موازنة بين عبادة الثورين «أبيس» و«بوخيس»١ في العصور المتأخرة
تحدثنا في الفصل السابق عن عبادة الحيوانات بصورة مختصرة عامة، ونريد أن نتحدث هنا عن عبادة الثور «بوخيس» الذي ظهرت عبادته على أرجح الأقوال في عهد الملك «نقطانب الثاني»؛ أي في أواخر العهد الفرعوني، وقد ازدادت عبادته جنبًا لجنب مع عبادة الثور «أبيس» والثور «منيفيس» بصورة خاصة، وعلى الرغم من أنه لا تزال بعض الأماكن الخاصة بالثور «بوخيس» لم تُحْفَر بعد، فإن الحفائر التي عُمِلَتْ قد كشفت لنا عن كثير من الحقائق الخاصة بهذا الثور وعبادته التي استمرت إلى ما بعد انتشار المسيحية مدة طويلة.
(١) مقدمة
لقد دلت الكشوف الحديثة في كل أنحاء العالم على أن عبادة الثور أصبحت تُعْتَبَر ظاهرة عادية في كل تاريخ الجنس البشري، وأنها ليست مقتصرة على مصر. والأسباب التي دعت لوجود هذه العبادة ظاهرة واضحة ولا تحتاج إلى التدليل على أية علاقة ثقافية بين قومين من الناس كل منهما يشترك مع الآخر في هذه العبادة. فالإنسان منذ نشأته كان همه الأول هو البحث عما يفيده من نباتات الأرض وحيواناتها؛ ولا نزاع في أن الثور كان يؤدي وظيفة الخصب في صورة مزدوجة، فقد كان رمزًا للقوة التي تعود على الإنسان البدائي بالخير — ومن ثم كان موضوع مباراة لاقتنائه — وكان كذلك أحد المصادر الرئيسية للإخصاب في زراعة الأرض، فكان بهذا يجمع بين تفوقه على الماشية التي تنتج للإنسان اللحم والألبان والزبد والجلود، وبين أنه كان العامل الأول في حرث الأرض؛ ومن أجل ذلك أصبح يُعْتَبَر رمز الرياسة والملكية، ولا أدل على ذلك من أن العرب كانوا يقولون في لغتهم: ثور القوم سيدهم. كما أن قدماء المصريين منذ أقدم عهودهم كانوا يمثلون ملكهم بالثور، ويرسمونه في صورة هذا الحيوان وهو يهدم قلعة، وعلى ذلك كان عندهم الثور رمز القوة المادية. وفي الأزمان الحديثة نجد في منطقة بحيرة «شاد» أن رؤساء القبائل هناك كانوا يُدْفَنُون مكفنين في جلد ثور.
ومن جهة أخرى نجد أن المجال لوضع الموازنة يكون فسيحًا إذا حولنا أنظارنا شطر «سرابيوم منف» الغني بمقابره ومقاصيره التي ترجع إلى أزمان بعيدة. ومع ذلك فإن المعلومات التي وصلت إلينا من هذا المصدر تُعْتَبَرُ ضئيلة بالنسبة لما كان يُنْتَظَرُ من مثل هذا الموقع الغني.
وقد ظهر هذا القرص في لوحة «أبيس الرابع» الذي يرجع عهده للأسرة التاسعة عشرة. ويوجد قبالة صورة «أبيس» ومعه القرص بقرة عارية الرأس. وكلا الحيوانين نائم على الأرض، في حين نجد في الرسم الرئيسي أن «أبيس» قد مثل واقفًا. ويظهر للمرة الأولى على لوحة «أبيس» رقم ١٠ من نفس الأسرة القرص على الصورة الرئيسية، ويظهر في هذه اللوحة تطور كبير عن اللوحات التي ترجع إلى باكورة الأسرة الثامنة عشرة؛ ففي اللوحة الأخيرة هذه نجد طائرًا خلف «أبيس» ممسكًا بقرص كما يُشَاهَد ذلك في عدد من لوحات الثور «بوخيس»، غير أن جسم الطائر يتألف هنا من عين مقدسة (وزات).
وعلى الرغم من وجود هذه الصعوبات فإنه مما يجدر ذكره — بأن يمهد هنا لمناقشة النتائج التي حُصِلَ عليها من حفائر «أرمنت» الخاصة بالثور «بوخيس» — أن ندلي بملخص للنتائج التي حصل عليها من السرابيوم، وسنحاول هنا أن نذكر ذلك بصورة مختصرة، وسنشير إلى المسائل الدينية بصورة خاطفة؛ إذ البحث في ذلك يحتاج إلى شرح طويل.
(٢) العلامات المميزة للعجل «أبيس»
ومما لا نزاع فيه أن الرسم الذي على صور «أبيس» هو الذي بلا شك يقرب من علامات هذا العجل اللازمة لأجل تقرير ألوهيته. وقد أشار إلى ذلك «مريت» في كتابه (سرابيوم «منف»، ص١٢٧) حيث يقدم لنا صورتين؛ إحداهما لثور كما مثل في البرنز، والأخرى كما صور بالألوان. وعندما ناقش «مريت» هذه العلامات الخاصة بالعجل «أبيس» قال مبتدئًا بالصورة الأخيرة؛ أي بالصورة الملونة: «يوجد على جبينه مثلث أبيض (؟)، وعلى صدره يظهر أحد قرني هلال القمر، وكذلك رُسِمَ هلال آخر على جانبه، وأخيرًا يُشَاهَدُ أن الشعر الذي في الذيل مزدوج؛ أي إن شعراته بيضاء أو سوداء على التوالي …»، وبعد ذلك يصف لنا الرسم الذي على التماثيل. ومن المحتمل أن تفسيره لشعرات الذيل بأنها مزدوجة صحيح. والرسم الذي على الجانب يحتمل أنه هلال، وذلك بوصفه تكملة طبيعية للعلامات السوداء التي تمثل النسر، والجعل، والسرج. وإذا كان قد أصاب كبد الحقيقة فيما يخص الهلال الذي على الصدر، فإن ذلك يمكن أن يفسر لنا لماذا لم يوجد هلال تحت القرص الذي على رأس الثور.
وعلى أية حال فإن تقريب هذه العلامات التي توجد على الثور لا يمكن وجودها إلا إذا كانت تُرَبَّى حيوانات بصورة ما لتكون فيها هذه العلامات اللازمة — وهذا ما لم يحدث على وجه التأكيد — ولكن مما لا شك فيه أنها كانت مقبولة في نظر عباد «أبيس»، ومن ثم كانوا لا يدققون في أن تكون العلامات مطابقة للمطلوب بالضبط. ومن الجائز كذلك أن هذه العلامات كانت تلعب فيها يد الكهنة في المناسبات العامة عندما يظهر «أبيس» أمام الشعب.
(٣) تحريم أكل لحم العجل «أبيس»
وعلى ذلك حصلت على تأكيد بأنه أمامي مومية «أبيس»، وعندئذ ضاعفت عنايتي فقد أمسكت بغطاء التابوت من عند القدمين، وآخر أمسك به من عند الرأس ورفعناه. غير أنه لدهشتي العظيمة فطنت أن هذا الجزء الأعلى (يقصد الغطاء) لم يكن نصف تابوت، وأن هذا الغطاء كان موضوعًا مباشرة على رقعة القبر. وقد لوحظ فقط أنه لما كان الأثر كبيرًا فإنه قد عمل تحت الخشب، وفي سمكه حفرة يبلغ عمقها حوالي سبعة أصابع، وعرضها يبلغ أكثر من أربعة أقدام بقليل؛ حتى إنه عند رفع الغطاء لم أجد على رقعة القبر الصخرية إلا كومة سوداء قد حافظت على شكل الحفرة التي كانت فيها، وكذلك على أبعادها.
وقد كان أول هم لي هو أن أبحث في هذه الكومة على رأس ثور غير أني لم أجد شيئًا، (وكان الشيء الذي أمامي) هو عبارة عن مادة أسفلتية ذات رائحة قوية جدًّا تتحول إلى رماد لأقل لمسة باليد، وهذه المادة كانت تغشى كمية من العظام الصغيرة كانت قد كُسرَت فعلًا في زمن دفن الثور، وفي وسط هذه العظام التي كانت منتشرة في أنحاء هذه الكومة دون أي نظام وعفو الخاطر، جمعت أولًا: خمسة عشر تمثالًا جنازيًّا؛ كل منها برأس ثور، ونُقِشَ عليها متون باسم «أبيس» المتوفى، وثانيًا: عشرة أشياء مصنوعة من الذهب أو منقوشة باسم «خع-إم-واس» وبأسماء شخصيات أخرى منوعة يشغلون وظائف رفيعة في «منف»، وثالثًا: عدة تماثيل صغيرة مصنوعة من الشيست المائل للخضرة تمثل الأمير نفسه (أي خع-إم-واست)، ورابعًا: تماثيل أخرى صغيرة من نفس المادة تمثل أمراء آخرين من الأسرة المالكة، وخامسًا وأخيرًا: تعاويذ من حجر الكورنالين والكوارتز الأحمر ومن حجر الثعبان محفورة حفرًا دقيقًا. وقد وُجِدَ في الكومة كذلك عدد كبير من صفائح الذهب».
وقد مثلت أمام نفس الملحوظات السابقة عندما كشفت النسيج الذي كان يلف الجرم الأسفلتي الذي في الداخل. فلم يكن هناك رأس ثور كما لم تكن هناك عظام كبيرة؛ بل على العكس وجدت كمية أغزر من كسر العظم الصغيرة الحجم. وقد وجدت بدلًا من المجوهرات والتماثيل الصغيرة والتعاويذ التي كانت في التابوت السابق؛ ناووسًا من الذهب مزخرفًا بزينة مجزعة. ويُحْمَلُ تحت الإفريز طغراء «رعمسيس الثاني»، وقد وجد معه ستة تماثيل صغيرة جنازية كل منها برأس ثور.
ووصف «مريت» — الذي وضعنا تحته سطر في أعلى — للجرم الذي ظل على شكله الأصلي بعد رفع الغطاء؛ فيه البرهان الكافي على عدم اتهامه بأنه وجد مومية هشة قد ذهبت هباء عندما كشف الغطاء عنها. وعلى أية حال فإن شكل البقايا التي عُثر عليها محير، وذلك بسبب أن الرأس لم يكن قد وُجِدَ كاملًا. وإذا كانت هذه حالة قد أكل فيها الحيوان، فإنه كان من المنتظر على الأقل أن الجزء الأعظم من الجمجمة يكون قد بقي سليمًا، كما وجد في دفنة الملك «حور» (حور محب) أحد ملوك الأسرة الثامنة عشرة. والمفهوم أن الضحايا العادية في المعابد المصرية كانت تأكلها الكهنة بطبيعة الحال؛ غير أن ذلك لا يفسر حالة العظام الغريبة التي عثرنا عليها في هاتين الدفنتين.
وليس لدينا إلا فرض واحد لتفسير هذه الظاهرة، وذلك أنه يوجد في متون الأهرام وصف للملك المتوفى نفهم منه أنه يأكل الآلهة في السماء، وإذا كان هذا الفرض صحيحًا فإن «أبيس» كان يأكله الملك؛ وذلك رغبة منه في أن يحصل على قوة الإله وخصبه.
وهاك هذه الأنشودة التي تُعْرَفُ عند علماء الآثار بأنشودة أكل البشر.
وفيما يلي بعض ما جاء في هذه الأنشودة خاصًّا بغذاء الملك:
ويلحظ هنا أن الكثير من هذه الأنشودة — الذي لم نقتبسه — خاص بالقوة والبأس اللذين يكسبهما الملك بقوة السحر المتبادل.
وكان للضريح … بمثابة ملحق، خلية جانبية، وكانت أبعاده هي نفس أبعاد ضريح «حور»، ولم يكن قد مس بعد مثله. ولكني بدلًا من أن أجد فيه مثوى ﻟ «أبيس»، تعرفت فيه على أربع عشرة آنية كبيرة جدًّا كدست دون نظام ظاهر في وسط الحجرة السفلية (= التي تحت الأرض).
وقد ظننت قبل فتح هذه الأواني أنها تحتوي على الأربعة عشر جزءًا المحفوظة من «أبيس» وهي التي كانت على غرار الأربعة عشر جزءًا التي كان يتألف منها جسم «أوزير» الذي كان قد قطعه «ست» إلى أربع عشرة قطعة. غير أنه عند فحص المواد التي تحتويها هذه الأواني فهمت أن الأربع عشرة آنية الخاصة ﺑ «سيتي الأول» كانت من صنف الآثار العديدة التي من هذا النوع الذي كان قد وُجِدَ في الأجزاء الأخرى من السرابيوم، وأنها لم تستعمل أبدًا إلا لحفظ الماء المقدس؛ وذلك لأنه وُجِدَ فيها الرفات والعظام المتخلفة من الضحايا المذبوحة.
ويتساءل المرء هل هذا الرفات هو «أفخاذ أسنهم» التي جاء ذكرها في متون الأهرام؟
على أن ما ذكره «هردوت» من أن ثيرانًا من نفس النوع كانت قد دُفِنَتْ مع «أبيس» لا يغير من وجه هذه القضية؛ إذ من الجائز أنه يشير إلى دفن ماشية عادية في الجهة المجاورة لمدفن «أبيس»، وهذا هو ما حدث في خلال العصر المتأخر.
ولا بد أن الأواني الكبيرة التي وصفها «مريت» وهي التي كانت في الحجرة إذا ما قرنت بدفنة زمن الملك «حور» (حور محب)؛ كانت تحتوي على «أبيس» نفسه، وأنه من الممكن أن العظام التي تحتويها كانت عظام نفس «أبيس» التي اسْتُعْمِلَتْ بمثابة وقود منفصلة على عظام ثيران أخرى. ويلفت النظر هنا أن الدفنات المبكرة كانت أفقر حالًا. فقبر «حور محب» السليم الذي ذكرناه سابقًا كان يحتوي على أربع أواني أحشاء بالإضافة إلى التابوت الخشبي الذي كان في وسط إطار مستطيل مقام من الحجر الجيري.
ومما يؤسف له أن «مريت» لم يصف لنا بقايا ثيران بعد عهد الأمير «خع-إم-واس». غير أننا نعرف مما جاء في ورقة «أبيس» التي سنتحدث عنها فيما بعد أنه كان هناك نظام تام كامل للتحنيط متبعًا في عهد كل من الملكين «إبريز» و«أماسيس الثاني»، وعلى ذلك قد يكون من المحتمل جدًّا أن هذا العهد هو الذي كان قد بدئ فيه تحنيط العجل «أبيس». وهذا العهد هو الذي أُدْخِلَ فيه استعمال التوابيت الحجرية لدفن «أبيس». والظاهر أن هذا التجديد كان سببه ازدياد العناية بعبادة الحيوان ونموها في تلك الفترة من تاريخ البلاد، أما فقر الدفنات وعدم التحنيط في المراحل الأولى من عبادة «أبيس» فيجب أن يُنْسَبَ إلى تغير الآراء أكثر من نسبته إلى عدم وجود التحنيط في مراحل مبكرة عندما بدأ الدفن في السرابيوم؛ وذلك لأن نظام تحنيط الأجسام البشرية كان متقدمًا في هذا الوقت، ولا بد أنه كانت توجد أموال كثيرة للإنفاق منها للقيام بعمل دفنة جميلة ﻟ «أبيس» على مستوى عالٍ. أما القول بأنه كان لزامًا على الكهنة عند أول تقمص روح الإله ﻟ «أبيس» أن يبتلعوا لحمه، ويقطعوا هيكله إلى قطع صغيرة دون سبب، ثم ترتيب هذه القطع في كومة ووضع صندوق فوقها؛ فإن هذا يعتبر عملًا غريبًا عن أي شيء نعرفه عن العادات المصرية، ولهذا فإنه قد يكون من السخف التفكير في مثل هذه النظرية أو الأخذ بها. ولكن مما لا يكاد أن يُسَلَّمَ به في عصر الأسرة الثامنة عشرة السفسطائية أن يحتم على القوم أن يأكلوا رسميًّا الحيوان المتقمص، ويدفنوا بقاياه مع نقوش على شرف الثور. وإذا كان «أبيس» يُعَامَلُ من جانب الكهنة بأنه ضحية عادية — وبذلك يكون لحمه مباحًا لهم، وهذا اقتراح على أحسن الفروض غير مقبول — فإن ما تبقى لا يكاد يدعو إلى أن يُحْتَفَلَ بدفنه احتفالًا رسميًّا.
- أولًا: توجد أكوام مؤلفة من عظام الثور يعلوها رأس عُثِرَ عليها في عصر ما قبل الأسرات المبكر، وكذلك وُجِدَ مثال آخر تاريخه غير مؤكد عثر عليه الأستاذ «بيت» في العرابة المدفونة.٢٤
- ثانيًا: يُلْحَظُ أن أقدم دفنات معروفة ﻟ «أبيس»، على الرغم من أنها تحتوي على بناء علوي وحجرتين، فإن كلًّا منها كانت تشتمل فقط على أربع أواني أحشاء وتابوت من الخشب وكومة من العظام كالتي تحدثنا عنها.
- ثالثًا: أن الصعوبة الكبرى في قبول الرأي القائل بتقمص أي ثور إله قبل الأضرحة المعروفة هو نظام دفن جسم الحيوان في العهد المبكر. وعلى أية حال فإنه لم يكن من المستطاع أن يمر على الإنسان أي ضريح كبير يشبه البوخيوم أو السرابيوم دون أن يلحظ، كما إنه لم يكن من المستطاع عمل سلسلة كبيرة من الدفنات الفردية بالحجم الذي اسْتُعْمِلَ في دفنة ثور.
- رابعًا: قد يكون من السهل أن يمر على الإنسان عدد من الدفنات المؤلفة من كومات من عظام ثور دون أن يعلق عليها الإنسان تعليقًا كبيرًا، أو دون تعليق قط في القرن المنصرم عندما كان علم الآثار لا يزال في مهده.
- خامسًا: أن البقايا التي وُجِدَتْ في السرابيوم تماثل بقوة ما كان يمكن أن يُنْتَظَرَ من نتائج وليمة إلهية فعلية تشبه تلك الوليمة التي جاء ذكرها في أنشودة «أكل لحم الإنسان» التي تحدثنا عنها فيما سبق. وصفات النهم الإلهي أمر مشترك في معظم الديانات، وهذه المزايا بارزة في بعض فروع الدين المسيحي.
ويدل ما لدينا من آثار على أن أواني الأحشاء كانت مستعملة في دفن الثور مما يدل على أن أحشاءه كانت تُسْتَخْرَجُ منه بعد موته، غير أنه ليس لدينا دليل على استخراج الأحشاء بعد إدخال عملية التحنيط. ومن المحتمل أن إقامة أضرحة ضخمة تحت الأرض ﻟ «أبيس» وفتحها للشعب في مناسبات خاصة كان بمثابة جزء من عملية ترويج ديموقراطية لأشياء كثيرة (كانت من قبل قاصرة على الملك وأسرته) كانت تقع حوالي هذا التاريخ. وأحسن مثال على ذلك هو التحنيط على الرغم من أنه قد اسْتُعْمِلَ فيما سبق. وبإنشاء مؤسسة رسمية لدفنات «أبيس» قد سُمِحَ للشعب مباشرة بالخصب المفيد الذي يأخذونه من الثور المؤله بدلًا من تسلمه بطريقة غير مباشرة من الملك.
وليس لدينا مصادر تشير إلى الثور العائش في الأزمان التي سبقت وجود السرابيوم، ولكن المصادر التي في متناولنا — باستثناء اللوحات الرسمية — معظمها وصلت إلينا مما دونه لنا الرحالة الأجانب، هذا مع العلم بأنه لم يكن لدينا مصادر في هذا الصدد قبل العهد الإغريقي.
هذه الحفائر (= نسف عقبه بالبارود) كان نتيجتها كشفًا لا زلت أشعر حتى الآن أنه من الصعب علي أن أعطي رأيًا بقيمته. فقد وُجِدَ بالضبط في المكان الذي تداعت فيه قبة المقبرة تابوت من الخشب ومومية بشرية. وكان التابوت غائرًا بعمق في الأرض، وقد وُجِدَ جزؤه العلوي مفتتًا، غير أن المومية وجميع الأشياء التي تتألف منها زينتها الجنازية لم تكن قد مُسَّتْ بعد. والتلف الوحيد الذي كان قد أصابها سببه رطوبة الأرض. وكان يغطي وجه المومية قناع من الذهب، وكان معها عمود صغير من حجر الفلدسبات الأخضر وقرط من اليشب الأحمر، وكانا يتدليان من سلسلة من الذهب المطروق في رقبة المومية. وكذلك وُجِدَتْ سلسلة أخرى من الذهب معلقًا فيها تعويذتان من اليشب، والكل نُقِشَ عليه اسم الأمير «خع-إم-واست» بن «رعمسيس الثاني». ووُجِدَ على صدر المومية جوهرة عجيبة، وهي عبارة عن صقر صِيغَ من الذهب، ورصع بالأحجار الثمينة، أما ذراعاه المنتشرتان فكانتا موضوعتين على الصدر. وكذلك وُجِدَ ثمانية عشر تمثالًا صغيرًا من الخزف المطلي لها رءوس آدمية، ونُقِشَ عليها المتن التالي: «أوزير-أبيس» الإله رب الأبدية. وهذا المتن نُقِشَ حولها.
يدل على ذلك أنه حتى يومنا هذا نجد عندما يُشْفَى أحد الأقباط من مرض خطير يُذْبَحُ له عجل. وكان على المريض الذي في دور النقاهة أن يخطي جسم الذبيح؛ لأجل أن تترك الروح الشريرة جسمه، وتدخل في دم العجل المذبوح.
والآن يتساءل الإنسان هلا يكون من الممكن أن هذه الدفنة كانت بمثابة دفنة بدلًا لدفنة الأمير «خع-أم-واس»؟ وتفسير ذلك أن الأمير «خع-أم-واس» لما مرض أخذ يبحث لنفسه عن علاج بالالتفات العظيم ﻟ «أبيس»، وأخيرًا ذُبِحَ «أبيس» وأكله هذا الأمير؛ لينال بذلك صحة وقوة. وبعد ذلك تُدْفَن بقايا الثور «مع مرض» الأمير (؟). على أنه يكاد يكون من ضروب المستحيل أن يجد الإنسان أي تفسير آخر لهذه الدفنة التي تخطت حد المألوف؛ وتقديم هذا الحل هنا — الذي يتفق مع كل الحقائق — يؤكد نظرية موت «أبيس» كما استعرضناها فعلًا.
هذا، ولم يظهر أي نشر علمي عن هذه المقابر. ومن المحتمل أن القيام بمثل هذه الحفائر يمكن أن يأتي بمحصول علمي كبير، وبلا شك سيكون لدينا بذلك بيانات أكثر عن «أبيس» وعبادة الثور من التي نشرها «مريت» عن حفائره في سقارة خاصة بالسرابيوم.
وأهم الآثار التي يمكن تتبعها من أعمال الحفر التي قام بها «مريت» اللوحات الرسمية، ومن بينها ثمانية كان قد أُعِيدَ إقامتها، وترجع اثنتان منها إلى عهد البطالمة. يُضاف إلى ذلك حوالي مائة وعشرين لوحة لأفراد. ومعظم هذه اللوحات دُوِّنَ باللغة الديموطيقية. وقد نُشِرَتْ كلها في صورة مجموعة.
ويا حبذا لو جمع علماء الآثار الفرنسيون كل ما لم ينشره «مريت» ونشروه نشرًا علميًّا. وعلى أية حال فإن قائمة الآثار التي كشف عنها «مريت» كثيرة جدًّا لا يمكن نشرها هنا حتى ولو بصورة مختصرة.
ومما يؤسف له أن تقرير «مريت» عن حفر هذا الضريح ليس وافيًا؛ لأنه ليس من المؤكد إذا كان المقصود هنا هو دفنة أم «أبيس» كما يغلب على الظن أو أنها فقط إحدى هذه الجبانات الخاصة لماشية أكثر تواضعًا أُقِيمَتْ حول السرابيوم. أما عن عذرية أم «أبيس» فسنتناول عنها الحديث فيما بعد.
(٤) الثور «بوخيس» والملك «نقطانب الثاني»
لقد اهتم الملك «نقطانب الثاني» (نخت حور-حب) اهتمامًا خاصًّا بسرابيوم «منف»، وفي عهده نجد للمرة الأولى ذكر الثور «بوخيس» ومدفنه المسمى «بوخيوم»، وذلك على الرغم أنه قبل هذا العهد لدينا البرهان على وجود ثور «المدمود» الذي وحد فيما بعد بالثور «بوخيس». فقد ظهر ثور «المدمود» في موكب في عهد الملك «رعمسيس الثالث». غير أن هذا لا يُتَّخَذُ برهانًا قاطعًا على وجود إله متقمص ثورًا في ذلك التاريخ، ولكن ذلك يقدم لنا برهانًا قويًّا على هذا الرأي.
ومن جهة أخرى لا يمكن الإنسان أن يتغاضى كلية عن إمكان وجود علاقة بين «بوخيس» و«منتو» وأن هذه العلاقة كانت ترجع إلى بعض رابطة بين الإله «مين» والإله «منتو». غير أن هذه أمور تعوزنا لإثباتها البراهين، ولا بد من تتبعها.
وعلى أية حال يظهر من غير معقول أن عبادة «بوخيس» قد ظهرت إلى حيز الوجود في عهد الملك «نقطانب الثاني»، ولذا فإنه من الصواب أن نقوم ببحث لنعرف من نتائجه إذا كان هناك أي شيء قد وجد؛ ليكون مقدمة لنموذج سابق لصورة «بوخيس» المتطورة فيما بعد من هذا النموذج.
- (١) أربعة الذكور لثامون «الأشمونين» التي أجسامها قد وُحِّدَتْ في ثور (راجع: Ibid. T. 30 b).
- (٢) أربعة الذكور للآلهة الأزلية التي اتحدت أجسامها في ثور قرناه حدان (Sethe. Ibid. 16,110 = 117).
- (٣) ذكور الثامون الموجودة في «منتو» (= Theb. T. 6 b ).
- (٤) ذكور الثامنون المتحدة في واحد (= L.D. IV 64 a).
- (٥) (الأربعة «منتو») قد اتحدت في تمثال في هيئة «منتو». وأنها تجدد نفسها هنا في المدمود بمثابة أربعة ذكور أمام والدها «تنن». (Chronique d’Egypte No 12 July 1930, 266).
ومما سبق نشاهد أسبابًا قيمة تنسب أن أشكال «منتو» الأربعة المحلية كانت ثيرانًا، وكانت تُعْتَبَرُ أنها تتقمص ثورًا. ولكن مما يؤسف له أن كل المتون التي اقتبسناها من عصر متأخر، وبقي علينا أن نعرف إذا كانت هذه الأفكار أو ما يشابهها موجودة في العصور المبكرة.
- أولًا: «أرمنت» يتضح من متون العصر المتأخر وكذلك من لوحات «بوخيس»
وكذلك لوحات القرابين؛ أن «أرمنت» كانت تُعَدُّ مسكن «بوخيس» مدة
حياته، وأن البوخيوم كان مكان دفنه. ومما يؤسف له أنه ليس لدينا
الآن أية براهين عن العصور المتأخرة تدل على عبادته في هذا المكان.
وليس لدينا إلا متن واحد جاء فيه: «منتو» رب «طيبة» (الكا) نزيلة «أوني».٣٦ وعلى أية حال لدينا متن من معبد «منتو» بالكرنك
(B. I. F. A. O. XII, 80) يقدم لنا
بعض ألقاب هامة للإله «منتو» وهي: «منتو-رع»، رب «طيبة»، (الكا)
نزيلة «أونو» («أرمنت»)، وسيد «المدمود» نزيل (= الذي في) «طود».
ولا نزاع في أن وجود عبارة (الكا) نزيلة «أونو» (أي الذي في) في
زمن كان فيه «بوخيس» كما نعرفه على قيد الحياة؛ يُعْتَبَرُ من
الأمور الهامة جدًّا.
ومما يطيب ذكره هنا أنه ليس من الأمور النادرة أن نجد في المتون المصرية التي من العهد الروماني وكذلك من العهد البطلمي كلمة «أونو» قد كُتِبَتْ بدلًا من «أونوشمع». وعلى ذلك فإنه ليس لدينا شك محس في أن الصورة المحلية لثور «منتو» صاحب «أرمنت» كانت «بوخيس» في العهد المتأخر، وأنه على الأقل منذ الأسرة الثامنة عشرة٣٧ كان يوجد ثور «منتو» في هذه البلدة أي «أونو شمع» (= «أونو» الجنوب؛ أي «هليوبوليس» الجنوب، وبذلك تتألف الثنائية).
- ثانيًا: «المدمود» لقد برهنت نتائج الحفائر التي عُمِلَتْ في «المدمود»
بصورة قاطعة على وجود ثور تقمصه الإله «منتو» هناك منذ الأسرة
الثانية عشرة، ونفس هذه الحقيقة معروفة من كل نقوش العصور
التاريخية المصرية التي أتت بعد ذلك حتى العهد الروماني. وأكثر
العبارات شيوعًا في هذه المتون العبارة التالية: «منتو» رب «طيبة»
الكانزيلة «المدمود»، و«الكا» العظيمة جدًّا المبجلة في المدمود.
أو «الكا في المدمود». وأقدم إشارة للثور الذي في «المدمود» جاء
ذكرها في عهد «سنوسرت» الثالث.٣٨وفي عهد الأسرة الثالثة عشرة نجد فضلًا عن الأدلة التي نتجت من الحفائر الفرنسية التي قام بها المعهد الفرنسي، وفي ورقة بولاق الخاصة بالحسابات (A. Z. XXIX, 102 ff.) وكذلك فيما كتبه «شارف» (A. Z. LII, 51 ff.) ما قد يلقي بعض الضوء على وجود عبادة الثور في «المدمود» في ذلك العهد.وفي عهد الملك «تهرقا» سجل العظيم «منتو محات»٣٩ الأعمال التي أداها في «المدمود»: فيقول: لقد (صنعت) ثور المدمود في هيئته المقدسة وأقمت معبده، وكان أكثر جمالًا عما كان عليه من قبل.٤٠ ومما تجدر ملاحظته هنا أنه على حسب هذا المتن لم يكن ثور «المدمود» حيوانًا عائشًا، وأقل ما يُقال أنه مما يصعب تصديقه على ما يظهر أنه إذا كان يوجد ثور يعيش باستمرار في «المدمود» فلا بد أن تكون له صورة كما جرت العادة في معبده.ويمكن تلخيص صفات ثور «المدمود» فيما يلي:
- (١) أنه كان قد اشترك في حروب مع ثيران أخرى في ساحة خاصة.
- (٢) أنه كان في قدرته أن يشفي الأمراض، وبخاصة أمراض العين.٤١
- (٣) وكان له وحي٤٢ ويذكر «كيس» أن «بوخيس» هو الذي كان له وحي في «المدمود».٤٣
- (٤) كانت اللفظة الهيروغليفية الدالة على الثور تُكْتَبُ أحيانًا باللون الأزرق. وهذا اللون هو لون السماء، وهذا يدل دون أي شك على أن طبيعة ثور «المدمود» كانت شمسية (راجع: Drioton, 1925, Pt. II, 6, and Inscr. 80 p. 38).
وأخيرًا لا بد من ذكر شيء باختصار عن تمثال «أحمس» بن «سمنتدس» (Cairo 37075, No. 197, of the Kannak Cache). كان «أحمس» كاهنًا (خادم الإله) للملك «نقطانب الثاني»، وألقابه الأخرى هي المحنط والمطهر الإلهي، والذي يدخل في دفنه الثور الذي في «المدمود» (يقصد بوخيس). - ثالثًا: «طيبة» إن الصيغة الدينية التي من طراز: «منتو» … (الكا) نزيلة «طيبة» يظهر أنها غير معروفة. ولا بد أن يعترف الإنسان أنه ليس لدينا أي برهان قاطع على وجود صورة ثور ﻟ «منتو» في «طيبة». ومع ذلك لا يكاد الإنسان يشك في أن مثل هذا الثور لا بد كان موجودًا هناك، وأن عدم وجود البراهين على ذلك قد كان محض صدفة، وأنه من الممكن دائمًا أن ثور «منتو» في «طيبة» كان قد طغى عليه في عهد مبكر بعض إله آخر. وقد رأينا أنه كان يوجد ثور أبيض له صلة بالإلهة «مين» في «طيبة» في زمن «رعمسيس الثالث»، وكان بينه وبين «بوخيس» وجه شبه كبير، وقد عده «جوتييه» أنه هو نفس «بوخيس» (راجع Gauthier, Les Fêtes de Dieu Min, P. 83) غير أن في ذلك نوع من المبالغة يجب التحفظ عند الأخذ بها.
- رابعًا: «طود» إن وجود ثور مقدس في «طود» أمر معروف تمامًا. وقد نشر
الأثري «لجران» المعلومات الدالة على ذلك (راجع:
B.I.F.A.O. XII 109 ff). وفي
عهد «تحتمس الثالث» يظهر أن المعبد هناك كان يُسَمَّى «حت كا» (قصر الثور).٤٤ ويوجد نفس الاسم في متن من «أرمنت».٤٥ ويظهر «منتو» صاحب «طود» نفسه في صورة بشرية برأس ثور.٤٦ وأخيرًا نجد الثور مصورًا على جدران المعبد
(Ibid. p. 109). وقد استخلص
الأثري «فرمان» من بعض متون أوردها٤٧ أن الثور الذي مُثِّلَ على جدران معبد «طود» هو
«بوخيس» نفسه على ما يُظَن، ولكنه لم يجزم بذلك.
وعلى أية حال لا بد أن نثبت هنا النتائج الرئيسية التي نستخلصها من هذا البحث بصورة مختصرة:
- أولًا: ليست هناك علاقة محددة بين الإله «منتو» وعبادة الثور حتى الأسرة الثانية عشرة.
- ثانيًا: أن عبادة ثور «منتو» ترجع بنا إلى عهد الأسرة الثانية عشرة. وفي «أرمنت» و«طود» ترجع إلى الأسرة الثامنة عشرة. ومن المعقول أنه إذا قامت حفائر جديدة فإنها ستظهر أن كل هذه الأشكال المحلية قد نبعت في عهد واحد لا يتعدى الأسرة الثانية عشرة.
- ثالثًا: أن أعم صيغة في ألقاب أشكال الثور المحلي للإله «منتو» هي: «منتو» رب كذا و(الكا) نزيل كذا. وهذا يدل — على ما يظهر — على أن الثور لم يكن الإله الرئيسي في أي من هذه الأماكن، ولكنه كان إلهًا ثانويًّا، أو بعبارة أدق: إلهًا زائرًا؛ لأن عبارة «حري-اب» تعني الزائر. والواقع أن ثيران «منتو» في «أرمنت» و«المدمود» و«طيبة» و«طود» لم تُعْتَبَرْ أبدًا آلهة أصحاب مكانة عظيمة في تلك الأماكن، وأن الثور الوحيد للإله «منتو» الذي له الحق أن يكون الإله الرئيسي للمكان هو «بوخيس» بوصفه سيد «حت اتم» (= البوخيوم). فمثلًا لم يكن «بوخيس» أبدًا سيد «طيبة» أو «أرمنت» وحتى في العهد البطلمي كان ثور «أرمنت» يُدْعَى «نزيل» تلك المدينة.
- رابعًا: في عهد الملك «تهرقا» كان معبد «المدمود» يحتوي على تمثال الثور.
- خامسًا: يظهر أن «بوخيس» كان حاضرًا (بوصفه زائرًا؟) في «طود» في عهد البطالمة.
- سادسًا: كانت أشكال «منتو» الأربعة المحلية تُعْتَبَرُ ثورًا واحدًا.٤٨ ولا بد أنها كانت تتزاور فيما بينها في فترات محددة، ويحتمل أن ذلك كان مرة في كل شهر. هذا، ونلحظ أن الأستاذ «زيته» قد أشار في العبارة التالية: «أن ذكور الثامون قد اتحدت في ثور»؛٤٩ (أي وحدت في ثور واحد)، والثور المقصود هنا بلا نزاع هو «بوخيس» وأنه في الحالات الأخرى جميعها التي اقتبسناها فيما سبق كان الثور المقصود هو «بوخيس». وعلى ذلك ينتج أنه حتى في العصور المبكرة لم يكن يوجد ثور حي منفصل في «أرمنت» و«المدمود» و«طود» و«طيبة»، بل كان كل منها متحدًا في ثور واحد، كان يزور كل مدينة من المدن السابقة على التوالي، وكان يُمَثَّلُ في غيابه بتمثاله المقدس.
والمفروض أن ما ذُكِرَ هنا ليس إلا نظرية أقيمت على براهين ليست فوق الشبهات، ولكن يمكن إضافة حقيقة أخرى هنا قد تقوي بعض الشيء هذه النظرية، وذلك أن «دريتون» قد نشر أربعة تماثيل للإله «منتو» (برأس ثور) سمى كل واحد منها باسم واحد من أربعة الأشكال المحلية للإله الذي قيل عنه إنه يسكن في حظيرة ثور «مدمود». فهلا تكون الإشارة هنا لزيارة أربع الصور الخاصة بالإله «منتو» مجتمعة في ثور واحد، لمعبد المدمود؟
وهكذا نحصل على إعادة تأليف تاريخ «بوخيس» فيما يلي: في العهد الذي سبق عهد حكم الفرعون «نقطانب الثاني» كان «بوخيس» يتقمص أربعة أشكال الإله «منتو»، وبهذا الوصف زار المدن الرئيسية للإله «منتو» كلا بدورها. وفي هذا العهد على ما يظهر لم يكن قد أُطْلِقَ عليه اسم مميز له. وعلى أية حال نجد أن «نقطانب الثاني» قد أسهم في تطور طبيعة الثور وجعله إلهًا هامًّا مساويًا لكل من «أبيس» و«منيفيس»، ولكن «بوخيس» استمر في زيارته المنظمة لبلاد إقليم «طيبة».
ومهما يكن من أمر فإن هذه النظرية التي وضعها الأستاذ «فيرمان» — على الرغم مما فيها من ثغرات — فإنها تُعْتَبَرُ أحسن ما كُتِبَ عن «بوخيس» إلى أن تظهر متون أخرى تنقض بعض ما جاء فيها أو كله، أو على العكس تثبت صحتها من كل الوجوه.
(٥) الموازنة بين «بوخيس» وبين «أبيس» و«منيفيس»
لا بد أن نفهم أولًا أن النظرية القائلة أن «نقطانب الثاني» قد دفع إلى الأمام من جديد عبادة ثور «المدمود» باسمه الجديد «بوخيس»، وأنه أمده بمدفن جديد أطلق عليه اسم البوخيوم، أو أن نفس الملك قد أدخل فكرة تقمص الإله الثور تقليدًا لكل من الثورين «أبيس» و«منيفيس»؛ هذه النظرية يعتورها الشك والغموض. على أنه لو كانت مسألة التقمص حقيقية فإن «نقطانب» لم يَقُمْ بها إلا ليكسب محبة أهل الجنوب الذين كانوا غرباء بالنسبة له. ومما يلفت النظر هنا أن البيانات التي توضح لنا أوجه الشبه وأوجه الخلاف بين الثور «بوخيس» من جهة وبين كل من الثورين «منيفيس» و«أبيس» من جهة أخرى، دقيقة لدرجة أنه قد أصبح من الصعب استخلاص شيء منها.
وسواء أكان موجودًا ثور يتقمصه إله في «أرمنت» قبل عهد الملك «نقطانب الثاني» أم لا، فإن التغيرات التي أُدْخِلَتْ في عبادته في ذلك الوقت كانت أساسية لدرجة أن أصبح مؤكدًا أن نعتبر حكم هذا الفرعون بداية تاريخ الثور «بوخيس».
بوخيس
العناية بأم الثور بوخيس
ومن المسلم به أن صاحب العجل كان عليه أن يثبت أن «العجلة» التي وضعته لم يقربها فحل.
وكان هناك بعث آخر مماثل ورد ذكره في حالة العجل «أبيس»، وتدل شواهد الأحوال على أنه كان من الممكن أن المفتشين الملكيين كانوا قد عُيِّنُوا بوصفهم شهادًا مستقلين؛ ليمنعوا وقوع غش وتدليس في فحص العجل. والآن يتساءل المرء هل من الممكن أن نفس هؤلاء الرجال قد قاموا بعمل مثل هذا العمل مع كل الحيوانات المقدسة؟ والجواب على ذلك هو أن هذا كان أمرًا محتملًا أكثر من أنهم كانوا يقومون بهذا العمل مع أعمال أخرى كانت تُعْتَبَرُ من واجباتهم.
والظاهر أن طبيعة حفل تنصيب العجل «بوخيس» لم تكن واضحة المعالم بأية حال من الأحوال، غير أنه كان — على أية حال — احتفالًا هامًّا يحضره — كما قيل — الملك، ومن الجائز أن الملك كان يحضره في العهد البطلمي؛ وذلك لأن حفل تنصيب العجل «بوخيس» كان لا يحدث أكثر من مرتين في حياة أي ملك، اللهم إلا إذا كان الملك يحضر أحفال تنصيب كل الحيوانات المقدسة في طول البلاد وعرضها.
هذا، ونعلم أن الثيران «بوخيس» التي نصبت في عهد «نقطانب الثاني» و«بطليموس الرابع»، والثور الأول من عهد «بطليموس الخامس»؛ كان يتم تنصيبها في «أرمنت»، في حين أن أحفال التنصيب الأخرى التي نعلم مكانها كانت قد أُقِيمَتْ في «طيبة». وقد نصت اللوحة الثانية التي من عهد «بطليموس السادس» على أن «طيبة» كانت الموقع الذي جرى فيه تنصيب العجل «بوخيس» منذ الأزل. وتدل الأحوال على أن هذا العصر هو العصر الذي أصبح فيه العجل «بوخيس» مرتبطًا بآلهة «طيبة» الثمانية، وفي تلك المدة حدث تغيير عام في مناقبه. وقد ذُكِرَ في نفس اللوحة السابقة حفل تنصيبين إضافيين تابعين للتفتيش الذي أُشِيرَ إليه فيما سبق، وسنتحدث عنهما فيما بعد هنا.
وكان الثور بعد تنصيبه مباشرة في العادة يُحمل في النهر في قارب مقدس من «طيبة» إلى «أرمنت» وفي صحبته جماعة من علية القوم. وعلى ذلك فإن ثور «بطليموس السابع» نصبه الملك نفسه. ففي رحلته في قارب «آمون» مع قوارب الملك كان كل مواطني «طيبة» و«أرمنت» والكهنة خدام الإله ورؤساء الكهنة في صحبته. وبالمثل نعلم أن الثور الأول من عهد «أغسطس» قد نصبته «كليوباترا» العظيمة ومعها زوجها الطفل «بطليموس الثاني عشر». «لقد نصبه الملك نفسه في السنة الأولى ١٩ برمهات، وقد ساحت به في النهر الملكة سيدة الأرضين «كليوباترا»، الإلهة التي تحب أولادها في قارب «آمون» مع قوارب الملك، وكان معه كل سكان «طيبة» و«أرمنت» والكهنة.»
وفي معظم هذه المناسبات كان حضور الملك أمرًا مسلمًا به؛ وذلك لأنه قيل إن «بوخيس» قد صاحبه الملك نفسه في عهد «تيبيريوس». ومن الممكن كذلك أن الملك كان يمثله رسميًّا نائب هام يحل محله. ويُفْهَمُ من الخلاف في الصيغة أن «كليوباترا السادسة» قد رافقت الثور بنفسها كما رأى كل من «ينكر» و«تارن» و«فيرمان».
وقد جاء في لوحة العجل الثاني الذي عاش في عهد «بطليموس السادس» — التي أشرنا إليها فيما سبق — الجملة الآتية: «إن حفل تنصيبه (بوخيس) قد أداه كهنته … وقد حُرِّرَ منشور رسمي في حضرة جلالته.» وبعد ذلك حضر الملك إلى «طيبة» وأُقِيمَ احتفال آخر، وهذا الاحتفال الأخير حدث في السنة الرابعة والعشرين، وكان العجل قد وُلِدَ في السنة التاسعة عشرة. غير أن هاتين الحادثتين هما اللتان يمكن تأريخهما فقط، وعلى ذلك فإنه من غير المستطاع أن نعرف كيف كان تقسيم مدة خمس السنوات التي بين عام ٢٤ و١٩ بالنسبة للأحفال السابقة، وأعني بذلك حفل التفتيش وحفل التنصيب الأول. والظاهر جليًّا أن الملك أو وكيله لم يكن في قدرته الحضور عندما كان الكهنة يريدون تنصيب الثور، ومن أجل ذلك كان يُسْمَحُ لهم — بمرسوم ملكي خاص — إقامة الحفل بأنفسهم. ويُفْهَمُ أنه إذا كان هذا الحفل يُقام بعد التفتيش مباشرة، فإنه لا يكون صحيحًا تمامًا، ومن أجل ذلك كان الثور يظل في «طيبة» إلى أن يصبح الملك خاليًا من الأعمال؛ ليقوم بعمل الحفل السليم. ولكن إذا كان حفلا التنصيب يتبع الواحد منهما الآخر مباشرة، فإنه يُفْهَمُ على ما يظهر أنه قد وقع بعض حادث جعل ظهور الملك شخصيًّا بعد التنصيب الذي قام به الكهنة مباشرة ممكنًا أو ضروريًّا. وفي كلتا الحالتين يُفْهَمُ أن سير الحوادث تقوي الرأي القائل أن الملك كان يحضر التنصيبين شخصيًّا، ولو على الأقل في العهد الأول من عصر البطالمة؛ وذلك لأنه كان من الجائز وجود مضايقة كثيرة فيما يخص إبدال نائب بآخر في مثل هذه الأحفال الخطيرة الشأن.
لقد وصل إلى «طيبة» في السنة الثانية في الخامس عشر من شهر بابه. وكان هناك هجوم قامت به ممالك أجنبية عدة على مصر في السنة الثانية عشرة، وقد اندلعت نار فتنة داخلية في مصر. وكان سور «طيبة» العظيم محصنًا بالأجانب. وعلى أثر ذلك جاء مواطنو «أرمنت» إلى «طيبة» القوية البأس، وكانت قلوبهم وقتئذ في خوف أليم من أجل هذا الإله، وأدوا شعائر نقله إلى «أرمنت» في السنة الثانية عشرة … ليته يبقى على عرشه أبديًّا.
ولنستمع لما جاء فيها: «كانت هناك جياد عدة أكثر من الرمل، وجنود أكثر من رمال الشاطئ.» وقد وُصِفَ بعض هؤلاء الذين كانوا يصحبون الثور بأنهم «أونتيو»، ويقترح الأستاذ «فيرمان» أنه من الممكن أن يكون هؤلاء كاهنات موسيقيات. ولدينا في المتون الديموطيقية التي وُجِدَتْ على فخارة (موسيقيو «أمون» الراقصون) وكذلك «الراقص» و«مغنو المعبد»، ومن الجائز أن الإشارة في اللوحة تشير إلى هؤلاء. وكذلك ذُكِرَ على لوحة «دوميشيان» هذه عبادة رأس «بوخيس» الذي يتحلى بالتاج في الريشتين: إن «أرمنت» و«طيبة» الجميلة قد اتحدتا في معاقرة بنت الحان، والصياح قد سُمِعَ في السماء، ثم عاد إلى مدينة «أرمنت» في فرح لأجل أن يتسلم عرشه في حياة أبديًّا … ومملكته كان خلودها مثل خلود «رع».
وإذا استثنينا ولادة «بوخيس» وتنصيبه وموته فإن الحوادث الأخرى وكذلك الأعمال اليومية الخاصة بحياته لم تُوضَّحْ بعد بصورة جلية في المتون. هذا، وقد برهن «فيرمان» على أن «بوخيس» كان ثورًا مشاءً، أو بعبارة أخرى: كان جوالًا متنقلًا، فقد جمع في شخصه الآلهة الذكور الذين كانوا في عداد ثامون الآلهة. وتفسير ذلك: أن أشكال الإله «منتو» الأربعة كانت موحدة في هذا الثور بمفرده، وعندما كان يزور كل مدينة من المدن الأربع التي ذكرناها فيما سبق فإنه كان يصبح ثور هذه المدينة. وعلى الرغم من ذلك فإن كل ثور كان يحتفظ لنفسه ببعض شخصيته، وكان كل معبد — عدا معبد «أرمنت» على ما يُظن — فيه تمثال ثور، وهذا التمثال كان يمثله دون شك عندما يكون في جولاته في مكان آخر. وقد اقتُرِحَ أنه كان يزور كل بلدة من هذه البلاد الأربع مرة كل شهر، غير أنه على حسب ما جاء في لوحة «بطليموس السادس» التي تحدثنا عنها آنفًا، يظهر أنه قد أمضى عشر سنوات في «طيبة»، يُضَافُ إلى ذلك أنه لم يكن الإله الرئيسي لأية بلدة من هذه المدن الأربع، ولم يُشَرْ إليه أبدًا بأنه رب «طيبة» أو «المدمود» أو حتى «أرمنت» التي كان يُعْبَدُ فيها، ولكن كان يُنْعَتُ فقط بأنه رب بيت «آتوم»، وهو الاسم القديم لمعبد البوخيوم.
ويظهر من البيانات الديموطيقية التي في متناولنا أن دخل معبد «أرمنت» حيث كان يشرف «بوخيس» (يظهر أن الحسابات كانت أكثر مما يحتاج إليه البوخيوم وحده)؛ كانت أكبر من دخل معبد «تبتونيس». فقد كان يوجد في معبده، كما كانت الحال في معبد «سبك» باللاهون في الدولة الوسطى عشرون موظفًا يتقاضون أجورهم بنظام، يُضاف إلى ذلك أناس آخرون كانوا يتسلمون أجورهم من كهنة مختلفين. ونخص بالذكر من بين هؤلاء العلافين، وهم بلا شك أولئك الذين كانوا يوردون الكلأ للثور؛ لأنه الطعام الأساسي لحفظ صحة الحيوان. وقد ذُكِرَتْ مادة ربما كانت جراية الغلة التي كانت تُقَدَّمُ للثور «بوخيس»، غير أن مقدارها كان يكفي غذاء لأي ثور مدة ثمانية أشهر؛ وحتى إذا سلمنا جدلًا أن جراية أم «بوخيس» كانت محسوبة ضمن هذه الكمية، وأن كلًّا من الثور «بوخيس» وأمه كان يأكل فوق طاقته؛ فإن الكمية التي ذُكِرَتْ كانت أكثر مما يجب. ولكن يحتمل أن «بوخيس» هذا كان له أولاد تأكل في حماه. وكذلك كانت هناك كمية كبيرة من النسيج يدفع ثمنها، ومن الممكن أن بعضه كان يُسْتَعْمَلُ في معبد «بوخيس» الحي. هذا، وقد سبق أن ذكرنا الراقص والموسيقيين الراقصين ﻟ «آمون» ومطربي المعبد.
مركز «بوخيس» بين الآلهة المصريين
لا نزاع في أن الباحث في مسألة مركز «بوخيس» من حيث سلطته الدينية بين الآلهة المصرية يجد نفسه في بحر لجي من الصعوبات؛ وذلك لأنه في الوقت الذي يستخلص منه معظم المعلومات عن هذا الإله، وكل المعلومات عن «بوخيس» بالاسم نجد أن آلهة إقليم «طيبة» قد أصبحت تكاد تكون مختلطة ببعضها بعضًا بدرجة لا يمكن حلها. وليس ذلك بغريب؛ فإن العلاقات المتبادلة بين الآلهة «آمون» و«مين» و«منتو» لم يمكن حتى الآن معرفتها بصورة قاطعة تجعل من السهل فصل الواحد منها عن الآخر، وذلك على الرغم من أن هذه الآلهة معروفة لنا منذ العصور المبكرة من تاريخ مصر. ويرجع السبب في ذلك — في أغلب الأحيان — إلى أن كلًّا من هذه الآلهة قد استولى لنفسه على صفات آلهة أخرى في أحوال سياسية واجتماعية على حسب مركز هذا الإله في نظر الملك الحاكم، وبحسب ما لكهنة هذا الإله من قوة وسلطان في البلاد.
وقد فسر لنا الأستاذ «فيرمان» — عندما تحدث عن ألقاب «بوخيس» — بعض ما وصل إليه في هذا الصدد. فقد برهن على أن «بوخيس» كان الممثل الدنيوي للإله «رع» إله الشمس. على أن صبغة اللون المضبوطة التي يمكن أن نراها من هذا البيان لا تزال يعتورها الشك فيما يتعلق بكل من «بوخيس» و«أبيس». وقد أعطيت تفاسير مختلفة لذلك؛ فقد قيل عنه: إنه الحياة الثانية والمظهر والممثل والمتقمص للإله، وأقدم مناقب «بوخيس» هي صفاته الشمسية ويمكن تأثرها، ويظهر أنها قد سبقت علاقاته بالإله «منتو». ومن الممكن كذلك توحيده بالثور الأبيض، ومن المحتمل أنه يرجع في نسبه إلى الوجه البحري، وقد يكون متناسلًا من الثور الأبيض الذي جاء ذكره على حجر «بلرمو». وتدل الوثائق على أن علاقة «بوخيس» بالإله «مين» كانت أقوى من علاقته بمعظم آلهة التاسوع، ولا غرابة في ذلك، فإن هذا ما كان يُنْتَظَرُ من إله يتصف بالخصب. ويلفت النظر أيضًا أنه في العهود المتأخرة كان قد أصبح مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا مع الإله «منتو» رب «أرمنت». وكان في هذا الوقت له عدة علامات متشابكة مع آلهة أخرى؛ فكان يتقمص ثامون الآلهة، كما كان يُدْعَى والدها وجدها.
- (١)
الروح الحية ﻟ «رع»: با عنخ (ن) رع.
- (٢)
الحياة المكررة ﻟ «رع» (على الأرض).
- (٣)
والذي يكرر حياة كل الآلهة (= وحم عنخ ن نترو).
- (٤)
والإله العظيم رب بيت «آتوم» (= نترعا-نب. حت أتم)؛ وعبارة «حت-أتم» معناها بيت «آتوم» أي معبد «البوخيوم».
ذكرنا — فيما سبق — أن الملك كان حاضرًا فعلًا أو بالنيابة أو بالمجاملة عند تنصيب «بوخيس» الذي كان بلا نزاع له مكانة عظيمة جدًّا ذات أهمية بالغة في أنحاء البلاد. ولكن دلت الوثائق على أن دخله قد نقص في منتصف حكم الملك «بطليموس الخامس»، ويؤكد لنا هذا حالة المقابر الخاصة به في تلك الفترة. غير أن ذلك — على ما يظهر — كان نتيجة للضرائب التي كان يفرضها الملك على الأهالي لمساعدته في حروبه الخارجية، ويمكن أن يرجع سبب ذلك أيضًا إلى أن كهنة «بوخيس» الذين أقحموا أنفسهم — بحكم الضرورة أو عن قصد وتدبير — مع الأسر التي قامت بالثورة في السنين الأولى من حكم هذا العاهل. وحوالي هذا الوقت حدثت سرقة غير أن ما نجم عنها من أضرار أُصْلِحَ فيما بعد. هذا، ونعلم أن «أرمنت» قد حاربت في صف الجانب الخاسر في خلال الاضطرابات التي وقعت بين «بطليموس السابع» و«كليوباترا الثانية»، ويُلْحَظُ أنه بعد انتهاء هذه الاضطرابات مباشرة كانت المقابر التي أُقِيمَتْ في البوخيوم قد بلغت الغاية من فقر الحال بدرجة محسة. وفي عهد الإمبراطور «تيبيريوس» ظهر انتعاش في مباني البوخيوم، وقد ظلت الحال كذلك حتى عهد الإمبراطور «كاراكلا».
وعلى الرغم من وجود مثل هذه التضرعات والتمنيات التي يقدمها الأفراد للثور «بوخيس»، فلا بد أن نعترف مع ذلك أن سبب قلتها يرجع على ما يظهر إلى أنه لم يحتل مكانة وثيقة في قلب الرجل العادي في مصر، وإذا كان هذا الدليل قد ظهر مبكرًا عن هذه الفترة، فإن ذلك يُعَدُّ برهانًا على أن «بوخيس» لم يكن الإله المحلي؛ وذلك لأن الآلهة المحليين هم الذين يبقى الناس على الولاء لهم على مر الأزمان، ولكن عندما بدأ يظهر «بوخيس» في الأزمان المتأخرة فإنه يكون من الخطر أن نستنبط أية نتائج. على أنه قد يمكن — إذا قامت حفائر في منطقة معبد «أرمنت» — ظهور آثار تدل على مثل هذا التعبد، أو أن الدفنة الأصلية له إذا عُثِرَ عليها يمكن قرنها بالسرابيوم في هذا الصدد.
وكان الثور «بوخيس» أثناء حياته يلبس تاجًا كالذي كان يلبسه بعد الموت؛ غير أنه كان على ما يحتمل أكبر حجمًا وأمتن صناعة. ويحتمل أن القرص وإطار الريش اللذين كان يلبسهما كانا مصنوعين من ورق من الذهب بدلًا من الخشب المذهب. يُضَافُ إلى ذلك أن التطعيم الذي كان في الريش مصنوعٌ من اللازورد بدلًا من الزجاج. ومن الممكن أن «بوخيس» كان يرتدي شبكة من نسيج ما بقصد إبعاد الذباب عنه، وكانت الأحفال التي تُقَامُ له — كما شاهدنا من الأوصاف التي جاء ذكرها في الأحفال الرسمية التي كانت تقام له أثناء ذهابه من «طيبة» إلى «أرمنت» بعد تنصيبه — غاية في البهجة والعظمة. فقد كان يصحبه الكهنة والموسيقيون وحاشية عظيمة. هذا إلى أن هذه الأحفال كانت مصحوبة بمظاهر الفرح العميم — على الأقل — بصفة رسمية.
والآن يبرز أمامنا سؤال هام عن عزوبية الثور «بوخيس». وليس لدينا برهان مباشر على أن «بوخيس» كانت له أية رفيقة، ولكن تقوم في وجه ذلك معارضة كبيرة لأسباب دينية.
وعلى أية حال فإن أول اتجاه يجب أن نولي وجوهنا شطره للحصول على بعض البراهين التي تدل على وجود صاحبة للثور «بوخيس»؛ هو البقرات المقدسات، وبخاصة البقرة «حسات» التي كانت تُعْبَدُ في بلدة «أطفيح» (= أفرو ديتوبوليس)، غير أنه ليس لدينا أي أثر يدل على وجود شيء من هذا، ولذلك فإن مثل هذا الفرض لا يجد ما يبرره. وفي عالم الروحانيات توجد اقتراحات بأن «حتحور» كانت صاحبة «بوخيس»، غير أن ذلك لا يساعدنا في شيء في عالم الماديات.
وبمقدار هذه الاعتبارات التي تجعل ما ذكره «اليان» مستحيلًا، فإنها من جهة أخرى تزيد في قيمة ما ذكره لنا المؤرخون الآخرون، وعلى ذلك فإن «أبيس» كان له زوج، أو بعبارة أصح كانت تقدم له عجلة كل عام، ولكنها بعد أن يأتيها كانت تُذْبَحُ؛ وذلك لأن القانون المصري كان لا يرغب في أن يخلد «أبيس» نفسه.
والسبب الذي أعطاه «مريت» عن قبوله رواية الكتاب الكلاسيين باستثناء المؤرخ «اليان» — وذلك بسبب صعوبات ولادة عجول — صحيح، غير أن «مريت» لم يلتفت إلى جبانات البقرات، وعلى ذلك لم يشر إلى أن هذا التفسير يحل كذلك مسألة التصرف في الزوجات. فإذا كان كل من «أبيس» و«بوخيس» لم يكن متزوجًا، ولكن كان يؤتى له من وقت لآخر بعجلة تُذْبَحُ بعد أن يأتيها، فإن هذه العجلة لن تحمل أية قداسة؛ لأن مركزها كان لا يزيد عن كونها حظية، ولذلك فإنه بعد تضحيتها كان من الممكن أن يأكل الكهنة لحمها دون أي اعتراض. وهناك اعتراض واحد على قبول القصة التي رواها المؤلفون الكلاسيون، وهي أن مثل هذا العمل الذي يؤديه الثور، وهو ما يمكن تصديقه، أكثر من أنه يبقى أعزب؛ لا يكاد يتفق مع ما ينتظر من إله خصب. وعلى ذلك فإن قيام الثور في هذه الحالة بوظيفة فحل يمكن أن يكون نشاطًا محتملًا جدًّا (وتنقلات «بوخيس» تحبذ هذه النظرية)؛ غير أنه إذا لم يكن دليل آخر فلا بد لنا أن نقبل ما رواه الكتاب الكلاسيون عن «أبيس» وتطبيقه على «بوخيس» أيضًا.
النهاية التي كان يلقاها «بوخيس»
ولا نعرف أبدًا أية حالة قُتِلَ فيها الثور ليحل محله آخر يحمل كل العلامات المطلوبة، كما إنه في كل حالة نجد أن ولادة ثور جديد كانت قد سبقت موت سلفه. ومهما يكن من أمر فإنه من الممكن أن تاريخ ولادة الثور الجديد يكون قد لعب فيها الغش دوره على أيدي الكهنة.
يجب عليهم أن يتموا عمل محراب آخر، ويجهزوه بالكتان الأحمر. ويجب على كهنة هذا الإله أن يكونوا مجهزين برباط من الكتان الأحمر، ويجب على الكهنة الذين يرتدون كتان «سشد» أن يدخلوا المحراب المجهز بكتاب أحمر، وعليهم أن يدخلوا المحراب المجهز بكتان سشد، وهم مجهزون بالكتان الأحمر.
وبعد ذلك عليهم أن يحملوا سرير الراحة الذي كان تحت الإله. وعليهم أن يقطعوا أنفسهم ويحضروا اﻟ … ولا بد أن يؤسسوا … ويحضروها إلى المكان الذي نُصب فيه محراب الإله. ويجب عليهم أن يعملوا مسافة من مادة (فوق) السقف المصنوع من السرو الذي بجانب باب قصر الملك الذي يؤدي إلى الحظيرة المقابلة للجدار الجنوبي من مكان الثور «أبيس» الواقع في الجدار الشرقي لبيت «قبح» (التبريد)، ويجب عليهم أن يفتحوا الباب الذي في الجدار الشرقي للحظيرة، ويخرجون من هذا الباب كما وجدوه في السنة الرابعة والعشرين من عهد الفرعون «رعمسيس الثاني»، وذلك من الباب المبني بالحجر الموجود في الجدار الغربي للحظيرة، وهو الذي خرج منه (أي الثور) في السنة الثانية عشرة من عهد الفرعون «إبريز».
ويجب عليهم أن يدخلوا للإله من باب الحظيرة في حين تقف الكاهنات خلفه.
ويجب عليهم أن يدونوا نقشًا على الجدار الغربي للحظيرة التي في الممر.
ويجب أن يُقَامَ جوسق في اليوم الأول على شاطئ بحر الملك بعد أن يكون قبره قد جهز بنسيج، وستكون تعاويذه على حسب اللفافة المذكورة أعلاه، ويجب أن يكسوها أولًا بنسيج مقدس طوله ثمانون ذراعًا كما يأتي: عشرون ذراعًا في مكان … ٦٠ ذراعًا في كل من أركان الجوسق الأربعة. ويجب عليهم أن يدخلوا إلى المكان الغربي أولًا بعد أن يكون قد خرج من المكان الشرقي. وعليهم أن يحضروا اﻟ … إلى المقصورة، ويجب عليهم أن يحضروا طرف الحبل بأيديهم إلى التابوت ويجروه إلى الخارج. وعلى الكهنة أن يجروه إلى الداخل، وعلى كل الناس أن يصيحوا صيحة حزن عظيمة، ويبكون على إله البيت العظيم، وعلى الكهنة أن يأخذوا طرف الحبل من يد (الآحاد الكبار لبيت) إله النيل.
- (١)
تعليمات لرحلة اليوم الأول.
- (٢)
حماية قارب «نشمت».
- (٣)
حماية «بوتو».
- (٤)
تصميم وجهك.
- (٥)
تأليه «أوزير» المغرق.
- (٦)
حماية القارب.
- (٧)
طرد «أبيب» (إله الشر).
- (٨)
الحظ السعيد.
- (٩)
فتح الفم.
ويجب عليهم أن يذهبوا إلى الجوسق للإله، ويفتحوا فمه في أماكن الجوسق الأربعة وحدهم تمامًا. ويجب أن يؤدوا له كل الأحفال التي في الشعائر. ويجب عليهم أن يجعلوا الإله يدخل باب مكان التحنيط. ويجب أن يُقاد هذا الإله إلى باب بيت الأفق إلى قاعة مكان التحنيط. والآحاد العظام لبيت إله النيل يجب عليهم أن يلقوا لبنات أمام التابوت لأجل ألا يمكنه الذهاب إلى مكان التحنيط. ويجب على الكهنة المرتلين والكهنة أن يجروه، ويجب على الكاهن المطهر أن يأخذ المحاريب من أيدي الكهنة الذين يحملونها. ويجب عليهم أن يجعلوه يرتاح في السرادق، ويجب على الكاهن المرتل أن يفك مادة التابوت، ويجب على الكاهن المرتل أن يبرز، ويجب عليه أن يغطيه ويزينه، ويجب عليهم أن يؤدوا شعيرة فتح الفم له بجميع ما يلزم لها، وبعد ذلك يجب على كهنة البحيرة والطريق (؟) والكاهن المرتل أن يجمعوا كل الأشياء التي يحتاجون إليها في حجرة التشريح.
هذا، ولدينا معلومات أخرى معروفة عن التحنيط. ولا نزاع في أن «ورقة أبيس» التي ترجمناها هنا لا تقدم لنا إلا وصفًا غير كامل؛ هذا فضلًا عن أن المتن مليء بالأخطاء، غير أن بعض الأجزاء قد وصفت وصفًا كاملًا. وفي الأماكن التي كان من الممكن أن تعادل البيانات التي جاء فيها بما جاء من نتائج حفائر البوخيوم التي عُمِلَتْ في أرمنت؛ وُجِدَتْ مطابقة كبيرة بين المصدرين.
وطريقة التحنيط التي كانت مستعملة هي الطريقة الثانية التي جاءت في «هردوت». وقد عُثِرَ على مجموعة كاملة من الآلات التي كانت مستعملة في هذه العملية في البوخيوم، وكان الثور يُرْبَطُ بلفائف بدقة وإتقان، وفيما بعد كان يُرْبَطُ في رقعة من الخشب بأربطة ذات دثر مثبتة في الخشب، وكان الرأس يُجبس، ثم يُغَطَّى الجبس بورقة من الذهب. وكان يربط — بين قرني الثور — نسخة طبق الأصل من التاج الذي كان يرتديه الثور في حياته، ومن المحتمل أنه كان بحجم أصغر، وهذه النسخة كانت مصنوعة من الخشب، ومغطاة بورقة من الذهب، في حين أن أزغاب الريش التي كانت في التاج قد صُنِعَتْ من الزجاج الأزرق.
ومن المحتمل أن العينين كانتا تُصْنَعَان — على ما يظن — قبل مرحلة وضع الجبس. ففي بادئ الأمر كانت العينان تُنْحَتَان من الحجر، وتثبتان في مقابض من البرنز، وفيما بعد كانت تُصْنَعُ من زجاج مثبت في مقابض من البرنز، وفي النهاية كانتا تصنعان جميعًا من الزجاج. وأجمل الأمثلة التي عُثِرَ عليها كانت تُصْنَعُ من قطع منفصلة من الزجاج المختلف الألوان، وفي النهاية كانت العين لا تمثل إلا بقطعة من الزجاج الشفيف اللون مع طلاء ذي لون أسود يمثل إنسان العين. ومن المحتمل أنه في حالة الموميات التي ليس لها أعين صناعية كانت العين تُصَوَّرُ بألوان على كتان …
ومن المحتمل أنه في حالة التوابيت التي كانت تتألف من قطعة واحدة من الحجر كانت المومية تُوضَعُ في تابوت قبل أن ينزل الأخير في القبر، غير أنه في أمثلة الدفن التي كانت تحتوي على عدة توابيت حجرية كان العكس هو الذي يحدث. وفي عهد الملك «نقطانب الثاني» كانت الحجرة الجنازية والاستعدادات تُعْمَلُ على نطاق أوسع وأفخم عما كانت عليه فيما بعد. فقد كان لثور «نقطانب الثاني» تابوت من الجرانيت في حجرة مكسوة بالحجر وبجانبها قبوة للقربات، وفيما بعد كانت قبور «بوخيس» تُنْحَتُ في الصخر، وعلى الرغم من وجود ردهة أمامية، فإنها لم تكن تُسْتَعْمَلُ للقربان؛ بل كانت تحتوي على المنزلق الذي ينحدر منه التابوت الذي كان يجر إلى القبر. وفي العهد الذي جاء مباشرة على أعقاب عهد «نقطانب الثاني» أي في حكم كل من «أخوس» و«أرسس» و«الإسكندر الأكبر» و«الإسكندر الرابع»؛ دُفِنَ ثوران، غير أنهما لم يُدْفَنَا في توابيت. وفيما بعد كانت تُسْتَعْمَلُ التوابيت المصنوعة من حجر واحد، غير أنها كانت من الحجر الرملي. ويُلْحَظُ أنه قد حدث تدهور سريع في النصف الأول من عهد «بطليموس الخامس» في صناعة التوابيت؛ إذ كانت وقتئذ تُنْحَتُ التوابيت من نوع رخيص جدًّا من الحجر. وحوالي منتصف النصف الأول من عهد الإمبراطور «تبيريوس» حدثت نهضة جديدة في العناية بالثور «بوخيس»، فقد كشفت أعمال الحفر عن تابوت منحوت نحتًا جميلًا ﻟ «بوخيس»، وقد ظلت هذه العناية مرعية حتى عهد الإمبراطور «كاركلا». وبعد هذا العهد انقطع استعمال التوابيت المصنوعة من الحجر. وقد لوحظ أن آخر ثورين دُفِنَا في ممر في البوخيوم، والثور الذي قبل الأخيرين كان قد دُفِنَ في قبوة للدفنة العاشرة، وهي دفنة ثور «نقطانب الثاني».
ويلفت النظر أنه في كل الدفنات عدا دفنة ثور «نقطانب الثاني» كانت القربات والأثاث نادرة. فكان في هذه الدفنة جرة «نمست» منقوشة باسم «بوخيس» لأجل الملك، وقنانية منقوشة من الشبة وإناء «كبح» من الشبة، وتمثال «إبيس» من الخشب المذهب على زحافة، وابن آوى مصنوع من خشب ملون. ومن الممكن أن الأخير كان واقفًا على صندوق، ويشبه أبناء آوى المصنوعة من الفخار في السرابيوم. وفضلًا عن ذلك كان يوجد مع الثور دون شك القربات التي كانت تتألف من مصابيح وبخور ومائدة قربات من الجرانيت، كما كان يوجد بطبيعة الحال اللوحة الرسمية، وكانت كل لوحة توضع مستندة على سدادة قبرها، وترتكز على لوح من الحجر، وكانت توجد واحدة دون شك لكل قبر في البوخيوم، وكان يُدَوَّنُ — على كل لوحة — الحوادث الهامة في حياة الثور؛ أي ولادته وتنصيبه وموته، وفي العادة كان يُذْكَرُ عليها مدة عمره. وكانت هذه الحوادث يعبر عنها باعتقادات ملؤها الإيمان بفخار حياته في عالم الآخرة. وفي غالب الأحيان كان يسجل على هذه اللوحة بعض الحوادث الأخرى التي وقعت في حياته، هذا وقد رتب الأستاذ «فيرمان» لوحات الثور «بوخيس» في خمسة أنواع على حسب صيغها:
موائد القربان في مدافن «بوخيس»
وكذلك وُجِدَتْ كميتان من عطور المر والبخور موردة لمعبد البوخيوم على دفعتين بتاريخ لم يكن من الممكن فيه حدوث دفن ثور. وكان من الممكن أن يُقَرَّبَ المر والبخور في مباخر في المصابيح التي عُمِلَتْ لهذا الغرض، ولكن النطرون والماء الملح كان كل منهما يُصَبُّ على مائدة القربان. أما المصابيح العالية التي عُثِرَ عليها خارج المقابر فمن الجائز أنها كانت للقربات أو لمجرد الإضاءة. ومن الجائز أن ممرات البوخيوم كانت تفتح أبوابها في مناسبات خاصة لعامة الناس كما كانت الحال في السرابيوم، وعندئذ كان يحتاج للمصابيح لإضاءة كل من اللوحة التذكارية والمكان الخاص لتقديم القربات. وكانت توجد كذلك قربات تؤكل، وهذه كانت بعد أن تُقَرَّبَ رسميًّا للثور تصبح ملكًا للكهنة الذين كانوا يأكلونها. وكان جزء من الدخل الكهني يتألف من مثل هذه الهبات.
كهنة البوخيوم وعددهم
وعلى أية حال فإن هذا الجسم المقصود هنا كان قد حُنِّطَ، وأنه لم يكن مطلوبًا من أجله غير الخدمات الخاصة بالبوخيوم.
ومن المحتمل أن الكاهن «أحمس» بن «سمنديس» الذي ورد ذكره فيما سبق هو أحد كهنة البوخيوم الأول إن لم يكن أولهم. ولم نجد أية آثار تدل على وجود مكان للكهنة إلا بقايا مبنى عديم الأهمية جدًّا في داخل جدار حرم المعبد، يُضَافُ إلى ذلك أن المباني التي كانت تُقَامُ فوق البوخيوم كانت كذلك لا قيمة لها، والظاهر أن كل الوظائف الكهنية كانت تؤدى في معبد «أرمنت»، وأنه لم يكن في البوخيوم أكثر من الحرس إلا الشيء اليسير. وتوجد بقايا ما يمكن أن يُطْلَقَ عليه مساكن الكهنة في قرية البقارية الرومانية. وكان الكهنة يُدْفَنُونَ على الأقل في خلال العهد المتأخر من حكم البطالمة في الجبانة رقم ٤٠٠، وتقع في الجنوب الغربي للبوخيوم بالقرب من جدار حرم المعبد، وهذه الجبانة قد نُهِبَتْ نهبًا ذريعًا، ولكن بقي لنا قبر أو قبران لم تمسهما يد اللصوص. ويُرى في متاحف العالم المختلفة توابيت من الورق المقوى في المقابر المنهوبة. وكان الكهنة يُدْفَنُونَ مع أقاربهم في أضرحة أسرية. وكانت تُسْتَعْمَلُ وقتئذ توابيت مصنوعة من الفخار، وكانت تُغَطَّى كل مومية بكرتون ملون. ولم يوجد لقب كاهن «بوخيس» إلا على واحد من هذه الكرتونات، وهو محفوظ بالمتحف البريطاني برقم ٦٩٦٩. أما سائر الكرتونات التي كُشِفَ عنها فكانت إما قد أصابها التلف بصورة بالغة، فلم يكن من المستطاع معرفة صاحبها، أو أن القسم الذي فيه النقش الذي يحتوي على اسم صاحبه وألقابه قد ضاع.
نطق: يا أوزير المحنط ﻟ «أوزير بوخيس»، و«حب إب رع» المبرأ. أن «أنوبيس» الذي في لفائفه. سيد «تاجسر» (الأرض العالية = الجبانة) يأتي إليك ليمنحك دفنة «طيبة» في غربي «طيبة». والكاهن الذي ذُكِرَ اسمه هنا قد جاء اسمه على مائدة قربان من البقارية. ويمكن تأريخ الورق المقوى الذي يغطي تابوته بحوالي ٦٠ق.م.
ويُلْحَظُ أن البوخيوم في العصر الروماني المتأخر كان في تدهور مستمر يشبه ذلك التدهور الذي كان يحدث في معظم الفنون والعادات المصرية القديمة. وتوجد بعض الأدلة على أنه في هذا التاريخ كانت أم «بوخيس» قد أخذت تحتل مكانة أكثر أهمية بالنسبة ﻟ «بوخيس» عما كانت عليه من قبل. واللوحة الوحيدة المنقوشة لبقرة يرجع تاريخها للإمبراطور «كوموديوس». وكانت البقرات في خلال كل العصر الروماني تُدْفَنُ في مقابر مبنية بناء حسنًا؛ فكانت قبواتها تُقَامُ بالآجر، غير أن ذلك يمكن أن يكون سببه فقط للفرق بين الصخر عند الموقعين. وأول مقابر أقيمت في البقارية هما دفنتان لبقرتين في قبوتين من اللبنات، وكانت كل منهما تحتوي على تابوت من الحجر الرملي، في حين أن الدفنة الثانية في البوخيوم لم يكن لها تابوت، ويُفَسَّرُ ذلك بأنه إذا كانت أم الثور الذي عاش في عهد «الإسكندر الأكبر» قد ماتت في خلال عهد «نقطانب الثاني»، وأن قبرًا كان قد بُنِيَ وقتئذ لها يشبه القبر الذي كان قد أُقيم لسالفتها.
والدفنات المبكرة في بقارية كانت عمومًا أفقر من التي كانت في البوخيوم، وأم الثور الذي عاش في عهد «نقطانب الثاني» قد أقيم من اللبنات، وعلى ذلك لم يكن لها قبوة من الحجر كالتي كانت لابنها، يُضَافُ إلى ذلك أنه لم يكن لها قبوة للقربات.
والدفنات التي من عهد البطالمة لم يكن فيها توابيت، وكانت الثيران تُدْفَنُ في حجرات منحوتة في الصخر نحتًا رديئًا كما لم تكن منتظمة الشكل. هذا، وقد عُثِرَ على موائد قربان في البقارية، وكذلك عثر على مصابيح تشبه التي وُجِدَتْ في البوخيوم، ولم يُعْثَرْ على لوحات غير اللوحة التي تُنْسَبُ إلى عهد «كوموديوس» وهي التي ذكرناها فيما سبق، وكذلك لوحة محفورة غير أنها ليست منقوشة من عهد «دقلديانوس» عُثِرَ عليها في دفنة منفصلة خارج البقارية. وقد تعرض البوخيوم في خلال كل تاريخه إلى تصدعات في السقف، وفي جدران كل من المقابر والممرات، ولم تنج البقارية من نفس هذه الكوارث، ويرجع السبب في ذلك إلى رداءة الصخر؛ إذ لم يكن في كل من الموقعين صالحًا لمثل هذه الأضرحة؛ وكذلك يرجع السبب جزئيًّا للكهنة الذين لم يتركوا مسافات كبيرة كافية بين المقابر إلا في الدفنات الأولى القليلة العدد. وقد عُمِلَتْ محاولات مختلفة لإصلاح هذه التصدعات في العهد البطلمي غير أنها كانت تعمل دون عناية ودقة.
وفي العهد الروماني بُذِلَتْ مجهودات حقيقية لمعالجة هذه التصدعات؛ ففي البوخيوم أُقِيمَتْ جدران قوية من الآجر ودعامات في الممر الجنوبي، وفي مقبرتين كانتا آيلتين للسقوط، وفي البقارية عُمِلَتْ كذلك إصلاحات متقنة؛ فقد أقيمت قبوة من الآجر في طول الممرين الشمالي والجنوبي باستثناء النهاية القصوى.
وهذا الكتاب الأخير يجب ألا يُخْلَطَ بينه وبين كتاب آخر بنفس الاسم ونفس المؤلف، وهو الذي سنشير إليه في كل هذا المقال باسم Le Serapeum de Memphis واسم هذا الكتاب بالكامل هو Le Serapeum de Memphis par Auguste Mariette Pasha publié d’après le manuscrit de l’auteur. Par G. Maspero, Paris 1882.