المعرفة] — سيدفع بالأحرى نحو سدِّ الخَرْق
breach في سِياج
[الميتافيزيقا] بدلًا من الضغط عليه. وقد كان من الطبيعي أن يكون
الاختراقُ
breakthrough أكثرَ
أمانًا وتغلغُلًا في مجالي الأدب والشعر» (
٩٢، ١٣٩). ونَهجُ التفكيك لديه اهتمامٌ واضحٌ
بالنقد الأدبي؛ فبجَعْله التمييزَ بين الفلسفة والأدب إشكاليًّا،
سيَقرأ «حتى الفلسفة» بوصفها «أدبًا».
٩٨
(ومع ذلك، لا يكفي ببساطة الصراخُ المُعلِن بقوةٍ عن وجود
حجَّتَين متناقضتَين ظاهريًّا داخل نصٍّ، والتصريح بأنَّ النصَّ
مفكَّك أو غير موحَّد على النحو المُرْضي، وأنَّ النَّهْج النقديَّ
لدى الناقد جراماتولوجيٌّ على النحو المُرْضي. فإذا كان النقدُ
التقليدي يجِدُ متعتَه في إرساء معنًى «موحَّد» للنصِّ؛ فمن شأن
هذا النوع من النقد أن يستمدَّ الشعور المطابق بالسيادة، من الكشف
عن الافتقار إلى الوحدة. ولن يجابه مثلُ هذا النَّهْج النقدي، الذي
يستند بقوةٍ إلى تعدُّد المعاني
polysemy، مرحَ الانتثار
الجذري. وستُلمِح النتائجُ النقدية نفسُها، التي تكشف عن التضادات،
إلى تآلُفها في النصِّ.)
لقد حاولتُ — بالحديث عن دريدا وهيدجر — تقديمَ وصفٍ مختصر
للإجراء التفكيكي: تسليط الضوء على الموضع الذي يغطِّي فيه النصُّ
بنيتَه الجراماتولوجية. وأمَّا هنا فدعونا نتوسَّع في ذلك الوصف
قليلًا.
قلتُ إنَّ «الرغبة في الوحدة والنظام تجبر المؤلف والقارئ على
إحداث توازُن هو نفسه نظام النصِّ.» وللحقِّ، يربط دريدا إحداثَ
هذه التوازُنات بالمشروع الدائري العظيم لكلِّ الفلسفة بمعناها الأعمِّ.
٩٩ ويُعدُّ مفهوم هيجل عن داخليةِ [ذاكرة
Erinnerung] الفلسفة، في هذه
القراءة، شكلًا من أشكال ضرورةٍ هائلة. والعقيدة [الدوجما] القوية
ذات الصلة في النقد، التي أمَّن عليها مؤخرًا جدًّا، نقادُ مدرسة جنيف،
١٠٠ هي دائرةُ الهرمنيوطيقيا (تفسير النصَّ بدلًا من
عَرْضه)؛ النقد بوصفه حركةَ تطابقٍ بين «ذاتية» المؤلف بوصفها
مضمَّنةً في النص، و«ذاتية» الناقد:
الإجراء التفكيكي، في حقيقة أمره، ضدُّ إعادة الاستيلاء
المستمرِّ على عملِ النُّسَخ المحاكية [بدلًا من التكرار
المُطابِق] في نمط الجدل الهيجلي … وذلك أنني أحاول توجيه
المشروع النقدي، المثالية الهيجلية
Hegelian idealism
التي تتألف، على وجه التحديد، من الإلغاء والاحتفاظ
sublating بالتضادات
الثنائية في المثالية الكلاسيكية، عن طريق حلِّ تناقُضها
في طرفٍ ثالث يتحوَّل إلى «الرفع»
aufheben، إلى إنكار
أثناء الرفع، أثناء إضفاء المثالية
idealizing، أثناء
التسامي sublimating، في
داخليَّة ادِّكاريَّة anamnestic
interiority (Erinnerung [كلمةٌ
ألمانيةٌ تعني أيضًا الذاكرة
memory])، مع وجود
اختلافٍ داخلي في حضوره الذاتي (Pos F. 59, Pos E. I.
36).
لقد أفصَحَ هيجل عن الدائرة بوصفها تيمتَه المركزية (٣٩-٤١,
٢٥-٢٦)، لاغيًا ومحتفظًا
بالتضادات الثنائية المتوازنة في الفلسفة الكلاسيكية. ولكنْ حتى في
النصِّ الفلسفي الكلاسيكي، يبدو أنَّ هناك لحظةً يُسحَب فيها
إمكانُ الفقد غير المحدود للمعنى (الانتثار)، مرةً أخرى، إلى دائرة
المعنى؛ فتعمل التضادات المنظَّمة تحت الإشراف الحميد للنظام بوصفه
حضورًا، والحضور بوصفه نظامًا. وتعمل مثل هذه اللحظات لصالح مشروع
الفلسفة الدائري أيضًا. ويفكِّكها دريدا في نصوصٍ متباينة تبايُنَ
نصوصِ أرسطو وديكارت. فعندما يُعلن أرسطو مُعضِلة زينون
Zeno’s aporia (الزمن يكون ولا يكون
على حدٍّ سواء) ويمرِّرها من دون تفكيكها
(MP 57,
Eng 73-74)، أو عندما يُثبِت ديكارتُ وجودَ
الله بوساطة النور الطبيعي (نور العقل) الذي «بوصفه شيئًا طبيعيًّا
… يجِدُ مصدرَه في الله، في الله الذي جرى وضعُ وجوده موضعَ شكٍّ،
ثم جرى إثباته بفضل هذا
النور» (MP 319, WM 69-70) ؛ فعندئذٍ يشير دريدا
إلى أنَّ إحداث التوازن فاعلٌ في تلك اللحظات. كما يشير، في حديثه
عن استعارة البيت التي تفضِّلها الممارسة الفلسفية كثيرًا، إلى
انتشار المشروع الدائري والإفصاح عنه عند هيجل: «المسكن المستعار …
مصادرة المِلْكية، أن تكون بعيدًا عن البيت، ولكنك لا تزال في
مَسكَن، بعيدًا عن البيت ولكن في بيتِ شخصٍ ما. مكان لاسترداد
الذات، والتعرُّف عليها من جديد. حشد الذات، والتشابه مع الذات.
خارج الذات في حدِّ ذاتها. تلك هي الاستعارة الفلسفية بوصفها
دورانًا وانعطافًا في (أو من منظور) إعادة الاستملاك، المجيءَ
الثاني، الحضورَ الذاتي للفكرة
idea في نورها. رحلة استعارية
من الشكل والماهية [الآيدوس] eidos عند
أفلاطون إلى الفكرة idea عند هيجل»
(MP 302, WM
55).
«خارج الذات-في حد ذاتها». ها هنا يقوم دريدا بأكثرَ من مجرَّد
التعليق على مشروع الفلسفة الدائري؛ فهو يصِفُ إحدى الدعائم
الأساسية لهذا المشروع — التضاد بين الاستعارة والحقيقة —
الاستعارة بوصفها انعطافًا نحوَ الحقيقة، والحقيقة بوصفها «خارج
نفسها» في مسكنِ الاستعارة المقترَض، ولكنها أيضًا «نفسها»؛ لأن
الاستعارة تشير إلى حقيقتها.
ويؤسِّس التفسيرُ النصي التقليدي نفسَه استنادًا إلى هذا الفَهْم
الخاص للاستعارة: انعطافٌ نحوَ الحقيقة. ولا يقتصر هذا الفَهْم على
الاستعارات المفرَدة أو أنظمة الاستعارة، وإنما يُنظَر إلى الخيال
[القصِّ والأدب] fiction، بوجهٍ
عام، بوصفه انعطافًا نحو حقيقةٍ يمكن للناقد تقديمُها عبْرَ
تفسيرها. ونحن لا نفحص، عادةً، فرضياتِ
premises هذا الموقف المألوف.
وإذا فَعَلنا ذلك، سنكتشف بطبيعة الحال أنه لا توجد لغةٌ خالصة
تخلو من استعارة؛ والاستعارةُ «لهذا السبب داخلةٌ في المجال الذي
سيكون من أهداف «المجازيَّة» العامة أن تصنِّفه»
(MB
261, WM
18)؛ وسنكتشف أيضًا أنَّ الفكرة القائلة إنَّ
الأدب يبدأ من حقيقة المؤلف وينتهي بإزالة الناقد الغطاءَ عن تلك
الحقيقة، هي كذبةٌ تقدِّمها ممارستنا النقدية والبيداجوجية [=
التعليمية]. فبرغم قولنا عادةً إنَّ النصَّ مستقلٌّ ومكتفٍ بذاته؛
لا يوجد أيُّ مبرِّر لنشاطنا ما لم نستشعر أنَّ النصَّ يحتاج إلى تفسير. وما يُسمَّى
المادة الثانوية ليس مجرَّد ملحقٍ إضافي لمَا يُسمَّى النصَّ
الأساسي. فالنصُّ الأساسي يُقحِم نفسَه داخل فجواتِ المادة
الثانوية فيملأ الثقوب الموجودة فيها. وحتى عندما يُضيف النقدُ
نفسَه إلى النصِّ، يُعوِّض supply
نقصًا في النص ويسدُّ الثغرات في سلسلة النقد السابقة عليه. النصُّ
ليس متفرِّدًا (فالاعتراف بوجود تعدُّد في المعاني يتحدَّى ذلك
التفرُّد uniqueness)؛ ويخلق
الناقد بديلًا. النصُّ ينتمي إلى اللغة، لا إلى المؤلف صاحبِ
السيادة الوالد. (ومع أنَّ النقد الجديد New
Criticism قرَّر بحسمٍ اكتفاءَ النصِّ بنفسه
self-enclosure و«وحدته
العضوية» organic unity، وانغمس
عمليًّا في تملُّق المؤلف؛ فقد كان لديه إحساسٌ بهذه البصيرة
الأخيرة في انتقاده «مغالطة القصد» intentional
fallacy). وأمَّا دريدا الذي يسائل وحدةَ
اللغة نفسَها ويضع الاستعارة تحت الشطب؛ فيفتح النصيَّة فتحًا
جذريًّا.
ومن الغريب بما يكفي، ضرورةُ أن يَحمل النقدُ التفكيكي
deconstructive criticism، على
محمل الجِد، بنيةَ النصِّ «المجازية» [الاستعارية]. ولكن لأنَّ
الاستعارات لا يمكن اختزالها إلى حقيقة؛ فإنَّ بنياتها «في حدِّ
ذاتها» تُعدُّ جزءًا من نصيَّة النصِّ (أو رسالته).
وكما ألمحتُ من قبل، يجب أن يضع التفكيك في حسبانه أيضًا عدم
سيادة الناقد نفسه. ولعلَّ «إرادةَ الجهل» will to
ignorance هذه، مسألةُ موقفٍ ليس إلا؛ بمعنى
إدراك أنَّ اختيار الناقد ﻟ «الدليل» مؤقَّت، والارتياب في الذات،
وفقدان اليقين في قدرة الناقد وسيطرته على كلماته، والتحوُّل عن
التمركُز حول الفالوس إلى الهايمن. وذلكم درسٌ مهمٌّ بدرجةٍ كافية
للناقد الذي يُعلن عن نفسه وصيًّا
custodian على «المعنى» العام
للأدب. وتعطينا نغمةُ القسم المعنوَن ﺑ «الفادح: مسألة النَّهْج»
The Exorbitant. Question of
Method، حيث «يبرِّر» فيه دريدا خياراته بشأن
الذات، لمحةً عن ذلك الدرس المستفاد. وأقتبسُ منه بضعَ عِبارات:
«يجب أن نبدأ أينما نكون،
وإنَّ فِكر الأثر … قد علَّمنا استحالةَ تبرير نقطة بدء مطلقة.
أينما نكون؛ في نصٍّ
نعتقد بالفعل أننا نكون فيه» (٢٣٢-٣٣، ١٦٢).
ولكنَّ الناقد لا يستطيع، على المدى الطويل، أن يُظهِر ضعفه
وقابليَّته للسقوط. ونعود ببساطة إلى مسألة الموقف تلك. ولإدراك
أنَّ الأدب ونقده على
السواء يجب أن يفتحا نفسَهما على القراءة التفكيكية؛ فإنَّ النقد
لا يكشف عن «حقيقة» الأدب، مثلما لا يكشف الأدب عن
«الحقيقة».
قراءةٌ تُنتِج بدلًا من أن تَحمي. وقد احتفينا فعلًا بذلك الوصف
للتفكيك. وها هنا ثَم وصفٌ آخر: «المهمَّة هي … تفكيكُ
dismantle [déconstruire]
البنيات الميتافيزيقية والبلاغية التي تعمل في [النصِّ]، لا من أجل
رفضها أو التخلُّص منها، وإنما لإعادة كتابتها بطريقةٍ أخرى»
(MP
256, WM
13).
كيف يجري تفكيك هذه البنيات؟ باستعمال الدالِّ لا بوصفه مفتاحًا
متعاليًا متساميًا سيفتح الطريق إلى الحقيقة، بل بوصفه أداةً في يد
المُوالِف
bricoleur أو في يد عامل
حِرَفي يُصلِح كلَّ شيء
tinker:
بوصفه «رافعةً إيجابية»
positive
lever أو عَتَلةً (
Pos F. 109, Pos E. II. 41).
فإذا صادفتْنا، أثناء عملية فكِّ شفرة نصٍّ بالطريقة التقليدية،
كلمةٌ يبدو أنها تُضمِر تناقضًا غير قابلٍ للحلِّ، بحُكم أنَّها
كلمةٌ
واحدة تعمل أحيانًا
بطريقة وأحيانًا بطريقةٍ أخرى، ومن ثَم تشير إلى عدم وجود معنًى
موحَّد؛ فيجب أن نلتقط هذه الكلمة. وإذا بَدا أنَّ استعارةً تقمع
آثارها فتُبقيها طيَّ الكتمان، فسنلتقط هذه الاستعارة. ونتتبَّع
مغامراتها على امتداد النصِّ، ونرى النصَّ بوصفه بنيةَ حَجبٍ وهو
يَتفكَّك، كاشفًا انتهاكه لنفسه
self-transgression وعدم
قابليته للحسم
undecidability. ولا
بد من تأكيدِ أنني لا أتحدَّث عن تعيينِ لحظة الْتباسٍ وازدواجٍ في
المعنى
ambiguity أو مفارقةٍ
irony بسيطة، يجري دمجُها في
النهاية في نظامِ المعنى الموحَّد للنصِّ؛ بل أتحدَّث بالأحرى عن
لحظةٍ تُهدِّد بانهيار ذلك النظام تهديدًا حقيقيًّا. (ولا بد من
القول ثانيةً أيضًا إنَّ دريدا برغم تركيزه في كتاب
«الجراماتولوجي» على كلمة «المكمِّل والنائب»
supplement [الدال، الاستعارة]
والكلمات المرتبطة بها في نصِّ روسُّو بوصفها رافعتَه وعَتَلتَه؛
فما إنْ يُتاح لنظرةِ الناقد اللعبُ على أجزاءٍ من الكلمات
والتباعد في الصفحة، حتى تصبح رافعةُ أو عَتَلةُ عدمِ قابلية الحسم
القوية أكثرَ مراوغةً.) وعلى أيَّة حال، ليست العلاقةُ بين النصِّ
المُعَاد كتابتُه وما يُسمَّى النصَّ الأصلي علاقةَ ظهورٍ وكُمُون،
بل علاقة بين طِرْسَين.
١٠١ فالنصُّ «الأصلي» نفسه هو ذلك الطِّرْس الذي عليه ما
يُسمَّى «ما قبل» النصوص
“pre”-texts التي قد يستطيع
الناقد، أو لا يستطيع، الكشفَ عنها؛ ولن يظلَّ أيُّ نقشٍ أصليٍّ
إلا أثرًا؛ «القراءة، من ثَم، تشبه صورَ الأشعة السينية
X-ray التي تَكتشف تحت أديم
اللوحة الأخيرة صورةً أخرى مخفيَّة، للرسَّام نفسه أو لرسَّامٍ
آخر، لا يهمُّ، سيستخدم — لعدم وجود خامات، أو لإحداث تأثيرٍ جديد
— مادةَ قماشٍ قديم أو يستبقي جزءًا من الرسم الأول»
(
Dis 397).
لقد أشرتُ إلى أنَّ دريدا يَزجُّ بنفسه في الإجراء الفرويدي
المتمثِّل في الاهتمام بتفاصيل النصِّ. واسمحوا لي أن أضع، هنا،
إلى جانبِ استعارتَي الطِّرس وصورة الأشعة السينية، تشبيهَ فرويد
لتحريف نصِّ النَّفْس، «برغم معرفتي بأنَّ التشبيهات في هذه الأمور
لا تجعلنا نتجاوز الحدود كثيرًا»:
[هناك] طرائقُ متنوِّعة … لجعل الكِتاب [غير المرغوب
فيه] عديمَ الضرر. [سينقل دريدا التشبيه إلى «التهديد»
الجراماتولوجي «غير المرغوب فيه» الذي يسكُن كلَّ نصٍّ].
وإحدى هذه الطرائق عبور الفقرات الانتهاكية بحيث تكون غير
مقروءة. وفي تلك الحالة لا يمكن نسخها، والناسخ التالي
للكِتاب سيُنتِج نصًّا غيرَ قابلٍ للاستثناء، ولكنه ينطوي
على فجواتٍ في فقراتٍ بعينها ومن ثَم قد يكون غيرَ مفهومٍ
في هذه المواضع. وهناك طريقةٌ أخرى … ستكون … الشروعَ في
تحريف النصِّ. إذ تُستبعَد الكلمات المفْرَدة أو يُستبدَل
بها كلماتٌ أخرى وتُقحَم عباراتٍ جديدة. والأفضل من ذلك
كلِّه شطبُ الفقرة بأكملها، ووضع فقرةٍ جديدة محلَّها تقول
العكس تمامًا (الإمالة من عندي؛ GWXVI. 81-82, SEXXIII.
236).
(من الفارق بطبيعة الحال أنَّ فرويد، الذي يضع النفس تحت الشطب،
يضطر في الوقت نفسه إلى استعمال حسٍّ «مركزي» تمامًا، يختم به
الفقرة: «لم تَعُد تحتوي على ما أراد المؤلف قولَه».)
وقد أدَّى الإحساس بأفقِ المعنى غير المحدود، مع الارتكاز
المؤقَّت إلى النصِّ الذي لم يُتخلَّ عنه أبدًا، إلى بعض القراءات
المشهديَّة spectacular readings.
والقراءتان الأكثرُ ميلًا إلى المغامرة هما: مقالُ «الجلسة
المزدوِجة» (قراءةٌ في نصِّ مالارمه «محاكاة»
Mallarmé’s “Mimique”؛
Dis
199–317)، ومقالُ «الانتثار» (قراءةٌ في نصِّ
فيليب سولرز «أعداد» Philippe Sollers’ Nombres; Dis
319–407). ومن الصعب مجاراة هذه الأفعال
البهلوانية والحيل البارعة المنظَّمة. ومع ذلك، فإنَّ قراءة دريدا
لمحاورة أفلاطون «فايدروس» في مقاله «صيدلية أفلاطون»
(Dis 63–197)، وقراءته كتيِّب
روسُّو «مقالٌ في أصلِ اللغات» The Essay on the Origin of
Languages, (235–445, 165–316)، تبدوان مثيرتَين
للإعجاب بالقَدْر نفسه مع أنهما أقلُّ لعبًا.
ويشدِّد دريدا، في حديثه عن الهايمن [= غشاء البِكارة]
hymen، على المساحات الفارغة
في الصفحة ودورها في لعب المعنى. وبطريقةٍ مماثِلةٍ، كثيرًا ما
يُكرِّس دريدا نفسَه لعنايةٍ كبيرةٍ بالنصِّ في هوامشه، إذا جاز
التعبير. فيفحص التفاصيلَ الدقيقة للحظةٍ غير قابلةٍ للحسم،
وعمليات الإزاحة غير المحسوسة تقريبًا، التي ربما تُفلت بطريقةٍ أو
بأخرى من عين القارئ. ففي قراءته فوكو، نجِدُه يركِّز على ثلاثِ
صفحات من أصل ٦٧٣ صفحة. وفي قراءته روسُّو، يَتخيَّر نصًّا أبعدَ
من أن يكون «مركزيًّا» عند روسُّو. وفي قراءته هيدجر، يشرع في
كتابة ملاحظة بعد ملاحظة على كتابه «الوجود والزمان»
Sein und
Zeit.
إن نَهجَ دريدا، كما قال لجان لوي هودبين بطريقةٍ صيغيَّةٍ
بسيطةٍ للغاية، نَهجُ قلبٍ
reversal وإزاحة
displacement. فلا يكفي
«ببساطة تحييدُ neutralize التضادات الثنائية
في الميتافيزيقا». وعلينا الاعتراف بأنَّه، في إطارِ التضادات
الفلسفية المألوفة، هناك دائمًا «تسلسُلاتٌ هَرميةٌ عنيفة»
violent hierarchy. «فأحدُ
الطرفَين يتحكَّم في الآخر (قيميًّا ومنطقيًّا، إلخ) ويحتلُّ
المركز الأعلى. وتفكيك التضادِّ يعني أولًا … الإطاحة بالتسلسل
الهَرَمي» (Pos F 57, Pos
E. I. 36). العنفُ يُحارَب بعنفٍ. وهذه
المرحلة البنيوية في كتاب «الجراماتولوجي» ستُمثِّلها كلُّ تلك
الصفحات التي تبدو فيها الطاقةُ الجدلية، وتبريرات العكس، منخرطةً
بوضوحٍ في وضع الكتابة فوق الكلام. ولكنْ في المرحلة التالية من
التفكيك لا بد من إزاحة هذا القلب، بوضع الطرف الفائز تحت الشطب.
يجب على الناقد إفساح المجال من أجل «ظهورِ «مفهومٍ» جديدٍ
اقتحاميٍّ، مفهوم لم يَعُد يسمح لنفسه بأنْ يُفهَم من منظور النظام
المتحكِّم السابق [نظام التضادات]». ومن منظور كتاب
«الجراماتولوجي»، فذلكم سيكون الوجهَ الذي «يسمح بظهور الكتابة
النَّشاز داخل الكلام، الأمر الذي يؤدِّي إلى إرباكِ كلِّ النظام
المتوارَث واجتياحِ مجالِ الكلام بأكمله»
(Pos E.
I. 36).
تعيين النصِّ الهامشي الواعد، والكشف عن اللحظة غيرِ القابلة
للحسم، وإخراجها من مَكمَنها برافعةِ الدالِّ الإيجابية؛ قلبُ
التسلسل الهَرَمي المتوطِّن لا لشيءٍ إلا لإزاحةِ ما قلبناه؛
التفكيكُ من أجل إعادة تكوين المكتوب بالفعل دائمًا. ذلكم هو
التفكيك باختصار. ولكنَّ استبعادَ تأكيد سُلطة النصِّ المرجعية،
وسيطرة الناقد، وأولوية المعنى، وحيازة هذه الصيغة؛ لا يضمن
الكثير.
لماذا ينبغي علينا تفكيك نصٍّ وإعادة كتابته على أيَّة حال؟
ولماذا لا نفترض أنَّ الكلمات والمؤلف «يعنيان ما يقولانه»؟ ذلكم
سؤالٌ معقَّد. وها هنا، دعونا نفحص أحدثَ تأمُّلات دريدا بشأن
الرغبة في التفكيك.
يعترف دريدا بأنَّ الرغبة في التفكيك ربما تصبح، في حدِّ ذاتها،
رغبةً في إعادة مواءمةٍ نَشِطة للنصِّ عبْرَ السيادة، لكي يُبيِّن
التفكيكُ للنصِّ ما «لا يعرفه» [عن نفسه]. فبينما يفكِّك الناقدُ
كلَّ الاحتجاجات على العكس؛ يفترض بالضرورة أنَّه يعني ما يقوله،
على الأقلِّ في الوقت الحالي. وحتى إعلان الناقد عن ضعفه وعدم
سيطرته لا بد أن يأتي، مع ذلك، بلغةِ البرهنة والمرجعية المسيطِرة.
وبعبارةٍ أخرى، ينسى الناقد مؤقتًا أن نصَّه مفكَّكٌ ذاتيًّا
بالضرورة، وطِرسٌ دائمًا بالفعل.
والرغبة في التفكيك لها أيضًا فتْنَتُها العكسية؛ إذ يبدو أنَّ
التفكيك يوفِّر طريقةً للخروج من سِياج المعرفة. فمن خلال تدشين
اللانهاية المفتوحة للنصيَّة — ومن ثَم «النزول في هاويةٍ»
(mettre en abîme) “placing in the
abyss”، كما يشير التعبير الفرنسي حرفيًّا —
يُظهِر لنا التفكيكُ فتنةَ الهاوية بوصفها حريَّةً. السقوط في
هاوية التفكيك يثير فينا اللذة بقَدْر ما يثير الخوف. ونحن سكَارَى
بمشهد عدم الارتطام بالقاع أبدًا.
وإذن، يُفكِّك التفكيكُ الإضافي التفكيكَ، سواء بوصفه بحثًا عن
أساس (فالناقد يتصرَّف كما لو أنَّه يعني ما يقوله في نصِّه)، أو
بوصفه متعةً بلا قاع. وأداةُ ذلك، كما هو أداةُ أيِّ تفكيك في واقع
الأمر، هي رغبتنا التي هي، في حدِّ ذاتها، بنيةٌ تفكيكيةٌ
وجراماتولوجيةٌ تختلف إلى الأبد عن نصِّ أنفسنا (فنحن لا نرغب إلا
فيما ليس أنفسنا)، وتُرجِئ في الآن نفسِه نصَّ أنفسنا (فالرغبة لا
تتحقَّق أبدًا). ولهذا السبب، لا يمكن أن يكون التفكيك عِلْمًا
وضعيًّا أبدًا. ولأنَّنا في ورطة، «ورطة مزدوِجة (قراءة الهاوية
بلا قاع)»، تأتي أحدثُ تسمية يطلقها دريدا، ألَا وهي فِصام «تحت
الشطب»
schizophrenia of the “sous
rature”.
١٠٢ فحَتم علينا فعل شيءٍ وضدِّه،
وللحقِّ نرغب في الشيء وضدِّه معًا، وهكذا إلى أجل غير مسمَّى.
التفكيك حركةٌ تفكِّك نفسَها بشكلٍ دائم ومسكونةٌ بالاختلاف
المُرجِئ. ولا نص يَتفكَّك أو يُفكَّك تمامًا. وبرغم ذلك، يحشد
الناقد مؤقتًا مصادرَ النقد الميتافيزيقية ويؤدِّي ما يعلَن أنه
فعلٌ من أفعال التفكيك (الموحَّد). وكما أشرتُ سابقًا، ينبغي عدم
تجاهُل الصِّلة بتحليل فرويد المتناهي واللامتناهي، الذي يتضمَّن
كلًّا من الذات والمحلِّل.
وقد أصبح دريدا مستعدًّا الآن للإشارة، بمعنًى معيَّن، إلى
استحالة «عدم التفكيك/التفكيك»؛ فالنصوص جميعها، سواءٌ أكانت
مكتوبةً بالمعنى الضيِّق للكتابة أم لا، تتدرَّب على بنيتها
الجراماتولوجية، وتُفكِّك نفسَها وهي تُشكِّل نفسَها. فعلُ
التفكيك، الفريد، فعلٌ ضروري؛ ولكن لا طائل من ورائه. متعجرِفٌ
ولكنه متواضع، ككلِّ اللَّفتات البشرية. «عِندَ تَفكيكِ الأَصلِ،
لا يَختارُ أَحَدُنا أيَّ اختيارٍ» (٩١, ٦٢).
تلكم، إذن، الملامح المائزة للرباط المزدوِج الدريدي: تفكيكٌ تحت الشطب
deconstruction under erasure، وهاويةٌ نازلةٌ في
هاويةٍ the abyss placed in the abyss، ونسيانٌ فعَّالٌ
[إيجابي نَشِط] active forgetfulness. (وها هنا، من
الممكن الإشارة إلى أنَّ إحدى التُّهَم الموجَّهة إلى الكتابة؛ هي أنها تولِّد نسيانًا
سلبيًّا [خاملًا غير فعَّال] passive forgetfulness
(انظر ص٥٥، ص٣٧، ومواضع أخرى). وفي هذا الجانب أيضًا،
يُعيد التفكيكُ كتابةَ قيمة الكتابة.) لقد وجَّهتُ تهمةَ «الحَيطة» لدريدا في موضعٍ
سابق من هذه المقدمة. ويُظهِر لنا دريدا الجديد أنَّ هذه «الحَيطة» هي أيضًا «الخطر»
الأعظم؛ إرادة المعرفة كإرادة الجهل، والعكس صحيح. «معرفة الفيلسوف تضعُه بين الحالمين؛
لأن المعرفة حُلم. ولكن الفيلسوف يوافق «عارفًا» على الحُلم، يوافق على أنْ يحلم
بالمعرفة، ويوافق على أن «ينسى» درسَ الفلسفة، لا لشيءٍ إلا ﻟ «إثبات» هذا الدرس … ألَا
وإنَّها لَحركة مُدوِّخة vertiginous.»
وكما سيشير كتاب «نواقيس»، هذه الموافقة الفلسفية هي عَقد
القارئ/الكاتب مع النصِّ (وتوقيعهما). واسمحوا لي أن أُضيف، مرةً
أخرى مع ذلك، أنَّ هذا الدُّوَار المرعِب والمبهِج
terrifying and exhilarating
vertigo ليس «صوفيًّا» أو «لاهوتيًّا». تظهر
الهاويةُ عندما يرفع نيتشه وفرويد وهيدجر ودريدا الغطاءَ عن أكثر
مفاهيم إمكان المعرفة ألفةً وعزاءً.
٥
يُعدُّ كتاب «في علم أنساق الكتابة» أصلًا مؤقَّتًا لهذه
المقدمة. ولكننا لم نلتزم بتتبُّع الخطوط العريضة للكتاب. فقد
درسنا، بدلًا من ذلك، أهميةَ الشطب
erasure عند دريدا؛ وقدَّمنا
عاملًا مساعدًا على تقدير التناصِّ
intertextuality بين دريدا
ونيتشه وهيدجر وفرويد وهوسرل، وحسابه؛ وعَرَضنا بعض مؤشرات رؤية
دريدا للبنيوية، لا سيما رؤيته لممارسة جاك لاكان الميتاسيكولوجية
metapsychological؛ وعلَّقنا
على منزلة «الكتابة» في فِكر دريدا، مع الإلماح إلى سلسلة بدائلها،
عارضين بذلك وَصفةً للتفكيك recipe for
deconstruction. وأمَّا الآن وقد بدأنا
التحركات الختامية لهذه المقدمة التكرارية؛ فدعونا نجعل كتابَ «في
علم أنساق الكتابة» ختامَنا المؤقَّت.
يحدِّد دريدا منزلةَ كتابه «في علم أنساق الكتابة» بين نصوصه على
النحو الآتي:
يمكن اعتبار كتاب «في علم أنساق الكتابة» مقالًا طويلًا
مفصَّلًا في جزءين … يمكن الربط بينهما في كتاب «الكتابة
والاختلاف» L’écriture et la
différence. فكثيرًا ما
يُحيل كتاب «الجراماتولوجي» إليه. وفي هذه الحالة، سيكون
تفسيرُ روسُّو [الذي يشغل الباب الثاني من كتاب «في علم
أنساق الكتابة»] الموضوعَ الثاني عشر من المجموعة. ومن
الممكن أيضًا، في المقابل، إدخالُ كتاب «في علم أنساق
الكتابة» في منتصف كتاب «الكتابة والاختلاف»؛ وذلك لأنَّ
النصوص الستة التي تشكِّل كتاب «الكتابة والاختلاف»
سابقةٌ، فِعلًا ومن حيث المبدأ، في النشر … في
مجلة Critique، على
المقالات الواردة في كتاب «في علم أنساق الكتابة»؛ فالخمسة
نصوص الأخيرة التي تبدأ ﺑ «فرويد ومشهد الكتابة» تنخرط في
التمهيد الجراماتولوجي (Pos F
12-13).
وبرغم ذلك، يستأنف دريدا قائلًا: «… لا تدَعُ الأشياءُ نفسَها
يُعاد تشكيلُها بهذه البساطة»، ولا تخلو حكايةُ التقطيع والتقسيم
هذه من فائدة. هناك تآزُرٌ بعينه في كتاب «الجراماتولوجي»، وهناك
انفصالٌ حاسم بين الاتساع النظري الشامل والإجمالي في الباب الأول،
وبين وتيرةِ القارئ التفسيرية البطيئة في الباب الثاني من
الكتاب.
•••
الباب الأول من كتاب «الجراماتولوجي» هو نسخةٌ موسَّعة من مراجعة
تتكوَّن من جزءين لكتابِ مادلين ديفيد «نقاشٌ حول الكتابة
والهيروغليفية في القرنين السابع عشر والثامن عشر»
Madeleine V. David’s Le débat sur les
écritures et l’hiéroglyphe aux xvii° et xviii°
siècles، وكتاب أندريه لوروا جورهان «الإيماء
والكلام»
André Lerori Gourhan’s Le gest et la
parole، وأوراق ندوةٍ بعنوان
«الكتابة وسيكولوجيا الشعوب»
L’écriture et la psychologie des
peuples.
١٠٣ ومع أنَّ مقالات المراجعة شملتْ معظمَ مادة الباب
الأول بأكمله في ترتيبها الراهن؛ فإنَّ أثرها يُستشعَر بوضوحٍ
أكبرَ في الفصل الثالث الذي عنوانه «في الجراماتولوجيا بوصفها
علمًا وضعيًّا». فكلُّ كتابٍ من الكتب الثلاثة محلِّ المراجعة يحظى
بقسمٍ من الفصل. يقدِّم الأول ملخَّصًا للحظةٍ كان من الممكن أن
تُفتَح فيها الجراماتولوجيا تاريخيًّا، ولكن هذا لم يحدث؛ ألَا وهي
لحظة فكِّ رموز الكتابات غير الأوروبية. ويبحث الثاني في الأسس
السيكولوجية الممكنة للتمييز بين الكتابة والكلام والكتابة
التكوينية
genetic writing، بوصفه
عاملًا محدِّدًا للحياة. وأمَّا الثالث فيتناول الآثار المترتبة
على أنواع الكتابة «غير الصوتية». ولا يسَعُ أحدَنا إلا أن يتساءل
عمَّا إذا كان كلُّ هذا الاهتمام الصريح بالحديث عن الكتابة في
معناها الضيِّق — بدلًا من الاهتمام بتفسير النصوص — لا يرجع
ببساطة إلى الحضور المنظَّم للكتب الثلاثة التي تجري
مراجعتها.
وللحقِّ، يتحدَّث دريدا كثيرًا في الباب الأول، وفي تعليقٍ على
مقاله «فرويد ومشهد الكتابة»، عن إعادة كتابة «تاريخ الكتابة»
بطريقةٍ تجعلنا نرتاب في أنَّه يتحدَّث عن الكتابة بمعناها
الضيِّق: «مجالٌ هائل لم يقُم فيه المرء حتى الآن سوى بعملٍ
تحضيري» (ED 340). وإنَّ «الكتابة»
المتصوَّرة هكذا، لَعَلى وشكِ أن تصبح دالًّا فريدًا، وتحظى
بعنايةِ دريدا الأساسية. وفي أعماله اللاحقة، ظلَّت الأهمية
النظرية لبنية الكتابة والفتح الجراماتولوجي على حالها. ولكنَّه
أخَذَ يتخلَّى بِرَويَّة عن فكرة كونه المؤرِّخ الجراماتولوجي
المعتمَد للكتابة في معناها الضيِّق. فتأخذ «الكتابة» مكانها في
سلسلة البدائل. وعندئذٍ، نكون في كتاب «الجراماتولوجي» عند لحظةٍ
نوعيةٍ ومحفوفةٍ بالمخاطر في مسيرةِ دريدا.
وإنَّه لَمن الشائق دراسةُ التغييرات والإدخالات التي أجراها دريدا في نصِّ مقالات
المراجعة أثناء تحويلها إلى الكتاب (فقَدْ أغنى النصَّ وأثراه حقًّا عندما غيَّر كلمة
diference-s
[= «الاختلاف» مفردةً وجمعًا] الملائمة إلى كلمة differance-s [«اختلاف مُرجِئ» مفردةً
وجمعًا].) ومعظم هذه التغييرات والتعديلات تجعل الأساسَ الفلسفي للحجَّة والنقاش أقوى.
ومناقشتُه الرائعة لاسم العَلَم proper name مثالٌ على
ذلك (١٣٦-٣٧، ٨٩-٩٠). وكذلك الهامش الطويل عن التحليل
النفسي للكتابة (١٣٢–٣٤، ٣٣٣-٣٤)، وإدخال ملاحظات
بشأن الآخرية الجذرية الساكنة بالضرورة في العلامة (٦٩، ٤٧). وكذلك الإضافة التحذيرية في
الصفحة ١٢٥ (٨٤).
(وفي النشرة الأصلية: «إنها [الكتابة التكوينية genetic
script] تحريرٌ يعمل من أجل إظهار وحدة الكتابة
grammé في
حدِّ ذاتها، وتجعل ظهورَ «الكتابة» بمعناها الضيِّق أمرًا ممكنًا بلا شك»
[Crit II.
46]. وأمَّا في كتاب «الجراماتولوجي»؛ فيلغي دريدا إمكان أن تظهر
وحدةُ الكتابة في حدِّ ذاتها. ويضيف القوسَين
المعقوفَين الآتيَين بعد عبارة «في حدِّ ذاتها»: «[وهذا يعني وَفقًا لبنيةٍ جديدة من
عدم الحضور]»، ويواصل مضيفًا العبارات الآتية: «ولكنَّ أحدنا لا يمكنه التفكير فيها
[بنيات وحدة الكتابة هذه] من دون مفهومٍ أعمَّ لوحدة
الكتابة. فذلكم أمرٌ يتعذر اختزاله ولا يقبل دحضًا».)
والأكثر إثارةً من وجهة نظرنا أنَّ موضوع «تحت الشطب» يجري
تطويرُه بأكمله تقريبًا في الكتاب وليس في المقالات، وكما ذكرتُ
أعلاه، لا يناقش دريدا مفهوم «تحت الشطب» بإسهاب. فكلُّ ما لدينا
في المقالات هو ذِكر
الممارسة (Crit I. 1029) كما هو موجودٌ في
الصفحة ٣٨ (٢٣) من كتاب «في علم
أنساق الكتابة». واستخدام الخطوط المتقاطِعة [= علامة الشطب] في
الصفحة ٣١ (١٩)، ومناقشة مفهوم
الوجود عند هيدجر بين الصفحتين ٣١، ٣٨ (١٩-٢٣)، ووضع «التجربة» تحت الشطب في الصفحة ٨٩
(٦٠-٦١)، وكذلك كلمة
«الماضي» الصفحة ٩٧ (٦٦-٦٧)،
و«أصلية الأثر» في الصفحة ١١٠ (٧٥)؛ فهي كلُّها فقرات لا توجد إلا في
الكتاب.
ومن ناحيةٍ أخرى، فمن اللافت بما يكفي، أن يجري فيما يبدو أيضًا
تأكيدُ حجَّة الضرورة التاريخية عند تحويل مقالات المراجعة إلى
الباب الأول من الكتاب. أول تغيير طفيف — من «النطق الصوتي للكتابة
أخفى تاريخَها أثناء إنتاجه» (Crit I. 1017)
إلى «النطق الصوتي للكتابة يجب أن يخفي تاريخَها أثناء إنتاجه»
(١١، ٣) — يحدِّد وتيرةَ كلِّ
التغييرات الصغيرة، ولكنَّها جسيمة، التي تحدُث. وهي ليست بكثيرةٍ،
ولكنها جليَّةٌ قاطعة. ويقتصر معظمها، بطبيعة الحال، على الفصل
الأول المعنون ﺑ «نهاية الكتاب وبداية الكتابة» The
End of the Book and the Beginning of
Writing. وتُعدُّ الفقرة التي تبدأ بعبارة «هذه
التمويهات ليست طوارئَ تاريخية» (٧١٧، ولا تحتوي
المقالةُ إلا على أوَّل جملتَين فقط) نموذجًا تمثيليًّا. ويُنظَر
إلى قمع الكتابة وإدراكه اليوم بوصفهما حدثَين ضروريَّين
تاريخيًّا. وفي نصٍّ يستهلُّ فيه دريدا بإسهابٍ نظريةً ضدَّ أنماط
التاريخ والفكر الغائية، فيقدِّم مفهوم لعب الضرورة والمصادفة،
لماذا يصطنع حجَّةً جِد قويةً للضرورة التاريخية؟ ولماذا يكون
الفصل الافتتاحي — «نهاية الكتاب وبداية الكتابة» — مليئًا بوعدٍ
مسيحيٍّ محيِّر بعض الشيء؟ وإذا كنا لا نؤمن حقًّا ﺑ «مواضع
انقطاعٍ إبستيمولوجي» أو بإمكان الخروج من السِّياج الميتافيزيقي
ما إن نتَّخذ القرار ببساطة، أو بخطية الزمن واستقامته، فبأيِّ
جديَّة إذن يمكننا أن نعلن عن «عالَمٍ قادم» مختلف، عالَم تهتزُّ
فيه «قيم العلامة والكلام والكتابة»؟ (١٤، ٥). كيف نتصالح مع هذا الانقطاع بين عالَم الماضي
وعالَم المستقبل؟ ثمَّة خيانةٌ تجريبيةٌ، على ما يبدو، لبنية
الاختلاف difference والتأجيل
postponement، وأيُّ قراءة
تفكيكية لدريدا يجب أن تضع هذا في حسبانها.
(لقد رأينا أنَّ دريدا لن يُسمُّي الجراماتولوجيا تحليلًا
نفسيًّا لمركزية اللوجوس. ففي الصفحة ٢٠ [
٩-١٠] من كتاب «الجراماتولوجي» نجِدُ تلميحًا
بسيطًا إلى نمطٍ تحليليٍّ نفسيٍّ لتاريخ الكتابة لا يواصله دريدا:
«هذا الوضع [دور الكتابة في تسمية العنصر البشري] دائمًا ما يُعلَن
عنه بالفعل. لماذا هي اليوم في طورِ جَعلِ نفسِها معترَفًا بها في
حدِّ ذاتها وبعد الواقعة
[après coup] after the
fact?.» جَعلُ نفسِها معترَفًا بها في حدِّ
ذاتها. وقد حاول دريدا في تلك الصفحة الإجابةَ عن ذلك الجزء من
السؤال من منظورِ التطور في طرائق ووسائل استعادة المعلومات
والفونوغرافيا [= تسجيل الصوت واستعادته]
phonography والسِّبرانية [=
علم التحكم الآلي]
cybernetics،
وجميعها قُوى متضافرةٌ مع الأنثروبولوجيا وتاريخ الكتابة: علوم
الإنسان. ولكنَّ دريدا يؤكِّد، في مواضع أخرى من الكتاب — كما
رأينا — أنَّ هذا الوضع [دور الكتابة في تسمية العنصر البشري] لا
يمكن الاعتراف به
في حدِّ ذاته،
وأننا يجب أن نُسلِم أنفسَنا لكوننا منقوشين داخل سلسلةِ تفكيكات
وفكِّ شفراتٍ مستقبلية. ولهذا السبب، فبَعد الواقعة هو الذي يبدو
أكثرَ إثارةً للاهتمام هنا. إنَّ تعبير
après
coup [= بعد الواقعة] الفرنسي هو المقابِل
لكلمة فرويد
Nachträglichkeit [=
بأثرٍ رجعي] المترجَمة إلى الإنجليزية ﺑ
deferred
action [= الفعل المؤجَّل]. ولعلَّنا نذكُر
أنه في الوقت الذي يُستقبَل فيه المثير
stimulus؛ يذهب إمَّا إلى نظام
الإدراك الحسي أو إلى اللاوعي ويُنتِج أثرًا دائمًا
permanent trace. وقد يجري
تنشيط ذلك الأثر المعيَّن في الوعي (وكما يُذكِّرنا فرويد مِرارًا
وتكرارًا، يجب استعمال هذه اللغة الطوبوغرافية بحَذَر) بعد فترةٍ
طويلة
long afterward؛ بأثرٍ
رجعيٍّ، بعد الواقعة. ولكنه لا يظهر
في
حدِّ ذاته؛ فكما يقول دريدا، متابِعًا فرويد في
حقيقة الأمر، الأثرُ في حدِّ ذاته أوَّليٌّ أساسٌ. فلا «شيء» ثمَّة
في اللاوعي سوى إمكان تنشيط هذا المسار عينه. وعندما يُفتَح
الممرُّ، ونحن لدينا إدراكٌ حسي بعد الواقعة للأثر الأصلي، لا
يُستنفَد الدافع في اللاوعي. فالدوافع اللاواعية غير قابلة
للتَّلف. وهنا، وقبل الملاحظات بشأن رياضيات نظرية واسترداد
المعلومات وغيرها في الصفحة ٢٠ [٩-١٠]، ينزلق دريدا إلى — أو يَذكر
عرَضًا، بعد العبارات التي نفحصها مباشرةً — الكلمات الآتية: «هذا
المسألة من شأنها أن تستدعي تحليلًا غير متناهٍ»، «تحليلٌ غير
متناهٍ». الكلمات نفسها تستدعي مقالَ فرويد المتأخِّر «التحليل
المتناهي واللامتناهي»
Analysis Terminable and
Interminable.
١٠٤ الدوافع في اللاوعي غير قابلة للتَّلف، وبعد الواقعة
تظهر في الوعي ظهورًا غير متناهٍ، ومن ثَم تشكِّل الذاتَ. ولا يمكن
أبدًا تحليل العُصَاب
neurosis
تحليلًا كاملًا؛ سيستمر التحليل فعلًا من دون نهاية إذا لم يُنْهِه
المحلِّل النفسي العملي. هل أثرُ قمع الكتابة في لاوعيٍ تاريخيٍّ
مبهم «يَظهر» إلى وعينا في اللحظة التاريخية الحاضرة، بعد الواقعة؟
من الواضح أن دريدا نفسه ليس على استعدادٍ لتحمُّل المسئُولية
عمَّا قد يبدو مخططًا تحليليًّا نفسيًّا. فذلكم، مرةً أخرى، مهمَّة
مفكِّك
deconstructor قادم. وبرغم
ذلك، هناك من دون ريبٍ تجانُسٌ قوي بين مفهوم فرويد عن الاستحالة
النظرية للتحليل الكامل وجدل دريدا بشأن الحاجة إلى تجديد المهمَّة
الجراماتولوجية أو التفكيكية بشكلٍ دائم. وللحقِّ، هذا ما قدَّمتْه
جميعُ أعمال دريدا بشأن «الكتابة»؛ وبرغم ما قد يبدو من أنَّها
تتلقَّى إفصاحًا اليوم، فقد وُجِدت اختلافاتٌ في الإفصاحات السابقة
على مرِّ التاريخ ولا بد من مواجهة الإرادة المركَّبة على الدوام
بوصفها لغةَ المواجهة، أو إطاعة إرادة القوة لدينا، أو التكيُّف
معها واستعادتها عبْرَ مركزية اللوجوس، أو كما يقول فرويد، بعَونٍ
قليلٍ من هيدجر، بوصفها ««أنا» تتعامل مع استعادة نفسها على أنَّها
خطرٌ جديد» [
CW
XVI. 84, SE XXIII.
238؛ الشطب من عندي]. وعندئذٍ، يبدو من
المعقول تمامًا أن نتساءل: إذا كان «الخطاب الفرويدي، تركيبه
وبنيته أو … عمله» متولِّدٌ عن «مفاهيم ميتافيزيقة وتقليدية
بالضرورة» [
ED
294]؛ فهل سيكون أحدُنا قادرًا على فكِّ شفرة
الخطة التحليلية النفسية في النمط التاريخي الصارم لكتاب «في علم
أنساق الكتابة»؟)
وهناك، أيضًا، ظلُّ نمطٍ جغرافي يُخيِّم على الباب الأول من
الكتاب؛ إذ يجري بشكلٍ غير مباشر استدعاءُ العلاقة بين مركزية
اللوجوس ومركزيةٍ عِرقية
ethnocentrism في العبارة
الأولى من «المفتتح». ومع ذلك، يصرُّ دريدا — على نحوٍ فيه مفارقة،
وتقريبًا بمركزيةٍ عِرْقية مقلوبة — على أنَّ مركزية اللوجوس
خصيصةٌ مائزة للغرب. وهو ما يفعله كثيرًا إلى درجة أنَّ اقتباس هذه
المواضع من نافلة القول. ومع أنَّ شيئًا من التحامُل الصيني على
الغرب تجري مناقشته في الباب الأول؛ فلمَ يُدرَس الشرقُ بجديَّة أو
يُفكَّك في النصِّ الدريدي؟ لماذا إذن يجب أن يظلَّ الشرق اسمًا
لحدود معرفة النصِّ، ولْنتذكر في هذا السياق هيجل ونيتشه في أكثر
تحديداتهما الجغرافية هزلًا؟
وأمَّا مناقشة ليفي شتراوس في الباب الثاني — وهو القسم المثير
للجدل حقًّا ولعلَّه الأقل إرباكًا من الناحية الشكلية — فقد ظهرتْ
أولًا في عام ١٩٦٦م بوصفها جزءًا من عددٍ عن ليفي شتراوس في مجلة
Cahiers pour
l’analyse [دفاتر التحليل]
(IV, September-October,
1966).
لقد اختار دريدا ليفي شتراوس موضوعًا له؛ لأنَّ «فكره الذي يحفظ
التضادات المفاهيمية المتوارثة ويلغيها في الوقت نفسه، يقف مثل فكر
سوسير على الحدود. أحيانًا يقف داخل مفاهيم لا ينتقدها، وأحيانًا
أخرى يُصيبها بالتوتُّر عند الحدود، ماضيًا نحو التفكيك» (١٥٤،
١٠٥). ويُعنِّف دريدا ليفي
شتراوس على ضعف نَهْجه وتمركُزه العِرْقي العاطفي وقراءته
المبسَّطة بشكلٍ زائد لروسُّو. كما يَنتقده لأنَّه لا يفكِّر في
الكتابة إلا بمعناها الضيِّق، ولأنه يفهمها على أنَّها كبشُ فداءٍ
لجميع شرور «الحضارة» civilization
الاستغلالية، وبسبب تصوُّره قبيلة النامبيكوارا العنيفة على أنَّها
جماعةٌ بريئة «من دون الكتابة». وإذا كانت نهاية الباب الأول تبدو
مهتمَّة للغاية بالكتابة في معناها الضيِّق؛ فإنَّ فصول الباب
الثاني تخلو من ذلك الاهتمام. ففيها ينقلنا دريدا، مرةً بعد مرةٍ،
من الكتابة بمعناها الضيِّق إلى الكتابة بوجهٍ عام، وذلك عبر
صياغاتٍ «منهجية» أحيانًا، مثل: «العلاقة الجينالوجية والتصنيف
الاجتماعي هما طبقةٌ رقيقة مخيطة من الكتابة الأصلية التي هي شرط
(ما يُسمَّى شفاهيًّا) اللغة، وشرط الكتابة بمعناها العاميِّ»
(١٨٢، ١٢٥) في مثل هذه الكتابات
«الشعرية»، من قبيل: «الغابة متوحِّشة، والمسار المتقطِّع مكتوب …
ومن الصعب تصوُّر أنَّ إتاحة إمكان خرائط للطرق لا يعني إتاحة
الكتابة» (١٥٨، ١٠٨).
ولعلَّ السبب الأكثر إثارةً للاهتمام الذي يُقدَّم لاستحالة وجود
جماعة من دون كتابة هو أنَّ إعطاءَ اسم عَلَم — وهو أمرٌ لا يمكن
لأيِّ مجتمع تجنُّبه — مسكونٌ في حدِّ ذاته ببنية الكتابة. وذلك
لأنَّ تعبير «اسم العَلَم» يدلُّ على تصنيفٍ، على نظام يحمل أثر
التاريخ، ففيه يُجعَل نوعٌ بعينه من العلامة مناسبًا لشخص. ومن
ثَم، لا يعود اسم العَلَم، ما إن يُفهَم على هذا النحو، فريدًا
تمامًا ومناسبًا تمامًا لحامله. فاسم العَلَم عامٌّ دائمًا بالفعل،
بحُكم انتمائه إلى فئة «الخاص المناسب»
proper. ودائمًا ما يكون تحت
الشطب: «عندما يُسمَّى
الاسمُ داخل الوعي اسمَ
عَلَم، يكون قد صُنِّف بالفعل وطُمِسَ في إشارته. ولا يكون الاسم
حقًّا أكثر ممَّا يُسمَّى
اسم عَلَم» (١٦١، ١٠٩). ويعرف
ليفي شتراوس هذا، وهو ما تُبيِّنه مناقشتُه لأسماء الأعلام في
كتابه «العقل الهمجي» (pp. 226 f., Eng. pp. 172
f). ولكن شتراوس لا يستطيع ربط اسم العَلَم
بالكتابة، نظرًا إلى أنه ليس لديه مفهوم للكتابة سوى المفهوم
المقيَّد: «جوهرُ الكتابة graphein [to
write] أو فاعليتها … شطبٌ أصلي
originary effacement لاسم
العَلَم» (١٠٨، ١٥٩).
ولا تعمل هذه الحجة على فكِّ التمركز العِرْقي المقلوب لدى
الباحث الأنثروبولوجي تجاه «جماعة بريئة من دون كتابة» فحسب، وإنما
تشير إلى حضور الكتابة بوجهٍ عام في جميع تشعُّبات «السليم
المتميِّز» proper: الخاص، السمة
المائزة، الحَرْفي، الخالص من الشوائب حصْرًا. وذلكم موضوعٌ
دَريديٌّ، لا أملك إزاءه أكثرَ من الإشارة إليه هنا. ولعلَّه من
الممكن تلخيص اهتمام دريدا الرئيس على النحو الآتي: استشكالُ اسم
العَلَم والمعنى الصحيح (الحَرْفي)، استشكال الصحيح الحَرْفي الخاص
المائز السليم السالم [وكلُّها معاني كلمةِ
proper] بوجهٍ عام.
وتشير الحجة، أيضًا، إلى موضوع لَعِب الرغبة حول اسم العَلَم:
الرغبة النرجسية
narcissistic
desire في جَعْل اسم المرء «الخاصِّ»
«عامًّا»، جَعْله يدخل في جسد اللغة الأم ويتَّحد بها؛ وفي الوقت
نفسه الرغبة الأوديبية
oedipal
desire في الحفاظ على اسم المرء الخاص، ورؤيته
بوصفه نظيرَ
اسم الأب.
ويتأمَّل الكثيرُ من عمل دريدا الأحدث في هذا اللعب. وسأقتبس من
بداية كتابه «نواقيس»، حيث يُستدعَى هيجل
Hegel (الاسم «الخاص» [اسم
العلم]) على أنَّه نَسْر
eagle
(الاسم «العام») الذي يحوِّله النطق الفرنسي لاسمه —
aigle [نَسْر] — إلي:
– مَن، هو؟
– إنَّ اسمه لجدٍّ غريب. فمِن النَّسْر
eagle يستمدُّ قوتَه
الملَكية الإمبريالية أو التاريخية. مَن لا يزالون ينطقونه
على أنَّه فرنسي، وهؤلاء موجودون، سذَّجٌ لولا نقطة معينة:
الاسترداد … من البرد المهيب … استرداد النَّسْر العالق في
الجليد والصقيع [التجمُّد]. دَع الفيلسوفَ المرموق يتجمَّد
هكذا (p. 7).
والصفحاتُ من ١٤٥ إلى ١٥١ (٩٧-١٠٢) «تبريرٌ» نظري لمَا سيسمِّيه دريدا
«التناص»: تشابُك نصوصٍ مختلفة (وحرفيًّا، شبكة/شبكات نصوص) في فعل
النقد الذي يرفض التفكير في «التأثير» أو «الترابط والعلاقات
المتبادلة» بوصفها ظواهر تاريخية بسيطة. فيصبح التناصُّ في كتابه
«نواقيس» التوقيعَ signature
المفاهيمي والطباعي الأشدَّ لفتًا للانتباه. وأمَّا الصفحات من ٢٢٦
إلى ٢٣٤ (١٥٧-٦٤) — «الفادح:
مسألة النَّهْج» — فهي كما أشرتُ عرضٌ بسيطٌ ومثيرٌ لنَهْج التفكيك
كما فهمه دريدا في مرحلته المبكِّرة.
وأمَّا موقع روسُّو في نصِّ دريدا فيتميَّز بالأهمية بسبب
استعمال روسُّو كلمة «المكمِّل والنائب»
supplement، يقول دريدا:
«ستظهر الكتابة لي، باطراد، على أنَّها اسمٌ آخر لبنية التكميل
والإنابة supplementarity … ولا
يكفي القول إنَّ روسُّو يفكِّر في المكمِّل من دون التفكير فيه،
وأنَّ قوله لا يتطابق مع ما يعنيه، وأنَّ ما يصِفُه لا يتطابق مع
ما يعلنه … فروسُّو باستعماله الكلمةَ والوصف الدالَّين على الشيء؛
يزيح displace بطريقةٍ ما العلامةَ
«مكمِّل» ويَحْرِفها deform، وحدةَ
الدالِّ والمدلول … لكنَّ هذه الإزاحات والتحريفات تنظِّمها وحدةٌ
متناقضة للرغبة هي نفسها وحدةٌ تكميلية
supplementary» (٣٤٨، ٢٤٥).
ولا حاجة هنا إلى الحديث عن مسألة التكميل والإنابة التي يطوِّرها
دريدا كثيرًا في هذا الكتاب. فأكثر ما يُثير اهتمامي هو التساؤل:
كيف تدلُّ كلمةُ «المكمِّل والنائب» على رغبة روسو؟ وقبل أن أحاول
تقديرَ إجابة دريدا المُلغِزة عن هذا السؤال، سأستطرد وأُشير إلى
نزعة المحافظة المحبَّبة في القسم الأول من الفصل الثالث في الباب
الثاني، المعنون ﺑ «موقع المقال» The Place of the
Essay.
هناك علامةٌ معينة على معرفةٍ أكاديمية متفوقة في ذلك القسم الذي يبدو غيرَ منسجم
مع
رُوح الكتاب النظرية؛ فالفيلسوف الذي كتَبَ «الخارج هو
[is] الداخل»، في الباب الأول، يتحدَّث بجديَّة
تامَّة عن أدلةٍ خارجية وداخلية؛ ومفكِّرُ التناصِّ يشغل نفسَه بالتأريخ التقريبي ﻟ
«مقال في أصل اللغات» و«خطاب في عدم المساواة» The Discourse on
Inequality. ويَسعد هذا القارئُ بأنَّ تلك العلامات على المعرفة
التقليدية ليست مفكَّكة الأوصال. فمن المثير للاهتمام مراقبةُ الحجة الجريئة وهي تعمل
في خدمة نقاشٍ تقليدي؛ إذ يقع عبء الإثبات على «اقتصاد الشفقة» — تكملة الشفقة في نصَّي
روسُّو — وتظهر الممارسة التناصية حيثما يُضفَّر النصَّان معًا: «يُزاح تأكيدٌ من نصٍّ
إلى نصٍّ، ويسري انزلاقٌ مستمرٌّ … يريد الخطاب أن يختطَّ
البدايةَ … ويجعلنا المقالُ نستشعر
البدايات … إنَّه يضع يده على الإنسان … في ذلك الانتقال الدقيق من
الأصل إلى التكوين … وقد أتاح وصفُ الطبيعة الخالصة في «خطاب في عدم المساواة» مكانًا
داخله لمثل هذا الانتقال. وكما هو الحال دائمًا، ذلكم الحدُّ غيرُ القابل للإمكان
تقريبًا almost»
(٣٥٨، ٢٥٣). ولا أعتقد أنَّ دريدا سيكرِّس نفسَه،
مرةً أخرى، لهذا النوع من المعرفة النصِّية. وها هنا أيضًا، تعطينا قراءةُ كتاب «في علم
أنساق الكتابة»، نكهةَ دريدا المبكِّر المميزة نوعًا ما: الباحث الشابُّ الذي يغيِّر
القواعد الأساسية للمعرفة.
ينتهي الكتاب بحُلم روسُّو؛ الرغبة التكميلية التي أشرتُ إليها
أعلاه. وتُعدُّ هذه النهاية لمسةَ دريدا المائزة؛ النقد الذي
يتخلَّى عن لهجةِ السيادة التفسيرية في الختام، ويتبنَّى لهجةَ
الحكَّاء fabulist. وتنتهي مقالته
«صيدلية أفلاطون» بمشهدِ أفلاطون في صيدليته، وتنتهي مقالةُ
«الميثولوجيا البيضاء» بحجر العقيق. وهناك أمثلةٌ كثيرة.
روسُّو، ذلك المُسْتمني الشهير famous
masturbator، لديه حُلمٌ فلسفي مُخضَلٌّ:
«يتألف حُلم روسُّو من جَعْل المكمِّل والنائب
supplement يدخل إلى
الميتافيزيقا بالقوة» (٤٤٤، ٣١٥).
ولكن أليست تلك القوة، على وجه التحديد، هي طاقةُ مشروع دريدا
نفسه؟ أوَليس هذا على وجه التحديد خداعَ الكتابة، ذلك الحُلم
الحقيقة، الذي ينتهك السِّياج الميتافيزيقي بعنفٍ داخليٍّ ولكنَّه
تكميلي؟ في نهاية كتاب دريدا عن روسُّو، يضع روسُّو حُلم دريدا.
فلعلَّ الكتاب ينتهي بتوقيع مؤلفه.
•••
من المعتاد في هذه المرحلة أن نقول بضعَ كلماتٍ عن مشكلة
الترجمة. ولا ريب في أن نصَّ دريدا يحظى بنصيبه من الكلمات «غير
القابلة للترجمة». فقد خُضتُ معاركي مع ترجمة كلمتي
exergue
و
propre.
١٠٥ وينتابني قلقٌ خاصٌّ تجاه كلمة
entamer [= يبدأ، يستهلُّ،
يباشر عملًا، يقتحم]. فكما رأينا، تحتلُّ الكلمة موقعًا مهمًّا بين
كلمات دريدا؛ فهي تعني كلًّا من الاقتحام والبدء. وقد اكتفيتُ
بكلمة
broach [= يدشِّن، يعلن،
يفتتح] أو كلمة
breach [= يقتحم]
وأنا على ثقةٍ غريبة، نوعًا ما، في أنَّ ظلال الكلمة، سواء
broach أو
breach، ستُعلن عن نفسها من
خلالها. فمع كلمة
entamer، وكذلك
مع كلماتٍ وتعبيراتٍ أخرى، أَدرجتُ الأصل بين مزدوِجَين متى بدا
أنَّ الصياغة الفرنسية وتركيبها يحمل إيحاءً خاصًّا. وتُنبِئ هذه
المشكلة الخاصة عن النصِّ بأكمله، إلى حدٍّ ما. فنصُّ «في علم
أنساق الكتابة» [«الجراماتولوجي»]، الذي ينكر تفرُّد الكلمات
وجوهريتها وقابليتها للتكرار، ينكر إمكانَ الترجمة. ولعلَّه ليس من
قبيل المفارقة أنَّ كلَّ الْتفافٍ وتحريفٍ في العبارة يصبح
«مهمًّا» ولعوبًا في آنٍ، عندما يُلعَب باللغة من أجل وضع الدلالة
موضعَ التساؤل، ومن أجل تفكيك التضادِّ الثنائي «دال-مدلول». وأخشى
ألَّا أكون قادرة على الْتقاط هذا اللعب في ترجمتي. فحتى كلمةٌ
بسيطةٌ مثل
de تحمل لمسةً من
اللعب، بإلماحها إلى كلٍّ من
of
و
from. (وقد لجأتُ إلى استعمال
from/of متى بدا أنَّ اللعب
يتطلَّب إدراكًا خاصًّا [كما في الصفحة
٢٦٩ من الترجمة الإنجليزية].)
ولكنَّ ذلك النوع من التعامل الأخرق لا يمكن أن يتخلَّل النصَّ
كلَّه، فكلمة
penser (يفكِّر
to think) تحمل في داخلها كلمة
panser (يُضمِّد جُرحًا
to dress a wound) وتشير
إليها؛ ألَا يسعى التفكير دومًا إلى تضميد الجرح العنيف لاستحالة
الفكر وفجوته؟ وأمَّا ترجمة العنوان من الفرنسية إلى الإنجليزية
التي تقترح
a piece of وكذلك
about فأدَّخرها لمشورة
خبير.
لقد بدأتُ هذه المقدمة بإخبارِ قُرَّائي أنَّ نظرية دريدا تسلِّم
بالمقدمة كما تنكرها على السواء، من خلال مساءلة قابلية النصِّ
المطلقة للتكرار. وقد حان الوقت الآن للاعتراف بأنَّ نظريته تسلِّم
كذلك بالترجمة وتنكرها، من خلال مساءلة الامتياز المطلق للأصل.
وأيُّ فعلِ قراءةٍ تحاصره مخاطرُ التناصِّ وتداعياته، وتُوجِّهه.
والترجمة، في المقام الأول، إحدى صور التناصُّ.
١٠٦ إذا لم تكُن هناك كلماتٌ فريدة، وإذا ظهرت
«كلمة-مفهوم» تَحظى بامتياز، بل ما إنْ تَظهر، فلا بد أن يُعهَد
بها إلى سلسلةٍ من البدائل وإلى «اللغة العامة»
common language، فلماذا يجب
على فعل الاستبدال الذي هو الترجمة أن يبقى محلَّ شك؟ وإذا كان اسم
العَلَم أو وضْعُ المؤلِّف السيادي يمثِّل عائقًا بقَدْر ما يمثِّل
إذنًا بالمرور، فلماذا ينبغي أن يكون موقعُ المترجِم ثانويًّا؟ ولا
بد أنه قد اتَّضح الآن أنَّ الترجمة، في حدِّ ذاتها، هي في رباطٍ
مزدوِج: الرغبة في الحفاظ على «الأصل» (
De la
grammatologie)، وغواية حرية غياب
النص السيِّد؛ (فقبل ترجمتي
Of
Grammatology، وُجِدت العديد من
الترجمات بعدد القراءات، فالنصُّ قابلٌ للترجمة من دون
نهاية.)
ومن وجهة نظرٍ أخرى تمامًا، ولْنتكلم عمليًّا وبصرامة، دريدا
وأنا ثنائيَّا اللغة بطريقةٍ جِد حادَّة — إنجليزيته أعلى من
فرنسيتي — فأين تنتهي الفرنسية وتبدأ الإنجليزية؟
لن أبدأ هنا في تقديم فلسفتي بشأن الترجمة، بل أعطيك لمحةً سريعة
عن فلسفة دريدا بشأنها:
تمارس الترجمة في حدود إمكانها، أو في حدود إمكانها
الظاهر،
اختلافًا بين المدلول والدال. وأمَّا إذا لم يكُن هذا
الاختلاف تامًّا؛ فستكون الترجمة أقلَّ تماميةً أيضًا، يجب
أن يُستبدَل بمفهوم الترجمة
translation مفهومَ
التحويل transformation:
تحويلٌ منظَّم للغةٍ إلى أخرى، ولنصٍّ إلى آخر. ولن نُضطر،
ولم نكُنْ لنضطر، إلى «نقل» المدلولات الصافية التي
ستتركها الأداة الدالة — أو «أداة النقل» — عذراءَ سليمة،
من لغةٍ إلى أخرى، أو داخل اللغة نفسها
(Pos 31).
«من لغةٍ إلى أخرى، أو
داخل اللغة نفسها.» الترجمة صورةٌ من التناصِّ توجد داخل اللغة
«نفسها» أيضًا. ولهذا السبب …
غالبًا ما يتأسَّس نَهْج هيدجر التفكيكي
deconstructive method (أو
«الهَدْمي» destructive) على النظر
في كيف يتأثر ما يُسمَّى المحتوى الفلسفي بمقتضيات الترجمة. ويكتب
دريدا عن هذه المسألة في مقاله «الاختلاف المُرجِئ» وفي مقاله
«الكائنية ووحدة الكتابة» (MP 3–29, SP 129–60; MP 31–78). ففي مقاله الثاني،
على سبيل المثال، ثمَّة لعبٌ مزدوِج؛ يَرْثي هيدجرُ فقدانَ الفلسفة
عندما أُكرِه «الحضورُ» اللاتيني المتوحِّد على تَعهُّد ترجمةِ
الكثير من الكلمات اليونانية الدقيقة الدالة على ظلال فكرة الحضور
الفلسفية. وينخرط دريدا في رثاءٍ موازٍ: كيف يمكن ترجمة الكثير من
الكلمات الهيدجرية الألمانية الدقيقة الدالة على ظلال فكرة الحضور
الفلسفية عبر «الحضور» الرومانسي المتوحِّد؟ ويمضي دريدا في
استخدام أعمال «إساءة الترجمات»
mistranslations بوصفها
رافعتَه [أداته] التفكيكية الفعَّالة. والمثال الأكثر تأييدًا هو
مقاله «صيدلية أفلاطون»؛ حيث يتساءل دريدا بشكلٍ ملائم: لماذا يطمس
المترجمون كلمةَ فارماكون pharmakon بتقديم مجموعةِ
كلماتٍ مختلفةٍ بديلًا لها في الترجمة؟
لقد وضعتُ كلَّ شيءٍ أمام قارئ أرجوه، قارئ يضمُّ إساءة ترجماتي،
وبتلك الرافعة [العَتَلة] leverage
يفكِّك نصَّ دريدا متجاوزًا ما يوجِّهه دريدا في نصِّه بوصفه ذاتًا
مسيطرة.