الثورة في عهد بطليموس الثالث
لقد كان الشعب المصري مُهَيَّأً للقيام بأي عمل يظهر فيه غضبه وعدم رضاه عن موقفه
بالنسبة لملوك البطالمة والمستعمرين الذين كانوا مسلطين على المصريين من إغريق
ومقدونيين. وقد أُتِيحَتْ هذه الفرصة عندما قام «بطليموس الثالث» في السنة الأولى
من حكمه — مضطرًّا — لمساعدة أخته «لاؤديسيا» وابنها ملك «سوريا» كما فصلنا القول
في هذا الموضوع من قبل، وكان قد تقدم في زحفه في إمبراطورية السليوكيين حتى وصل
إلى
بلاد الهند
٣ على ما يُظَن.
وفي الفترة التي كان فيها «بطليموس إيرجيتيس الأول» غائبًا عن مقر ملكه بدأت أول
حركة ثورية، وقد كانت هذه الثروة بمثابة إيذان له أن الشعب المصري ليس براضٍ عن
حكم
أسرته. وكان من جراء قيام هذه الثورة أن اضطر «بطليموس الثالث» إلى العودة إلى
بلاده دون إتمام ما كان عازمًا عليه من فتوح شاسعة، ولا نزاع في أنه لولا شبوب نار
هذه الثورة لكان في استطاعته أن يستولي على كل الإمبراطورية السليوكية — كما عبر
عن
ذلك المؤرخ «جوستن» ومن بعده «سنت جيروم».
٤
والظاهر أن «بطليموس الثالث» عندما عاد إلى البلاد وهدأ الثورة أخذ يفطن إلى ما
كانت تنطوي عليه نفوس الشعب المصري من كراهية وحقد بالنسبة للبطالمة والمستعمرين
معًا. وقد كان من أبرز الأسباب التي دعت إلى تذمر المصريين فداحة الضرائب، وكثرة
توزيع الأراضي الزراعية على أسرى الحروب
٥ الأسيوية والجنود المرتزقين من الإغريق والمقدونيين الذين كانوا يفدون
إلى مصر لمدد قصيرة، غير أنهم لا يلبثوا أن يستولوا على أراض زراعية ويستغلونها
لحسابهم بأيد مصرية. هذا، وتحدثنا المصادر أن «بطليموس إيرجيتيس الأول» قد وقع في
أيامه قحط كاد يودي بحياة الشعب في عهده، وكان ذلك في أول حكمه للبلاد، ومن المحتمل
أن هذا الحادث قد قضى على البقية الباقية مما عند المصريين من صبر على ما هم فيه
من
ضنك وضيق، وذلك على الرغم من أن هذا الملك اشترى لمصر الحبوب من الخارج لسد حاجتها
وتلافيًا للقحط.
ولدينا بردية عُثِرَ عليها في «تبتنيس»
٦ (= أم البرجات) يمكن إرجاع نوع كتابتها إلى النصف الثاني من القرن
الثالث. فإذا نسبنا هذه البردية إلى عهد «بطليموس الثالث» فإنه في الإمكان أن يتخيل
المرء — مما جاء فيها — حالة الاضطرابات التي كانت موجودة وقتئذ في مصر. وهذه
الوثيقة تحتوي على منشور يتحدث عن إدارة حكومية كانت قد تحولت عن مجراها الأصلي.
وهذا المنشور مثله كمثل المنشورات التي كان يسير الشعب على هديها؛ وذلك لأنها تشير
إلى سوء تصرفات بعض الموظفين
٧ مع المصريين، كما تظهر لنا غرور الجامحين؛ يُضَافُ إلى ذلك أن هذا
المنشور جاء فيه تلميحات عن تهرب الجنود من الانخراط في سلك الجندية أو بعبارة أدق
خيانة الجنود المصريين. والواقع أن هذا المنشور قد أوضح لنا رد الفعل على الحكومة
المركزية فيما له علاقة بالضرر المزدوج الذي كان ينخر في أصول نظام الإدارة
المصرية، والمقصود بذلك سوء التصرف الإداري والتراخي المنتشر بين عامة الشعب فيما
يخص أداء واجباتهم نحو بلادهم. غير أن توافق ما جاء في هذا المنشور على إثر موقعة
«رفع» لا يجعل في استطاعتنا والحالة هذه أن نقرر فيما إذا كان ينبغي علينا تأريخ
هذا المنشور بأوائل حكم «بطليموس إيرجيتيس الأول» أو في بداية حكم خلفه «بطليموس
الرابع».
٨ وعلى أية حال فإن هذا المنشور يكشف لنا عن حالة الاضطرابات التي تميز
بها النصف الثاني من القرن الثالث ق.م، وأخيرًا إذا صدقنا ما قصه علينا العالم
الروسي «ستروف»
٩ فإنه من المحتمل أن قصة وحي صانع الفخار قد أُلِّفَت على ما يُظَن في
عهد «بطليموس الثالث». وهذه القصة هي عبارة عن تنبؤ وُضِعَ بالديموطيقية، وقد
حُفِظَتْ لنا منه نسخة كُتِبَتْ بالإغريقية، ويرجع تاريخها إلى القرن الثالث قبل
الميلاد. وهذا الأثر يميط لنا اللثام عن كراهية شديدة للإسكندرية تكنها قلوب الشعب
المصري للإغريق سكان هذه المدينة الواقعة على البحر، مما يمكن أن يؤدي إلى انفجار
ثورة مصرية وطنية. وقد تساءل بعضهم فيما إذا كان هذا الكره الذي جاء ذكره في وحي
صانع الفخار، كان المقصود به «بطليموس الثالث» وبطانته. هذا، ونجد من ناحية أخرى
أن
ما ذكره المؤرخ «أتو»
١٠ من تلميحات جاءت فيما يتعلق بالحملات الباهرة والخيرات التي أغدقها هذا
الملك — وهي التي تشير من بعيد إلى التماثيل المصرية التي كان قد اغتصبها الأعداء
«المتمنطقين بأحزمة» — أنها ليست إلا مجرد عبارات فخار ومدح لا ترتكز على حقائق
تاريخية صحيحة؛ بل مجرد عبارات كان يتناقلها ملوك البطالمة الواحد عن الآخر، وذلك
على غرار ما كان يفعله الفراعنة، وبخاصة في العهود الأخيرة، وليس أدل على ذلك من
قوائم الممالك التي فتحها فراعنة مصر في عهد الأسرة الثامنة عشرة، والتي أخذ
الفراعنة المتأخرون ينقلونها كأنها من عملهم، وأنهم قد قاموا بهذه الفتوح كرة أخرى،
أو أنها من عملهم لا عمل من سبقهم.
وعلى أية حال فإن الحقائق التي تشهد بوجود قلاقل واضطراب في البلاد كانت تتجمع
أسبابها وتظهر بوادرها مما لا يجعلنا نميل إلى رأي كل من المؤرخين «جوستن» و«سنت
جيروم» وهما اللذان يدهشان ويستبعدان قيام ثورة وطنية في تلك الفترة التي كان فيها
ذلك الملك المظفر — الذي فتح «آسيا» — يحيط نفسه وبلاده بهالة من الفخار الحربي
الذي كان ينبغي للمصريين أن يرفعوا به رءوسهم عاليًا. وقد تحدثنا عن هذه الفتوح
في
غير هذا المكان. ومهما يكن من أمر فإن هذه الثورة التي كانت كل الأحوال في البلاد
مهيأة لها لم يكن سببها في بادئ الأمر قاصرًا على كره المصريين للمستعمرين وحسب؛
بل
كان كسب لقمة العيش وضيق الحال من أهم الأسباب التي دعت إلى اشتعال لهيبها.
وعلى أية حال لا نعرف على وجه التأكيد مدى انتشار الثورة في البلاد، ولا أمد
استعارها. ولما مات الملك «بطليموس الثالث» عام ٢٢١ق.م لم يترك وراءه خلفًا صالحًا
لتولي العرش في فترة كانت البلاد في حاجة إلى ملك حازم. والواقع أن ابنه «بطليموس
فيلوباتور» لم يكن الملك الذي تتطلبه مصر في هذه اللحظة، وبخاصة عندما نعلم أنه
كان
على عرش السليوكيين فتًى في مقتبل العمر ممتلئًا نشاطًا وقوة عزيمة في حين كان على
عرش مصر شابًّا غرًّا لا يهتم قبل كل شيء إلا بالتمتع بملاذِّ الحياة ومباهجها.
وقد
وصفه لنا «بوليبيوس» بأنه كان ملكًا خاملًا، وفي الوقت نفسه يعرف من كل شيء طرفًا،
كما كان مغرمًا بالبحث في الأمور الدينية الخفية، ولم يكد ينقضي على موت «بطليموس
الثالث» إلا فترة وجيزة حتى ظهرت علامات حرب أكيدة كان لا مناص من وقوعها في
مديريات «آسيا الصغرى» التابعة للإمبراطورية البطليمية. وقد تحدثنا عن هذه الحروب
مليًّا في غير هذا المكان.
وفي هذه الفترة كان الرجل الذي يقوم بأعباء الوزارة هو «بطليموس» المسمى
«سوسيبيوس» وكان سياسيًّا محنكًا، ومن ثم مد أجل المفاوضات مع «أنتيوكوس الثالث»
بقدر ما وسعته الحيل، وكان في خلال ذلك يعمل على تمرين جيش عظيم من أبناء الشعب
المصري للمرة الأولى في تاريخ البطالمة. هذا، وكانت الجنود المرتزقة تُجَنَّد
بأموال باهظة في حين كان الجنود المصريون يُدَرَّبُون على فنون الحرب على الطريقة
المقدونية.
١١ غير أنه مما يؤسف له أن روح الخيانة كانت تحلق فوق رءوس الجميع، وما
لبثت أن ظهرت هذه الروح الخبيثة في علية القوم وفي الإغريق الذين كانوا مقربين من
الملك والذين كانوا في ضيافته. وقد فطن لذلك «سوسيبيوس» في الحال، وأمر بأن يُقْضَى
عليهم سرًّا. هذا، وقد رأينا — فيما سبق — أن ملك سبارتا «كليومنيس» والذي كان
لائذًا ببلاط الإسكندرية بعد نفيه، لما رأى أنه قد صُدِمَ في آماله ولم يساعده
«بطليموس» على استرجاع ملكه خرج عن عزلته وسار في شوارع الإسكندرية ومعه فئة قليلة
من أتباعه مناديًا الشعب المصري بالقيام بثورة باسم الحرية. وقد كان أشد خطرًا من
ذلك تلك الخيانة التي قام بها «تيودوتوس»
Theodotos
حاكم «سوريا» فقد كان من جراء ذلك خيانة الجنود وخروجهم على مصر، وذلك أن ما أحرزه
هذا الحاكم من انتصارات في بادئ الأمر على «أنتيوكوس» قد أثارت عليه حقد رجال بلاط
الإسكندرية المقربين من الملك، لدرجة أنه خاف أن يُبْعَدَ عن سلطانه بل خشي أن
يُغْتَال، وتدل شواهد الأحوال على أنه كان على حق.
والدليل القاطع على ذلك هو الاستعراض الذي وضعه أمامنا المؤرخ «بوليبيوس» وهو
الخاص بالمنافسات التي ساقت حاكم «سوريا الجوفاء» هذا — الذي نحن بصدده — إلى خيانة
«بطليموس» مليكه فإن الإنسان يفهم منها — من الوجهة النفسية — مفعول إحدى القوى
التي تُعَدُّ من أعظم الأخطار التي قضت على كيان الدولة البطلمية. والمقصود من ذلك
هو عادة اتباع سياسة شخصية، والسير على مقتضاها عند عظماء رؤساء الإغريق سواء
أكانوا موظفين أو رؤساء أو مرتزقين، ولا غرابة في ذلك فإن الخيانة في صفوف الجنود
المرتزقين كانت من الأمور العادية في الممالك الهيلانية التي كانت تستخدم هؤلاء
الأجناد في شئونها الحربية، ولا أدل على ذلك من المواد المريبة التي نقرؤها في
العقد الذي أبرمه «يومنيس» ملك «برجام» (٢٦٣–٢٤١ق.م) مع بعض رؤساء الجنود
المرتزقين؛ حيث نرى كيف أن هؤلاء القواد كانوا مستقلين في تصرفاتهم، وأنه بمقتضى
هذه المواد كان من أسهل الأمور عندهم خيانة من كانوا في خدمته.
١٢
ولم يقتصر الأمر على ذلك؛ إذ نجد أن الحملة التي لعب فيها المصريون دور بطولة
للمرة الأولى وكان لهم فيها القدح المعلى في إحراز النصر؛ كانت لحمتها وسداها تلك
الخيانات على يد أولئك الأجناد الإغريق الذين وهبهم ملوك البطالمة أراضيَ شاسعة
في
أنحاء القطر مقابل خدماتهم الحربية. فقد رأيناهم في وقت تجمع الحشود لشن الحرب على
العدو قد أخذت غيرتهم تنطفئ وحميتهم تتزعزع وعزيمتهم تخور. فمن ذلك ما نقرأه في
بردية محفوظة الآن بمتحف «فرنكفورت» من أن هؤلاء الأجناد المرتزقين الذين كانوا
يملكون أراضيَ في مصر وفي «سوريا» أصبحوا يفضلون البقاء في أراضيهم الزراعية على
الذهاب إلى ساحة القتال مع العلم بأن هذا كان واجبهم الأول، والذي كان من أجله
جلبهم ملك مصر من بلادهم.
هذا وقد فصلنا القول في المصادر التي يمكن الاعتماد عليها فيما يخص موقعة «رفح»
الفاصلة فيما سبق.
موقعة «رفح» ونتائجها
والواقع أن قصة هذه الواقعة قد وصت إلينا من مصدرين رئيسيين؛ أولهما: ما رواه
المؤرخ «بوليبيوس» المؤرخ البطلمي الذي كان معاصرًا للملك «بطليموس الخامس» وابنه
«بطليموس السادس». وقد حدثنا عن هذه الموقعة في كتابه الخامس؛ والمصدر الثاني: هو
ما جاء في الرواية الديموطيقية التي وردت في مرسوم كُتِبَ بثلاث لغات وهي المصرية
القديمة والديموطيقية ثم الإغريقية، وهذا المرسوم أصدره مجلس «منف» الكهني بعد
انتصار المصريين في هذه الموقعة في ٢٢ يونيو عام ٢١٧ق.م وقد فصلنا القول فيه فيما
سبق. ومما يلفت النظر في هذا المرسوم هو أنه على الرغم من أن الكهنة المصريين كانوا
قد أصدروه كغيره من المراسيم للتمدح بمناقب الملك وما له من أيادٍ بيضاء على الكهنة
وأهل البلاد عامة، فإنه لم يفتْهم هنا ذكر بعض التفاصيل التي وقعت أثناء المعركة؛
فمن ذلك أنه أُشِيرَ في المتن عن خيانة قام بها القواد مما يوحي إلى أنه كانت هناك
فكرة القيام بعصيان في صبيحة النصر الذي أحرزه المصريون، مما اضطر الملك أو
القائمين بالأمر إلى عقد صلح مشوه عزا المؤرخ «بوليبيوس»
١٣ سببه إلى رخاوة الملك وجبنه. ولسوء الحظ نجد أن متن المرسوم عند هذه
النقطة غامض أو لم نصل إلى فهمه حتى الآن (سطر ٢٥ في الأصل)، وقد زاد الطين بلة
أن
كلًّا من المتنين الهيروغليفي والإغريقي وهو المقابل للمتن الديموطيقي قد ضاع عند
هذه النقطة، ومن أجل ذلك نجهل إذا كانت الجملة الآتية وهي: «وعلى أثر خيانة القواد
قد مهد ذلك ﻟ «أنتيوكوس» لأن يؤلف جيشه في مدة سنتين وشهرين، وبذلك عاد إلى مصر»؛
يُقْصَد بها القواد الإغريق الذين قاموا بالخيانة في أول المناوشات،
١٤ أو يُقْصَد قيام حركة عصيان كانت قد انفجرت بين الجنود قبل نهاية
المعركة؟ وعلى أية حال فإنه لا يمكن القطع في معنى هذه الجملة الغامضة، وبخاصة
عندما نعلم أن الأستاذ «سبيجلبرج» قد ترجمها بصورة مخالفة …
ولا نزاع في أن المصريين الذين كانوا يحاربون جنبًا لجنب مع هؤلاء الإغريق
والمقدونيين المأجورين قد لاحظوا ما كانت تنطوي عليه نفوسهم من خيانة وأنانية؛
ومن
ثم كان ذلك حافزًا لهم على أن يقوموا بدورهم بالمطالبة بحقوقهم المهضومة، تلك
الحقوق التي كان ينكرها عليهم المستعمر الإغريقي والمقدوني وعلى رأسهم «بطليموس»
نفسه. والواقع أن المصريين قد شعروا بعزتهم وقوتهم بعد أن برهنت الأحداث التي وقعت
في واقعة «رفح» أن النصر الذي أُحْرِزَ فيها كان على أيديهم.
وتدل شواهد الأحوال على أن مطالبتهم بحقوقهم كان على أعقاب موقعة «رفح» بمدة
قصيرة؛ فقد هبوا بثورة على حكم «بطليموس الخامس» نفسه. وعلى أن «بطليموس» عندما
جند
المصريين لمحاربة «أنتيوكوس الثالث» قد انتهج السبيل الذي يلائم موقفه لإخراجه من
الورطة التي وُجِدَ فيها، غير أنه في الوقت نفسه قد كبل نفسه من حيث المستقبل؛ فقد
كان الشعور السائد بين الأجانب والبطالمة بوجه عام هو عدم الثقة بالمصريين الذين
كانوا يستعملونهم كعبيد أرقاء في زراعة الأرض والصناعات التي تحتاج إلى أجهاد
وعناء، أما المصريون؛ فإنهم بعد خروجهم من موقعة «رفح» أخذوا يفخرون بما نالوه من
نصر مؤزر؛ ومن ثم بدأوا يظهرون عدم الطاعة لأولئك الأسياد الذين لولا مساعدة
المصريين لهم لضاعت مصر. ومنذ هذه اللحظة أخذ المصريون يبحثون عن عظيم من أبناء
جلدتهم الأماجد ليكون رئيسًا لهم، ويمكنه أن يقودهم إلى الحصول على مطالبهم، ولم
يَمْضِ طويل زمن حتى حصلوا على أمنيتهم، وإن كان بعض الأثريين يظن أن مدة البحث
أخذت بعض الوقت.
١٥ وعلى أية حال فإن قيام المصريين بثورة مضافًا إلى خيانة القواد الإغريق
قد جاء ضغثًا على إبالة؛ مما أدى إلى انتشار الفوضى في كل مرافق الحياة في مصر،
وبخاصة في الوجه البحري في بادئ الأمر، وقد تحدثنا — فيما سبق — عن الأسباب التي
كانت تتجمع شيئًا فشيئًا حتى وصلت إلى نقطة كان لا بد من أن تنفجر عندها الثورة،
ولكن إذا استعرضنا هنا ما كان يراه المؤرخ «بوليبيوس» من حقائق أدت إلى قيام هذه
الثورة لوجدناها قليلة بالنسبة إلى رأينا، على الرغم من أنها قد كانت كافية في
نظره.
ولا نزاع في أنه من المبادئ الأولية لقيام ثورة في أي بلد أن يكون الشعب في غالب
الأحيان قد أجمع رأيه على كراهية الحاكم الذي يسيطر على البلاد، وكذلك بغضه لنظام
الحكم الذي تسير على نهجه الحكومة. أما «بوليبيوس» فكان ينظر إلى مجريات الأمور
في
التاريخ بأنها تطور في القوى يتغير على حسب الأحوال؛ ومن أجل ذلك نجد هذا المؤرخ
قد
فسر ما كان يجري في مصر على أثر انتصار المصريين في موقعة «رفح» على أنه تغير في
صلة القوة التي كانت بين الملك ورعاياه المصريين؛ ومن ثم نلحظ أنه لم يبحث الأسباب
الاقتصادية والاجتماعية التي يصفها لنا. وقد أوضحنا في المقدمة التي أوردناها في
هذا الفصل الأسباب التي أدت إلى هذه الثورة …
وعلى أية حال نعود هنا ونتساءل: هل يجب علينا أن نبحث عن أسباب هذه الثورة أو
الثورات في الانفعالات النفسية المعادية للهيلانية أو بعبارة أدق للمستعمرين بوجه
عام؟ حقًّا يجب علينا قبل كل شيء أن نعلم أن الخيانات التي ارتكبها الإغريق أنفسهم
في ساحة القتال قبل الحملة بل ومن المحتمل عندما دقت ساعة النصر؛ هي التي كشفت لنا
عن ضعف الملك وخوره، بل وضعف أداة الحكم وتفككها أيضًا.
هذا، ولن يفوتنا أن نذكر هنا أن الإسكندريين كانوا — كما سنرى على طول الخط طوال
التاريخ البطلمي — هم الذين يحملون راية العصيان الذي كان ينتشر في البلاد فيما
بعد
في صور مختلفة، وقد دلت الحوادث على أن أهالي الإسكندرية هم الذين في أيديهم مصير
ملوك البطالمة بسرعة خاطفة أكثر من سائر مصر، وذلك لأنهم كانوا على مقربة من الملك،
ويعلمون بمجريات السياسة في العاصمة؛ ومن ثم كانوا على علم بالأسباب التي كانوا
يعزلون بها الملك عندما يتراءى لهم ذلك في أي موقف من مواقف البلاد الحرجة، وبخاصة
في المنازعات الأسرية، وبعد ذلك نتساءل: هل الثورة التي تنشب في البلاد، وتكون
ضاربة بأعراقها الوطنية، ونابعة من وعي مصري مجمع عليه؛ لا يكون من بين صفوفها كل
رجال الدين في البلاد؟
والواقع أن الجواب على ذلك يجب أن يكون بالإثبات؛ إذ تدل شواهد الأحوال على أن
مركز الكهنة في هذا الوقت يشير إلى وجود روح ثورية على الرغم من أننا لا نعرف ما
الحالة النفسية التي كانت عليها نفوس أتباع الإله «آمون» في تلك الفترة من تاريخ
البلاد، ومن ثم قد لا يكون من الجزم أن نعطي رأيًا محايدًا؛ وذلك لأنه يجب على
المؤرخ الفاحص أن يميز بعناية الفرق بين الولاء الذي كان يظهره كل من كهنة الوجه
القبلي وكهنة الوجه البحري للملك؛ فقد كان هوى كهنة الوجه القبلي مع الثوار في حين
أن هوى كهنة الوجه البحري كان مع الملك؛ لما كان يغدقه عليهم من هبات وأعطيات
١٦ مما كمم أفواههم وأرضى أطماعهم …
ومهما يكن من أمر فإن مجمع الكهنة الذي عُقد في «منف» في السنة التاسعة من حكم
«بطليموس الخامس» قد أصدر القرار الذي نُقِشَ على حجر رشيد الشهير. وفي هذا المرسوم
يهنئ الكهنة الملك الشاب على معاقبته للثوار الذين عكروا صفو حياة المعابد
وأتلفوها. وهكذا نجد أن الثوار قد هاجموا المعابد. ولكن يتساءل المرء: هل الهجوم
على المعابد هذا كان القصد منه إلحاق الضرر بالمعابد نفسها ونهبها أم لأن الكهنة
كانوا يظهرون ميولهم إلى الملك كما هي الحال في كل زمان ومكان؟ وعلى أية حال قد
نجد
جوابًا على هذا السؤال في الثورات التي ستأتي بعد. ويقول بعضهم: إنه يكفي أنه قد
ذُكِرَ هنا أن هذه الثورة لم تكن موجهة للإغريق فحسب؛ لأنه لم يكن الكهنة ضمن
صفوفها، وذلك لأن رجال الدين في الوجه البحري على الأقل كانوا هدفًا لهجوم الثوار،
وقد قيل إن ولاءهم ﻟ «بطليموس فيلوباتور» كان سببه ما أسبغه عليهم من نعم. وقد جاء
بيانه في صورة جلية في المرسوم الذي أصدره في «منف» وهو الذي عُثِرَ عليه في «بتوم»
(تل المسخوطة الحالية). وفي اعتقادي أن هذا ليس بالبرهان القوي؛ وذلك لأنه قد
تُوجَد في كل بلد أحزاب متناحرة متباينة في مبادئها، غير أنه يكون هناك في أغلب
الأحيان وفي الوقت نفسه حزب قوي له الغلبة في نهاية الأمر، وهذه كانت الحالة في
مصر.
وعلى أية حال كانت الثورة قائمة على قدم وساق، وقد كان لها رئيس كما يقول
«بوليبيوس»، غير أنه كان ينقصها الوحدة والرابطة التي تربط بين أفرادها. وكان لا
بد
للملك أن ينصرف عن حياة المتعة واللهو؛ ليعلن الحرب على هؤلاء الخارجين، ولكن دون
أن يشتبك معهم في موقعة منظمة أو حرب بحرية أو حصار أو أي شيء يستحق الذكر من
الوجهة الحربية، اللهم إلا ما كان يُرْتَكَبُ من أعمال القسوة من كلا الطرفين، هذا
بالإضافة إلى احتقار كل ما يشعر بالخلق الكريم
١٧ في هذه الحروب.
يدل على ذلك ما جاء في ورقة محفوظة الآن بمتحف برلين
١٨ يرجع تاريخها إلى نهاية القرن الثالث، تحدثنا كيف كانت تنظم مقاومة
عصابة من الثوار في حومة الوغى القاسية التي يشير إليها «بوليبيوس». وهذه البردية
هي قطعة من تقرير كان قد حرره — دون أي شك — ضابط شرطة، وهاك ما جاء في هذه الوثيقة:
د … اليوم الأول من الشهر هاجم المصريون الحرس ثم كمنوا في المكان،
وعندما أُخْبِرَ الحرس بذلك جاءوا إلى قرب المكان، وعندئذ توجه المصريون
نحو بيوت المنحنى، وعندما قربوا آلتهم من بيت «نختنبس»
Nechthenibis الذي كان يقع عند ساحة
المعبد بدأوا الهجوم. ولكن لما أخذ الحرس في هدم جزء من المتاريس عليهم
تقهقروا. واعلم أن المصريين كانوا لا يحرسون القرية كما أمرناهم في بادئ
الأمر؛ وذلك لأن «كالياس» Callias لم يحرر
تقريره …
وتدل الشواهد على أن الحرب التي كانت تقوم بين الطرفين كانت عبارة عن حرب كر وفر؛
أي مهاجمة جماعة من الحرس أو حصار بيت أو حصن يأوي عصاة، أو مهاجمة قرًى محصنة
بالمتاريس كما حدثنا عن ذلك «بوليبيوس». هذا ولم يستثن من ذلك بيت المصري الخائن.
والظاهر أن كل سكان القرية لم يكونوا في جانب الثائرين كما هي الحال في كل زمان
ومكان؛ والسبب في ذلك أنهم كانوا يظهرون بمظهر عدم الاكتراث والتزام السكون خوفًا
مما عساه يحيق بهم من عقاب على يد الحاكم الإغريقي على ما يظهر. والمعتقد أن الثوار
كانوا يأتون من القرى؛ وذلك لأن الثورة لا تولد في داخل البلدة، وحقيقة الأمر أن
عصابات أولئك الذين خرجوا على القانون كانوا يتخذون الصحراء ملجأً لهم، ويعيشون
من
الغارات التي كانوا يشنونها على المناطق الآهلة بالسكان. وهؤلاء المشردون كانوا
من
الذين فروا من أراضٍ كان إيجارها باهظًا لا قِبَلَ لهم به، أو من قرية كانت فيها
أعمال السخرة لا تُحْتَمَل، أو من مصنع كان مؤجرو الملك يتطلبون من عماله مجهودًا
لا يحتمله المرء. ومن ثم يمكن للإنسان أن يتصور بحق كيف أن الكثير من هؤلاء
المتشردين قد انقلبوا إلى لصوص محترفين يعيشون من السلب والنهب من المناطق الآهلة
بالسكان.
وعلى ذلك فإنه ليس لدينا أي شك في أن المتاعب التي وُصِفَتْ في مرسومنا يمكن أن
تميز لنا منذ تلك اللحظة بأن العصيان الذي قام في أنحاء البلاد على النحو الذي
وصفناه كان موجهًا على المراكز التي كانت فيها الحياة الاجتماعية لا تزال منظمة
تنظيمًا حسنًا كالقرى والمعابد، وكان يقوم بهذا العصيان أولئك الذين كانوا قد
أفلتوا من قبضة مطالب الحكومة الباهظة التي كانت قد تخطت وقتئذ حد المألوف من حيث
الشدة، ومن ثم أصبح هؤلاء الخارجون لا يؤلفون جزءًا من المجتمع الذي يسير على حسب
قوانين ينفذها الأسياد المستعمرون الإغريق والمقدونيون على حسب أهوائهم ومصلحتهم
ومصلحة خزانة الملك. هذا، وسنحاول فيما يلي أن نتحدث بصفة عامة عن هذه الناحية من
الثورة التي يظهر أنها كانت تحوم في أفق البلاد. فنرى أنه على الرغم من أن سلطان
«بطليموس» كانت تعمل على تقويض أركانه خيانات رؤساء البلاد من الإغريق والفتن التي
كان يقوم بنشرها في البلاد أهل الريف، وهي التي كانت في الوقت نفسه حربًا على
المستعمر وخرابًا للبلاد؛ فإنا نجد كذلك أن السلطة الملكية كانت معرضة لخطر هجوم
عدو وافد من الجنوب، وهو الذي كان منذ قيام الأسرة الآمونية في مصر العليا
واستقلالها في طيبة تلك البلد التي كان يحكم فيها «آمون» بوصفه ملكًا مستقلًّا
منفصلًا عن الدلتا، ومن ثم كانت تقوم في وجه كل ملك آتٍ من الدلتا يسلب منها
استقلالها، فكانت بذلك مملكة في وسط مملكة أخرى مستقلة، أو إن شئت فقل إقطاعًا
مستقلًّا كما يقول بعضهم، غير أن «طيبة» كانت — كما سنرى — المحور الذي كانت تدور
فيه الثورة.
الفرعونان «حرمخيس» و«عنخمخيس» والثورة التي قاما بها على البطالمة
لدينا عدة عقود ديموطيقية عُثِرَ عليها في الإقليم الطيبي مُؤَرَّخَة بسني
الملكين «حرمخيس» و«عنخمخيس». وكان أول من كشف النقاب عن هذين الملكين المصريين
اللذين قاما في وجه الاستعمار الإغريقي في عهد كل من «بطليموس الرابع» و«بطليموس
الخامس» وأسسا لهما ملكًا في قلب المملكة البطلمية مكث نحو عشرين عامًا؛ هو الأثري
«ريفييو». وذلك على حسب ما جاء في عقود ديموطيقية محفوظة الآن في «لندن» ومرسليا
وبرلين. وقد تبعه في هذا البحث غيره من علماء الآثار، نخص بالذكر منهم «بركش»
١٩ و«باييه»
Baillet. وقد وصل فعلًا
الأثري «ريفييو» إلى تحقيق اسمي هذين الملكين وقراءتهما قراءة صحيحة، وذلك بعد أن
وقع في يديه عدة عقود ديموطيقية مؤرخة بعضها بحكم الملك «حرمخيس» وبعضها الآخر بحكم
الملك «عنخمخيس». هذا، وقد وضع العالم «لاكو» قائمة بالعقود التي من عهد هذين الملكين،
٢٠ وقد عاشا بوجه عام في حكم الملك «بطليموس الخامس إبيفانس» كما ذكرنا من
قبل. وقدم لنا العالم «ريفييو» البرهان على ذلك بقوله: إنه في عام ١٨٧٩ ميلادية
قدم
له الأثري «لبسيوس» عقدين جديدين من عهد الملك «حرمخيس» كان قد اشتراهما حديثًا،
وحوالي نفس الوقت كان متحف «برلين» قد اشترى بردية أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها،
وهذه الورقة الأخيرة حصل منها «ريفييو» على صورة تابعة لورقتي برلين المؤرختين
بالعام السادس من عهد «حرمخيس»
٢١ وتحمل الأولى رقم ١٤٣ والثانية رقم ١٤٤. ونجد في هذه الأوراق أن امرأة
تُدْعَى «تانفر» ابنة «بسيتون» قد نزلت إلى امرأة أخرى تُدْعَى «تستمن» ابنة
«باخنوميس» عن نفس السدس الذي تملكه في ثلاثة حقول تقع في غربي «طيبة» وقد ذكرت
حدودها بعناية. والواقع أن البردية الثالثة الجديدة التي تحمل رقم ١٤٦
٢٢ في متحف «برلين» تحتوي على ورقة واحدة، وقد دُوِّنَ عليها عقد النقد
وعقد النزول كما هي العادة في الأوراق الديموطيقية الخاصة بعقود البيع. وفي هذه
الورقة نجد أن «تستمين» تبيع ثانية بدورها نفس هذه الملكية إلى شخص آخر. وقد
أُرِّخَ العقدان اللذان تحويهما هذه الورقة بالسنة السابعة من حكم الملك «عنخمخيس».
وقد وجدنا اسمه في عقد من عهده موجود الآن بمتحف «مرسليا»، وعلى ذلك فإن الترتيب
التاريخي لهذين الفرعونين قد أصبح ثابتًا بصورة قاطعة؛ فالفرعون «حرمخيس» هو الذي
أُعْلِنَ أولًا فرعونًا على البلاد في «طيبة» في السنة الأخيرة من حكم الملك
«فيلوباتور»، وخلفه «عنخمخيس» وهو الذي حارب «بطليموس الخامس إبيفانس» مدة طويلة،
واستمر في محاربته حتى العام التاسع عشر من حكم الأخير. هذا، ونجد أن بين العقود
الديموطيقية عقدًا مؤرخًا بالسنة السادسة من عهد «حرمخيس»، وفي عقد آخر السنة
الرابعة عشرة من عهد «عنخمخيس»؛ أي إنهما قد حكما حوالي عشرين عامًا تقريبًا.
٢٣
وعلى أية حال كان لا بد لنا من تمهيد بكلمة هنا عن تاريخ هذين الملكين المصريين
البطلين حتى يمكن الدخول في الدور الجدي الذي قاما به للنضال عن حقوق المصريين في
وجه الحكم البطلمي الجائر. وعلى الرغم من أن هذه الثورات التي قام بها أبناء مصر
كانت المعول الأساسي لهدم أركان الحكم البطلمي في مصر والتمهيد لدخول الرومان؛ فإنا
نجد بعض المؤرخين يقللون من أهمية الدور الذي لعبه كل من «حرمخيس» و«عنخمخيس»، ولا
أدل على ذلك من أن بعض المؤرخين مثل «بڨان» قد ذكر — في كتابه عن تاريخ مصر — هذين
الملكين في جملة واحدة عارضة كأنهما ليسا بالشخصيتين اللتين يُؤْبَه لهما. وفي ذلك
يقول: إن العصابات المعادية كان يديرها رجلان اسمهما «إنماخس» و«حرماخيس» ويمكن
أن
يكونا مصريين يطمحان إلى حمل الألقاب العليا.
٢٤ ومن عبارة المؤرخ «بڨان» نفهم أنه لم يهتم حتى بذكر اسمي هذين الملكين
على حسب الترتيب التاريخي لحكمهما البلاد. غير أننا نلتمس المعاذير للمؤرخ «بڨان»؛
لأنه قال في مقدمة كتابه إنه قد عني في كتابه بمصر الإغريقية أو البطلمية لا بمصر
الفرعونية. أما عن جنسية هذين الملكين التي حامت حولها الشكوك؛ فليس هناك شك في
أنهما كانا مصريين لحمًا ودمًا لمن درس تاريخ مصر وبلاد النوبة.
استمر نضال هذين الملكين في «طيبة» مدة تبلغ حوالي عشرين عامًا. غير أن بعض
المؤرخين يتشكك في أنهما كانا مسيطرين طوال هذه المدة على «طيبة» وإقليمها؛ فمن
ذلك
أن المؤرخ «بوشيه لكلرك» يقول: إنه ضرب من المبالغة أن يتحدث المرء عن «طيبة» المستقلة.
٢٥ ولكن من جهة أخرى نجد أن المؤرخ «كرول»
٢٦ ينظر إلى هذين الملكين بأنهما كانا نوبيين، وأن غزوهما ﻟ «طيبة» كان
آخر هجمة قام بها السودانيون لحكم مصر. غير أنه ليس لدينا — على أية حال — براهين
تثبت أن البطالمة كان لهم سلطان على إقليم «طيبة» في تلك الفترة. والواقع أنه ليس
لدينا حتى الآن أية وثيقة يمكن أن تُعزا بصورة أكيدة إلى عهد الملك «فيلوباتور»
وتحمل رقمًا بعد العام السادس عشر من حكم هذا الملك في هذا الإقليم. وخلاصة القول:
أن «طيبة» قد خرجت عن نطاق الحكم البطلمي، وأنه لم يُجْبَ منها ضرائب للبطالمة؛
إذ
في الواقع ليس لدينا وثيقة واحدة تثبت أن ملوك البطالمة كانوا يجبون ضرائب من إقليم
«منف»، وأظن أن في هذا ما فيه الكفاية للرد على كل أولئك المؤرخين الذين كانوا
يظنون أن هذه الثورة كانت مجرد عصيان وأن «طيبة» وملوكها المصريين لم يكونوا
مستقلين فيها.
٢٧ هذا، ونعلم أنه في العام السادس عشر من حكم «بطليموس الخامس» (٢٠٦ق.م)
على وجه التأكيد أن أعمال البناء كانت قد أُوقِفَتْ في معبد «إدفو»، وذلك من جراء
انفجار ثورة؛ وقد احتمت عصابة الثوار في داخل المعبد في حين كان القتال كذلك دائرًا
في جنوب البلاد.
٢٨ وعلى أية حال فإن المطلع على تاريخ مصر يعرف جيدًا أن إقليم الجنوب
وبخاصة إقليم «طيبة» الذي أُقِيمَتْ فيه المملكة المستقلة كان دائمًا موطن القلاقل
المستمرة في العهد المتأخر من العصر الفرعوني، وبخاصة الفراعنة الضعفاء منذ الأسرة
التاسعة عشرة. وكان «فيلوباتور» البطلمي ملكًا ضعيفًا نشأ في عهده حزب مصري يطالب
باستقلال البلاد وإعادتها إلى ملوك تناسلوا من الفراعنة. وأعتقد إذن أن النوبيين
لم
يكن لهم وقتئذ ضلع يُذْكَر في هذه النهضة المصرية البحتة.
وعلى أية حال فإنه على أثر موت «فيلوباتور» نجد في واقع الأمر أن هذه الثورة
الوطنية قد تطورت إلى أوجه ثلاثة. يرجع السبب في قيامها إلى ضعف إرادة الملك، وسوء
الحالة الاجتماعية والاقتصادية، والشقاق الديني الذي كان متفشيًا في البلاد؛
وأخيرًا عدم الاستقرار السياسي في داخل البلاد وخارجها.
ففي الإسكندرية الثائرة من جراء قتل «أرسنوي الثالثة» أطاحت الثورة بحياة
«أجاتوكليس» وبطانته — كما فصلنا القول في ذلك — وقد كان في ذلك شاهد عدل على تعلق
الشعب الإسكندري بالملك «بطليموس الخامس» الطفل الذي لم يكن قد دنس بعد؛ غير أن
هذه
الثورة تكشف في الوقت نفسه عن الشهوات التي كانت تعرض النفوذ الملكي للمخاطر. وقد
تحدثنا كيف كان «بطليموس الخامس» لعبة في أيدي الأوصياء الذين أُقِيمُوا عليه، وكيف
أنهم في نهاية الأمر أفسدوا أخلاقه، وعرَّضوا البلاد للخطر.
وفي ريف البلاد نجد أن الفلاحين الذين كانوا قد سئموا نظام الحكم الذي كان غرضه
الأول ابتزاز كل ما كان يمكن ابتزازه منهم وإفقارهم بكل الوسائل بجمع المال للخزانة
على يد رجال الإدارة؛ قد قاموا بهجوم عارم في كل مكان على كل ما يمثل الثراء
والسلطان والقوة الغاشمة دون أي تمييز؛ فهاجموا القرى والمعابد ومخافر الشرطة
والموظفين الإغريق.
وفي إقليم «طيبة» نجد أن الثورة قد تمركزت وظهرت بأجلى معانيها؛ ففي مدينة «طيبة»
نجد أن الإله «آمون» يستقبل النوبيين كما حدث ذلك كثيرًا جدًّا، وبخاصة في عهد
«بيعنخي»؛ وذلك كراهية منه لنظام الإقطاع القديم الذي يقوم على مناهضة ملك ظن أنه
قوي ويشعر أنه مزعزع السلطات في الوقت نفسه. ومن ثم نرى في المظهرين الأخيرين من
مظاهر الثورة وأعني بهما ثورة الفلاحين وأصحاب الحرف وثورة أتباع «آمون»؛ كانت
تصبغهما صبغة كراهية الهيلانيين. والواقع أن هذين المظهرين قد صادفناهما في جميع
تاريخ الدولة الحديثة في عهد مصر الفرعونية؛ فقد لاحظنا قيام العمال بالإضرابات
في
جبانة «طيبة» وذلك لعدم دفع أجورهم أو لضآلة هذه الأجور في الوقت الذي كانت الأسرة
المالكة في حالة فقر، كما حدث ذلك في جبانة «طيبة» الغربية في عهد الملك «رعمسيس»
الثالث.
٢٩
أما كهنة «آمون» فنعلم أنهم قد انشقوا على حكم الفراعنة في عهد الأسرة الواحدة
والعشرين، وقد مهدوا لذلك بالثورة التي قاموا بها في عهد الملك «رعمسيس التاسع»
كما
فصلنا القول في ذلك (مصر القديمة الجزء الثامن). ولا نزاع في أن المظاهر الثلاثة
التي تقمصتها الثورة في مصر كانت تعمل جنبًا لجنب على هدم سلطان البطالمة في مصر،
وهذه المظاهر هي التي أدت إلى ضعف مصر في الخارج أيضًا، وسببت ضياع إمبراطوريتها
على كر السنين، وبخاصة تدخل النفوذ الروماني الذي كان آخذًا في التزايد بصورة تلفت
الأنظار.
فبعد أن قُضِي في الإسكندرية على الفئة الضالة التي كانت مقربة ﻟ «بطليموس
الرابع» قضاء شاملًا نجد أن المربين أو الأوصياء الذين نُصبوا على التوالي لتنشئة
«بطليموس الخامس» الطفل قد كانوا مُرَاقَبِين من قبل مجلس الشيوخ الروماني الذي
فرض
نفسه على مراقبة أحوال مصر، وقد رأينا كيف أن هؤلاء الأوصياء قد هوى الواحد منهم
تلو الآخر بسبب الدسائس التي كانت تُحَاك لهم من نفس أفراد بطانة الملك وحاشيته.
وقد كانت لكل من هؤلاء الأوصياء عيوب ونقائص قضت في النهاية عليه، ولا أدل على ذلك
من المصير الذي لاقاه «تليبوليموس» الذي اشْتُهِرَ بجمع المال ومعاقرة الخمر، ثم
خلفه «سكوبوس» الأتولي الذي أفلس الخزانة الملكية، ولا نزاع في أن هذين الوصيين
قد
مهدا لهزيمة «بانيون» مما كان سببًا في تمهيد الأحوال للأحزاب الثائرة في البلاد
للقيام بأعمال التخريب، فزاد ذلك في تعقيد الأمور، وقد فصلنا القول في ذلك في
مكانه. هذا، وفي الوقت الذي نجد فيه في الإسكندرية أن الإغريق يمزقون أوصال مملكة
البطالمة التي كانت قد أصابها الهزال والضعف تحت ستار أنهم يقومون بخدمتها؛ إذ وصلت
بهم الجرأة إلى أنهم باعوا — في المديريات الأسيوية التابعة لمصر — مدينة كان
البطالمة قد فتحوها، وأصبحت ضمن أملاكهم، وأعني بذلك بيع مدينة «كونوس» لأهل «رودس»
وذلك مقابل مائتي تالنتا،
٣٠ وفي نفس الوقت نجد أن ضباطًا من المصريين من الحرس الملكي يقدمون
الولاء والطاعة للملك الصبي.
٣١
وفي هذه الأثناء نجد في الوقت نفسه أن الخارجين الذين كانوا يتحرشون بالجنود
الموالين ﻟ «بطليموس» يتجمعون في بعض الأماكن حيث كانت تنظم حصارات منظمة، ومن
الجائز أن أحد هذه الأماكن المحاصرة هي بلدة «العرابة المدفونة» التي إن صح ما قاله
كل من الأثريين «بردريزيه»
Perdrizet و«لفبر»
Lefebvre؛ وذلك على حسب ما جاء في نقش دونه
جندي على جدار «ممنونيون»
Memnonion في «طيبة»
الغربية جاء فيه: إني «فيلوكليس»
Philocles بن
«هيروكليس»
Hierocles من «ترزين»
Trezene، لقد أتيت لأعبد «سرابيس» أثناء حصار
مدينة «أبيدوس» (العرابة المدفونة) السنة السادسة الثامن والعشرون من شهر بئونة.
ولدينا كذلك نقش مصري آخر كشف عنه الأثري «لاكو»
٣٢ وقد يجوز أنه من نفس العصر الذي نتحدث عنه، وهو لملك يُدْعَى
«هورجونافور»
Hurgonaphor ويحمل نفس الألقاب
الملكية التي كان يحملها الملكان «حرمخيس» و«عنخمخيس» سالفَا الذكر، وهذا النقش
دَوَّنَه نوبي كان يتحرق شوقًا ليكتبه بأحرف إغريقية في نفس المعبد، وقد عزا الأثري
«جوجيه» هذا النقش السالف الذكر إلى عهد الملك «فيلومتور» وحصار «العرابة»؛ وأن
الملك الجديد النوبي السالف قد عاش في عهده. ومهما يكن من أمر فإنه كانت هناك حرب
دائرة رحاها في مصر العليا في بداية حكم الملك «بطليموس الخامس إبيفانس»، ولا أدل
على ذلك من الإشارة التي لمح بها «شتراك»
٣٣ يذكر فيها بالخدمات التي قام بها والده في هذا العهد. وعلى أية حال ليس
لدينا من البراهين ما يثبت أحد الرأيين.
ومن جهة أخرى لدينا حصار معروف تمامًا كان قد أُقِيمَ حول مدينة «ليكوبوليس» من
أعمال الدلتا، ويرجع تاريخه إلى العام الثامن من عهد الملك «بطليموس الخامس». ذكر
لنا هذا الحصار المؤرخ «بوليبيوس».
٣٤ وقد جاء ذكر نفس هذا الحصار في مرسوم «حجر رشيد». ومما تجدر الإشارة
إليه هنا بصورة خاصة أن الرواية المصرية قد دُوِّنَتْ بصورة تنم عن حيوية أكثر
وتفصيل أمتع إذا ما قرنت بالرواية التي جاءت في «بوليبيوس» عن نفس الحادث، وعلى
ذلك
فإنه من خطل القول والتحيز البين أن نحكم جزافًا دون درس وفحص بأن قصص الانتصارات
التي وردت في المراسيم واللوحات الهيروغليفية قد أُلِّفت بصورة واحدة تقليدية، ولا
أدل على كذب هذا الاعتقاد مما جاء في المتن التالي: «لقد سار الملك شطر «ليكوبوليس»
وهي من أعمال مقاطعة «بوصير» وهي التي كانت قد اسْتُولِيَ عليها وحُصِّنَتْ، بغية
حصار، بمستودعات عظيمة من السلاح وكل أنواع المؤن والذخائر. وقد كانت روح الثورة
متغلغلة منذ أمد بعيد بين الكفرة الملحدين الذين كانوا قد تجمعوا هناك، وأحدثوا
أضرارًا جمة في معابد مصر وسكانها. وقد أحكم الملك الحصار، وأحاط المدينة بسدود
وخنادق، كما أقام جدرانًا عدة، وكذلك طم الترع التي كانت توصل الماء إلى هذه
المدينة المذكورة، ولم يعمل قبل ذلك أبدًا الملوك شيئًا مثل هذا، ومن أجل ذلك أنفق
أموالًا كثيرة. هذا إلى أنه أصدر أوامر للجنود المشاة والفرسان بحراسة هذه الجسور،
وأن يتأكدوا من متانتها لمقاومة فيضان النيل الذي كان قد تجاوز في العام الثامن
(من
حكمه) مستوى الترع المذكورة، وهي التي كانت تحمل المياه لحقول عدة تقع في مستوى
أسفل منها. وفي مدة قصيرة استولى على المدينة عنوة، وذبح كل الكفرة الملحدين الذين
كانوا في داخلها، كما قضى «هرميس» (تحوت) و«حور» بن «إزيس» و«أوزير» فيما مضى في
نفس المكان على الثوار.»
ومما تجدر ملاحظته أن العصاة الثائرين هنا قد أُطْلِقَ عليهم لقب الكفرة، وأن
الكهنة كانوا يُدعون موالين للملك. وكذلك نجد في نهاية هذا المتن أن العمل الذي
قام
به الملك وهو انتصاره قد شُبِّهَ بانتصار عظيم مماثل قام به الآلهة. ولا نزاع في
أن
الكهنة عندما كتبوا هذه المقارنة كانوا يرجعون في ذلك إلى أصل تاريخ قديم؛ فالملك
«بطليموس الخامس» هنا هو «حور» العائش الذي نعرف مثيله في التاريخ المصري القديم
منذ عهد بداية تاريخ مصر من لوحة «نعرمر» الذي مُثِّلَ عليها الملك في صورة صقر
وهو
يقهر أعداءه في الوجه البحري؛ ومن ذلك يجب علينا أن نفهم تمامًا أن كهنة مصر في
عهد
البطالمة عندما نقشوا هذه المراسيم في «منف» كانوا على علم تام بتاريخ بلادهم الذي
توارثوه أبًا عن جد، وأنهم لم يدونوا كلمات خالية من المعنى.
وعلى حسب ذلك فإن هذه الثورات التي كانت مستقرة في البلاد تذكرنا بالثورات التي
كانت تقوم في البلاد في أقدم العهود في مصر، وأن الآلهة الذين كانوا يعتبرون أول
فراعنة حكموا مصر قد سيطروا عليها وأخضعوها.
وعلى ذلك فإن هذه الثورات كانت موجهة لمقاومة ملك مصر على حسب رأي الكهنة؛ غير أن
«بوليبيوس» المؤرخ المعاصر لهذه الثورات كان يرى فيها أنها حركة عدائية قامت على
الإغريق المستعمرين. وفي اعتقادي أن «بوليبيوس» كان على صواب عندما عبر عن هذه
الثورة بهذه الصورة؛ إذ الواقع أن الملك كان قد ترك مقاليد الأمور في يد مواطنيه
من
الإغريق والمقدونيين كما فعل أسلافه من قبل فطغوا وتجبروا وابتزوا الأموال من
الأهالي المعوزين مما أدى إلى قيام الثورات في كل أنحاء البلاد بعد أن طفح الكيل،
ولم يصبح أمام الأهالي مخرج غير العصيان على سلطات الملك نفسه الذي كان في نظرهم
بمثابة إله. وقد زاد الطين بلة أن هذا الملك كغيره من ملوك البطالمة لم يشرك
المصريين أهل البلاد في إدارة شئونها؛ بل كان كل شيء في يد المستعمرين، ومن هنا
كان
التمييز العنصري الذي أحفظ الشعب المصري على الإغريق والمقدونيين.
غير أننا عندما نفحص طبيعة الإعفاءات الملكية التي وردت في مرسوم رشيد يمكن أن
نقرأ فيها الغرض الذي كان يرمي إليه الشعب وهو تحسين حالتهم المادية، وأنهم لم
يكونوا يبغون أكثر من ذلك. هذا هو تصوير الكهنة لمجريات الأحوال بما يتفق مع
أطماعهم. والواقع أن ما عبر عنه «بوليبيوس»
٣٥ من طموح المصريين إلى ما هو أغلى وأثمن من ذلك وأعني الحرية والاستقلال
وطرد المستعمر؛ كان صحيحًا، ولا غرابة في ذلك؛ فإن المصري طوال مدة تاريخه لم يخضع
لذل الاستعمار إلا عندما تضيق في وجهه السبل، ثم نجده يفرج عن نفسه بالثورات حتى
ينال حريته في النهاية.
وعلى أية حال نجد أن موقف «بطليموس الخامس» في هذه الفترة التي كان فيها سلطانه
في أيدي خليط من الفئات من الملتفين حوله، والذين كانوا يعملون على هدمه؛ يعتبر
أعجوبة لحفظ التوازن في البلاد. فتخفيف الضرائب من ناحية عن كاهل الشعب يبرهن على
أن الثورة قد ساعدت على استرداد الشعب بعض المطالب ذات الصبغة الاقتصادية
والاجتماعية التي من أجلها قام بثورته، ومن ناحية أخرى نجد أن الهبات والامتيازات
التي منحها الملك للكهنة وهي التي قد أصابت الاحتكارات الحكومية في الصميم؛ تبرهن
على أن الكهنة الذين لم يكونوا في جانب الثوار قد فازوا بنصيب الأسد على حساب
الثوار وعلى حساب الملك نفسه من الوجهة الاقتصادية.
ومع ذلك فإن محاولة الوصول إلى وفاق بين الشعب والملك بما جاء في مرسوم مجلس
«منف» لم يَأْتِ بنتيجة إيجابية. ويتساءل الإنسان عن سبب فشل هذه المحاولة: هل كان
هذا الفشل سببه أن ما منحه الملك من إعفاءات وهبات غير كافٍ في نظر الشعب الثائر؟
أو هل كانت هذه المنح — كما حدث غالبًا في العهد البطلمي — مجرد حبر على ورق في
نظر
الموظفين الإغريق الذين كُلِّفُوا بتطبيقها؟ الواقع أن الثورة لم تكن ترمي إلى
الحصول على حقوق اقتصادية وحسب؛ بل كان لها غرض أسمى وهو الاستقلال والقضاء على
فئة
الحكام الإغريق الذين كانوا يتصرفون في مصائرهم، ومن أجل ذلك لم يَرْضَ الشعب
المصري بأنصاف الحلول التي — مع ذلك — كان تنفيذها في أيد أجنبية. أما الكهنة فقد
أخذوا نصيبهم ورضوا به على حساب الشعب المغلوب. وعلى ذلك نجد أن الثورات والفتن
والاضطرابات قد استمرت وعلى رأسها ملك مصري شرعي اعترف به المصريون وهو «عنخمخيس»
في الوجه القبلي، وقد ظل هذا الملك المقدام في نضاله إلى أن غُلِبَ على أمره. هذا،
ولدينا رواية ديموطيقية لمرسوم إعفاء حُفِرَ على جدران معبد الفيلة، وقد فسر لنا
مضمونه الأستاذ «زيته»
٣٦ على الرغم مما فيه من صعوبات لغوية ومحوٍ؛ بصورة رائعة تدعو إلى
الإعجاب. ونعلم من هذا المرسوم أنه في العام التاسع عشر من عهد الملك «بطليموس إبيفانس»
أن رئيسًا — ظل اسمه غامضًا لدينا — قد أسر الملك «عنخمخيس» حيًّا ومعه
جنوده الأثيوبيون. وقد وصف المرسوم البطلمي هذا الملك بأنه شرير وكافر؛ وليس ذلك
بغريب، فإن هذا كان الوصف الذي يُوصَفُ به الأعداء دائمًا، وكذلك قيل عنه: إنه كان
يجمع الضرائب في «طيبة»، مما يدل على أنه كان مسيطرًا على إقليم «طيبة» في هذه
الفترة.
وتدل شواهد الأحوال كما يقول الأستاذ «زيته» الذي حلل المرسوم من الوجهة اللغوية
تحليلًا دقيقًا أن الدقة النحوية في اللغة المصرية القديمة قد أكسبت هذا المرسوم
قيمة تاريخية؛ إذ يقول: إذا كان اسم الملك «عنخمخيس» قد خُصِّصَ بعلامة تدل على
أنه
أجنبي، فإن المخصص الذي وُضِعَ بعد اسم الجيش الملكي هو مخصص يدل على أنه أجنبي
أيضًا. وفي اعتقادي أن هذا المخصص الدال على أن الملك «عنخمخيس» أجنبي الأصل هو
من
صنع الكهنة، وقد عُمِلَ إرضاء الملك وبطانته. والأمر الذي لا مراء فيه هو أن
«عنخمخيس» مصري قح.
وهذا النصر الذي أحرزه «بطليموس الخامس» في السنة التاسعة عشرة من حكمه قد
دُوِّنَ على جدران معبد «إدفو» كما أشرنا إلى ذلك من قبل، هذا إلى أن الهدنة التي
نُقِشَتْ على جدران معبد «إدفو» قد أعادت السلام في ربوع الوجه القبلي؛ فنجد أن
معبد الإله «حور» الذي أقامه البطالمة لهذا الإله قد اسْتُؤْنِفَ العمل فيه بعد
أن
كان قد أُوقِفَ نحو عشرين عامًا. ويقول بعض المؤرخين: إن هذا النصر الذي أحرزه
الملك «بطليموس الخامس» كان نصرًا على بلاد النوبة، وذلك بحجة أن الملك «أرجمنيز»
—
الذي كان يُعْتَبَر تلميذًا للملك «بطليموس الثاني»، وكان يُعْتَبَر محالفًا ﻟ
«بطليموس الرابع» لا غازيًا للديار المصرية؛ قد اعتبر في عهد «بطليموس الخامس» ضمن
الذين حاقت بهم البغضاء لكره كل ما هو نوبي؛ فقد رأينا أن الملك «بطليموس الخامس»
أمر بمحو الطغراءات الخاصة بملوك النوبة التي كانت تتبع طغراءات «فيلوباتور»
٣٧ والده. وفي اعتقادي أن هذا المحو ليس له أية علاقة بالملك «عنخمخيس»
الذي كان يُعْتَبَر ملكًا مصريًّا دمًا ولحمًا، ويعزز هذا الرأي أن «بوليبيوس»
يحدثنا بقوله: إن «بوليكراتيس» قد أخضع آخر رؤساء الثورة في الوجه البحري، وتدل
أسماؤهم على أنهم من أصل مصري.
٣٨ ومن ثم نفهم أن الثوار لم يكونوا في الوجه القبلي فقط؛ بل كانوا كذلك
في الوجه البحري، وأنهم كانوا جميعًا يدافعون عن مبدأ واحد وهو استقلال مصر،
وبالقول: مصر للمصريين لا للإغريق والمقدونيين.
وهؤلاء المناضلون المصريون قد عُذِّبُوا في «سايس» (صان الحجر) بصورة بشعة، كما
فصلنا القول في ذلك.
البطل «ديونيسوس-بتوسرابيس»
وفي غمرة هذه الأحداث الجسام ظهر — في أفق سياسة مصر الداخلية — رئيس من أبناء
الوطنيين برهن على أن رجالات الشعب المصري الأصيل لا يزالون ينحدرون من أصلاب أبطال
مصر الذين دوخوا العالم في غابر الأزمان، وأثبتوا أصالة مجدهم وعلو همتهم في
المواقف الحرجة. ذلكم الرجل هو «بتوسرابيس» الذي اتخذ لنفسه اسمًا آخر إغريقيًّا
وهو «ديونيسيوس».
لقد شهد هذا الرجل العظيم الأحداث التي كانت تجري بين «فيلومتور» وأخيه «إيرجيتيس
الثاني» وصمم بما له من مكانة في بلاط الإسكندرية
٤٥ وقتئذ أن يجعل الشعب الإسكندري ينشق على «فيلومتور» وبعد ذلك يلتفت إلى
«إيرجيتيس الثاني» فيقلب له بدوره ظهر المجن، وذلك بعد أن فشلت محاولات أبناء جلدته
من المصريين في القضاء على نسل البطالمة الذين أذاقوا المصريين الأمرين، ونكلوا
بزعمائهم أفظع تنكيل في عهد «بطليموس الخامس».
غير أن «بتوسرابيس» لم يُصِبْ نجاحًا في إثارة الإسكندريين، ولكنه قام في الحال
بعد ذلك بإثارة المصريين الذين استجابوا لندائه وأعلنوا الثورة. وقد التف حول هذا
البطل حوالي أربعة آلاف مقاتل من بني جلدته من الجنود الثائرين. ويتساءل المرء هل
كل هؤلاء كانوا من جنود المشوش؟ الواقع أننا لا نعرف لذلك جوابًا. وعلى أية حال
فإن
جنود البطالمة الموالين لحكمهم قد تغلبوا عليهم كما تدل شواهد الأحوال، غير أن هذا
الحادث في حد ذاته كان إيذانًا بقيام ثورة في مصر. كما فصلنا القول في ذلك فيما
سبق.
وقد كان من جراء هذه الثورة أن عم البؤس والشقاء بين الفلاحين حتى بلغ قمته؛ فقد
كان النهب الذي نظمه الوزراء الإغريق في البلاد، والذي بلغ ذروته بما قام به
«أنتيوكوس الرابع» من إشاعة الخراب بحملته على مصر، هذا بالإضافة إلى الحروب
المضنية، وسوء سير الأحوال في البلاد، وانحطاط سوق التجارة مع الخارج؛
٤٦ كل هذه الأشياء قد كانت سببًا في نفاد كل مصادر خزانة الدولة حتى أصبحت
قاعًا صفصفًا. وتدل شواهد الأحوال على أن هؤلاء الموظفين — المسئولين وقتئذ عن
مالية الدولة — قد أصبحوا في حيرة من أمرهم؛ فقد كان عليهم أن يمدوا خزانة الدولة
بأموال طائلة كان يتطلبها «بطليموس» الملس، وفي الوقت نفسه كانوا يخشون إرهاق
الفلاحين الذين كانوا قد وصلوا إلى قمة الفقر والعوز. ولقد بلغ اليأس بهؤلاء
الموظفين الغاشمين بسبب سوء التصرف إلى أن انقلب فريق منهم إلى ناهبين بدلًا من
جامعي ضرائب، في حين أن فريقًا آخر منهم كان يخترع مبدأ المسئولية التضامنية
للقرية، وكانوا يفرضون على أضعف الذين تحت إدارتهم — بكل حماقة — مسئولية فلاحة
الأرض وزراعتها.
٤٧ ولا نزاع في أن مثل هذا السلوك في تسيير أمور الدولة كان يودي بسرعة
على انحلال المجتمع وتفككه؛ ومن ثم وجدنا أن البلدان أخذت تنحل عراها.
وهكذا أصبحت مصر تعيش في ظل الفوضى والامتناع عن القيام بأي شيء إيجابي؛ فالنساء
أصبحن يعشن وحيدات في قراهن، في حين أن الرجال — الذين لم يكونوا قد أخذتهم الحرب
أو الثورة — كانوا يهربون من الأرض التي كانت تكلفهم ما لا طاقة لهم به من ضرائب.
أما أولئك الذين كانوا أقل قوة وأقل احتمالًا لركوب المخاطر فلم يجدوا لأنفسهم ملجأ
يأوون إليه في مثل هذه الشدة إلا الرهبنة، وهي الملاذ الوحيد الذي كان يلجأ إليه
الإنسان عندما يرى أن كل ما حوله كان قاسيًا عليه. وقد كان في مصر وقتئذ مثل هذا
الملجأ؛ فكان إله السرابيوم يدعو أمثال هؤلاء البائسين إلى جواره، ويبقي عليهم،
وبذلك ينتزعهم من مجتمع غاية في الظلم والوحشية.
٤٨ ومن هذا نفهم أن أمثال هؤلاء الرهبان كانوا يتركون أسرهم تتقلب على أحر
من جمر اللظى. ولقد تحدثنا فيما سبق عن أنات الألم التي كانت تنبعث من أمثال هؤلاء
الرهبان الذين كانوا يأوون في سرابيوم «منف». ونخص بالذكر منهم هنا «بطليموس
جلوسياس» الذي كان يُطْلَقُ عليه لفظة «الملبوس» (عليه عفريت). فقد لجأ إلى جوار
ربه «أوزير-أبيس» (سرابيس) ومعه بعض رفاقه في مدة الاضطرابات.
٤٩ وعلى أية حال يظهر أنه كان آمنًا في هذا الملجأ حيث كان أفراده يقومون
بإدارة شئونهم بهدوء وسكينة، وحيث كانوا أحيانًا يرفعون قضايا على ما أصابهم من
ظلم
وجور، ثم إنهم كانوا يسمعون ما يجري — في العالم الخارجي عن دائرتهم — من بؤس
وشقاء؛ فقد كتبت زوج أحد هؤلاء الرهبان المسمى «أسياس» تقول له:
إنك لم تَعُدْ في حين أن كل الآخرين قد عادوا. إني أجد ذلك شنيعًا، وإني
بعد أن قدت قاربي إلى بر السلام، وكذلك قارب طفلك في وسط عذاب شديد، وإني
بعد أن وصلت به إلى منتهى ما يمكن من الشدة بسبب ثمن القمح، فإني قد أملت
بفضل عودتك أن أتذوق فضلة من الراحة، غير أنك لم تهتم بالعودة، كما إنك لم
تقدر أبدًا سوء حالتنا.
وهذه الرسالة المؤثرة التي تتحدث عن نفسها يرجع تاريخها إلى عام
١٦٨ق.م؛ أي في الوقت نفسه الذي انفجرت فيه الثورة التي كان يديرها المصري
«بتوسرابيس». وعلى أية حال فإني لست في حاجة إلى القول بأنها تصور لنا حالة الوسط
الذي كانت تنمو فيه الثورة وتتطور، ولا نزاع في أن المجتمع المصري وقتئذ كان قد
وصل
إلى أقصى درجة من الفقر والآلام وسوء الحال.
حقًّا إن هذه الثورة التي قام بها المصريون وقتئذ على الأجانب وحكمهم قد ضمت بين
جوانحها غير المصريين من الذين عضهم الفقر وسوء النظام الإداري في البلاد الذي كان
يصب صوت عذابه على الفقراء عامة سواء أكانوا مصريين أو أجانب. ومن هنا يتجه نظرنا
مرة أخرى إلى ما كانت عليه البلاد وقتئذ من نظام اجتماعي واقتصادي، وقد أخطأت
المؤرخة «كليربريو» عندما قالت: «ومنذ الآن إذا اعتقدنا أن الثورة — التي أتت على
أعقاب الغزو المزدوج الذي قام به «أنتيوكوس الرابع» على مصر — كانت ثورة اجتماعية
كما كانت سلالية، فإنا ندهش أكثر عندما نرى هؤلاء الثوار المصريين يقومون بالهجوم
على الأماكن التي يجب أن تكون المعسكر العام لثورة مصرية لا تشوبها أية شائبة،
وأعني بذلك المعابد.» والواقع أنه قد فات الآنسة «كليربريو» أن الثورة كانت في
بدئها قد شُنَّتْ على ظلم الإغريق والبطالمة وفداحة الضرائب التي كان يدفعها
الفلاحون وأصحاب الحرف، وقد كان ضلع الكهنة مع الملك الذي كان يسبغ عليهم الهبات
والإنعامات مما كمم أفواههم وجعلهم يسيرون في ركابه. وعلى الرغم من أنهم كانوا
يسيطرون على عقول الشعب؛ فإنهم مع ذلك كانوا لا يبحثون إلا عن فائدتهم وفائدة
طائفتهم، ولا بد أن الجوع والفقر والبؤس التي كانت تغرس أنيابها في ضلوع الفقراء
قد
نبهتهم إلى نفاق الكهنة عند اشتداد الأزمات؛ فكانوا يقومون بثوراتهم دون تمييز بين
ما هو ملك الإغريق وبين ما هو ملك المعابد.
وقد حدث مثل ذلك في عهد الأسرة الواحدة والعشرين عندما قام الشعب بنهب المعابد
ومقابر الملوك الذين كانوا يعدون في نظرهم آلهة؛ وسبب ذلك أن الجوع كافر. هذا، وقد
ضربت الآنسة «كليربريو» مثلًا يؤكد ما قلناه، وذلك عندما اقتبست بعض سطور عن عبث
الأهالي بالمعابد وغيرها
٥٠ نذكرها فيما يلي:
من رسالة تظلم موجهة للحاكم الحربي لمقاطعة «أرسنوي»
٥١ ورئيس معبد «الأمونيون» الخاص بالجنود المرتزقين أصحاب
الأراضي، وذلك فيما يتعلق بخمسة وأربعين أرورا من مقاطعة «موريس» (من أعمال
الفيوم) وهي: أن (محراب) المعبد المذكور قد (نُهِبَ) على يد قوم «أنتيوكوس»
في اﻟ … العام الثاني (١٦٨)، وبعد ذلك استولى على الأرض المقدسة من جديد،
وأصلح محراب المعبد القديم، وبعد أن هجم عليه الثوار المصريون، لم يكتفوا
بتخريب بعض أجزاء ملحقة به؛ بل نجدهم هدموا أعمال المباني الخاصة بالمحراب،
وكذلك أتلفوا أبواب الدخول والأبواب الأخرى التي يبلغ عددها مائة وعشرة
بابًا، وكذلك هدموا جزءًا من السقف. أما أنا فإني بعد مضي بعض الوقت … دخلت
في النضال، فأقمت متاريس حول كل الأبواب والمداخل؛ لأجل أن تظل بقية العمد
محفوظة …
وعند هذه النقطة كُسِرَت الشكوى، وقد ظنت الآنسة «كليربريو» أن
القائمين بأعمال النهب في هذه الحالة لم يميزوا بين ما هو مصري وما هو إغريقي، مما
ألقى ظلًّا من الشك والريبة على الصبغة الاجتماعية للثورات، ونحن نجد نفس هذه الحال
عندما قامت الثورة في عهد الأسرة الواحدة والعشرين، فإنها لم تميز بين ما هو ملك
الإله وبين ما هو ملك الأفراد. لقد دفع الجوع الأهالي إلى ارتكاب كل ما يمكن الحصول
به على لقمة العيش، وقد يكون أنهم هاجموا المعبد؛ لأن رجال الدين كانوا يساندون
الإغريق أعداءهم، ومن ثم يمكن أن نعتبر أن أملاك الكهنة — الذين كان ضلعهم مع
البطالمة — حلٌّ لهم. على أن ذلك لم يكن المثال الوحيد؛ بل هناك أمثلة أخرى في هذا
الصدد تدل على روح العصر، وما كان ينطوي عليه من فوضى. ففي حوالي نفس العصر نقرأ
أن
بلدة «ديمة» الواقعة في الشمال الغربي من الفيوم قام فيها الثوار المصريون بثورة
أجبروا فيها الأهالي على أن يسلموهم عقود الإيجار التي تشهد بحقوق الملكية،
فأحرقوها بكل وحشية.
٥٢ ونعلم ذلك من التقرير الرسمي الخاص بالأسلوب الشرعي الذي بموجبه
أُعِيدَت الحقوق للمصري ثانية. والمجني عليه في هذه الحالة كان مصريًّا ولا بد أنه
كان من حزب الملك. وعلى أية حال فإن مثل هذا المنظر يقدم لنا صورة من صور الثورة
التي كانت قائمة في البلاد، وتدل شواهد الأحوال على أن أساسها كانت حركات عدائية
اجتماعية يقوم بها الفقراء المصريون على نظام أهل الثراء المجحف الذي كان سائدًا
في
البلاد.
وأصحاب الثروة — كما نعلم — وقتئذ كانوا هم الإغريق والملك. ومهما يكن من أمر فإن
هذه الثورة كانت في بادئ أمرها موجهة على المستعمرين الذين نزفوا دماء الفلاحين
والعمال من أهل البلاد المصريين، ولذا قام المصريون أهل البلاد لمحاربة من تعدى
على
أرزاقهم سواء أكان إغريقيًّا غنيًّا أو آخر ينتمي إليهم أو يساعدهم. ولست أوافق
«كليربريو» عندما تقول إن هذه الثورة الشعبية كان منشؤها في الأصل ثورة اجتماعية
شجعتها — من باب الصدفة — كراهية الشعب للإغريق؛ وذلك لأن الإغريق منذ البداية هم
أس كل ما أصاب المصري من فقر وذل، ومن ثم تولد بغض المصريين لهم؛ فحاربوهم بسبب
كل
ما أصابهم من فقر وسوء حال ومظالم لم يكن لهم بها قِبَل.
وعندما ننظر ونفكر في الحروب الدينية في الوجه البحري حيث وجدنا أن القوم كانوا
متجمعين تحت لواء واحد — بطبيعة الحال — من الوجهة الدينية والوطنية والاجتماعية؛
فإنا نجد أن رجال الشرطة كانوا يسلكون مسلكًا مشينًا لا يختلف في شيء عن مسلك
الثوار أحيانًا من حيث التمييز العنصري. وقد حفظت لنا أوراق السرابيوم صدى مناظر
تفتيش انقلبت إلى سلب ونهب، وآية ذلك أن رجال السلطة الدينية والمدنية كانوا يفتشون
الأماكن المختلفة هناك بحثًا عن أسلحة مُخَبَّأَة؛ لأجل أن يعملوا على عدم انقلاب
المشاحنات إلى مذابح دموية؛ غير أنهم كانوا أثناء قيامهم بحملة التفتيش يرتكبون
نفس
الأعمال المشينة التي كان يرتكبها الثوار. يدلك على ذلك أن «بطليموس جلوسياس»
الراهب قد سيئت معاملته مرتين في مدة شهر واحد؛ الأولى
٥٣ على يد مفتشي رجال الشرطة، والأخرى على يد مفتشي المعبد الذين شددوا
عليه الخناق أثناء التفتيش
٥٤ لأنه إغريقي، ومن ثم نجد أن العنصرية كانت متوطنة في نفوس رجال
الدين.
وعلى أية حال فإنه على الرغم من قيام الثورة في البلاد وانتشار البؤس لم تشل
أبدًا حركة الحياة في مصر؛ فقد كانت تُحَرَّر العقود بين الأفراد في أنحاء البلاد
كالعادة، كما كانت تأخذ العدالة مجراها، وتُجْبَى الضرائب من الأهلين؛ غير أنه لوحظ
أن المحاكمات قد ازداد عددها في طول البلاد وعرضها، وكان معظم هذه المحاكمات ترجع
إلى بواعث خلقية نجمت عن مطالبات مالية، ومن هنا نجد أن هذه المحاكمات قد كشفت لنا
عن ارتباك فاضح في السلطة الملكية مما كان يتطلب — بإلحاح — الإسراع في القيام بعمل
إصلاحات.
وتدل الظواهر على أن الثورة قد انتهت في عام ١٦٣ق.م غير أن مذاق شدتها وما جلبته
من شرور كان لا يزال باقيًا. وعلى أية حال لم تصل إلينا حتى الآن أوراق بردية أو
قطع استراكا أو نقوش تدل على أنه قد حدثت قلاقل خطيرة في إقليم «طيبة» ما بين عام
١٨٦ وعام ١٨٤ق.م اللهم إلا نبذة جاءت فيما كتبه المؤرخ «ديدور» في تاريخه العام
تحدثنا عن حدوث قلاقل في مصر.
٥٥ ويقول «ديدور» إن الملك «بطليموس السادس» قد قام على رأس قوة لإخمادها.
وهاك النص حرفيًّا: «لقد زحف الملك «بطليموس» نحوهم بقوات كثيرة العدد فاستعاد إليه
إقليم «طيبة» في يسر إلا مدينة تُدْعَى «بانوبوليسن» التي أُقِيمَتْ على مرتفع قديم
من الأرض، وظهر أنها أبدت مقاومة بسبب الصعوبات التي كانت تؤدي إليها. وقد سارع
أنشط الثوار إلى الاحتماء فيها؛ وقد كان «بطليموس» يعلم من قبل ما انطوى عليه هؤلاء
الثوار المصريون من جرأة لا سيما أن اليأس دفعهم للمقاومة والنضال عن هذه المدينة،
ومن أجل ذلك ضرب الملك عليها حصارًا منظمًا. وقد استولى على المدينة بعد أن تحمل
كل
أنواع الخسائر، وعاقب المجرمين، ثم عاد بعد ذلك إلى الإسكندرية. والظاهر أن هذا
الحادث قد وقع في عام
٥٦ ١٦٥-١٦٤ق.م.
وقد شاهدنا أن الثورة في هذه المرة قد تبلورت في موقع من المواقع المحصنة في
إقليم «طيبة» الذي ورث حب النضال عن الماضي. وقد تساءلت «كليربريو» فيما إذا كان
قد
حدث تحالف نوبي وانفصال؛ أي إن النوبيين قد أغاروا على إقليم «طيبة» من جديد؟ وردت
على هذا السؤال بالإيجاب على شرط أن تجعل الملك الذي قام بذلك هو «هورجونافور»
Hurgonaphor والحصار الذي أُقِيم كان حول بلدة
العرابة المدفونة في السنة السادسة من حكم الملك «فيلومتور» بدلًا من وقوعه في
السنة السادسة من عهد الملك «إبيفانس»؛ أي في عام ١٦٤-١٦٣ق.م. وعلى ذلك تكون قد
قامت هجمة جديدة من بلاد النوبة على مصر العليا على ما يُظَن، وبخاصة عندما نعرف
ما
كان يبديه الملك «فيلومتور» من اهتمام ظاهر لتحصين الحدود الجنوبية. واستشهدت على
صدق هذا الزعم بما كان يقوم به «بوئتوس»
Boethos
الكاري — وهو شخصية غريبة في بابها — فقد كان يشغل وظيفة حاكم حربي، وفي الوقت نفسه
كان يقوم بعمل قائد الجنود ونائب الملك، وهو الذي قام بتأسيس عدة مدن، وكذلك كان
يقوم بوظيفة الكاهن الأكبر للآلهة في الفيلة.
٥٧ وعلى أية حال فإن ما ذكرته الآنسة «كليربريو» إنْ هو إلا محض فرض فحسب،
وفي اعتقادي أن الحدود — من جهة بلاد النوبة — كانت قد وُطِّدَتْ في عهد «بطليموس
الخامس» وأصبحت في أمان تام كما جاء في لوحة القحط. أما في الإسكندرية فإن الأحوال
لم تكن مستقرة؛ إذ نعلم أن الإسكندريين قد طردوا منها «فيلومتور» منذ زمن وجيز قبل
موته الذي وقع عام ١٤٥ق.م، ولم تكن مصر وقتئذ في حالة هدوء؛ إذ قام رجال الشرطة
في
عام ١٤٣ق.م بعمليات حربية في إقليم «اللبرنت» فقضوا هناك على عصابات من رعاع القوم
كانوا يقومون بأعمال النهب والسلب. راجع:
Marter, Les Papyrus et
l’histoire Administrative d’Egypte grec. Romaine, loc.
Cit.
على أن الفرق بين أعمال النهب والسرقة هذه وبين العصيان الذي كان يقوم به
الفلاحون يكاد يكون طفيفًا، فكل من الفريقين قد اضطرته الفاقة إلى ارتكاب ما قام
به، ولا نزاع في أن نقائص أنظمة الحكم في البلاد كانت لا تزال موجودة؛ وذلك لأن
النظام لم يعد إلى نصابه؛ فمن ذلك أن الحركة التي قام بها رجال الدين — وهي التي
كسبوا بها بطريقة منظمة استقلالهم الذاتي — تتمثل أمامنا في الامتيازات التي نالوها
في العام الواحد والعشرين (١٤٠-١٣٩ق.م) من حكم «بطليموس فيلومتور».
٥٨ وهكذا نجد أن القوى التي كانت تهدم سلطة الملك العليا قد كانت تسير
قدمًا وبلا هوادة دون قيام أية ثورة علنية معروفة لنا حتى الآن.
وفي خلال هذه المدة كانت الإسكندرية تمهد لقيام ثورة على ملك البلاد الفاجر
«إيرجيتيس الثاني» وذلك في السنة الأربعين من حكمه (١٣٠ق.م)؛ إذ أظهر الملك
بتصرفاته أنه ليس خليقًا لحكم أرض الكنانة. وكان في قدرة أهالي الإسكندرية أن
يعزلوا أي ملك لم يكن يسير على حسب أهوائهم ورغائبهم، وقد نصب بعده الإسكندريون
على
عرش الملك أخته وزوجه الأولى «كليوباترا الثانية»، وفي تلك الأثناء فر «بطليموس
السابع إيرجيتيس الثاني» هو وزوجه الثانية «كليوباترا الثالثة» ابنة زوجه
«كليوباترا الثانية» و«بطليموس السادس»، وقد تحدثنا عن ذلك فيما سبق، وقد فصل القول
في هذا الموضوع المؤرخون القدامى والأحداث،
٥٩ وذكروا ما وقع من أحداث بشعة عُزيت إلى هذا العاهل، وفي الحال اتخذ
فرار الملك هذا بمثابة حجة لعدم التعاون الاجتماعي معه، وقد أعلن ذلك في الوثائق
الإدارية في العام الأربعين من حكم هذا الملك.
٦٠ وتدل الظواهر على أن الثورة في هذه المرة لم تظهر في صورة حدوث قلاقل
أو عدم نظام؛ بل كانت تتمثل في المقاطعة، أو بعبارة أخرى الإضراب. ومهما يكن من
أمر
فإن الحال قد أسفر عن تمزيق البلاد إلى حزبين؛ أحدهما موالٍ للملكة، والآخر موالٍ
ﻟ
«بطليموس السابع إيرجيتيس الثاني». ثم إن الثورة في هذه الفترة من تاريخ البلاد
قد
اتخذت صورة إضراب عام في المعاملة بين الجهات الموالية للملكة والجهات الموالية
للملك. والواقع أن تقارير مديري الضياع الملكية قد ذكرت لنا نوعًا من الانفصال في
فترة العزلة هذه (راجع
P. Tebtynis 72, II, 45-46).
ولا نزاع في أن هذه الحالة تشعرنا بمقدار الاضطرابات الداخلية في البلاد التي لا
شك
قد شلت حركة الأقاليم مثل منطقة الفيوم حيث كانت الإدارة الملكية يسير على نهجها
مجتمع الفلاحين المزارعين.
أما في منطقة «طيبة» فكانت الأمور على العكس من ذلك؛ فإن الاضطراب فيها كان
دائمًا يُصْبَغ بصبغة سياسية بارزة. ذلك أن المقاومة هناك كانت منحصرة في البلدان
المحصنة؛ فكانت المدن تحمل الواحدة منها على الأخرى، ومن ثم لم نلمح فيها صدى
الحركة العظيمة الجماعية، بل كان ما يُرى فيها هي الحرب الصغيرة بين قرية وأخرى
حيث
تظهر بصورة أكيدة روح لجولات لمجتمع ثائر على مبدأ تمركز السلطة الملكية. أما من
حيث طريقة التأريخ في هذه البلاد التي كانت يتنازع السلطة فيها ملكان، كل يدعي أنه
هو الملك الشرعي، فإنه يمكن تحديد تأريخ الأوراق البردية والاستراكا في أقاليم
«طيبة» حيث كان يُعْتَرَف بحكم الملكة «كليوباترا الثانية» في فترة الشقاق. ففي
«طيبة» و«الجبلين» لدينا قائمة تحتوي على وثائق مؤرخة تأريخًا متسلسلًا بسني حكم
«إيرجيتيس الثاني» مما لا يدع مجالًا للشك في أن «كليوباترا الثانية» لم تكن تحكم
في هذه المنطقة، ومن جهة أخرى وُجِدَتْ في «أرمنت» متون مؤرخة بالسنة الأولى
والثانية من حكم هذه الملكة. وحقيقة الأمر أنه في يناير من العام الأربعين من حكم
«إيرجيتيس الثاني» كانت تُجَهَّزُ حملة على «طيبة» لمحاربة بلدة «أرمنت». ونعلم
هذا
الحادث من رسالة جندي
٦١ يطمئن فيها والديه، وبأن يبقيا في «الجبلين» على ولائهما، ويخبرهما
بالخبر التالي: «لقد علمنا أن «باوس» قد صعد في النيل في شهر طوبة ومعه قوات كافية
لإعادة النظام في «أرمنت»، وليعامل أولئك الذين حرضوا على القلاقل بمثابة
خارجين.»
و«باوس» هذا كان القائد الحربي. وقد دُهِشَتِ المؤرخة «كليربريو» عندما وجدت أن
مصريًّا كان يقود الجنود الموالين للملك، كما دُهِشَتْ عندما رأت أن مصريين كانوا
يهاجمون المعابد ويحرقون عقود أملاك مواطنيهم، وقد علَّقت على ذلك بقولها: «إن هذا
يجعلنا نتخلى عن الفكرة القائلة بأن ثورات المصريين في عهد البطالمة قد كانت في
الأصل ناشئة عن الكراهية للهيلانيين. ثم تقول: إننا نقبل الحقائق دون أن ندهش،
ونجتهد في أن نستخلص منها ما توحي به.» والواقع أن ما فعله القائد المصري كان ثمنًا
للوظيفة التي مُنِحَهَا، والتي كانت في العادة لا يُنَصَّب فيها إلا إغريقي. أما
مهاجمة المعابد وحرق عقود الملكية فقد قام به الثائرون لأن رجال الدين كان ضلعهم
مع
الملك لما أغدقه عليهم من نعم، كما أن حرق العقود لا بد أن سببه كان من تحيز
أصحابها للإغريق وقبول حكمهم الجائر مقابل مساعدتهم على إخماد الثورة، وهذا ما يحدث
في كل زمان ومكان بين أولئك الذين يخونون بلادهم من أجل مصالحهم الخاصة!
٦٢
وعلى أية حال نجد أن «إيرجيتيس الثاني» في العام الثالث والخمسين من حكمه قد كان
لا يزال في حملته على «كليوباترا»
٦٣ وفي العام الرابع والأربعين يحتمل أنه كان في حملة في الوجه القبلي،
وفي العام الثامن والأربعين من حكمه كانت كل من «أرمنت» و«كركوديلوبوليس» — التي
في
منطقة «طيبة» — معلنة الحرب عليه. وكانت طرق الهجمات التي يقوم بها الثوار في مثل
هذه الجهات دائمًا واحدة لا تتغير، وذلك أنه أثناء الليل كانت تقوم فئة من الرجال
من الذين أوتوا بسطة في الجسم مسلحين بنبابيتهم فيوقعون الأذى بالحراس الذين كانوا
يحرسون السدود، ثم يقومون بعد ذلك بعمل ثغرة في الجسور مما يسبب إغراق أرض العدو
وإتلاف زرعها.
وفي العام التاسع والأربعين ثارت المقاطعة «الطينية»
٦٤ أيضًا.
هذا، ومن المحتمل أنه في العام الثاني والخمسين من حكم هذا العاهل ينبغي أن نذكر
ضرب حصار لمدينة «بانوبوليس».
٦٥ هذا، ونعلم أنه في العام الثالث والخمسين من حكمه، ومن الملف الصغير
الخاص بمقاطعة «طينة» المحفوظ الآن في فلورنس قد كان هناك هجوم جديد على سدود الحياة.
٦٦
ومن كل ذلك نعلم أن الثورة الطيبية كان لها إذن طابع فريد في بابه؛ ففي حين نرى
أنه في الوجه البحري وفي مصر الوسطى كانت الثورات التي يقوم بها الناس تتمثل في
الإضراب عن العمل الذي كان بصورة جماعية، بينما نجد في الجنوب أن البلاد كانت مقسمة
إلى قرى معادية. ولم نعثر في النقوش أو الوثائق في تلك الفترة على نشوب حرب بين
حزب
مصري وحزب إغريقي، ومرجع ذلك على ما يُظن أن سكان القرى كان معظمهم من المصريين
بينما كان إغريق القرى في معظم الأحيان من الطبقة الفقيرة التي كانت ترزح تحت أعباء
ضرائب فادحة، شأنهم في ذلك شأن المصريين.
ولم يقتصر المجهود الذي يبذله الملك لمقاومة هذه الاضطرابات الوطنية بوساطة رجال
الشرطة وحسب؛ بل كان يتدخل القضاء في تهدئتها أيضًا، ولا أدل على ذلك من أنه منذ
عهد الملك «فيلومتور» — ومن المحتمل كذلك في عهد «بطليموس السابع إيرجيتيس» — صدرت
الأوامر والمنشورات الدورية؛ لتحدد في غالب الأحيان مركز الملك بالنسبة للقوات
الخارجة على النظام، وهذه الأوامر والمنشورات قد أعطتنا الفرصة لنرى نمو هذه القوات
المعادية وتؤكد نجاحها.
٦٧ وسلسلة المراسيم التي أصدرها «إيرجيتيس الثاني» في العام الثاني
والخمسين من سني حكمه (١١٨ق.م) تُعْتَبَر من أثمن الآثار التي قدمتها لنا الأوراق
البردية،
٦٨ وقد كان الغرض من هذه المراسيم — كما فصلنا القول سابقًا — ألا يكون
قاصرًا على حسم القلاقل وأثرها السيء؛ بل كذلك لإيقاف المظالم التي كانت فاشية.
وتقول الآنسة «كليربريو»: إنه ليس لدينا — مما بقي من هذا التشريع — ما يشعر بتصحيح
مركز سلالة بالنسبة إلى سلالة أخرى، أي ما يشعر بتصحيح مركز المصريين بالنسبة
للإغريق وغيرهم من أصحاب المكانة الرفيعة. والواقع أن الإغريق كانوا هم الرؤساء
وأصحاب اليسار في البلاد، ومن ثم لم يكن هناك أية مقارنة بينهم وبين المصريين الذين
كانوا يعملون لإسعادهم وإسعاد الملك. وعلى أية حال فإن الإعفاءات والإصلاحات كانت
ممزوجة بالرسومات التي صدرت لإصلاح المظالم؛ فكانت الإعفاءات تشمل الجرائم والأضرار
التي أحدثتها الحروب الأهلية. هذا، وينبغي أن نضع هنا جانبًا مناظر العنف العادية
والحرائق، وأعمال التخريب وهي التي نجدها مشتركة في الثورات، ولدينا أعمال أخرى
ذات
طابع تجريبي ذي أهمية أكثر؛ فمن ذلك ما نسمعه كثيرًا عن سلب المعابد كما ذكرنا
الأمثلة على ذلك، وهذا يؤكد أن الكهنة لم يترأسوا الحركات الثورية؛ لأنهم لم يكونوا
في حاجة للقيام بأية ثورة لا سيما أنهم نالوا من الملك كل حقوقهم وأكثر منها، وبذلك
ضمهم إلى جانبه.
ولا ريب في أن علامات سوء النظام الذي كان متوغلًا في البلاد بسبب إجحاف الأجانب
وشره ملوك البطالمة كان يتمثل بأجلى مظاهره في الأرض التي تركها زراعها، وفي الرجال
الذين تركوها وأصبحوا يعيشون على السلب والنهب، وفي الضرائب وخراج الأطيان التي
لم
تُدْفَع، وفي الحقول التي تُرِكَتْ بورًا، وفي أعمال الري التي أُهْمِلَتْ، وفي
التوريدات التي بقيت مستحقة للاحتكار الملكي، وأعمال السخرة التي لم تؤد، والضياع
الملكية التي اغتصبها أولئك المزارعون الذين يزرعونها مدعين حق ملكيتها بصفة
مستديمة، ولا نزاع في أننا قد لحظنا فعلًا مثل هذه الصورة في عهد الملوك السابقين،
هذه الصورة التي تتمثل أمامنا في مصر دائمًا عندما يكون على رأسها ملوك ضعفاء لا
سلطان لهم، ولا أدل على ذلك من عهد الثورة الاجتماعية العارمة التي قامت في مصر
بعد
سقوط الدولة القديمة، وهي تلك الثورة الجبارة التي تُعد في نظر التاريخ أول ثورة
اجتماعية في التاريخ القديم، وبها بدأ الإنسان الفقير — للمرة الأولى — يطالب بحق
الحياة الكريمة جنبًا لجنب مع صاحب الثراء (راجع مصر القديمة الجزء الأول).
وعلى أية حال يمكن الإنسان أن يخمن كم من تقصير في تأدية الواجبات المدنية كالتي
ذكرناها هنا كانت سببًا في إفلاس الملك ماديًّا والتطويح بعرشه. والواقع أن الملك
عندما يكون متحليًا بحس سياسي صادق حكيم فإنه يصبح في مقدوره أن يبتعد عن الصدام
مع
شعب بأكمله قد سِيئَتْ إدارته على يد حكام ظالمين؛ بل على العكس ينبغي عليه أن
يستميح شعبه عذرًا؛ إذ إنه لا يعتبر أن شعبه عدوه، ومن أجل ذلك يجب عليه أن يعاقبه،
وفي الحق أن عامة الفلاحين في مصر لم يكونوا يحقدون على الملك؛ بل كان كل حقدهم
منصبًّا على موظفيه، ولا شك في أن هؤلاء الفلاحين وهم الذين يؤلفون القوة الخارجة
على السلطان الملكي قد كانوا محقين في خروجهم على كبار الموظفين؛ إذ في الواقع نرى
هؤلاء كانوا يدعون لأنفسهم امتيازات ملكية ليست من حقهم؛ فمن ذلك أن موظفي الجمارك
كانوا يستولون دون أي حق على البضائع التي تدخل الإسكندرية، وكذلك يحصلون أو يفرضون
ضرائب لم تكن في الحسبان. يُضاف إلى ذلك أنهم لما كانوا هم الذين يديرون الأراضي
المقدسة؛ فإنهم كانوا يضمون أحسن الأراضي التي كانت تملكها الآلهة إلى ضياع الملك
الحقيقية، وفضلًا عن ذلك كانوا يفرضون ضرائب فادحة على الفلاحين الملكيين لا قِبَل
لهم بدفعها، ويحتالون على ذلك باستعمال مكاييل مزيفة أكبر من المكاييل القانونية،
وذلك عند تسلمهم ضريبة القمح المفروضة على كل فلاح حسب الأرض التي يزرعها. هذا،
وكانوا يستولون لأنفسهم على أحسن الأراضي من حيث الخصب، وكذلك نجدهم يسخرون —
لخدمتهم الخاصة — رجال الملك من الفلاحين، وكذلك العمال الخاصين بالاحتكار.
ومما زاد الطين بلة أنهم كانوا يحفظون لأنفسهم الأموال المحصلة للخزانة
الملكية.
وأخيرًا وليس آخرًا كان جماعة هؤلاء الموظفين يحاكمون رعايا الملك ويحبسونهم دون
محاكمة، ولا شك في أن هذا التصرف يُعَدُّ أخطر علامة تدل على ازدياد قوة هؤلاء
الموظفين واستقلالهم وعدم الاكتراث بأي قانون ملكي. وفي هذه الفترة نجد أن الصورة
كلاسية لعصر تضعف فيه الملكية. فالسلطة الملكية تتمزق وتوضع في أيدي الموظفين الذين
يدعون حقوق الرياسة ليصبحوا أصحاب السيطرة الفعلية، وهذا هو نفس الموقف الذي وقفته
مصر في اللحظة التي تسلم فيها الفرعون «حورمحب» مقاليد الحكم بعد أزمة «تل
العمارنة». ومن الغريب المدهش أن كل هذه الأعمال التي تدل على العسف والظلم
والاضطهاد كانت لا تزال مميزة للمساوئ التي كانت تُرْتَكَب في حكم الملك «إيرجيتيس
الثاني» وهو الذي حرم العمل بها، وقضى عليها جملة بالمراسيم التي أصدرها على الرغم
مما عرف عنه من ارتكاب أبشع الجرائم وأفظعها. وعلى أية حال لم يَكْتَفِ بإصدار هذه
المراسيم؛ فقد رأى — لأجل جعل وقوع مثل هذه الموبقات أمرًا مستحيلًا — أنه من
الواجب عليه أن يغير قانون الموظفين، وذلك بعدم جعله ضمن مسئوليتهم، وقد كان هذا
هو
العلاج الوحيد؛ غير أن ذلك لم يكن بالأمر الذي يمكن تفهمه في هذا الوقت. يُضاف إلى
ذلك أن المراسيم في نظرهم كانت مجرد حبر على ورق، ولا أدل على ذلك من أنه في عام
١١٤ق.م ثارت قرية من قرى «الفيوم» على الحكام الملكيين الذين أساءوا استعمال سلطتهم.
٦٩ ويطيب لنا أن نذكر هنا أنه كانت توجد سلطة أخرى — بجانب سلطة الموظفين
— تدعو إلى الانحلال في طول البلاد وعرضها وهي سلطة المعابد، أو بتعبير أدق سلطان
رجال الدين الذين كانوا منتشرين في كل ركن من أركان البلاد في المدن والقرى صغيرها
وكبيرها. وهذه الطائفة كان جل هم رجالها أن يحصلوا لأنفسهم على استقلال ذاتي سياسي،
وقد كان هذا أكبر خطر يتهدد البلاد؛ لما لهم من نفوذ روحي على الشعب. ولم يُبْدِ
الملك أمام قوة الكهنة هذه أية مقاومة، فقد كان يعطيهم امتيازات وإعفاءات، ولم
يحتفظ لنفسه إلا بشيء واحد هو وراثة الوظائف التي اشتراها بيت المال؛ وذلك لأنه
رأى
أنه إذا منح الكهنة — بالإضافة إلى المنح والإعفاءات التي نالها الكهنة بمقتضى
مراسيم عدة — وراثة الوظائف أيضًا فإن ذلك كان يضع في أيديهم قوة إقطاعية حقيقية،
وإذا كان من الواجب عليه أن يحرمها فإن الأمر كان فعلًا قد وُضِعَ على بساط
البحث.
ونجد في الوقت نفسه الذي كان فيه الملك يخفض من عدد الموظفين أنه كان يبحث في أن
يضم إليه قوة الصناع الذين كانوا مصدر ثرائه. فقد انتزعهم من شر الآفات التي تعمل
على القضاء عليهم؛ لأجل ألا تخلو منهم المصانع والحقول الملكية
٧٠ ومن أجل ذلك أعفاهم من توريد ما كانوا يدفعونه كل ثلاثة أشهر من كراء للجند،
٧١ كما منح أولئك الذين اشتروا عقارات من الخزانة حق الملكية التي لا نزاع
فيها، على أن تكون حرة من الالتزامات الشرعية.
٧٢ وبهذه الإجراءات يُلْحَظ أن هذا العاهل كان يعمل على تثبيت رعاياه في
أعمالهم وفي أماكنهم، وهذه كانت ضرورة لسياسة استغلال خيرات البلاد لسد حاجة
الخزانة. يُضَاف إلى ذلك أن المراسيم كانت تزيد — في نفس العصر — في محتويات حقوق
الجنود أصحاب الأطيان في الأرض التي يزرعونها، وكانت كذلك تتسابق إلى نفس الغرض
٧٣ المضعف للدولة.
وأخيرًا عمل «بطليموس السابع إيرجيتيس الثاني» على محو بعض الارتباكات في
الإجراءات القانونية؛ وذلك بأن حد بوساطة العقود من سوق القضايا التي كان يمكن أن
تُقام بين الأفراد المتعاقدين، وهذه كانت عملية بسيطة لوضع الأمور في نصابها.
٧٤
غير أن هذا المجهود التشريعي لم يُجْدِ نفعًا؛ وذلك لأن الأوامر التي صدرت في عام
١١٨ق.م أي في عهد «إيرجيتيس الثاني» لم تُوجِدْ توازنًا بين القوى المضادة في
البلاد؛ إذ رأينا أنه منذ عام ١١٤ق.م كان الشجار قائمًا في الفيوم، في حين نجد في
إقليم «طيبة» أن تمزيق البلاد كان يزداد ويشتد، وقد وصلت الحالة هناك إلى درجة أنه
ما بين عام ٨٨ وعام ٨٥ق.م بعد ثلاثة أعوام، وكان حرب العصابات فيها على قدم وساق؛
اضطر «بطليموس سوتر الثاني» إلى تخريب مدينة «طيبة» التي كانت تُعْتَبَر وكر
المقاومة. وكما جرت العادة نجد أن هذه الانطلاقة الثورية في البلاد قد جاءت في
أعقاب عصيان أهالي الإسكندرية. وقد حدثنا في ذلك المؤرخ «بوزانياس»
٧٥ Pausanias: «كان من جراء كشف النقاب
عن موت «كليوباترا الثالثة» وهرب «بطليموس الإسكندر» خوفًا من أهالي الإسكندرية
أن
عاد ثانية «بطليموس سوتر الثاني» من «قبرص» (كما هي العادة) وحكم مصر للمرة
الثانية. وقد أعلن الحرب على «الطيبيين» وأخضعهم بعد مضي ثلاث سنوات على انفجار
الثورة. ولقد قسا عليهم لدرجة أنه لم يُبْقِ على أية ذكرى من سعادتهم الغابرة.»
هذا، ولدينا بعض أصداء عن القلاقل التي مهدت للأزمة، ثم التجهيزات التي اتخذت
للحملة التأديبية؛ ففي العام التسعين ق.م (أي الرابع والعشرين من حكم «بطليموس
الإسكندر») أعلن كاتب المركز الواقع جنوبي مقاطعة «الجبلين» هجوم ثوار على أراضي
«لاتوبوليس» و«الجبلين» الملكية.
٧٦
وفي متناولنا بعض رسائل مؤرخة بالعام ٨٨ق.م؛ أي في السنة السادسة والعشرين من حكم
«بطليموس الإسكندر»، كما لدينا أخرى مؤرخة بالعام الثلاثين من عهد «بطليموس سوتر
الثاني» باسم فرد يُدْعَى «بلاتون» (أفلاطون) الذي كان يشغل وظيفة قائد جيش إقليم
«طيبة»، والواقع أنه كان يشغل وظيفة القائد الأعلى. ويدل ما جاء في هذه الرسائل
٧٧ على أن ما قصه علينا المؤرخ «بوزانياس» كان غاية في الدقة؛ فالثورة
التي قامت في «طيبة» كانت قد بدأت قبل عودة «بطليموس سوتر الثاني» من المنفى، وعلى
ذلك فإنها لم تكن مرتبطة بتقلبات أحوال الملك. وبعد ذلك نرى أن «الطيبيين» لا
يؤلفون كتلة واحدة جمعتهم على كلمة واحدة، وكان «بلاتون» قد كتب في ٢٨ مارس عام
٨٨
لأهالي «الجبلين» الذين كانوا على ولاء للملك — والظاهر أنهم كانوا مهددين — رسالة
يدعوهم فيها للهدوء والسكينة، كما رجاهم أن يساعدوا «نختيريس» الذي كان قد كلفه
بتنظيم المقاومة. وقد اتجه بنفسه نحو المدينة المهددة، وكذلك كتب إلى «نختيريس»
في
الوقت نفسه يخبره بأنه قد أخذ على عاتقه إخضاع الثوار، وأنه يصل إلى «لاتوبوليس»،
ورجاه بأن يشرف على الإقليم، وأن يعمل على أن يسود الهدوء والطاعة.
٧٨ ويمكن الإنسان أن يستنبط من بين سطور هاتين الرسالتين مقدار الذعر الذي
كان ينذر باقتراب انفجار الثورة.
وكان الخوف من حلول القحط في المدينة المحاصرة قد جعل الهلع يدب في نفوس السكان،
وقد فكر «بلاتون» من أجل ذلك في تموين المدينة المحاصرة؛ وبسبب ذلك كتب في ثلاثين
مارس إلى «نختيريس» على أن يعمل كل ما في وسعه على أن يكون لدى كل فرد في المدينة
إردب من القمح احتياطيًّا؛ أي ما يكفيه مدة شهرين، وكذلك يكون لديه خبز وشعير.
٧٩ وعلى ذلك نجد هنا ثانية أن النضال كان قائمًا بين «الجبلين» الموالية
للملك وبين «طيبة» الثائرة عليه، وهذا هو نفس ما كان قد حدث في عام ١٣٠، وفي عام
٩٠ق.م. على أن الشيء الذي يدعو إلى الدهشة هو أن نرى مدينة «الجبلين» يدافع عنها
مصري، ولكن ليس هناك ما يدهش في ذلك؛ لأننا نرى في وقتنا الحاضر وفي كل زمان أن
الجنود الرسميين يحاربون الثوار سواء أكانوا من سلالتهم ومن وطنهم أم أجانب، وأعتقد
أن السبب الذي أوردته الآنسة «كليربريو» في هذا الصدد وهو عدم وجود كراهية بين
المصريين والإغريق لا يطابق الواقع. وعلى أية حال فإن الحصار إذا كان قد أقامه
الثوار فإنه لم يُفك بسرعة؛ وذلك لأنه في أول نوفمبر عام ٨٨ق.م خاطب «بلاتون»
الكهنة وأهالي «الجبلين» الآخرين. فاستمع لما قاله: «سلام. لقد كتب إلى
«فيلوكزينوس»
Philoxenos أخي في رسالة حملها إلى
«أورسيس» أن الملك «سوتر» الإله العظيم جدًّا قد وصل إلى «منف» وأن «هيراكس»
Hierax قد عُيِّنَ لإخضاع إقليم «طيبة» بقوات
عديدة، ولأجل أن يحوز هذا الخبر ثقتك الطيبة فإنا قد قررنا أن نخبرك به. تحريرًا
في
العام الثلاثين التاسع عشر من شهر بابه.» ومن ثم نفهم أن كهنة «الجبلين» كانوا
يديرون المقاومة.
ويرجع السبب في ذلك إلى أن كهنة «الجبلين» هؤلاء كانوا خدام الإلهة «حتحور» وقد
كانوا منذ زمن بعيد يحملون في نفوسهم حقدًا كمينًا على كهنة آمون.
٨٠ وعندما نرى أن كهنة «حتحور» كانوا موالين للملك فلا بد أن نفهم أن من
كان يعارض السلطة الملكية في «طيبة» لم تكن طبقة الكهنة؛ بل كان «آمون» أو بعبارة
أدق مذهب «آمون» وأتباعه وحسب. ومنذ ذلك الوقت نجد ثانية رابطة تقليدية تضرب
بأعراقها إلى الأزمة التي أوجدها «إخناتون» والتي كانت ترمي إلى القضاء على عبادة
«آمون». وقد أفلح فعلًا هذا الملك الذي يُعْتَبَر أول من وحد بالله في تاريخ
البشرية بصورة واضحة لا لبس فيها ولا إبهام. وتدل شواهد الأحوال على أنه منذ ذلك
العهد لم نسمع أن واحدًا من أولئك الملوك الذين أرادوا أن يكون لهم سلطان قوي كان
على وفاق ومصادقة لمدة طويلة مع مذهب «آمون» وأتباعه. هذا، ونجد في عهد البطالمة
أن
إله «طيبة» وهو «آمون» كان يحافظ على ذكريات القرون التي سبقت عهد النهضة الساوية
التي بدأت في بلاد السودان، وهي التي تعتبر نهضة ملكية يساندها أتباع «آمون»، على
أن ذلك لم يكن بالأمر الهام في نظر المصريين الذين كانوا يريدون أن يتخلصوا من
الحكم الأجنبي ومساوئه، ومن ثم نجد أن الشجار كان في الواقع بين المصريين والإغريق
والمقدونيين المستعبدين، ومن أجل ذلك فإني لا أتفق مع الآنسة «كليربريو» في أن
الحرب في مصر — كانت في نهايتها — حربًا بقوة السلاح بين مبدأي الإقطاع ومبدأ
الملكية، والواقع أن هذه الحرب قد جاءت عرضًا ولم تكن أساسًا، بل الأصل كان قيام
الشعب المصري — منذ أن وطئ الإغريق والمقدونيون أرض الكنانة — لمقاومتهم والتمتع
ببلادهم حرة يحكمها مصري من أبناء مصر، كما أظهرت الحوادث التي سردناها في هذا
الصدد منذ قيام الثورة بصورة جديدة في نهاية عهد «بطليموس الرابع». وقد استمر
المصريون في نضالهم ومقاومتهم ملوك البطالمة وبطانتهم من الإغريق والمقدونيين حتى
قبل نهاية الحكم البطلمي بمدة وجيزة.
والاضطرابات والقلاقل التي قامت في العام التسعين قبل الميلاد، والتي جاء ذكرها
في ورقة برلين الديموطيقية؛ قد تكون هي بداية هذه الثورة، وبذلك فإن حملة «هيراكس»
تكون بمثابة إيذان لانتهاء الشجار، وعلى ذلك تكون الثلاث السنوات التي حددها المؤرخ
«يوزانياس» قد انتهت عام ٨٨ق.م. أما إذا كان ينبغي على العكس أن نجعل هذه الحرب
تبتدئ — كما يقول مؤرخنا — برجوع الملك «بطليموس سوتر الثاني» إلى عرش الملك فإنه
ليس لدينا في مراسلات «بلاتون» السالف الذكر إلا المرحلة الأولى من هذه
الحرب.
هذا، وتقدم لنا ورقة «باد» رقم ١٦
Bade No. 16
كذلك تفصيلًا عن المقاومة التي أبدتها بلدة «الجبلين». وما جاء فيها في هذا الصدد
هو تهاني للكهنة من أجل القرارات التي اتخذوها. هذا، وقد دعاهم «بلاتون» فضلًا عن
ذلك لحماية المكان لأجل «السيد الملك».
٨١ ولا يفوتنا أن نذكر هنا الدور الذي كان يقوم به الكهنة في هذه البلدة؛
فقد كانوا مكلفين بالقيام بالحكومة المدنية فيها، مما يدل على ما كان لهم من أهمية
سياسية في شئون هذه البلاد التي كانت آخذة في الانحلال والإفلات من سلطان الملك
الذي قد أصبح بدوره في نهاية العهد البطلمي لا شيء على وجه التقريب. والمهم هنا
أن
هؤلاء الكهنة لم يكونوا من أتباع «آمون» بل كانوا من عباد الإلهة «حتحور».
وعلى أية حال فإن كسر شوكة المقاومة في إقليم «طيبة» لم يُعِدْ للبلاد هدوءها
ونشر السلام فيها؛ وذلك لأن المقاومة في «طيبة» لم تكن روح الثورة التي ترمي إلى
طرد الإغريق من البلاد؛ بل كانت مجرد نقطة مقاومة يسكنها الإله «آمون» الذي كان
له
سلطان عظيم فيما مضى، وأن مقاومة المصريين كانت مستمرة للعمل على طرد الأجنبي
الإغريقي من البلاد التي أصبح يستغلها على حسابهم حتى أصبحوا في فقر مدقع وبؤس
شامل. وهذا هو ما تحدثنا به الآثار؛ فلدينا بعض الأوراق البردية التي عُثِرَ عليها
في «أهناسيا المدينة» يرجع تاريخها إلى العام الخمسين قبل الميلاد وصفت لنا ما كان
عليه ريف مصر من حالةٍ تدعو إلى الحزن والأسى؛ إذ قد أصبحت قرًى برمتها خاوية على
عروشها؛ فرجالها كانوا يفرون من وجه الفقر والضغط لابتزاز الأموال ظلمًا وعدوانًا.
٨٢ أما أولئك الذين كانوا لا يزالون مرتبطين بالأرض التي كانوا يزرعونها؛
فكانت تُفْرَض عليهم مصاريف باهظة من أجل الزراعة.
٨٣ وكانت المعابد مقصدًا للصوص والناهبين.
٨٤ أما الموظفون فناهيك بهم؛ فقد كانوا يسيئون استعمال سلطتهم. وقد كانت
الالتزامات المالية وقتئذ قد بلغت من الفداحة والإرهاق ما جعل سكان مصر لا حول ولا
قوة لهم على تحملها لدرجة أن مالية مصر أعطيت أحد الرومان، وآية ذلك أن «بطليموس
الزمار» ملك مصر كان قد أصبح في واقع الأمر مدينًا بأموال طائلة إلى المرابي
«رابيريوس بوستوموس»
Rabirus Postumus، وبدلًا من
أن يوفي له ما عليه من دين في عام ٥٥ق.م فإنه عين صاحب الدين مشرفًا على مالية مصر.
٨٥ ويمكن الإنسان أن يتنبأ مقدار فداحة الأموال التي كان يبتزها مثل هذا
المرابي، ومقدار السلب والنهب الذي كان يستنزفه من دماء الفلاحين المصريين، على
أن
مصر وأهلها كانوا يعرفون وقتئذ من المخرب لديارهم، ومن المستنزف لدمهم على مرأًى
منهم.
وليس بغريب أن يبلغ البؤس أشده والصبر نهايته؛ مما أدى من جديد إلى انتشار
الإضراب حتى عم البلاد. ولدينا قطعة بردي تكشف لنا في وقت واحد عن ولاء السكان
وكراهيتهم التي كانوا يصرحون بها عن تصرفات رجال الإدارة الخائنين. فاستمع إلى بعض
ما جاء عن حادث مدهش في بابه، وهو عبارة عن محضر محادثة جرت بين العمال وبين
الممثلين الرؤساء للحكومة الذين يصغون إلى مظالمهم وتهديداتهم:
… في الصباح الباكر اجتمع جم غفير من الناس أكثر من أولئك الذين اجتمعوا
عند صرح (نافذة المقابلة) وطلبوا غوث الملكات والجنود، وقد قابلهم الحاكم
العسكري ومعه «مقدمه» المسمى «خايراس»
Chairas، وقد علم من جديد عن ارتكاب
مساوئ كثيرة مع كل فرد على يد قوم «هرمايسكوس»
Hermaiscos. وقد أصر الشاكون على أن
يرفضوا القيام بأي عمل حر أو ملكي إذا لم يقم الحاكم العسكري بعمل تقرير
للملكات ولوزير المالية بمقتضاه بطرد قوم «هرمايسكوس» من المقاطعة. غير أن
الحاكم العسكري والآخرين قد نصحوهم بالتزام السكينة، ووعدوهم بأن يقدموا
تقريرًا باتهاماتهم، وعلى ذلك انصرفوا. هذا هو السبب الذي من أجله نعمل هذا
التقرير.
ويُلْحَظُ أنه ليس هناك فرق أساسي بين هذا الإضراب الشديد الذي أدى في الحال إلى
العصيان والإضرابات التي ذكرناها من قبل في أوراق «زينون» التي يرجع عهدها إلى
القرن الثالث قبل الميلاد. غير أن المساوئ في العهد الأخير — الذي نحن بصدده — قد
ازدادت، كما اشتد البؤس، ولكن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية التي كان يرزح تحت
عبئها أفراد الشعب كانت كما هي، وسببها ضغط المستعمرين الأجانب وشره ملوك البطالمة؛
ومن ثم نشأت كراهة المصريين للإغريق.
ولا نزاع في أن استمرار هذه الحالة في البلاد هي التي يجب أن توضح بعد هذا البحث
الطويل.
وفي الحق إذا نظرنا بعين فاحصة في تقلبات الأحوال في الديار المصرية منذ دخول
«الإسكندر الأكبر» أرض الكنانة واحتلالها حتى نهاية العهد البطلمي تقريبًا؛ لاتضح
لنا أن النضال بين المصريين وبين المستعمرين من الإغريق والمقدونيين كان قائمًا
دون
هوادة. وقد تطورت القوى المناهضة للمستعمر على حسب قوة الملك الحاكم وضعفه، وعلى
مقدار ما كان يتطلب من الشعب المصري من تضحيات مادية لتنفيذ سياسته في داخل البلاد
وخارجها، وذلك على حساب الفلاح المصري والعامل المصري وحسب. ولم يترك البطالمة —
طوال مدة حكمهم البلاد — فرصة سمحة للشعب المصري ليشترك مع من أتوا معهم من بلاد
الإغريق و«مقدونيا» في حكم البلاد؛ بل جعلوا كل السلطة في أيديهم من الوجهة
الاقتصادية والسياسية وجعلوا مركزهم الرئيسي في الإسكندرية وبعض مدن أخرى في الديار
المصرية. ومن ثم أصبحوا يؤلفون حزبًا خاصًّا حاكمًا في البلاد، وبذلك كانوا هم
المسيطرين على سياسة البلاد في البلاط، وقد أخذ سلطانهم يزداد حتى أصبح في أيدي
الإسكندريين الأجانب الحل والعقد في الأمور السياسية عندما يتراءى لهم ذلك. وقد
رأينا في خلال سرد تاريخ ملوك البطالمة في العهد الأخير كيف كانوا يعزلون ويولون
الملوك دون كبير عناء، وذلك بإعلان الثورة على كل ملك يرون أنه حاد عن جادة الصواب،
وأن في بقائه خطرًا على البلاد، كما كانوا يشنون الحرب على كل حكومة لم تكن في
نظرهم تنهج الطريق السوي في تدبير شئون الدولة. وبذلك كان حزب الأجانب في البلاد
من
الإغريق والمقدونيين الذي يسكن العاصمة صاحب سلطان قوي في سياسة البلاد؛ بل كان
هو
الحزب الذي له السيادة المطلقة. ومن أجل ذلك كان خطرًا يهدد ملوك البطالمة، وكم
من
رجال هذا الحزب قد استغل منصبه في ابتزاز الأموال من الأهلين، وجر البلاد إلى حروب
طاحنة كان من نتائجها في نهاية الأمر القضاء على هيبة مصر وضياع ممتلكاتها في
الخارج؛ بل واحتلالها احتلالًا عسكريًّا. هذا فضلًا عن أنها أصبحت في أواخر أيامها
تحت وصاية الرومان إلى أن احتلوها وأصبحت ضمن أملاكهم.
ولقد كان من جراء تسلط الحكام الإغريق وإجحافهم بحقوق الشعب المصري الكادح أن أخذ
الأخير يشعر باضطهاد الأجنبي وظلمه له، فقام بثورات مطالبًا باستقلاله ورد حقوقه
إليه، وبدأت هذه الثورات في الوجه البحري، ثم انتشرت في الوجه القبلي. وقد كان على
الملك والحكام الإغريق أن يقاوموا هذه الثورات ويخضعوها بحد السيف تارة وبالمهادنة
وتخفيف الضرائب تارة أخرى؛ بل أحيانًا بالإغراء بمنح بعض الوظائف الكبيرة في
الإدارة أو حتى في الجيش، وبذلك كان المستعمر يحرض — في كثير من الأحوال — المصريين
بعضهم على بعض لإحباط الثورة التي كانت في أساسها إرجاع الحقوق إلى أصحابها. ولقد
بلغ من إغراء الإغريق للمصريين أن استعملوا المنافسات الدينية بين أهل الشمال وأهل
الجنوب. ومع ذلك فإن الأبطال المصريين الذين كانوا يدافعون عن استقلال مصر قد أسسوا
لهم ملكًا على غرار ملك الفراعنة حتى أصبحت مصر مقسمة قسمين؛ يمثل أحدهما الشعب
المصري الأصيل، والآخر يمثل البطالمة والأجانب. ولولا الخيانات وقلة المال لأفلح
المصريون في طرد البطالمة من ديارهم، وعلى الرغم من تغلب الإغريقي على المصري؛ فإن
ثورات الأخير لم تنقطع حتى نهاية الحكم البطلمي، وكانت المعول الجبار في هدم سلطان
ملوكه. هذا، وتدل الأحداث التي وقعت خلال هذا النضال المرير بين الشعب المصري
الأصيل وبين ملوك البطالمة والموظفين الأجانب من الإغريق والمقدونيين على أنه من
أكبر العوامل — التي أفسدت خطط المصريين المجاهدين — ما كان عليه رجال الدين من
تذبذب؛ بل انحياز ظاهر لملوك البطالمة الذين أفسدوهم بما كانوا يغدقون عليهم من
هبات وامتيازات جعلتهم يميلون إليهم كل الميل؛ مما أفسد نضال الأبطال المصريين،
وشل
نشاطهم إلى أبعد حد، ومع ذلك فقد كانت فئة منهم تميل إلى نضال المواطنين
أحيانًا.
ومن ثم نرى أن كل هذه العوامل التي ذكرناها هنا كانت السبب في قيام الشعب المصري
على الهيلانيين. ولست أرى رأي الآنسة «كليربريو» عندما قالت إن عبارة «طرد الإغريق»
لم تكن على ما يحتمل إلا صيحة حرب، وأن ذلك لم يكن الغرض الأول، ولا السبب العميق
للثورة المصرية التي لم يخمد لهيبها، وذلك أن بيت الداء هو الحكم الهيلاني الأجنبي
وما كان يرتكبه رجال الإدارة والقضاء من مظالم مع المصريين، فإذا زال هؤلاء الحكام
زالت معهم كل المساوئ التي كان يتألم منها المصري ويئن تحت أعبائها، وبخاصة التفرقة
العنصرية التي كانت بادية في كل مكان وفي كل أوجه النشاط في البلاد، وبذلك أعتقد
أن
كل كره المصري وما قام به من ثورات — مهما كان لها من ألوان مختلفة في ظاهرها —
فإن
أساسها كان التمييز العنصري واستغلال الشعب المصري المسالم بكل الوسائل. وقد ساعد
ملوك البطالمة في ذلك لإرضاء شهواتهم وأطماعهم على حساب الشعب المصري النبيل
المسالم الذي لم يَثُرْ إلا بعد أن طفح الكيل ولم يبق في القوس منزع.