حكومة مصر في عهد الملك «بطليموس الخامس» وعلاقاتها الخارجية١
ذكرنا فيما سبق أن مصر في عهد الوصاية الأخيرة أخذت تفقد أملاكها في الخارج سراعًا
في
بحر إيجة، وكذلك رأينا أن «أنتيوكوس الثالث» قد استولى على «سوريا الجوفاء» وما لمصر
من
ممتلكات في فلسطين؛ غير أنه لم يقم بغزو مصر نفسها، مع أن الفرصة أمامه كانت سانحة؛
إذ
كانت مصر لا حول لها ولا قوة، وبخاصة عندما نعلم أن الحروب الداخلية كانت تفتت أوصالها.
وعلى أية حال فإن ما لدينا من معلومات تاريخية يمكن الاعتماد عليها لا تسمح لنا بأن
نقرر بصورة قاطعة في أي وقت انتهت حالة الحرب بين مصر و«أنتيوكوس»، ولكن من جهة أخرى
نعلم أن «فيليب الخامس» ملك «مقدونيا» الذي كان يطمع في أملاك مصر قد هُزم في
«سينوسيفاليس»
Cynoscephales على يد «كونكتيوس
فلامينوس»
Quinctius Flaminus محرر بلاد الإغريق، ومن
ثم أصبح لا حول ولا قوة له، وفي تلك الأثناء كان أسطول «أنتيوكوس» الثالث يتنزه على
ساحل آسيا الصغرى، وفي خلال ذلك الوقت أتت إليه مدن «سيليسيا» و«مالوس»
Mallos و«زفيريون»
Zephyrion و«سولس»
Soles و«أفروديزياس»
Aphodisias و«كوريوكوس»
Corycos و«سيلينوت»
Selinote خاضعة مستسلمة، ثم تلى هذه البلدان مدن
«ليسيا»، وهي: «ليميرا»
Limyra و«باتارا»
Patara و«أكزانتوس»
Xanthos، وبعد ذلك ولى «أنتيوكوس» وجهه شطر
«إفيسوس»
Ephesus حيث اتخذها معسكرًا عامًّا لجيشه،
وكانت منذ عهد «بطليموس الثالث» المحط الرئيسي لجنود مصر وأسطولها (١٩٧ق.م). وقد
أمضى
الشتاء فيها،
٢ ومن هناك أبحر بأسطوله للاستيلاء على «تراقيا» التي كانت منذ زمن طويل تحت
السيطرة المصرية (١٩٦ق.م). غير أن «فيليب» لم يحسب حساب الرومان في ذلك الوقت؛ إذ
كانوا
أصحاب قوة وبطش، كما كانوا أصحاب النفوذ في الشرق، وقد كان أساس سياستهم التقليدية
يتمثل في قول شاعرهم الوطني فرجيل:
٣
نضرب صفحًا عن المتواضعين، ونضرب المتعالين.
والواقع أن «أنتيوكوس» على الرغم من اندفاعه وقلة حزمه، فإنه قد حسب حساب الموقف الذي
كان فيه وقتئذ، ومن أجل ذلك سعى إلى مهادنة روما واتخاذ الحيطة لعدم مهاجمتها له.
ومن
ثم أرسل إليها — على ما يُظن — مبعوثًا من قبله أثناء إقامته في «أفيسوس»، ويقال
إن
مجلس شيوخ روما قابل هذا المبعوث بكل احترام كما تقتضيه الأحوال السياسية عندهم؛
وذلك
لأن نتيجة الحرب التي كانت مشتعلة نارها بين روما و«فيليب الخامس» كانت لا تزال معلقة،
ولكن بعد انتهاء موقعة «سينوسيفاليس» التي هُزم فيها «فيليب» هزيمة منكرة لم يكن
هناك
ما يدعو إلى عدم إظهار موقفهم الحقيقي مع «أنتيوكوس» فقد أعلنوا أن سياستهم تتمثل
في
حماية الضعفاء، وبوجه خاص مصر، وأنهم سيفرضون وصايتهم على أملاكها سواء أراد «أنتيوكوس»
ذلك أم لم يُرِدْ. ومن ثم نجد أن الرومان قد أرسلوا إلى «أنتيوكوس» أثناء إقامته
في
«ليزيماكوس» بعثًا من قبل مجلس الشيوخ؛ ليضع حدًّا للخلافات التي كانت قائمة بينه
وبين
«بطليموس الخامس»، وقد طلب مجلس الشيوخ الروماني فضًّا للنزاع بينهما أن يعيد
«أنتيوكوس» كل ما استولى عليه عنوة سواء أكان ذلك من أملاك «بطليموس الخامس» أم من
أملاك «فيليب» ملك مقدونيا، وقد وضع الرومان أسبابا لذلك؛ فمن ناحية «بطليموس» فلأن
مصر
كانت تحت وصاية روما، وأما من جهة «فيليب» فلأنه يكون ضربًا من السخف أن يجعل الرومان
«أنتيوكوس» يستغل النصر الذي أحرزه الرومان على «فيليب»، وقد أجاب على ذلك «أنتيوكوس»
بأنه لم يَأْتِ أمرًا منكرًا فيما يقوم به؛ بل الواقع أن كل ما فعله هو أنه استعاد
إرث
جده «سليوكوس نيكاتور»، وقد كان الأخير قد قهر «ليزيماكوس» واستولى على ممتلكاته
وكان
من بينها «كرسونيس» و«تراقيا» حيث يوجد فيها هو الآن. وقد كان «أنتيوكوس» يأمل في
أن
يتخذ «ليزيماكيا» مقرًّا لابنه «سليوكوس» الذي خلفه على عرش الملك فيما بعد، وقد
انتهى
الأمر بأن انقلبت المحادثات بين الطرفين إلى مشادة عنيفة؛ فطلب الرومان إلى «أنتيوكوس»
أن يوضح لهم الأسباب التي من أجلها أخفى عنهم بكل تكتم جولاته في آسيا الصغرى، وما
الذي
جعله يأتي إلى أوروبا بكل جيوشه البري والبحرية. يضاف إلى ذلك أن هذه المناقشة قد
سممها
حضور وفود بلاد «آسيا الصغرى»، الذين كانوا قد حضروا ليشتركوا في إعلان تحرير
الهيلانيين في الألعاب الأرخبيلية. وقد أجاب «أنتيوكوس» على شكايتهم بأنه يقبل أن
يكون
بينه وبينهم حكمًا في ذلك حكومة «رودس» لا حكومة الرومان، وقد أجاب الرومان الذين
كانوا
يميلون إلى معاضدة الهيلانية بأنهم يحرمون عليه أن يتعدى على المدن الحرة التي طلبت
معظمها حماية «روما»، وعندما سمع ذلك «أنتيوكوس» ثار ثائره، وأجاب بأنه لم يتدخل
في
شئون الرومان في إيطاليا، ومن أجل ذلك يجب عليهم ألا يتدخلوا في شئون آسيا، وعلى
ذلك
فإنه سيرد بمحض إرادته الحرية للمدن التي لها الحق في نيل حريتها، لا بالأمر الصادر
له
من «روما».
وفي خلال هذه المناقشة بدر منه تصريح أخرق؛ فقد أعلن للرومان بألا يهتموا بأمر
«بطليموس الخامس» لأنه سيرتب أموره معه على أحسن ما يكون، مدعيًا أن «بطليموس» كان
صديقه، وأنه يفكر في توطيد أسس هذه الصداقة بمحالفة أسرية، ومما لا شك فيه أن هذا
السبب
كان يعتبر ممتازًا في ظاهره، ولكن الرومان قد فهموا أن معنى ذلك هو اتحاد أعظم دولتين
في الشرق معًا؛ وهو إذن اتحاد مضاد لسياسة الرومان ومقاصدها التوسعية. يضاف إلى ذلك
أن
الرومان لم ينسوا أنهم قد خُدعوا من قبل، ومنذ تلك اللحظة نجد أنهم قد أخذوا يرقبون
شئون مصر عن كثب، كما أنهم أخذوا يرقبون أعمال «أنتيوكوس» وحركاته. وقد قيل إن كل
ما
فاه به «أنتيوكوس» عن مصر أثناء هذا النقاش كان متفقًا عليه بمقتضى معاهدة أُبْرِمَتْ
عام ١٩٨ق.م بعد موقعة «بانيون» مباشرة، وبمقتضاها نزلت مصر عن كل أملاكها في الخارج،
وذلك مقابل وعد بزواج «بطليموس الخامس» من «كليوباترا» ابنة «أنتيوكوس»، وقد ذكر
لنا
ذلك المؤرخ «سنت جيروم»، غير أن ذلك الخبر كان لا يخرج عن الحدث والتخمين، ومع ذلك
فإن
هذا الرأي قد اعتنقه بعض المؤرخين،
٤ ولكن المؤرخ «بوشيه لكلرك» يقول إن كلام «أنتيوكوس» كان سابقًا
لأوانه.
وعلى أية حال فإن هذا النقاش الذي كان يسوده عدم التفاهم قد قطع بشائعة كاذبة، ولم
يكن من المستطاع تفسير كنهها؛ فقد قيل: إن ملك مصر الفتى الذي لم يكن قد مصر على
بلوغه
سن الرشد وتوليه عرش البلاد فعلًا إلا فترة يسيرة قد حضره الموت، وبوفاته انقرضت
أسرة
البطالمة، وعندما وصلت هذه الشائعة «ليزيماكيا» أصبح الدبلوماسيون في حيرة؛ وذلك
لأنهم
صدقوا الشائعة دون أن يتكلموا في أمرها. وقد ادعى كل من الفريقين المتفاوضين أنه
قد علم
بالخبر، ولكن أحد المتفاوضين المسمى «كورنيليوس»
Cornelius وقد كان مكلفًا بمأمورية لدى الملكين
«بطليموس الخامس» و«أنتيوكوس» طلب أن يعطى مهلة صغيرة ليذهب لمقابلة «بطليموس»؛ وذلك
لأجل أن يصل إلى مصر قبل أن يتصرف أي إنسان في أي شيء فيها يخص عرش الملك، وذلك بوضع
ملك جديد عليه.
هذا، وكان «أنتيوكوس» في نفس الوقت يعتقد أن مصر ستصير ملكه إن هو احتلها في هذه
اللحظة، ومن أجل ذلك كان السوريون والرومان يسارعون إلى الوصول إلى الإسكندرية للوقوف
على مجريات الأمور هناك؛ فنشاهد «أنتيوكوس» يترك ابنه الثاني «سليوكوس» على رأس جيشه
البري لحراسة «تراقيا»، وركب هو متن البحر بأسطوله عازمًا على ألا يترك الرومان يتصرفون
في وراثة ملك البطالمة، غير أن «أنتيوكوس» عندما وصل إلى بلدة «باتارا» من أعمال
«ليسيا» في آسيا الصغرى علم بأن خبر وفاة «بطليموس الخامس» كان شائعة كاذبة من أساسها،
وعلى الرغم من ذلك نجد أنه لم ينزل عن تنفيذ مشاريعه دفعة واحدة، فصمم على البدء
بالاستيلاء على قبرص، غير أن أمرًا لم يكن في حسبانه قد وقع، مما عرقل تنفيذ خطته؛
وذلك
أنه قام عصيان في جيشه على ساحل «بامفيليا»، وقد زاد الطين بلة أن قامت عاصفة على
مسافة
مصب نهر «ساروس» أشاعت الفوضى في الأسطول، وبعد ذلك دخل «أنطاكية» بما بقي من أسطوله
وهو مهيض الجناح كسير القلب ذليل النفس.
٥
ولكن «أنتيوكوس» في العام التالي — ١٩٥ق.م — أخذ يستعيد ثقته بنفسه، وذلك بعد أن
عقد
محالفة مع مصر أبرمها في خلال فصل الشتاء، وقد ظن أنه بذلك قد ضمد جراحه التي خدشت
كبرياءه في السنة الماضية، وبذلك ظهر أمام الرومان بأنه ليس بالرجل الذي يرخي لساقيه
العنان أمام تهديداتهم الجبارة. وعلى إثر ذلك انطلق بجيشه وبأسطولين كبيرين من جديد
إلى
الدردنيل، وقد انضم إليه في «أفيسوس» القائد «هنيبال»
٦ الذي كان عائدًا من «صور»، وقد كانت خطته مقابلته في أنطاكية لبضعة أيام.
وقد حفل بضيفه الذي كان يُعتبر عدو روما الأول، ومن «أفيسوس» نزل في «كرسونيز»، وقد
قام
بأعمال في «تراقيا» كما نقض فيها أشياء كثيرة؛ فمن ذلك أنه قد حرر الهيلانيين الذين
كانوا رعايا تراقيا، كما قام بأعمال خيرية في صالح البيزنطيين وذلك بسبب موقع مدينتهم
عند مدخل الدردنيل، وانتهى به الأمر أن جعل الجالاتيين
Galates يتحالفون معه؛ تارة بتقديم الهدايا لهم، وطورًا بالتهديد،
وكان غرضه من ذلك أن يتخذ منهم جنودًا صالحين للحرب؛ وذلك لعظم أجسامهم وقوة
بنيانهم.
وخلاصة القول نجد أن «أنتيوكوس» قد عمل ما في استطاعته لإثارة الرومان عليه، دون أن
يضيف شيئًا لقوته البحرية ليستطيع مقاومتهم إذا قامت الحرب. وفي أثناء عودته إلى
عاصمة
ملكه عام ١٩٤ق.م أرسل من «أفيسوس» بعثًا إلى روما ليستطلع سير الأمور هناك، وبخاصة
مقدار تأثير تهديداته على مجلس الشيوخ، وكذلك ليناقش المسائل الملحة التي يتطلبها
الرومان، ويقدم من جديد الاعتراضات التي صيغت في «ليزيماكيا»، وقد طلب إلى البعث
التباطؤ في المفاوضات ومد أجلها؛ ليتسنى ﻟ «أنتيوكوس» في أثناء ذلك إتمام استعداداته
السياسية والحربية، وقد كان غرضه أن يحصل أولًا على عقد محالفات مع جيرانه وبوجه
خاص
الاستيلاء على مصر، أو على الأقل جعل حكومتها في جانبه؛ وبذلك ينتزع من الرومان نقطة
الارتكاز التي كانوا يعتمدون عليها في الشرق، وتدل شواهد الأحوال على أن «أنتيوكوس»
قد
توصل إلى جعل مصر في جانبه عن طريق المصاهرة. والواقع أن الأحوال كانت مهيأة له من
هذه
الناحية؛ فقد كانت له أربع بنات زوج إحداهن من ابنه الأكبر وتدعى «لاؤديسيا»؛ وبذلك
ضمن
خلافة الملك في بيته (عام ١٩٦-١٩٥ق.م)، وبقي عنده بعد ذلك ثلاث بنات أبكار، وقد كان
عزمه الذي وقف عنده هو أن يزوج ابنته الثانية وتُدعى «كليوباترا» من «بطليموس الخامس»،
وكانت الفرصة لذلك مواتية؛ لأن «بطليموس» لم يكن له أخت يبني بها على حسب القاعدة
المرعية في الأسرة، وفعلًا تم الاتفاق على أن يتزوج «بطليموس» من «كليوباترا» هذه
على
أن يكون مهرها هو — كما قيل — «سوريا الجوفاء» و«فنيقيا» و«سماريا» و«يهودا»، وكان
معنى
هذا الزواج أن السلام يصبح مضمونًا بين الأسرتين المالكتين، وكذلك تتقي الأسرتان
كل
تدخل أجنبي، ويقضي على آمال الرومان. وقد أخذت هذه الفكرة تتبلور شيئًا فشيئًا، ولقد
كان من الواضح أن «أنتيوكوس» كان قد فكر في هذا المشروع قبل تصادمه مباشرة مع الجمهورية
الرومانية، وأنه كان قد جس نبض حكومة الإسكندرية، وتحسس رأيها فيما كان قد عزم على
تنفيذه. وتدل الأحوال على أن عروضه في هذا الصدد قد لاقت قبولًا حسنًا، وصادفت هوى
في
بلاط الإسكندرية؛ لأنه بهذا التحالف الأسري كان سيرفع عن عاتق مصر نير الوصاية المزعومة
التي فرضها الرومان على «بطليموس الخامس».
ولكن يتساءل الإنسان هل هذا ما كان يقصده «أنتيوكوس» من هذا الزواج الذي لم يتم على
أرجح الأقوال إلا في عام ١٩٦-١٩٥ق.م؟ الواقع أن «أنتيوكوس» كان يضمر لمصر وأسرتها
المالكة أسوأ مصير؛ وذلك أنه أراد من زواج ابنته من «بطليموس الخامس» أن يقضي عليه
بالاشتراك مع ابنته «كليوباترا» وبذلك يتخلص من سلالة البطالمة؛ ومن ثم يستولي على
عرش
مصر الذي كان سيئول إلى ابنته «كليوباترا»، وليس هناك شك في أن هذه المشاريع السوداء
كانت تدور في خلد «أنتيوكوس»، ولكن سنرى أنه من سخرية القدر أن «كليوباترا» هذه الزوجة
المخلصة لزوجها قد قلبت لوالدها ظهر المجن، وقضت على آماله، وبرهنت على أنها زوجة
طاهرة
الروح مخلصة للبلاد التي اعتلت عرشها.
وقد كان الطعم الذي قدمه «أنتيوكوس» لحكومة الإسكندرية وهو «سوريا الجوفاء» أكثر
إغراء من عقد معاهدة سياسية، وقد كان هذا حافزًا مباشرًا لجعل الحكومة تقبل هذا الزواج
على الفور. وتدل الظواهر على أنه لم يكن هناك في بادئ الأمر سوء تفاهم في مواد عقد
الزواج، غير أنه فيما بعد قد ظهرت خلافات أدت إلى مناقشات امتد أجلها. والواقع أن
مواد
الزواج هذه لم تصل إلينا إلا عن طريق المعارضات والمناقشات التي وقعت بين الطرفين
المتعاقدين، هذا فضلًا عن أن المؤرخين الذي كتبوا تاريخ هذه الفترة لم يذكروها لنا،
ولم
يكن لديهم عنها صورة واضحة. على أن ما يُفهم من المناقشة التي دارت بين الطرفين هو
أن
«أنتيوكوس» لم يخطر أبدًا بباله النزول عن «سوريا الجوفاء» بصورة قاطعة لمصر، وقد
ذكر
لنا المؤرخ «جوسيفوس»
٧ اليهودي الأصل — وهو لا يُعتمد على آرائه كثيرًا لتحيزه — أن «أنتيوكوس» قد
نزل عن «سوريا الجوفاء» و«سماريا» و«فينقيا» بمثابة مهر لزواج أخته من «بطليموس الخامس»
غير أنه لم يضف كذلك أن دخل هذه البلاد يقسم بين الملكين. هذا، وقد اختلف في تفسير
كلمة
الملكين، فهل هما «أنتيوكوس» و«بطليموس» أم «بطليموس» و«كليوباترا»؟ وعلى أية حال
يؤكد
المؤرخ «بوليبيوس» أنه منذ واقعة «بانيون» حتى عام ١٧٢ق.م كانت كل هذه البقاع التي
ذكرها «جوسيفوس» تحت حكم ملك سوريا، ومن ثم نستنبط أن مهر «كليوباترا» كان عبارة
عن نوع
من الدخل لهذه البقاع، وبذلك يمكن القول أن السليوكيين الذين كانوا هم المالكين
الشرعيين لكل الأقطار التي كان عليها أن تدفع ضريبة بمثابة نوع من الرهن. ويقول المؤرخ
«بوشيه لكلرك»: إن الاستطراد الطويل الذي أورده «جوسيفوس» في هذا الصدد ليس إلا ترديدًا
لإحدى هذه المدائح التي أفسد بها المؤرخون اليهود المزورون الحقائقَ التاريخية في
العهد
الهيلانستيكي، وقد شجعهم على هذا جهلهم واتكالهم على جهل قرائهم.
٨
والحقيقة التي لا ريب فيها هي أن «أنتيوكوس» لم ينزل أبدًا لمصر عن هذه الأقاليم،
غير
أن هناك نظرية يمكن الإدلاء بها في هذا الموضوع: وهي أن النزول عن سوريا لمصر كان
مشروطًا فيما عرضه «أنتيوكوس» بشروط، ولكنها لم تُحقق، ومن ثم حل محلها ما يساوي
قيمة
المهر، وكان يدفع سنويًّا بصفة مؤقتة.
هذا، وكان «أنتيوكوس» يرتكن على أن تساعده مصر في أن يحصل على «آسيا الصغرى» على حساب
من تحميهم روما أكثر مما وعد بدفعه سنويًّا لمصر بمثابة مهر لابنته «كليوباترا».
غير أن
هذا المصدر قد أفلت من يده في اللحظة الحرجة من تاريخ حياته وهو ما كان يسعى إليه
بخطًى
واسعة.
وعلى أية حال احْتُفل بزواج «بطليموس» (إبيفانس) من «كليوباترا» في شتاء عام
١٩٣-١٩٢ق.م في بلدة «رفح»، وهي المكان الذي هُزم فيه «أنتيوكوس» منذ ربع قرن مضى
على يد
المصريين، وكأن «أنتيوكوس» قد أراد بالاحتفال بهذا الزواج في هذا المكان أن يمحو
العار
الذي كان قد لحق به وجعل أنفه في الرغام أمام العالم المتمدين، وقد دلت الأحداث على
أن
«أنتيوكوس» الذي كان يرغب في أن يُدخل مصر في حرب معه يشعل نارها على روما قد أخطأ
في
حسابه؛ ويرجع السبب في ذلك إلى أن بلاط الإسكندرية كان لا يرغب في عقد معاهدات إلا
إذا
كانت تجنح إلى السلم والمهادنة لا الحرب والمغامرة، وذلك لعلم القائمين بأعباء الحكم
أن
مصر لم تكن مستعدة لشن حرب في هذه الفترة الحرجة من تاريخها، ومن أجل ذلك فإنها لم
تكن
تقصد من الاتفاق الذي أُبرم بينها وبين «أنتيوكوس» إلا الحصول على مزايا مفيدة للبلاد
بالطرق السلمية، يُضاف إلى ذلك أن حكومة «بطليموس الخامس» لم تَرَ أية فائدة تعود
على
مصر إن هي ساعدت السليوكيين الذين كانوا دائمًا مناهضين لها على الرومان الذي كانوا
على
اتصال ودي معها منذ ما يقرب من قرن من الزمان؛ أي: منذ عهد «بطليموس الثاني»، وفضلًا
عن
ذلك فإن تماسك الأسرات الهيلانستيكية في وجه الجمهورية الرومانية التي كانت صاحبة
أغراض
توسعية كان لا يزال أمرًا خفيًّا، ولم يكن لدى حكومات الإسكندرية علاج لذلك. وإذا
أغضينا النظر عن هذه الآراء التي كانت لها نتائجها الخطيرة؛ فإنه كان في استطاعة
حكام
الإسكندرية أن يظهروا شيئًا من الاحترام أكثر من ذلك للرومان، وكان ينبغي عليهم أن
يقدموا ولاءهم لحليفهم في خلال الضائقة التي صيرت المملكة السليوكية في حالة عجز
لا برء
منه منذ الآن، وهكذا ترك الملك «بطليموس الخامس» صهره الملك «أنتيوكوس» يسير نحو
الهلاك
المحتوم له؛ ففي خلال الحرب التي دارت رحاها عام ١٩٢–١٩٠ق.م نجد أنه لم يخرج عن صمته
إلا عندما نراه يقدم معونة للرومان، ويطلب إليهم بألَّا يتراخوا فيما هم قائمون
به.
هذا ما فعله «بطليموس»، أما ما حدَّثنا به كل من «بوليبيوس» و«ديدور» في هذا الموقف
فيدل على أن «أريستومنيس» كان رجلًا حازمًا؛ لأنه عندما أخذ مقاليد الأمور في يده
قاد
الملك والمملكة بصورة تامة واحترام، وذلك يخول لنا أن نعتقد أن «أريستومنيس» لم يكن
في
وظيفته ليذكر الملك بالحياء والأدب، أو حتى ليجعله يفكر في أن سقوطه سيكون أول تأثير
في
اتباع السياسة الجديدة.
والواقع أن «أريستومنيس»
٩ عندما أخذ مقاليد الأمور في يده بادر بتتويج الملك، وفاوض في موضوع زواجه،
ونصح «بطليموس» بألا يُظهر عدم الاهتمام بأحوال «أنتيوكوس» صهره، وكذلك أفضى إليه
بأن
يُظهر في الوقت نفسه — بعض الشيء — استقلاله عن الرومان، وذلك عندما لاحظ أنه يرتمي
في
أحضانهم. هذا، ويحدثنا «ديدور» من جهة أخرى أن «بطليموس» كان في بادئ الأمر يحب
«أريستومنيس» كوالد وكمربٍّ أدار له سياسة البلاد بحكمة، ومن ثَمَّ لم يكن يفعل شيئًا
إلا بمشورته، ولكن فيما بعد أفسدت طائفة من المالقين أخلاق «بطليموس»، ومن ثم أصبح
يمقت
«أريستومنيس» الذي كان يتحدث إليه دائمًا في صراحة أكثر مما يجب؛ مما زاد في بغض
الملك
له، وحكم عليه بالإعدام وذلك بتجرع السم. وقد ذكر لنا المؤرخ «بلوتارخ» الحادث الذي
أغضب الملك، ومن أجله جعل «أريستومنيس» يتجرع السم؛ فاستمع لما قصه علينا هذا المؤرخ:
كان «أريستومنيس» مدير «بطليموس» قد رأى ذات يوم الملك يغط في نومه في حضرة أحد البعوث
فربت على كتفه ليوقظه، ومن ثم اتخذ المالقون من هذا الحادث فرصة بأن ذلك إهانة للملك،
وقالوا له: إذا كان على أثر كثير من الإجهاد والسهر قد تركوك وشأنك، فإنه يجب علينا
أن
ننبهك بصورة خاصة، ولن يكون ذلك بالربت على كتفك أمام مجتمع كبير كهذا، وعلى أثر
ذلك
أرسل الملك كوبة سم للوزير وأمره بتجرعها.
١٠
وخلف «أريستومنيس» المواطن «الأرجوسي» «بوليكراتيس» وكان قد لعب دورًا هامًّا في
موقعة «رفح» في عهد «بطليموس الرابع». وكان رجلًا طموحًا، غير أنه لم يكن كفءًا لهذا
المنصب الخطير، وسنرى أنه عمل على حتفه بظلفه أيضًا، والمعروف أنه قبل توليه مركز
الوزارة كان يشغل منصب نائب الملك في قبرص، وعند عودته حمل معه أموالًا طائلة جمعها
من
قبرص وقدمها للملك، وكان قد نزل عن وظيفة نائب الملك في قبرص «لبطليموس» بن «أجيساركوس»
Agesarchos حبًّا في التقرب من حظوة الملك، وقد عمل
«بوليكراتيس» كثيرًا من أجل إصدار قرار كان من نتائجه تحرير الملك تحريرًا شرعيًّا
وتتويجه قانونًا. ولقد كان من مصلحته أن يشعر الملك بأنه قد أصبح حرًّا من الوصاية،
وقد
اقتضت الأحوال أن يقبله «أريستومنيس» مساعدًا له، وذلك على الرغم من أنه كان مساعدًا
يمكن أن يصبح منافسًا؛ بل قد ينقلب يومًا ما إلى عدو.
وقد حدث فعلًا أن تخلص «بوليكراتيس» من «أريستومنيس»، وبعد ذلك سار على عكس ما كان
يسير عليه سلفه، والظاهر أنه كان ناصحًا للملك بالصورة التي تتفق مع أهوائه وميوله،
فبدلًا من أن يحد من كسله وخموله النفسي — وذلك على الرغم من ميله الشديد للألعاب
الرياضية — فإنه قد تركه وشأنه يشبع نهمه من ملاذ الحياة والشهوات من النساء، يضاف
إلى
ذلك أنه بعد موت «أريستومنيس» أخذ «بطليموس» يزداد يومًا بعد يوم في وحشيته وقسوته؛
إذ
نجد بدلًا من أن يقوم بأعباء مهام سلطته الملكية نراه قد مال إلى ارتكاب الأعمال
الوحشية التي كانت لا بد كامنة في قرارة نفسه مما جعله ممقوتًا عند المصريين إلى
درجة
أنه كان على وشك ضياع تاجه.
١١ وعلى أية حال فإن «بوليكراتيس» نفسه كان يضع لسيده هذه المثل السيئة بما
كان يقترفه هو من آثام، وفي ذلك يحدثنا «بوليبيوس»
١٢ فيقول: إنه بعد أن جمع مبلغًا عظيمًا من المال في السنين التي تلت تنصيبه
وزيرًا قد أصبح عندما تقدمت به السنون رجلًا فاجرًا؛ فقد أرخى لنفسه العنان في طريق
الموبقات والعيشة الخسيسة.
وليت سوء سمعته كانت منحصرة في داخل البلاد، بل تعدتها إلى السياسة الخارجية؛ فبدلًا
من اتباع سياسة المقاومة الحاذقة والاستقلال المحترم، وهي السياسة التي كان يسير
على
نهجها «أريستومنيس»؛ نجده قد خضع عن طيب خاطر لسياسة الاستسلام لإرادة الرومان، ولا
نزاع في أن «بوليكراتيس» كان هو الفرد الوحيد الذي يدير سكان السياسة المصرية في
خلال
الحرب التي شنها «أنتيوكوس» على مصر أخيرًا، وذلك بعد تردد ومفاوضات وأخذ ورد.
والواقع أن «أنتيوكوس» هذا كما هي سليقته كان منساقًا دائمًا وراء أطماعه وغروره،
ويرجع ذلك إلى ما كانت تغرقه به أذنابه من الملق الخسيس الذي كان يكيله له جنوده
الآتوليون، هذا فضلًا عن أنه كان مطمئنًا إلى بطولتهم الجوفاء، وقد بلغ به الغرور
إلى
درجة جعلته يعتقد أنه بمجرد وضع قدميه على أرض بلاد الإغريق يهب الهيلانيون بثورة
على
الرومان وعلى «فيليب المقدوني»، وبذلك تتاح له الفرصة للأخذ لنفسه بالثأر، وكذلك
اعتقد
أن لا داعي للقيام بتحضير استعدادات كبيرة للحرب. ومما يؤسف له أنه بمثل هذه الأوهام
التي كانت تداعب خياله الخصب نجده قد نزل بجيش غير كافٍ لملاقاة العدو على ساحل
«تساليا» في خلال شتاء عام ١٩٢-١٩١ق.م، والمدهش أنه لم يفقه لغلطته في الحال؛ بل
نجده
سدر في غيه وطيشه، فقد رأيناه وقد نسي نفسه في «كلسيس» واقعًا في مغامرة غرامية مع
أنه
كان في الخمسين من عمره، وقد انتهت هذه المغامرة بالزواج، وعلى أية حال لم يمض طويل
زمن
حتى واجهه سوء تصرفه بسرعة في ربيع عام ١٩١ق.م؛ فقد كان عليه أن يدخل في حرب مع
الرومان، وفي تلك الآونة نجد أن حليفي «أنتيوكوس» المرتقبين وهما ملك مقدونيا
و«بطليموس» ملك مصر أرسلا إلى «روما» يقدمان لمجلس الشيوخ مساعدتهما، وفي حوالي نفس
الوقت — عام ١٩١ق.م — كان قد وصل إلى روما سفراء من قبل كل من «فيليب» ملك مقدونيا
و«بطليموس الخامس»، وقد وعد الأول بمساعدة روما في الحرب التي شنتها على «أنتيوكوس»
بالمال والغلة، أما «بطليموس» فقد وعد بإرسال مبلغ من المال يبلغ ألف جنيه من الذهب
وعشرين ألف من الفضة، غير أن حكومة روما لم تقبل شيئًا من العرضين، وأرسلت شكرها
وامتنانها للملكين. هذا، ولما كان كل من «فيليب» و«بطليموس» قد وعد بقيادة جنودهما
إلى
«آتولي» وبالاشتراك في الحرب في جانب روما؛ فإن الأخيرة قد استغنت عن جنود «بطليموس»،
أما «فيليب» فقد أجابه مجلس الشيوخ والشعب الروماني بأنهم سيكونون شاكرين له لو مد
يد
المساعدة للقنصل «أسيليوس»
Acilius،
١٣ ومن هنا وجد «فيليب» الفرصة سانحة فانتقم بطريقته من حليفه الذي كان قد
تخلى عنه بحماقة فيما سبق.
وفي تلك الفترة نجد أن بلاط الإسكندرية الذي كان يُنتظر منه على الأقل أن يبقى على
الحياد، قد بحث عن فرصةٍ ليرتكب خيانة حقيقية أخرى؛ فقد طلبت حكومة مصر إلى «أنتيوكوس»
تنفيذ عقد الزواج الغامض في شروطه، غير أن الأخير قد أجاب على طلب مصر بقحةٍ تدل
على
الرفض التام، وعندئذ نجد أن حكومة الإسكندرية في العام التالي «١٩٠ق.م» — عندما علمت
بهزيمة «أنتيوكوس» في «ترموبوليس» على يد الرومان، وأنه جعل بينه وبين الرومان عرض
البحر الإيجي، متخيلًا أن أعداءه لن يجسروا على اقتفاء أثره في آسيا
١٤ — قد أرسلت إلى روما تهانيها وتجديد مساعدتها لها، وفعلًا ذهب سفراء من قبل
«بطليموس» و«كليوباترا» لتهنئة مجلس شيوخ روما بما قام القنصل «أسيليوس»
Acilius من طرد الملك «أنتيوكوس» من بلاد الإغريق،
وإجباره على سحب جيشه من آسيا الصغرى. ثم قالوا: إن الفزع قد انتشر في كل مكان لا
في
آسيا الصغرى وحسب بل في سوريا أيضًا، وإن مَلِكَيْ مصر على استعداد لعمل كل ما يسر
مجلس
الشيوخ. هذا، وقد اقترع مجلس الشيوخ على تقديم الشكر لملكي مصر، وأن يصرف مبلغ أربعة
آلاف أس — عملة رومانية — لكل من مبعوثي مصر. (راجع:
Li v. XXXVI,
41.)
وقد فطن مجلس شيوخ روما للغرض الذي كانت تسعى إليه حكومة الإسكندرية من سياسة عميقة
من وراء اندفاعها وإلحاحها في تقديم المساعدة لها؛ فقد كان يسعى كل من ملك مصر وملكتها
أن يكون تحمسهما ذات اعتبار في نظر الرومان، ومن ثم يكون لهما نصيب في الغنيمة أو
بمعنى
أدق كانا يأملان أن يرد لهما ما اغتصبه «أنتيوكوس» من مصر، ولم يكن في الواقع محرمًا
عليهما أن يأملا في أكثر من هذا، غير أن مجلس الشيوخ قد اتخذ لنفسه خطة معينة وهي
عدم
قبول أية مساعدة مهما كانت منهما، وبعد أن رفضت الهدايا التي كان قد قدمها المبعوثون
لمجلس الشيوخ دفع الأخير لهم مصاريف السفر، ومن ثم يُفهم أن البعث المصري كان عديم
الجدوى. وقد شاهد «بطليموس» في الحال البرهان على ذلك، عندما أصبح «أنتيوكوس» مضطرب
العقل مبلبل الفكر يدفع به «هنيبال» من جهة، ويستولي عليه الرعب والجزع من جهة أخرى،
بعد أن رأى أسطوله يُهزم في «كوريكوس»
Corycos عام
١٩١ق.م وكذلك في «مينيسوس»
Mynnesos عام ١٩٠ق.م. هذا
بالإضافة إلى اقتراب جموع جيش الرومان منه، فنراه عندئذ قد أخذ يجند كل من كانوا
في
متناوله، بما في ذلك أهالي «كابودوشيا» الذين أرسلوا إليه زوج ابنته «أريارت»
Ariarthe والجنود المرتزقة الجلاتيين، وبعد ذلك أخذ
يخرب إقليم «برجام»، وفي الوقت نفسه عرض عليها الصلح، وهكذا أخذ «أنتيوكوس» يتخبط
إلى
أن اضطر أخيرًا إلى خوض غمار موقعة فاصلة في «ماجنيزيا»
Magnesie حيث هُزم هزيمة ساحقة عام ١٩٠ق.م، اضطر
بعدها «أنتيوكوس» إلى أن يستسلم لتمزيق أوصال إمبراطوريته، وبعد هذا النصر رأى مجلس
شيوخ روما بأنه لم يكن مضطرًّا إلى أن يضع ملك مصر ضمن أولئك الذين سيكون لهم نصيب
في
إمبراطورية «أنتيوكوس» المنحلة. والواقع أن الرومان لم يسارعوا إلى إبرام المعاهدة
التي
عُقدت بينهم وبين «أنتيوكوس» المغلوب على أمره إلا بعد عامين في بلدة «أبامي»، وكان
مجلس شيوخ روما في خلال تلك المدة يعد هذه المعاهدة على مهل وبروية، وكان نصيب الأسد
في
هذه الغنيمة للملك «أمينيس» والباقي استولى عليه أهل «رودس». هذا، ولما كان الرومان
هم
المحررين للهيلانيين؛ فإن المدن التي كانت في جانبهم قد أُخرجت من عملية التقسيم،
وبمقتضى هذا التقسيم أصبحت «كرسونيس» التي من أعمال «تراقيا» و«فريجيا» بقسميها،
و«ليكاوني»
Lycaonie و«ميزيا» و«ليديا» و«أيونيا»
Ionie و«إفيسوس» و«ترالس»
Trulles من أعمال «كاريا»، و«ميلياد»
Milyade و«تلمسوس»
Talmessos؛ ضمن أملاك مملكة «برجام»، أما
الروديسيون فقد استولوا على «كاريا» حتى نهر «مياندر»
Meandre عدا «تلمسوس» فإنها لم تكن في حوزتهم.
١٥
ومما هو جدير بالذكر هنا أن الرومان لم يطلبوا إلى «أنتيوكوس» إعادة أي شيء من
الأقاليم التي انتزعها من «بطليموس» الذي كان تحت وصاية الرومان، وقد لاحظ الرومان
من
حيث «سوريا الجوفاء» أن الاتفاق كان قد حدث بين «أنتيوكوس» و«بطليموس» منذ عقد الزواج،
ومن أجل ذلك فإنه لم يكن لها دخل في هذا الموضوع؛ لأن الرومان لم يشتركوا في هذه
القضية. وتدل الشواهد على أن الرومان رأوا أنه من الأصلح لهم أن يبقى هذا الإقليم
الذي
كان يُعد أغنى جزء في إمبراطورية «أنتيوكوس» في يده، وذلك لأن الرومان كانوا يعلمون
تمام العلم أنه بانتزاع هذا الإقليم لن يكون في مقدوره أن يدفع غرامة الحرب الهائلة
التي فرضها الرومان على «أنتيوكوس» لأنفسهم ولملك «برجام».
هذا، وكان يُوجد فرد يُدعى «بطليموس» يُحتمل أنه متناسل من أسرة «البطالمة»، ولكنه
ليس ملك مصر بل كان ملك قُطر «تلمسوس» من أعمال «ليسيا» وكان مجلس الشيوخ الروماني
ينظر
إلى هذا الملك نظرة ودٍّ ومصافاة، ولم يكن ذلك بالأمر المستحب في نظر بلاط
الإسكندرية.
وعلى أية حال لم يكن هناك ما يثير غيرة بلاط الإسكندرية من «فيليب» المقدوني الذي
كان
يرى في استيلائه على «كرسنوسيس» الواقعة في «تراقيا» من أحب الأشياء التي تصبو إليها
نفسه، ومع ذلك نرى أنه بعد أن تسابق هو و«بطليموس الخامس» في إظهار الخضوع والتزلف
إلى
روما لنيل نصيب من أملاك «أنتيوكوس» قد رجع كل منهما بِخُفَّيْ حنين.
هذا، ونجد بعد هذا النضال الطويل الذي قام بين مصر وأعدائها أو الطامعين فيها قد
أفقدها كل أملاكها الخارجية نهائيًّا عدا قبرص، وذلك دون أن يجسر «بطليموس الخامس»
على
تقديم أية شكاية لروما، ومنذ ذلك الوقت أصبح على أفواه الملوك والناس على السواء:
أن كل
الأمور الدولية مُعَلَّق مصيرها بروما، ومن ثم فإن مجلس الشيوخ الروماني كان ينظر
بعين
السخط والغضب إلى كل حركة سياسية لم يكن هو المقترح لها، وتدل الأحوال تمشيًا مع
ذلك
على أن «بوليكراتيس» لم يحاول التفاوض دون رأي روما مع بلد آخر إلا مرة واحدة، ومع
ذلك
فإنه لم يفلح في إنجازها، وتتلخص في أنه أراد على حسب تقليدٍ كانت تسير بمقتضاه السياسة
البطلمية أن يجدد تحالف مصر مع الآخيين الذين كانوا منذ زمن طويل حلفاء لروما أكثر
منهم
أصدقاء لها، وقد أرسل وزير مصر لهذا الغرض إلى بلاد اليونان — الأثيني المسمى
«ديمتريوس»
Demetiros. وقد أجاب الحلف على طلب مصر بأن
أرسل «فيلوبومن»
Philopoemen الذي كان الحاكم الحربي
للحزب وقتئذ من قبله إلى الإسكندرية المدعو «ليكورتاس»
Lycortas والد المؤرخ «بوليبيوس» وبصحبته اثنان من
مواطني «سيسوتيوس» وهما «تيوديريداس»
Theodiridas
و«سوسيتليس»
Sositeles لأجل أن يحلفا اليمين، ويحلف
الملك أمامهما اليمين — عام ١٨٦ق.م. غير أنهم وجدوا في البلاط الإسكندري أناسًا
في غاية
التحفظ والحيطة، وبخاصة لاحظوا أنهم كانوا معجبين بروما أو بعبارة أخرى كانوا يخشون
الرومان ويخافون لومهم على تبادل مثل هذا التحالف، وعندما رأى المبعوثون الآخيون
أنهم
قد أُثقلوا بالمجاملات الزائدة عن حد المألوف وبالوعود من قبل ملوك برجام وسوريا
ومصر
دب في أنفسهم عدم الثقة والشك، وخافوا أن يورطوا أنفسهم في عمل اتفاق، ومن ثم غادر
المبعوثون الآخيون الإسكندرية وبصحبتهم سفير مصري، وقد تحدث «ليكورتاس» أمام الجمعية
العمومية للحلف الآخي في «ميجالوبوليس» عن الأيمان التي تُبودلت بين مصر وبين الحلف
الآخي فيما يتعلق بصداقة الملك «بطليموس» وإخلاصه للحلف، ثم أضاف قائلًا إنه حمل
معه
بمثابة هدية ستة آلاف درع للجنود المشاة مصنوعة من النحاس، كما حمل مائتي «تلنتا»
من
النقود النحاسية، ولكن عند إعلان ذلك صاح ذلك الحاكم العسكري الجديد المُسمى
«أريستانوس»
Aristaenos سائلًا: ما هي المعاهدة التي
تُوجد بين المعاهدات العدة المُبرَمة من قبل الحلف، وهي التي بمقتضاها سيجدد التحالف
بين الحلف ومصر؟ وعلى أثر هذا السؤال ارتبك «فيلوبومين»، أما «ليكورتاس» فقد لزم
الصمت،
وعندئذٍ وقف «أريستانوس» الذي كان صاحب شهرة في الحلف لما له من ذكاء ومهارة، وتحدث
عن
المبعوثين بطلب إرجاء حل مسألة كهذه إلى ما بعد؛ لأنها كانت قد فُحصت فحصًا رديئًا
جدًّا (١٨٥ق.م)، ولكن لن تذهب إلى حد إعادة الدروع والنقود إلى الإسكندرية ثانية.
١٦
وتدل ظواهر الأمور على أنه في السنة التالية لهذا الحادث هبت نار ثورة جديدة في
البلاد طالب فيها المصريون بحقوقهم في حكم البلاد وبالاستقلال. وقد قضى «بوليكراتيس»
على هذه الثورة، ولعب «بطليموس الخامس» في إخمادها دورًا من أحط أدوار الغدر والخيانة
وعدم الوفاء بالعهد، ولا غرابة في ذلك؛ فقد كان بطبعه متوحشًا عاتيًا مما جعل المصريون
يخرجون عن طوقهم في شمالي البلاد وجنوبها.
ويدل استئناف العمل في معبد «إدفو» في العام التاسع عشر من حكم هذا العاهل الغاشم
على
أن الحالة في البلاد كانت قد أخذت تهدأ في الوجه القبلي — ١٨٧-١٨٦ق.م.
وتحدثنا الوثائق الديموطيقية عن إخضاع رؤساء الثورة — الذين كانوا يقيمون في إقليم
«طيبة» وأسسوا لهم ملكًا فيها. كما سنتحدث عن ذلك بعد — وذلك في عام ٢٠ من حكم هذا
الملك. وفي السنة التالية قام الملك ومعه زوجه «كليوباترا» وابنهما الذي أصبح وريثًا
لعرش البطالمة بزيارة معبد الفيلة لقيدما شكرهما في معبد «أسكليبيوس» الذي أهداه
هذا
الملك لإله الطب الذي ساعد على أن رُزقا ذَكرًا ليكون وريثًا للعرش. وقد أمر الملك
بنقش
مرسومين على جدرانه أحدهما خاص بتأسيس عيد تذكاري، وبإخضاع الثوار ومعاقبتهم، والآخر
على شرف الملكة «كليوباترا»، وسنوردهما فيما بعد. وإنه لمن الصعوبة بمكان أن نقرر
هنا
إذا كان الثوار الذين جاء ذكرهم في نقوش الفيلة كانوا هم ثوار الوجه القبلي أو هم
الذين
طاردهم «بوليكراتيس» في الدلتا، والواقع أن حكومة الإسكندرية قد قامت بمجهود جبار
في
إخضاع هؤلاء الثوار.
وتحدثنا المصادر الكلاسيكية على أن إخضاع هؤلاء الثوار كان على يد خصي يُدعى
«أريستونيكوس»، وتدل شواهد الأحوال على أنه كان زميل الملك في الطفولة في البلاط
البطلمي، وقد أرسل هذا الخصي إلى بلاد الإغريق؛ ليجمع من هناك جنودًا مرتزقين لتقوية
الجيش المصري الذي قام لمحاربة الثوار بقيادة الملك نفسه. غير أن الثوار لما رأوا
ما
أعده الملك للقضاء عليهم استسلموا طائعين، وفي ذلك يقول المؤرخ «بوليبيوس»: لقد ذهب
إلى
سايس رؤساء الأسر الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة مستسلمين بحكم الأحوال، وهم
«أتينيس»
Athenes و«بوزيراس»
Pausiras و«خيسوفوس»
Chesouphos و«إروباستوس»
Irobastos، وقد سلموا أنفسهم لرحمة الملك، غير أن
هذا الوغد الأثيم لم يَرْعَ للعهود التي كان قد قطعها على نفسه حرمة؛ بل أمر بوضع
السلاسل والأغلال في أعناقهم، وجرهم جميعًا عرايا خلف عرباته، وبعد ذلك صب عليهم
سوط
عذابه وقتلهم جميعًا: ثم ذهب بعد ذلك بجيشه إلى «نقراش» حيث تقابل مع «أريستونيكوس»
خصيه ومعه الجنود المرتزقين الذين أتى بهم من بلاد الإغريق، فضمهم إلى جيشه، وعاد
بطريق
البحر إلى الإسكندرية. هذا، ويقول «بوليبيوس»:
١٧ إن هذه كانت المرة الأولى التي ترك فيها «بطليموس الخامس» الصيد والقنص
ليقود جيشًا، وكان وقتئذ في الخامسة والعشرين من عمره. وهناك رأي يجوز الأخذ به هو
أن
الذي قام بهذه الحرب على الثوار هو «أريستومنيس» وأنه عند نهايتها دعا الملك ليكون
له
شرف النصر، وليكون له عار ما ارتكبه من نذالة وخرق للعهود مع الثوار الذين كان قد
أمنهم
على حياتهم.
ومن الجائز أن السبب الذي من أجله قوى «أريستونيكوس» الجيش المصري بالجنود المرتزقين
كان يرجع إلى رغبة الملك في استعماله لأغراض أخرى خارجية، غير أنه مما يؤسف له أننا
نجد
أن «أنتيوكوس» قد عاجلته المنية بصورة بشعة في عام ١٨٦ق.م، وذلك عندما لاقى حتفه
على
سوء ما اقترفته يداه من إثم وهو ينهب أحد المعابد في «إليمايد»
Elymaide ليدفع مما نهبه دينا متأخرًا للمحصلين
الرومان.
مصر وعلاقاتها الخارجية بعد موت «أنتيوكوس الثالث»
على إثر موت «أنتيوكوس الثالث» خلفه على عرش الملك ابنه «سليوكوس الرابع
فيلوباتور» عام ١٨٦ق.م، وقد كان عليه أن يحمل عبء ما تركه والده له من أخطاء ومتاعب
جمة، ومن أجل ذلك لم يكن في مقدوره إلا أن يعيش عيشة الضنك، وقد كان والده قد أشركه
معه في حكم البلاد في السنين الأخيرة من حياته، وذلك بعد موت ابنه الأكبر. ولا نزاع
في أن الفرصة كانت مهيأة لمصر بعد موت «أنتيوكوس» لتستولي على سوريا الجوفاء لولا
وقوف الرومان في وجهها، على الرغم من أنها كانت في الواقع حقها الشرعي. وعلى أية
حال كانت مصر تنتظر وجود سبب معقول للهجوم على سوريا الجوفاء والاستيلاء عليها
عنوة، وقد أخذت مصر تتطلع من وقت لآخر إلى ما وراء حدود بلادها. هذا، وقد رأينا
فيما سبق أن مصر قد حاولت تجديد محالفتها مع الآخيين، والواقع أنه لدينا نقش جاء
فيه أن مجلس «ليسيا» يفخر بإخلاص شخص يُدعى «بطليموس» يحمل وظيفة صياد الملك
الأعظم، وولائه للملك «بطليموس الخامس» وأخته وزوجه «كليوباترا» وأولاده وكذلك
لمجلس «ليسيا». و«بطليموس» هذا كان موظفًا مصريًّا عظيمًا.
١٨ وهذا النقش يجيز لنا أن نخمن أن مصر كانت تعاضد الليسيين في مقاومتهم
الروديسيين و«أتالوس» — ١٨٦–١٧٧ق.م. وقد كان قصدهم هو تمزيق المادة التي وردت في
معاهدة «أبامي» وهي التي كان بمقتضاها قد أصبحوا مثل الكاريين رعايا للروديسيين.
ومما هو جدير بالذكر هنا أن الليسيين كانوا يتحسرون على العهد الذي كانوا يتمتعون
في خلاله بالحرية تحت الحماية المصرية، غير أن مصر رأت أنها إذا ساعدتهم فإن ذلك
لن
يصادف هوى في نفوس رجال مجلس الشيوخ الروماني. ومن الغريب أنه عندما قامت مصر فعلًا
بمساعدة الليسيين، فإن ذلك لم يغضب الرومان الذين كانت سياستهم في الواقع إضعاف
الروديسيين وجعل الليسيين وكذلك الكاريين يتمتعون بالحكم الذاتي. وقد كانت غلطة
«بطليموس» في ذلك أنه أراد أن يقوم بهذه المساعدة من تلقاء نفسه دون أخذ رأي
الرومان.
ويُلحظ أنه في ذلك الحين كان قد أعاد «بطليموس» الكرة لعقد محالفة مع الحلف
الآخي، وكان غرضه أن يستعيد نفوذ مصر من جديد في بلاد الإغريق، كما كانت الحال في
العهد الذي كان فيه «أراتوس» مؤسس الحلف رئيسًا، فقد كان صديق البطالمة وعميلهم،
وقد كان وقتئذ في داخل الحلف الآخي شجار صامت بين الحزب الوطني الذي كان قد دب فيه
دبيب الضعف والوهن بموت «فيلوبومين»
١٩ «١٨٣ق.م» وبين أولئك الذين كانوا يريدون في كل لحظة تدخل «روما» في
الأحوال الهيلانستيكية، وقد كان أمل الآخيين الوطنيين أن يجدوا في مصر عونًا لهم
على مقاومة النفوذ الروماني في بلاد الإغريق التي أصابها الوهن والتمزق. ولما كانت
المحاولة الأولى قد فشلت فإن المحاولة الجديدة بدأت بعد اتفاق سابق. هذا، وكان
«بطليموس الخامس» على استعداد ليرتبط ارتباطًا وثيقًا مع جماعة الآخيين، ومن أجل
ذلك أرسل سفيرًا إليهم يخبرهم بأنه مستعد أن يقدم لهم عشر سفن كل منها تحمل خمسين
مجدافًا وكلها مجهزة بجهازها، وقد رأى الآخيون أن هذه الهدايا تستحق الاعتراف
بالفضل؛ ومن أجل ذلك استقبلوا الرسول المصري بالحفاوة والاحترام، والواقع أن ثمنها
كان لا يقل عن عشرة «تالنتات»، وعلى أية حال فإنه بعد التروي أرسل الآخيون بعثًا
مؤلفًا من «ليكورتاس» و«بوليبيوس» ومعهما «أراتوس» بن «أراتوس» مواطن «سيسيون»
Sicyone، وكانت مهمتهم شكر الملك «بطليموس» على
ما أرسله من أسلحة ونقود من قبل، وفي الوقت نفسه كان عليهم أن يتسلموا السفن
ويأخذوا علمًا بإرسالها.
هذا، وقد ختم «بوليبيوس» كلامه في هذا الصدد بصورة مقتضبة قائلًا: ومع ذلك فإن
هذا البعث لم يكد يتخطى الحدود؛ لأن «بطليموس الخامس» كان قد حضرته الوفاة في تلك
الأثناء.
٢٠
موت بطليموس وحالة البلاد بعد وفاته
مات «بطليموس أبيفانس» وهو في ميعة الشباب؛ فقد حضره الموت وهو لم يبلغ بعد
التاسعة والعشرين من عمره. والمظنون أن وفاته لم تكن طبيعية أمام العالم وقتئذ،
ومن
الغريب أنه لم تصل إلينا أية معلومات عن سبب وفاته فيما كتبه المؤرخ «بوليبيوس»
الذي كان معاصرًا له، وكل ما عرفناه عن وفاته وصل إلينا من المؤرخين المتأخرين
الذين جاءوا بعده؛ فقد قصوا علينا أنه مات بالسم الذي دسه له قواده في اللحظة التي
كان يتأهب فيها لمهاجمة «سليوكوس الرابع» ملك سوريا، وإن صح أنه قد مات بالسم فإن
ذلك كان جزاء وفاقًا؛ إذ قد قُضي عليه بنفس الطريقة التي قضى بها على وزيره
«أريستومنيس» الذي جرعه السم، وكان الغدر من شيمته. والواقع أن قواده كانوا يخشون
أن يطلب إليهم المساعدة بالمال بوصفهم سماره الذين كانوا يملكون القناطير المقنطرة
من الذهب والفضة، وبذلك يحرمهم مما جمعوه من مال كانوا قد اغتصبوه من الشعب الفقير
المعوز، والأغرب من هذا في نظرهم أنه كان سيستعمله في حرب على أقرب الناس إليه،
وأعني بذلك «سليوكوس الرابع» أخ «كليوباترا» زوجه، ومن الغريب أن هذا هو نفس ما
قيل
عن «سيلوكوس الرابع» عندما لاقى نفس المصير الذي لاقاه «بطليموس الخامس».
وعلى أية حال فإن البلاد لم تفقد بموت «بطليموس» شيئًا يدعو إلى الحزن والأسى،
وعلى الرغم من أن «بطليموس» كان يحمل لقبًا يعني أنه كان محسنًا فإنه كان صاحب مزاج
حاد قاسٍ، وقد أظهر استمرار قيام الثورة في داخل البلاد كما ألمحنا لذلك من قبل
أنه
لم يكن محبوبًا بين أفراد الشعب. حقًّا إنه أقام معابد جديدة، وأصلح أخرى كانت
مخربة كما سنتحدث عن ذلك فيما بعد عند شرح ما قام به من أعمال على غرار ما فعله
أسلافه، ولكن هذه الأعمال كانت تحتمها السياسة الداخلية في البلاد، ويدل مرسوم
«منف» الذي صدر في عهده على أن رجال الدين كانوا راضين عنه، ولكن هذا الرضى — كما
برهنت الأحداث — لم يكن إلا رضى مؤقتًا بسبب إعفائهم من الضرائب، وعلى ذلك فإن ما
ذكره رجال الدين من عقود مدح وثناء لم يكن بالشيء الجديد فتلك شنشنة نعرفها فيهم
من
قبل، ولا أدل على ذلك مما صاغوه لمن قبله من ملوك البطالمة من آيات المديح والإطراء
لنفس السبب. وعلى أية حال فإن ما ذكره الكهنة هنا كان في مناسبة سعيدة بالنسبة
للملك، وهي عيد تتويجه وعيد ميلاده، وفي تلك المناسبة كان ينفق الملك فيها عن سعة
وسخاء من أجل المظاهر الخارجية، ولكن لم يلبث «بطليموس الخامس» ورجال حكومته أن
أصبحوا في حاجة إلى سد التكاليف الباهظة التي كانت تتطلبها الأحوال، والتي اضطر
من
أجلها أن يؤجر دخل أملاكه الخارجية، وكان من جراء العجز الذي حدث بسبب ذلك أن رجع
الملك فيما كان قد نزل عنه من ضرائب من قبل. وقد رأينا أن الاضطرابات المالية —
وهي
التي تعزوها التقاليد إلى سلفيات بالقوة قد سببت موت «بطليموس الخامس» كما أسلفنا.
ولا نزاع في أن كل ذلك كان يفرض إسرافًا في غير موضعه، وكذلك يسبب فوضى وتصرفات
مالية خاطئة أدت إلى هذا الإجراء العنيف، وأعني بذلك: القضاء على حياة هذا الملك.
هذا، ويتهم المؤرخ «ديدور» الملك «بطليموس الخامس» بأنه سار سيرة المستبد لا سيرة
الملك؛ وذلك لأنه وإن كانت مصر بلدًا تعود على حكم الفرد، فإن الاستبداد كان معناه
في أغلب الأحيان عادة ابتزاز المال ظلمًا وعدوانًا. هذا، وما لدينا من معلومات عن
«بطليموس الخامس» يدل على أية حال أنه كان مشهورًا بالعنف، وهذه كانت صفة من صفاته
البارزة، ويقال: إن «بطليموس» هذا الذي كان والده فريسة لخلاعته ومجونه يمتاز بشيء
من النشاط البدني استعمله في الصيد والقنص والمبارزة، وكان انهماكه في مثل هذه
الرياضة هو الذي جعل النعاس يغشوه في الاجتماعات الرسمية بسبب شدة التعب. هذا، وكان
تواقًا للإصغاء لمن كان يمتدح أعمال البطولة التي كان يقوم بها في الصيد والقنص،
ولم يكن للمالقين والمتزلفين من حديث أمامه إلا ما قام به من بطولات في هذا
الميدان؛ فقد قص علينا «بوليبيوس» أن «فيلوبومين» قد استقبل على مائدته مبعوثًا
من
قبل «بطليموس الخامس»، وقد دبج المبعوث مقالًا طويلًا فاخرًا قاصرًا على مديح
«بطليموس»، اقتبس فيه ما يدل على جسارته ومهارته في الصيد والقنص، وكذلك عن علمه
وتجاربه في ركوب الخيل والمباراة، وأخيرًا أراد أن يثبت صدق مقاله بذكر مصدر جاء
فيه أن الملك وهو على ظهر جواده أردى ثورًا قتيلًا بطعنة من حربته.
٢١
ولا نزاع في أن «بطليموس الخامس» بأعمال فروسيته هذه يذكرنا بعظماء فراعنة مصر في
عهد الأسرة الثامنة عشر، نذكر منهم بوجه خاص «أمنحوتب الثاني» وما ترك لنا من نقوش
تدل على ما آتاه من ضروب الشجاعة في ركوب الخيل وإصابة الهدف والتجديف والصيد
والقنص، وكذلك «أمنحوتب الثالث» وما قام به من أعمال البطولة في صيد الأسود و«تحتمس
الثالث» ومغامراته في صيد الفيلة. ولا ندري ماذا حدى «ببطليموس الخامس» فجعله يسلك
مثل هذه الهوايات، ومن المحتمل أنه لما كان أول ملك تُوج على طريقة الفراعنة وأصبح
يقيم الشعائر على حسب النظم الفرعونية القديمة؛ فلا يبعد أنه أراد أن يقلد عظماء
الفراعنة في ميادين أخرى من التي كانوا يحبونها حتى يصبح بلاطه وحياته وعاداته
مماثلة لما كان في بلاط الفراعنة العظام. وقد رأينا «بطليموس» يهتم بأعمال البطولة
في الألعاب الأولمبية؛ فمن ذلك ما حدث مع «كليتوماكوس»
Clitomachus الإغريقي، و«أريستونيكوس» الملاكم
المصري؛ فقد كان الأول يُعتبر الملاكم الذي لا يُقهر، وقد ذاعت شهرته في كل العالم.
ولما كان «بطليموس الخامس» يتوق إلى القضاء على شهرته فإنه درب بكل عناية الملاكم
«أريستونيكوس» لمنازلته، وكان الأخير رجلًا وهبته الطبيعة قدرة عظيمة في هذا الضرب
من الرياضة البدنية، وعندما وصل «أريستونيكوس» إلى بلاد الإغريق نازل «كليتوماكوس»
الإغريقي في «أولمبيا» وأظهر الشعب الإغريقي انحيازه إلى البطل المصري وشجعوه؛ وذلك
ابتهاجًا منهم عندما رأوا أن هناك فردًا واحدًا على الأقل قد تجاسر على أن يقف في
وجه «كليتوماكوس»، وقد استمر النضال بينهما في حلبة الملاكمة، وظهر أن المصري
يعادله، وأنه في خلال الملاكمة ضربه ضربة أو ضربتين في الصميم، وعندئذ صفق له الشعب
تصفيقًا حادًّا، وأخذ الجمهور يصخب إلى درجة الهياج مشجعين «أريستونيكوس»، وقد قيل:
إن «كليتوماكوس» في أثناء ذلك كان قد انسحب لبضع لحظات ليسترد أنفاسه، وعندئذ التفت
إلى حشود الناس، وقال سائلًا إياهم: ما الذي يعنونه من تشجيع «أريستوماكوس»
ومساعدته بكل ما لديهم من قوة؟ فهل يعتقدون أنه لم ينازله تمامًا أو أنهم يعلمون
أن
«كليتوماكوس» لم ينازل من أجل فخار الإغريق، وأن «أريستوماكوس» كان يلاكم من أجل
«بطليموس»؟ فهل يفضلون أن يروا مصريًّا يقهر الإغريق، ويكسب التاج الأولمبي؟ أو
يسمعون أن «طيبيًّا» أو «بويوشيًّا» وقد أعلن الحاجب بأنه هو المنتصر في مباراة
الملاكمة؟
وبعد أن تحدث «كليتوماكوس» على هذا النحو قيل: إنه قد حدث انقلاب في شعور حشود
الشعب مما أدى إلى انقلاب الآية؛ فُهزم «أريستونيكوس» بما أبداه الشعب من تحمس ﻟ
«كليتوماكوس».
٢٢
وعلى أية حال فإن الشواهد تدل على أن ما كان يبديه «بطليموس الخامس» من ميل إلى
أعمال الشجاعة والفروسية برهن على أنه كان رجل حروب؛ غير أن «بوليكراتيس» لم يشجعه
على خوض غمار حروب ليسترد مجد مصر؛ بل يقال: إنه كان يعمل ذلك لمصلحته الشخصية من
جهة، وخوفًا من الرومان من جهة أخرى؛ لأنهم كانوا أصحاب قوة وسلطان لا قدرة لمصر
على مقاومتهما.
والواقع أنه لم يعد في مصر مكان لملك مستقل؛ لأن الأسرة المالكة قد أصبحت تحت
وصاية روما صاحبة السلطات في العالم المتمدين. حقًّا كان في مقدور ملوك البطالمة
الذين أتوا بعد «بطليموس الخامس» أن يكونوا مستبدين مع رعاياهم في داخل أرض
الكنانة، ولكن على شرط أن يكونوا تحت سيطرة الرومان في سياستهم الخارجية.
وعلى أية حال فإن هناك بعض الحقيقة فيما روي عن موت «بطليموس الخامس»؛ وذلك بسبب
ما نُسب إليه من أعمال الخيانة والغدر وعدم الوفاء منذ خمسة عشر عامًا من قبل في
حق
«أنتيوكوس الثالث» صهره، ولا نزاع في أن أرملته «كليوباترا» التي تُعد الأولى من
اللائي حملن هذا الاسم في التاريخ المصري ولعبن دورًا هامًّا في حكم البلاد؛ لم
يكن
لها يد في موت زوجها. نعم لقد لحظنا أنها لم تنظر بعين الرضى التام إلى الحروب التي
دارت بين زوجها وبين أخيها، غير أنه ليس لدينا ما يسوغ أنها كانت صاحبة ضلعٍ في
جريمة قتل زوجها، ولا حتى الموافقة عليها.
مميزات عصر بطليموس الخامس
الواقع أننا إذا ألقينا نظرة عامة على الأحداث التي وقعت في عهد «بطليموس الخامس»
والدور الذي لعبه هو فيها لأمكننا أن نستخلص النقاط التالية عن أخلاقه والأعمال
التي خلفها لنا بمثابة عنوان لعهده.
أولًا: يمكن التكهن بصفة أكيدة عما كان سيئول إليه مصير هذا الملك لو امتد به
الأجل، وبخاصة عندما نعلم أنه احتضر وهو في ريعان الشباب.
حقًّا إنه — كما قلنا — كان مولعًا بالصيد والقنص، وذلك على النقيض من والده الذي
قضى حياته في أحضان الخلاعة والمجنون بعيدًا عن مخالطة الشعب الذي كاد ينساه. ولا
نزاع في أن «بطليموس الخامس» كان من الممكن أن يوجه نشاطه الذي صرفه في الصيد
والقنص والرياضة إلى الحرب والدفاع عن مصر التي فقدت في عهده كل ممتلكاتها
الخارجية، والحق يقال: إنه لا يلام في ذلك؛ إذ يرجع كل اللوم على أولئك الذين نشأوه
في بداية حياته، وكان في أيديهم زمام حكم البلاد وهو لا يزال حدث السن غض الإهاب.
ولسوء الحظ لم تهيئ له الأحوال رجالًا مخلصين لإرشاده إلى الصراط السوي؛ بل كان
كل
منهم يسعى للعمل لنفسه على حساب هذا الطفل وعلى حساب مصر، سواء كان ذلك بجمع كل
السلطة في يده أو بجمع المال بأية وسيلة، أضف إلى ذلك أن بعضهم كان ينغمس في شهواته
وملذاته عندما يطمئن إلى أن السلطة قد أصبحت كلها في يده، وذلك على الرغم من سوء
الأحوال في داخل البلاد وبوجه خاص في خارجها، ولا أدل على ذلك مما كان يحيط بمصر
وإمبراطوريتها من طامعين فيها منذ تولي هذا الملك الفتى الذي لم يكن قد بلغ السادسة
من عمره؛ فقد كان «أنتيوكوس الثالث» يسعى إلى توسيع إمبراطوريته بابتلاع أملاك مصر
في الخارج، وفعلًا نجده قد تآمر مع «فيليب الخامس» ملك مقدونيا — وكان لا يقل عنه
شرها — لتقسيم مصر وأملاكها الخارجية. وقد كاد هذان العاهلان يقضيان على ملك
البطالمة فعلًا في الداخل والخارج لولا ظهور الجمهورية الرومانية ووقوفها بالمرصاد
في وجه هذين العاهلين. على أن الأخيرة لم تقم بعملها هذا كرمًا منها ومروءة؛ بل
لأجل أن تنصب نفسها وصية على ملك مصر الذي لم يكن قد بلغ بعد مبلغ الرجال ليتولى
الحكم بنفسه، بل حتى عندما بلغ سن الرشد لم تنفك روما عن ترك الوصاية عليه، وهكذا
ظلت روما تحتل هذه المكانة في مصر حتى آخر حكم البطالمة.
ومن جهة أخرى كان هناك خطر آخر عظيم يهدد كيان أسرة البطالمة نفسها، والإطاحة
بعرشها؛ وأعني بذلك الحروب الداخلية التي شبت في أنحاء البلاد على أثر انتصار
المصريين في موقعة «رفح» على «أنتيوكوس الثالث» عام ٢١٧ق.م؛ فمنذ هذا التاريخ أخذ
المصريون يشعرون بقوتهم وبعزتهم القومية، ومن ثم أخذوا يطالبون بحقوقهم التي كان
قد
اغتصبها الحكام الأجانب، وبخاصة ما كانوا يتحملون من الضرائب الفادحة التي كانت
تُفرض على كل شيء حتى على الهواء الطلق؛ ومن ثم قاموا بالثورة التي سنتحدث عنها
فيما بعد، في عهد هذا العاهل الفاجر الذي كان يريد أن يتمثل بأعاظم الفراعنة في
كثير من عاداتهم وطرق حياتهم في بلاطهم عن غير استحقاق أو جدارة.
فمن ذلك أنه أخذ يعيد استعمال بعض الألقاب المصرية القديمة في نظام بلاطه. حقًّا
كان بعض هذه الألقاب — التي كانت في الواقع ألقاب شرف وحسب — تُعطى قبل عصره، ولكن
نلحظ أنه منذ عهده أخذ يمنح ألقابًا أخرى مثل لقب «المعروف لدى الملك» أو «قريب
الملك» أو «السمير الوحيد»، وغير ذلك من الألقاب التي تدل على أنه أراد أن يقلد
الألقاب المصرية القديمة، وما ذلك إلا لأجل أن يظهر أمام الشعب المصري الأصيل بأنه
يريد إحياء ذكرى مصر القديمة من كل الوجوه، كما فعل ملوك عصر النهضة في عهد
الأسرتين الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين، ويُخيل إليَّ أن ما ذكره المؤرخون
من
أسباب أخرى عن ذلك تبدو في ظاهرها مقبولة، ولكن الفاحص المدقق في مجريات الأحوال
يجد أن «بطليموس الخامس» أراد أن يكون مصريًّا في كل مظاهر حياته من الوجهة
الدينية. وعلى أية حال فإن المصريين الذين قاموا في عهده ليدافعوا عن حقوقهم
المغتَصبة وبطرد هذا الغاصب من الديار المصرية لم ينخدعوا بكل هذه التجديدات، التي
إن دلت على شيء فإنها لا تدل إلا على خوف حكومة الإسكندرية منهم، والعمل على
إرضائهم بكل وسيلة. والواقع أن إلحاح المصريين في مطالبتهم بحقوقهم وإقامة حكومة
خاصة مستقلة في قلب الدولة البطلمية قد هزَّ أركان الملك «بطليموس الخامس» ورجال
حكومته؛ مما أقض مضاجعهم، وأقلق بالهم، واضطرهم في نهاية الأمر إلى إقامة حكومة
خاصة لمقاومة الثوار وتنصيب حاكم خاص لهذه الحكومة أُطلق عليه لقب نائب الملك
«إيسترتيجوس» في الإقليم الطيبي. وكان سلطانه يمتد على كل الوجه القبلي، غير أن
هذا
اللقب لم يحمله كل حاكم حكم إقليم طيبة، فقد كان بعضهم يحمل لقب حاكم المقاطعة
وحسب، ومع ذلك كانت له نفس السلطة التي كان يتمتع بها نائب الملك.
٢٣