وعلى أية حال تحدثنا الآثار بأن «بطليموس الخامس» ترك من خلفه بعد وفاته المفاجئة
ثلاثة أطفال من زوجه «كليوباترا» السورية الأصل، وهي ابنة «أنتيوكوس الثالث» كما
أشرنا
إلى ذلك من قبل. فكان له ولدان وأنثى؛ فالذكران كان يحمل كل منهما الاسم التقليدي
للأسرة وهو «بطليموس»، وحملت الابنة اسم أمها «كليوباترا»، وقد تولى عرش الملك أكبر
الذكرين باسم «بطليموس السادس» وهو فيما بين الخامسة والسادسة من عمره، وكانت أمه
بطبيعة الحال الوصية على العرش. وقد نُعت «بطليموس السادس» بلقب «فيلومتور» أي: المحب
لأمه، وقد ادَّعى بعض المؤرخين أن الوصاية على عرش البطالمة في عهد هذا الملك وفي
عهد
والده من قبل كانت لروما لما كان لها من سلطان في تلك الفترة من تاريخ العالم المتمدين.
والواقع — كما يقول المؤرخ «بوشيه لكلرك» — أن وصاية «روما» لم تَكُنْ إلا مجرد أسطورة
ابتدعتها الأسرة، ويرجع أصلها إلى السياسة الرومانية التي أرادت أن تحمي الأسرة
البطلمية عند مسيس الحاجة، وذلك على الرغم من هذه الأسرة.
(٣) النزاع على سوريا الجوفاء
وعلى أية حال لم يَمْضِ طويل زمن على هذا الزواج في سلام وطمأنينة؛ لأن موت
الملكة «كليوباترا الأولى» قد أثار من جديد موضوع «سوريا الجوفاء» التي كانت موضع
نزاع بين أسرة البطالمة في مصر والسليوكيين في الشرق منذ عهد «بطليموس الأول»، وقد
رأينا من قبل أن «أنتيوكوس الثالث» كان قد قدم هذا القطر مهرًا لابنته «كليوباترا».
وقد اختلفت الآراء في تكييف هذه الهبة؛ فمن قائل إن هذا القطر نفسه كان قد أُعطي
مهرًا ﻟ «كليوباترا»، ومن قائل إن الملكة قد أُعطيت خراجه وحسب، ومن ثم قامت
المنازعات على تفسير العقد الذي أُبرم بين الطرفين المتعاقدين، وقد بقي الخلاف
مستمرًّا لدرجة أن «بطليموس الخامس» كان يستعد في أواخر أيامه لشن حرب على
«أنتيوكوس» للاستيلاء على هذا القطر، ولكن الموت اختطفه قبل أن ينفذ ما أراد، وقد
كانت الفرصة سانحة أمامه لنيل مأربه؛ لأن صهره «سليوكوس الرابع» «فيلوباتور» كان
لا
حول له ولا قوة من جراء شروط معاهدة «أبامي» Apamée
التي انتزع الرومان بموجبها من «أنتيوكوس الثالث» كل ممتلكاته شمالي جبال «توروس»،
وقد زاد الطين بلة أنه لم يكن محبوبًا في «روما» وقتئذ؛ إذ كان المظنون فيه بحق
أنه
كان يطمح بصورة غامضة في القيام بالانتقام لما حاق ببلاده. هذا، ويتساءل الإنسان
عما إذا لم يكن مجلس الشيوخ قد فكر في عزل هذا الملك، وذلك في الوقت الذي قُتل
«سليوكوس الرابع» هذا على يد وزيره «هليو دوروس» عام ١٧٥ق.م. وعلى أية حال نجد في
هذا الوقت أن ابن هذا الملك المقتول وهو الذي كان قد أُرسل إلى «روما» ليحل هناك
محل أخ «سليوكوس»، المسمى «أنتيوكوس»، وكان قد وصل في الوقت المناسب بمساعدة ملك
«برجام» ليخلف أخاه على عرش الملك، فكان ذلك لسوء حظ ابن أخيه. غير أن من بقي من
أبناء سوريا الموالين أو على الأقل أولئك الذين كانوا يسعون في التحالف مع مصر قد
رأوا أن استقلال بلادهم وأسرهم المالكة قد صُدمت صدمة جديدة بتولي هذا الملك
الجديد.
وقد كان الأمل عظيمًا أمام ملك «سوريا» الجديد «أنتيوكوس الرابع» إذ كان على صلة
عظيمة مع الرومان؛ لأنه كان قد أمضى ما يقرب من أربعة عشر عامًا من سني شبابه في
«روما» حيث عاش عيشة الألفة والمحبة بين الأسر الرومانية العريقة في المجد، ومن
ثم
نجده عندما غادر «روما» ترك خلفه أصدقاء أصحاب جاه وسلطان.
وتدل شواهد الأحوال على أنه كان رجلًا نبيلًا في أخلاقه؛ إذ لم يَنْسَ عندما أرسل
«أبوللونيوس» إلى روما عام ١٧٣ق.م أن يذكره بذكرياته في هذا البلد بقوله: إنه قد
عومل من كل الطوائف معاملة ملك لا معاملة رهينة.
٤ ولا بد أن «أبوللونيوس» قد تحسس مجريات الأمور في «روما» وتأكد من أنه
إذا وقعت حرب مع مصر فإن سيده لن يكون مكتوف اليدين في هذه البلاد، وفي تلك الأثناء
كانت فكرة إعلان الحرب على مصر قد اختمرت في ذهنه، وتدل الظواهر على أنه لم
يَكْتَفِ وقتئذ بالمحافظة على «سوريا الجوفاء» وحسب؛ بل المظنون أنه امتنع عن
الاستمرار في دفع خراج هذا الإقليم الذي كان يُعتبر ملكًا للملكة «كليوباترا» يُدفع
لها سنويًّا، غير أن ملك «سوريا» قال عن هذا الخراج إنه كان بمثابة معاش تتقاضاه
«كليوباترا» من «سوريا» طوال مدة حياتها، وبموت «كليوباترا» انتهى الأمر. بيد أن
الفكرة في الإسكندرية كانت على عكس ذلك؛ فقد كان المظنون أن أخلاف «كليوباترا» لهم
الحق في تقاضي دخل بلاد «سوريا الجوفاء» بوصفها إرثًا شرعيًّا ورثوه عن أمهم،
وادعوا أن الاتفاق الذي أُبرم في هذا الصدد يؤكد ذلك؛ بل وبالاستيلاء على هذا القطر
نفسه فعلًا، ولا نزاع في أن هذه كانت مسألة قضائية، وأن هذا كان موضع نزاع يفصل
فيه
المدعي العام، ولا تزال هذه المسألة موضوع أخذٍ وردٍّ حتى يومنا هذا بين المؤرخين
الذين يتناولون هذا الموضوع، نذكر من بينهم «أستراك» و«كوتشمد»، و«مومسن»، و«فلكن»،
و«مهفي»، وهؤلاء قد تأثروا بما كتبه كل من «بوليبيوس» و«ديدور» وهما في جانب ما
ادعاه السوريون، في حين أن «فلاث»
Flathe و«درويسن»
Droysen و«هلم» و«استراك»
Strach يتمسكون بالرأي الذي اعتنقه «ليفي»
و«سنت جيروم» وهما في جانب ما ادعاه المصريون. والواقع أن الحق في مثل هذه المسألة
يكون في جانب من بيده القوة كما جرت العادة.
ومهما يكن من أمر فإن الوصيين على عرش البطالمة يغلب عليهما الكبرياء وسوء
التصرف، وأخذا يستعدان للحرب علنًا، وصَرَخَا بصوت عالٍ أمام جماعة من الشعب معلنين
— بأساليبهما التي تنطوي على الغرور — بأنهما سيجنيان النصر باستمالة الحاميات
السورية بيسر وسهولة بقوة المال.
٥ يُضاف إلى ذلك أنهما كانا يعتقدان أن «أنتيوكوس الرابع»، كان يخاف بأس
الرومان الذين كانوا وقتئذ يحمون مصر، ومن ثم يكون ذلك سببًا في شل قوته، وفضلًا
عن
ذلك صورت لهما قلة تجاربهما وقصر نظرهما أنه سيكون في مقدورهما أن يهاجما «سوريا»
ويستوليا عليها؛ بل وأكثر من ذلك سبح بهما الخيال إلى أنه سيكون في استطاعتهما أن
يخضعا كل إمبراطورية «أنتيوكوس»، وأخيرًا عرضًا فضلًا عن ذلك على الرومان مساعدتهما
على قهر «مقدونيا».
٦
والواقع أن رأي هذين الوصيين — الذي كان ملؤه الغرور والزهو وسوء التفكير — قد
خدم مشاريع «أنتيوكوس» وخططه، ومن ثم رحب بإعلان الحرب عليه من خصمين «استولى
عليهما الزهو وحب الفخار»، وبخاصة أنه لن يظهر أمام «الرومان» بأنه المبادر
بالهجوم؛ بل إنه سيقف موقف المدافع عن أملاكه، وعلى ذلك فإن هذين الوصيين عندما
أخذا يقومان ببعض عمليات حربية صغيرة عند الحدود تدل على عزمهما على خوض غمار
الحرب؛ فإن «أنتيوكوس الرابع» خرج عن موقف الرجل المنتظر الهجوم عليه، وقبل أن ينقض
على عدوه المتحفز استشهد بالرومان على أن مصر تهاجمه من غير وجه حق؛ ومن أجل ذلك
أرسل بعثًا من قبله إلى «روما» حيث قابل بعثًا آخر هناك أرسله بلاط «الإسكندرية»
على عجل عام ١٧١ق.م.
٧ على أن «أنتيوكوس» في الواقع لم يكن يرتكن على عدالة مطلبه أمام مجلس
الشيوخ الروماني أكثر من اعتماده على الورطة التي كانت الجمهورية الرومانية واقعة
فيها، وهي الحرب التي كانت مستعرة وقتئذ بينها وبين «برسيوس» (عام ١٧١–١٦٨ق.م)،
وقد
أُصيب فيها «الرومان» بهزيمة لم تكن في الحسبان؛ مما أضعف جيشها وحد من
سلطانها.
وعلى أية حال لم يكن في عزم «أنتيوكوس» أمام كل هذه الأسباب أن ينتظر موافقة مجلس
الشيوخ الروماني؛ بل جعل الحرب أمرًا واقعًا. وقد كان موقف مجلس الشيوخ بين
الفريقين المتخاصمين موقف من يستمع بأذن مشتتة للبراهين التي كان يقدمها كل من
الطرفين على سلامة موقفه؛ فمن جهة، كان مبعوثو ملك «سوريا» يقدمون البراهين على
أحقيتهم في تملك «سوريا الجوفاء» بما لهم من حق الفتح ولامتلاك هذا القطر بالإضافة
إلى «فينقيا» منذ واقعة «بانيون» التي تحدثنا عنها في غير هذا المكان، ومن جهة أخرى
كان رجال السياسة المصريون يُجيبون على ادعاءات أعدائهم بالاحتجاج المليء بالألفاظ
العاطفية قائلين: إن «أنتيوكوس» قد اغتصب حق الملك الطفل اليتيم. ولكن دون أن
يقدموا أي برهان يدل على أحقية ملكية هذا الملك الطفل ﻟ «سوريا الجوفاء»، ولكي
يضحدوا ما قدمه خصمهم من براهين قوية. وكانت أكبر دعامة ارتكن عليها المصريون لتقوم
مقام كل برهان يقدمه الخصم؛ هي أنهم كانوا أصدقاء الشعب الروماني، وبخاصة أن هذه
الصداقة كانت قد جُددت حديثًا. غير أن القنصل «أميليوس ليبيدوس»
Aemilius Lepidus منع المصريين عن أن يتمادوا
إلى النهاية، ونصحهم بألا يقدموا لمجلس الشيوخ وساطتهم الودية لتسوية خلاف مع
«برسيوس» ملك «مقدونيا». وعلى أية حال فإن الوفد المصري قد عاد إلى مصر وهو مُثقل
بعبارات المديح والشكر، وبالكلمات الدبلوماسية التافهة المعسولة، أما «أنتيوكوس»
فقد أجابه مجلس الشيوخ بأنه قد كلف «مارسيوس فيليبوس» Marcius
Philypus — وكان أعلم الرومان بأمور الشرق، وكان وقتئذ في بلاد
الإغريق على رأس أسطول — بأن يكتب في هذا الموضوع ﻟ «بطليموس السادس» بالمعنى الذي
يراه موافقًا على حسب اعتقاده الشخصي. ولسنا في حاجة إلى القول بأن جواب مجلس
الشيوخ كان يدل على مهارة حاذقة؛ إذ نجده لم يقيد نفسه بشيء أبدًا، ولم يترك مجالًا
لأي قرار؛ إذ قد وضع الأمر في يد مفاوض بليغ دون أن يطلب إليه أي جواب معين يمكن
الإنسان أن يعتمد عليه أو يستنكره.
هذا، ولما كان «أنتيوكوس» قد تتلمذ على مدرسة «روما» السياسية، فإنه لم يكن
ساذجًا؛ بل استغل موقف تظاهر الوصيين على «بطليموس» وتلويحهما بالحرب بمثابة إعلان
للدخول في حومة الوغى، ومن ثم لم يترك لهما مجالًا للتقدم نحو هدفهما؛ بل سبقهما
بالزحف بجيشه على مصر في ربيع عام ١٧٠ق.م دون أن يعير أية التفاتة لما عساه أن
يقرره «مارسيوس فيليبوس». والظاهر أن «أنتيوكوس» قد اختار لميقات هجومه على مصر
فصل
التحاريق؛ إذ كان النيل في نهاية عام ١٧١ عقبة أمامه، ومن ثم كان «بطليموس الخامس»
لا يزال حرًّا في ١٨ توت من السنة الحادية عشرة من حكمه؛ أي: في أول نوفمبر عام
١٧١ق.م،
٨ وفي تلك الأثناء كان جيشه يتحرك وهو يجر وراءه معدات وكنوز كثيرة؛ هذا
إلى أثاث فاخر كان الغرض منه شراء ذمم حماة المدن السورية. وتقابل الجيشان في منتصف
الطريق ما بين جبل «كاسيوس» و«بلوز».
وقد كان في مقدور «أنتيوكوس» أن يقضي على الجيش المصري بحد السيف، إلا أنه رأى
أنه من الحكمة والفائدة معًا ألا يطلق السيف في رقاب العدو؛ بل أراد أن يستولي
عليهم أسارى. وكان من جراء هذه المعاملة الإنسانية أنه كسب شهرة الرحمة والرفق بين
صفوف الأعداء، مما سهل عليه بعد ذلك مشروعه العظيم الذي كان يرمي به إلى الاستيلاء
على مصر جملة، أو على الأقل استغلالًا لنفسه؛ ومن ثم أراد أن يستعمل الخداع لا
العنف (وعلى حسب ما جاء في التوراة
٩ أن «أنتيوكوس» دخل مصر على رأس جمع من الجنود والعربات والفيلة
والسفن)، ومن أجل ذلك سيطر على جيوشها، وبدلًا من الدخول في معركة دخل في مفاوضات،
وكان بعمله هذا يحسب حساب ما سيأتي بعد وهو تدخل «الرومان»، وأنهم عندئذ سيجدونه
قد
سار في حربه مع العدو بما يجعلهم في صفه، ولا يأخذون عليه شيئًا في تصرفاته. وعلى
ذلك فإنه بعد هزيمة العدو لم يتابع سيره مباشرة نحو «بلوز»، بل رضي بإبرام هدنة،
على أن تسلم إليه البلدة ويحتلها فعلًا بجنوده.
١٠ ولا نعلم كثيرًا عما كان ينطوي عليه سلوكه من حيث الإخلاص فيما صرح به،
وهذا هو ما سماه المؤرخ «بوليبيوس» خدعة لا تتفق كثيرًا مع أخلاق ملك.
١١ هذا، ويُلحظ في الوقت نفسه أن المؤرخ «ديدور» يكرر نفس النقد الذي ذكره
«بوليبيوس» بنفس التعبير، ومن ثم يحتمل أنه نقله عنه. أما عن التفسير المرتبك بعض
الشيء الذي قدمه «ديدور» عن هذه الخدعة الحربية التي لا تقابَل بالاحترام، وهي التي
ذكرها في مكان آخر؛ فيُسْتَخْلَصُ من قول هذا المؤرخ أن لومه كان ينحصر بوجهٍ خاص
في الدسائس التي أمكن بها «أنتيوكوس» من أن يقبض على الملك «بطليموس السادس» بمجرد
استيلائه على القصر الملكي.
١٢
وهذه المكائد والدسائس قد تبدو لنا غامضة بعض الشيء؛ إذ قد يكون من الجائز أن
«أنتيوكوس» قد ساعدته الأحوال في تلك المسألة بما أظهره الوصيان من هلع وجبن أكثر
من أي عامل آخر. وفي الحق يظهر جليًّا على حسب ما ذكره المؤرخ «ديدور» أن كلًّا
من
«يولاوس» و«لناوس» قد قاد الجيش بنفسه إلى الكارثة التي انصبت على البلاد في
«بلوز»؛ إذ لم يكن أي منهما على استعداد للقيام بمثل هذا العمل العظيم، ولأن أحدهما
كان قد ترك مشطه وعطوره، والآخر ودع كتابة قصصه وحكاياته ليتسلم قيادة معركة يتوقف
عليها مصير أرض الكنانة دون أن يكون لواحد منهما أية دراية بحمل السلاح أو أية
معرفة بفنون الحرب! وقد زاد الطين بلة أنه لم يكن برفقتهما أي قائد ماهر ليكون
مستشارًا لهما في ساحة القتال. وهكذا نرى هذين الغرين يندفعان إلى حومة الوغى
لمواجهة جيش جبار حسن القيادة، وقد كانت النتيجة الحتمية أن هُزما هزيمة مخزية،
وعندئذ خشيا أن تُغلق خلفهما أبواب «بلوز» وأن يقعا في قبضة «أنتيوكوس» على أيدي
المصريين أنفسهم الذين كانوا يكرهونهما أشد الكره. وكانت النتيجة التي لا مفرَّ
منها لموقفهما الحرج هذا أن سعيا للمفاوضة مع العدو، وقد رحب بذلك «أنتيوكوس»؛ لأنه
كان يرغب في أن يترك زمام الأمور في مصر في أيدي مثل هذين الرئيسين، ومن أجل ذلك
منحهما هدنة كانت في نظرهما غاية في السماحة.
ولا نعلم كيف قابل أهالي الإسكندرية هذين الوصيين اللذين أفعما العالم بتفاخرهما
وادعاءاتهما قبل الدخول في المعركة التي قضت على سمعة البلاد وسمعتهما، وإذا كانت
هناك حسنة يمكن ذكرها لهذين الغرين فإنها تنحصر في أنهما قد تقبلا صدمة الهزيمة
بنفسيهما دون أن يجرا الملك «بطليموس السادس» معهما إلى ساحة القتال، وحتى مع بعد
«الإسكندرية» عن ساحة القتال قد أصبح مكث الملك فيها من الأمور غير المضمونة
العواقب، غير أنه لدينا رواية أخرى تقول: إن الملك بعد أن هُزم في الموقعة على يد
«أنتيوكوس» هرب إلى «الإسكندرية».
١٣ هذا، ويؤكد لنا المؤرخ «بوليبيوس» على الرغم مما في قوله من شك كبير أن
الخصي «يولاوس» قد أغرى الملك «بطليموس السادس» بأن يحمل كل كنوزه، ويترك البلاد
للعدو، ويولي وجهه شطر «ساموتراس» التي كانت الملجأ العادي للملوك المخلوعين من
عروشهم أو المجرمين الذين نُفوا من العالم.
١٤ ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن مؤرخ العصر «بوليبيوس» يندى جبينه خجلًا
من هذه النذالة، ولكنه ينسب كل الخزي والعار إلى الخصي نفسه؛ لأن «بطليموس السادس»
— كما سنرى بعد — قد أظهر ما يدل على شجاعته وإقدامه. هذا، ولا يرى «بوليبيوس» في
هذا الخصي إلا جبانًا يعدي جبنه كل من اقترب منه. وعلى أية حال لم يجعل منه هذا
المؤرخ خائنًا؛ إذ لم يَدُرْ بخلده أن مثل هذا الخور في العزيمة الذي لا يمكن
تصديقه كان متفقًا عليه من قبل مع «أنتيوكوس».
(٤) احتلال أنتيوكوس للبلاد المصرية
ومهما يكن من أمر فإن «أنتيوكوس» لم يكن يحلم يومًا ما أن سيصل إلى حل أحسن من
الذي جاء به القدر إليه ووضعه بين يديه، وهو تسليم «بطليموس السادس» له. والآن
يتساءل الإنسان عن سر الطريقة التي أمكن بها «أنتيوكوس» أن يجعل الملك «بطليموس
السادس» يأتي إليه صاغرًا ليتحدث معه، فهل كانت هذه المقابلة في «بلوز» أم كان
«أنتيوكوس» قد زحف بجيشه حتى أصبح على مشارف الإسكندرية، ومن ثم لم يكن في مقدور
«بطليموس» مغادرة «الإسكندرية» دون أن يتفاوض مع عدوه؟
وقد تحدث إلينا «بوليبيوس» عن موضوع هرب «بطليموس» إلى «ساموتراس» لا بوصفه
مشروعًا متفقًا عليه، بل بوصفه عملًا مخجلًا يُلحظ فيه التأثير الخبيث الذي وضعته
روح خبيثة في روح شريفة بريئة. والظاهر مع ذلك أن هذا المشروع كانت قد اتُّخذت
الخطوة الأولى لتنفيذه، ومهما يكن من أمر فإن «أنتيوكوس» قد تقابل مع «بطليموس»
وأولم له وليمة عظيمة،
١٥ وفي أثناء ذلك قدم «أنتيوكوس» لابن أخته «بطليموس» معاهدة صلح للتوقيع
عليها، وبمقتضاها كان الدمار التام الذي نزل بهذا الملك الفتى، ومن ثم يحدثنا
المؤرخ «بوليبيوس» عن نقض العهد الذي عقده «أنتيوكوس» على نفسه للملك «بطليموس»
الفتى. أما المؤرخ «ديدور» فإنه يقول في حديثه عن خدعة «بلوز»: إن «أنتيوكوس» بعد
أن استعرض رفق والده وحسن تصرفه بالنسبة لوالديه، فإنه على العكس غش الملك الشاب
الذي وكل أمر نفسه له وعمل على انتزاع مملكته منه.
١٦ وتدل شواهد الأحوال على أن «أنتيوكوس» كان قد أغرى «بطليموس» بأنه
ينبغي عليه — بعد أن جرده من سلطانه — أن يضع نفسه رسميًّا تحت وصايته، وأنه سيأخذ
على عاتقه إعادة فتح مملكته واسترجاعها له، وعلى ذلك فإن ما سيأتي هنا من آراء يصبح
مفهومًا إذا أردنا أن نستسلم لما جاء حرفيًّا في المتون التي سيطر على مؤلفيها
التحيز البعيد عن علم التاريخ؛ ففريق منهم وهم اليهود لا يرون في العالم إلا يهوذا،
والفريق الآخر وهم طائفة المجادلين المسيحيين لم يكن لديهم هَمٌّ إلا أن يروا فيما
وقع إلا تنفيذ تنبؤات النبي دانيال.
وهاك كيف يوضح شارح النبي دانيال ذلك الحادث: بعد أن أظهر «أنتيوكوس» احترامًا
للطفل، وتظاهر له بالمحبة صعد إلى «منف» وهناك تقبل السلطة الملكية على حسب التقليد
المصري، وكذلك ادعى أنه يعمل في صالح الطفل (الملك)، وبعدد قليل من الجنود أخضع
كل
مصر، ودخل في المدن المتناهية الثراء. وقد عمل ما لم يعمله آباؤه ولا آباء آبائه،
ولم يخرب أي ملك من ملوك «سوريا» بلاد «مصر» بهذه الكيفية؛ فقد شتت كل ثرواتهم،
وكان ملتويًا في تدابيره لدرجة أنه قضى بحلية على كل الإجراءات الحازمة التي كان
قد
وضعها أولئك الذين كانوا يعملون مرشدين لهذا الطفل.
١٧ وعلى ذلك لا بد أن نعترف أن «أنتيوكوس» تمادى في غيه لدرجة أنه توج
نفسه في «منف» في حضرة «بطليموس» الذي كان فعلًا يشترك بذلك في إسقاط نفسه.
ومن جهة أخرى يحدثنا المؤرخ «سنت جيروم» الذي يتفق مع المؤرخ «بورفير» في رأيه،
وهو أنه قد انتزع «أنتيوكوس» تاج «فيلومتور» وذلك بعد أن حكم الأخير وحده مدة أحد
عشر عامًا
١٨ (١٧٠ق.م). هذا، ويمثل لنا مؤرخ كتاب المكابيين «أنتيوكوس» بأنه غزى مصر
كما غزاها سابقًا ملوك الأشوريين على رأس جيش هائل مما أدى إلى هرب «بطليموس»، وخرب
كل شيء أمامه، ثم عاد بعد ذلك في الحال في نفس العام وخرب معبد «أورشليم».
١٩
ومما ذكرنا هنا عن سلوك «أنتيوكوس» نرى أنه لم يكن هناك ارتباط في أعماله؛ بل كان
يمثل التفكك بعينه، ولا غرابة في ذلك فهو ذلك المغتصب الذي خلع ابن أخته «بطليموس
السادس» من عرش ملكه، وتوج نفسه بدلًا منه ملكًا على مصر، ثم نراه بعد ذلك يغادر
البلاد التي فتحها على حين غفلة بعد نهبها بصورة غريبة ليضمن لنفسه بقاءها تحت
سلطانه.
وعلى أية حال فإنه مهما كان التوبيخ الذي يمكن أن يوجَّه إلى «أنتيوكوس» فإنه ليس
من المُستطاع أن يفهم الإنسان أبدًا كيف أمكنه بعد ذلك أن يتظاهر بمظهر العظمة في
تأكيده بأنه لم يكن يقصد أبدًا — وربما كانت هذه حقيقة — أن يستولي على مصر لحسابه
الخاص،
٢٠ وذلك عندما أعلن تحت جدران الإسكندرية لأهالي «رودس» أن الملكية في مصر
هي للابن الأكبر من البطالمة، ومهما يكن من أمر فإنه كان لا بد من ذكر هذه المصادر؛
لأنها لازمة لكل نقد سليم، كما إنه لا يمكن الإنسان أن يكتفي بعدم كفايتها؛ إذ من
الجائز أنه يستخلص منها الحقيقة.
ويُلحظ أن أولئك الذين وضعوا هذه المتون يبتدئون بالرأي القائل إن «أنتيوكوس» كان
يريد أن يستولي على «مصر» ليضمها إلى مملكته؛ إذ إن ذلك في الواقع مشروع وهمي لمن
أراد محاولة تنفيذه مع أسرة ملكية لا تزال قوية وتحت رعاية الرومان، والأرجح أن
«أنتيوكوس» كان مصممًا أن يجعل «مصر» تحت تصرفه، وأن ينتزع منها المال الوفير، كما
كان يرغب في أن يلعب دور الوصي على الملك الشاب، وأن يحكم باسمه، هذا إلى أنه كان
يتوق إلى تصفية الموضوعات القضائية التي كانت لا تزال معلقة بين المملكتين، وبخاصة
مسألة «سوريا الجوفاء» التي كان يريد أن يقطع فيها برأي فاصل لمصلحة بلاده، ومن
المدهش والعجيب معًا أن الملك «بطليموس السادس» قد سهل له بصورة غريبة تنفيذ ما
صمم
عليه، ولكن على شرط ألا يعزله، وألا يكسر الآلة التي يمكنه أن يستخدمها في قضاء
مآربه. هذا، وقد كان عليه أن يفهم — إلى حد ما — أهالي «الإسكندرية» ذلك حتى لا
يشك
أهلها الذين كانوا متعودين فعلًا في عهد البطالمة السابقين على أن يتدخلوا فيما
يعرض للبلاد من أزمات سياسية دون أن ينتظروا مدة طويلة، ومن أجل ذلك كان من فائدة
«أنتيوكوس» أن يجعل أهالي «الإسكندرية» يعرفون على وجه السرعة أنه أوقف هرب
«بطليموس السادس» الذي جاء عن غير تفكير، وأنه سيعيد للشعب المصري ملكه الشرعي،
وقد
كان ذلك ما عزم على تنفيذه عندما ذهب إلى «منف»، لا ليستولي على ملك مصر بالطريقة
الفرعونية؛ أي: بتتويج نفسه على يد الكهنة؛ ولكن كان غرضه أن يستولي على السلطان
بطريقته هو، وهي أن يجعل الكهنة يعترفون به رسميًّا بوصفه حاميًا للمملكة المصرية،
على أن يكون ذلك بموافقة «بطليموس السادس» نفسه، وهذا هو رأي المؤرخ «بوشيه لكلرك»،
وذلك على الرغم من أنه
٢١ توجد نقود سُكت في مصر وفي «قبرص» باسم «أنتيوكوس الرابع» كما نُصب له
كذلك تمثال في «قبرص»، إلا أن ذلك ليس ببرهان ضد نظرية هذا المؤرخ؛ بل يُعد هذا
برهانًا على أن ملك «سوريا» الماكر كان يجري وراء خلق موقف مبهم، ويثبت حقه في
ممارسة سطلته الملكية، وهذا الموقف المبهم الذي وقفه «أنتيوكوس» هو الذي رفضه
المؤرخ «بروفير» بقوله: «إن «أنتيوكوس الرابع» قد عزل ابن أخته من عرش ملكه.» وهذا
هو الرأي الصحيح.
وعلى أثر إعلان «أنتيوكوس الرابع أبيفانس» ملكًا على مصر نجده بسوء تصرفه قد غادر
مصر في الحال إلى بلاد اليهود لقمع فتنة هناك؛ إذ لو مكث في مصر لأمكنه أن يتمم
كل
خطته التي رسمها لتثبيت قدمه في مصر، وذلك بمصاحبة «بطليموس السادس» إلى
«الإسكندرية». ولكن على الرغم مما قام به من بعض النشاط الذي استطاع عمله، فإن
أهالي «الإسكندرية» قد سبقوه بإشعال نار ثورة كانت نتائجها هي التي ستفصل لنا ما
حصل عليه هذا العاهل؛ وآية ذلك أن الشعب «الإسكندري» لم يقبل الشروط المخزية التي
قبلها مليكهم، ورأوا أن أحسن طريقة هي نقض المعاهدة التي كانت مُبرَمة بين هذين
الملكين، وذلك بعدم قبول من وقع عليها ملكًا عليهم؛ ومن ثم أعلنوا سقوط «بطليموس
السادس» من عرشه وتنصيب أخيه الصغير «بطليموس» الذي لُقب «إيرجيتيس الثاني»، ومن
المحتمل أن الشعب الإسكندري قد شفى غليله بالانتقام من الباعثين الحقيقيين لهذه
الأزمة، وأعني بذلك الوصيين السابقين وهما «يولاوس» و«لناوس» اللذين أساءا له
النصح، وأوقعا البلاد في هذه الكارثة، ويقول المؤرخ «ديدور»: إنهما عُوقبا في الحال
على سوء تصرفهما، وعلى الطيش الذي كان من جرائه إعلان الحرب التي أدت إلى خراب
البلاد وهلاكهما.
٢٢ ومن حسن الحظ أن الملك الجديد على الرغم من صغر سنه لم يكن جبانًا
أبدًا، وقد اتخذ له وزيرين وهما «كومانوس»
Comanos
و«سيناس»
Cenas، يتصفان باليقظة؛ إذ أسرعا في الحال
إلى إعلان الدول العظمى الأجنبية تولي «إيرجيتيس الثاني» عرش الملك، وذلك بدعوة
الحلف الآخي والمدن الإغريقية بأن يرسلوا وفودًا لحضور حفل تتويج الملك الجديد.
٢٣ والواقع أن هذين الوزيرين قد اتخذا طريقة سليمة صحيحة، وذلك بأنهما لم
يأخذا رأي البلاد الأجنبية التي ربما كانت تتدخل سياسيًّا في الأمر، وفي الوقت نفسه
كان إعلان بلوغ الملك سن الرشد الذي كان يُعتبر مقدمة ومعادلًا مؤقتًا لتتويج
الملك؛ قد أزال عن هذه الحكومة — التي أُلفت عفو الخاطر — صبغتها الثورية.
ولا نزاع في أن «أنتيوكوس» عندما علم بالأحداث التي وقعت في «الإسكندرية» تملكه
الغضب لمدة ما، ولكنه بعد ذلك قد رجع عن آرائه الثائرة في الحال، وأخذ يجد لنفسه
حجة شريفة لينقض بها على مصر من جديد، فادعى بأنه سيعلن الحرب على أهالي
«الإسكندرية» الثائرين لمصلحة الملك الشرعي الذي خلعوه.
وعلى ذلك أخذ ينشر هذه الشائعة، هذا فضلًا عن أنه قد حرص على أن يجعل كل مدن آسيا
ومدن بلاد الإغريق تعرف أنه قد أخذ على عاتقه أن يعيد «بطليموس السادس» إلى عرشه،
وذلك بعد أن تعهد بحمايته. ومنذ هذه اللحظة أخذ كل من الفريقين يبحث في أن يجعل
الرأي العالمي في جانبه، غير أن كلًّا من الطرفين المتخاصمين كان يخشى تدخل «روما»
في هذا النزاع الأسري، ولكن الرومان كانوا في هذه الفترة منهمكين في حرب مع
«برسيوس» ملك «مقدونيا» ولا يعنيهم التدخل في هذا النزاع رسميًّا قبل القضاء على
عاهل «مقدونيا» عدوهم اللدود، والواقع أن «الرومان» كان من مصلحتهم أن يستمر الشجار
بين «سوريا» و«مصر»؛ وذلك لأن هذا كان يضمن لهم عدم وصول أية مساعدة من هذه الناحية
لملك «مقدونيا».
وما لدينا من مصادر أصلية لا تشير إلى شيء يُذكر عما دار بين مصر و«سوريا» من
أعمال حربية. وحقيقة الأمر أن أهالي «الإسكندرية» الذين قاموا بالثورة لم يكن لديهم
جيش، وعلى ذلك لا بد أنهم كانوا قد فكروا في إحراز الانتصار على أعدائهم عن طريق
البحر، غير أنهم هُزموا أمام «بلوز»؛ حيث ترك الملك «أنتيوكوس» أسطوله هناك أو أمر
بإحضاره إلى هذه الجهة. ومن ثم أخذ ملك «سوريا» يزحف من جديد من «منف» إلى
الإسكندرية عن طريق فرع النيل الساوي، وفي طريقه قابل طائفة كبيرة من السياسيين
أرسلهم وَزِيرَا «إيرجيتيس الثاني»، والظاهر أن الأحداث التي وردت أخبارها من مصر
إلى بلاد اليونان قد أخذت تبعث الحركة في هذه البلاد وتخرجها من خمولها، ومن أجل
ذلك أجابت على وجه السرعة على نداء وزيري «بطليموس إيرجيتيس الثاني» وما نصح به
القواد الرومان الذين كانوا قد أظهروا غيرة كبيرة من أجل السلام؛ إذ في هذه اللحظة
أخذ يتدفق على «الإسكندرية» سفراء يحملون التحيات كما وفد متفرجون مكلَّفون بدعوات
تجديد المعاهدات، وجميع هؤلاء كان موكلًا إليهم فوق ذلك أن يعملوا جاهدين على إعادة
السلام بين الفريقين المتخاصمين، وقد انتهز وزيرَا «إيرجيتيس الثاني» هذه الفرصة
وعقدَا مجلسًا مع الملك ورؤساء الأجناد، وقرروا أن يوفدوا كل هؤلاء الرسل الذين
جاءوا من أجل السلام ليمثلوا أمام «أنتيوكوس الرابع»، وكان من بينهم الآخيين
والأثينيين والميلزيين والكلازوميين، يقودهم مندوبان من قبل الملك «إيرجيتيس
الثاني» وهما «بليبوليموس» والخطيب المفوَّه «بطليموس» (ولا بد أن الأخير هو أخو
«كومانوس» الذي أُرسل فيما بعد في بعث إلى أوروبا مع «كومانوس» نفسه كما حدثنا بذلك
المؤرخ «بوليبيوس»).
٢٤
وتدل شواهد الأحوال على أن «أنتيوكوس» قد أحسن وفادتهم فأصغى إلى خطبهم الرنانة،
ثم تناول الحديث بنفسه بعد ذلك، وشرح موضوع الخلاف بين «مصر» و«سوريا» من أول مسألة
«سوريا الجوفاء»، فذكر المعاهدات التي تؤكد ملكية «السليوكيين» لهذا القطر من أول
عهد «أنتيوكوس» العظيم، ثم أنكر بوجه خاص الاتفاق الذي ادعاه أهل «الإسكندرية» بين
«بطليموس الخامس» و«أنتيوكوس» والده، وهو الاتفاق الذي ينص على أن «سوريا الجوفاء»
قد نزل عنها ملك «سوريا» بوصفها مهرًا ﻟ «كليوباترا» الأولى عند زواجها من «بطليموس
الخامس» وهي أم الملك الحالي. وقد شرح «أنتيوكوس» الموضوع أمام المبعوثين بطريقة
جعلتهم يعتقدون أن ما أبداه من أسباب تُعتبر في نظرهم قاطعة؛ ومن ثم كسبهم إلى
جانبه، وبعد ذلك أعلن أنه مستعد للمفاوضة، وأنه سيطلعهم على كل ما سيحدث في
المفاوضات، وفضلًا عن ذلك — لأجل أن يظهر لهم حسن نيته — أرسل إلى الإسكندرية
مبعوثين، وفي أثناء انتظار عودتهما استمر في سيره شطر نقراش (= كوم جعيف) التي كانت
تُعتبر وقتئذ من أعرق المدن الإغريقية في مصر، وهناك أمر بتوزيع قطعة نقد من الذهب
على كل فرد من سكان هذه المدينة مظهرًا بذلك ميله إلى الحضارة الإغريقية، ومن هذه
المدينة تابع سيره نحو «الإسكندرية» وعندما كان على مقربة منها نصب جسرًا طائرًا
على فرع النيل الكانوبي عبر به النهر، ومن ثَمَّ قاد جيشه حتى سور المدينة. وقد
كان
مفهومًا لدى حكومة «إيرجيتيس الثاني» أن المفاوضات مع «أنتيوكوس» لا جدوى منها،
وأن
الوقت الذي سيُصرف فيها مضيع؛ ومن أجل ذلك أرسل «إيرجيتيس الثاني» بعثًا إلى «روما»
متوسلًا لمجلس الشيوخ بأن يتدخل في الأمر، قائلًا إنه ليس هناك قوة يمكنها إيقاف
«أنتيوكوس» عند حده غير مجلس الشيوخ، ولكن «روما» كانت بعيدة، هذا فضلًا عن أن مجلس
الشيوخ كان وقتئذٍ منصرفًا عن كل مثل هذه المنازعات طالما كانت الحرب بين الرومان
وملك مقدونيا مستعرة. وعلى أية حال فإن المبعوثين المصريين لم يستقبلهم مجلس الشيوخ
في جلسة علنية إلا في الخامس عشر من شهر مارس من السنة التالية (عام ١٦٧ق.م) ومن
المحتمل أنهم لم يكونوا على علمٍ وقتئذٍ بما كان قد حدث في مصر منذ مغادرتهم لها.
٢٥
وفي خلال تلك الفترة فك «أنتيوكوس» الحصار الذي كان مضروبًا على «الإسكندرية»؛
لأنه على ما يظهر لم يكن لديه من العتاد والعدة ما يكفل استمرار الحصار، وبخاصة
عندما وجد أنه لا يمكن تسلق جدرانها، وقد زاد الطين بلة عندما استقبل سفراء «رودس»
الذين كانوا قد جاءوا على حسب سياستهم الثابتة وبتشجيع من القنصل «مارسيوس فيليبوس»
ليقدموا خدماتهم لأجل إحلال السلام. وقد أحفظه حضور هذا الوفد حتى جعله يخرج عن
طوقه، وبخاصة خطبهم التي كانت لا نهاية لها، ولما نفد صبره قاطع أحد خطبائهم قائلًا
بأنه لا ضرورة لمثل هذه الخطابات العدة، وأن مملكة مصر هي ملك «بطليموس» بكر أولاد
«بطليموس الخامس» وأنه منذ زمن طويل على وفاق معه على أساس المحبة والمهادنة، وإذا
كان أهالي «الإسكندرية» يريدون الآن إعادته إلى المدينة فإنه لن يمنعهم من عمل ذلك.
٢٦
وانتهى الأمر بإعادة «بطليموس فيلومتور» إلى «منف»، وبعد ذلك ترك «أنتيوكوس»
حامية قوية في «بلوز» ليبقى الباب مفتوحًا أمامه، وعاد إلى «سوريا» مع جيشه ظنًّا
منه أن الحرب الأهلية بين الأخوين المتخاصمين ستكون كفيلة باستنفاد قوة مصر، ومن
ثم
يكون معه الحق بسهولة مع الحزب المنتصر.
وتحدثنا المصادر الإغريقية أن «أنتيوكوس» جمع من مصر مبلغ مائة وخمسين «تالنتا»
من دماء الأهلين بالسلب والنهب. وقد استعمل منها خمسين تالنتا لضمان رضاء الرومان
وجعلهم في جانبه، ووزع المبلغ الباقي على المدن الإغريقية.
٢٧ ولا نزاع في أن ما اتخذه «أنتيوكوس» من احتياطات لَدليل على ما كان
يرمي إليه.
أما بطليموس «فيلومتور» الذي كان قد أصغى إلى خطب الرودسيين، وما كانوا يرمون
إليه من أغراض شريفة للحصول على السلام بمعاضدة «روما» فقد كان هذا من فائدته؛ يدل
على ذلك أنه على أثر سفر خاله «أنتيوكوس» إلى بلاده أخذ يتقرب إلى أخيه بالوعود
التي لاقت عنده قبولًا حسنًا للغاية، ولحسن الحظ كانت «كليوباترا» زوج الملك قد
عملت كل ما في وسعها لإعادة السلام والتفاهم بين الأخوين، وقد سهل سرعة التفاهم
بين
الأخوين أن أهالي «الإسكندرية» كانوا قد أخذوا يشعرون بمرارة القحط في البلاد، ومن
ثم لم يعارضوا في الوصول إلى تفاهم ينجيهم من الحالة التي أصبحوا فيها من جوع وعوز،
ولم يَمْضِ طويل زمن حتى اتفق الأخوان على أن يحكما سويًّا منذ الآن. ويقول
«بوليبيوس»: إن الشعب قد اعترف «ببطليموس الصغير» ملكًا
٢٨ على البلاد مع أخيه. وعلى أية حال فإن هذا النظام الجديد في الحكم كان
يُشك في استقراره، غير أنه كان في اللحظة كفيلًا بأن يقضي على الصعوبات والعقبات
القائمة، وبخاصة الادعاءات التي كان يدعيها «أنتيوكوس الرابع» للتدخل في شئون
البلاد من جديد، وعلى هذا الأساس غادر «بطليموس فيلومتور» «منف» قاصدًا
«الإسكندرية» وعلى أثر ذلك ساد السلام بالإجماع بين كلا الطرفين.
٢٩ وهذا الاتفاق تم في شتاء عام ١٦٩-١٦٨ق.م.
ومما سبق يُفهم أن «أنتيوكوس» وقع في الفخ الذي نصبه هو؛ إذ إنه لو كان يريد
حماية «فيلومتور» وحقوقه في الملك كما ادعى لتقبل هذا الاتفاق الذي قام بين
الأخوين، وهو الاتفاق الذي رد إلى مصر السلام والطمأنينة، ولكن على العكس وجدنا
أن
الغضب الذي انتابه عندما علم بهذا الاتفاق جعله يخرج عن طوقه دون أن يفكر في معالجة
هذا التغير الذي طرأ بشيء من الحكمة والاتزان، فمنذ أن علم بالخبر كشف القناع الذي
كان يخفي تحته نواياه تجاه مصر، ومن ثم اتخذ موقفًا عدائيًّا منها؛ فنراه يطلق
أسطوله في الحال إلى «قبرص» لغزوها، ولم تلبث الجزيرة أن سلمت له بعد مقاومة ضئيلةٍ
على يد الحاكم العسكري المسمى «بطليموس ماكرون».
٣٠
وفي الوقت نفسه زحف «أنتيوكوس» بنفسه على رأس جيش لغزو مصر، وكان ذلك في أوائل
خريف عام ١٦٨ق.م، وعندما سمع «بطليموس فيلومتور» بذلك أرسل رسله لمقابلة أنتيوكوس
عند بلدة «رينوكولورا»
Rhinocoloura الواقعة عند
مشارف حدود مصر على مسيرة ثلاثة أيام من «بلوز»، وقد شكر هؤلاء الرسل «أنتيوكوس»
على إعادة «بطليموس فيلومتور» على عرش والده، وطلبوا إليه أن يفهمهم الطريقة التي
بها يريد أن يُكافَأ على الخدمات التي قام بها لمليكهم، وذلك بدلًا من أن يفرض عليه
شروطه بالقوة. وقد أجاب على ذلك «أنتيوكوس» بوحشية وعنف بأنه لن يعيد أسطوله إلى
قواعده كما أنه لن يتقهقر بجيشه إلى الوراء إذا لم تنزل مصر له عن «قبرص» كلها،
وكذلك بلدة «بلوز»، هذا بالإضافة إلى كل الأقاليم المجاورة لمصب فرع «بلوز»، وقد
حدد في الوقت نفسه موعدًا لقبول شروطه، فإذا تخطاها «فيلومتور» فإنه يعتبر أن كل
شروطه قد رُفِضَت.
٣١
لم يكن يدور بخلد بلاط «الإسكندرية» أن عبارات الشكر الرسمية التي أرسلها إلى
«أنتيوكوس» ستجعله يصمم على التدخل من جديد بأسطورته الشرعية لحمايته عرش مصر، وهي
التي — كما يقول — تنطوي على الخير، وأنه لا غرض آخر له من ورائها، وعلى أية حال
عمل «بطليموس» كل ما في وسعه لكسب الوقت؛ لأنه كان يعلم أن نجاة مصر لن تتأتى إلا
عن طريق التدخل الأجنبي، فنجد أن مَلِكَيْ مصر أرسلا في خلال الشتاء إلى حلف
الآخيين يرجوانه مَدَّهُمَا بألف من الجنود المشاة وبمائتين من الفرسان. وعلى الرغم
مما بذله كل من «ليكورتاس» و«بوليبيوس» وهما اللذان كانا قد أُرسلا في هذه
المأمورية للحلف الآخي للحصول على هذه المساعدة؛ فإن مجلس الحلف قد قرر اقتصار
المساعدة على أن يبعث للفريقين المتخاصمين رسلًا للتوفيق بينهما، يُضاف إلى ذلك
أنه
من المحتمل أن «تيودوريداس»
Theodoridas حاكم
«سيسون»
Sicyone الذي كان قد أرسل إليه ملكَا مصر
في طلب المساعدة قد رفض كذلك تجنيد ألفٍ من الجنود المرتزقين، وكان قد كلف بتجنيدهم
لحسابهما، ومن ذلك نرى أنه لم يَبْقَ أمام مصر بعد كل هذه المحاولات إلا الالتجاء
إلى الرومان، وقد كان هناك من الأسباب ما يدعو إلى الشك في حسن نواياهم التي كان
يستعرضها ممثلوهم في الشرق. وعلى أية حال عاد السفراء المصريون من «آخيا» وهم
يحملون إلى «الإسكندرية» أخبارًا مخزية، ولا نزاع في أن ملكي مصر قد رأيا أن الصدمة
التي صُدم بها بعثهما لا بد كان سببها بوجه عام المعارضة التي قام بها الحزب
الروماني الذي كان يرأسه «كاليارتيداس»
Calliartidas في الحلف الآخي، وأن تصويت المجلس
الفيديرالي كان قد أملى بوساطة خطاب القنصل «مارسيوس فيليبوس» وهو ذلك الخطاب الذي
دعا فيه الآخيين إلى أن ينضموا إلى «روما» من أجل محاولة عمل اتفاق بين هؤلاء
الملوك. وحقيقة الأمر أن «مارسيوس فيليبوس» كان يعلم تمام العلم أن هؤلاء المبعوثين
لم يفلحوا في التنبؤ بقيام حرب، وقد عادوا إلى «روما» دون أن يقوموا بأي عمل كان،
٣٢ ولا غرابة في ذلك فقد كان «مارسيوس فيليبوس» يعلم بكل دقائق الأحداث
السياسية الرومانية التي كانت تجري في الشرق.
وعلى أية حال كان ملكا مصر يأملان أملًا كبيرًا في مساعدة مجلس الشيوخ إن هما
طلبا منه ذلك مباشرة، وكان الوفد الذي حمل إلى «روما» أنباء صلحهما معًا قد وجد
أن
طلبهما قد أجيب،
٣٣ ويرجع السبب في ذلك إلى أن صيحة الحزن والأسى التي انطلقت من أهالي
«الإسكندرية» المحاصرين قد جعلت المجلس الأعلى يقرر أن يعمل في صالح السلام. هذا،
وقد ظهر السفراء الذين أرسلهم «إيرجيتيس الثاني» و«كليوباترا» أمام مجلس الشيوخ
بملابس الحداد وفي أيديهم أغصان الزيتون خاضعين خاشعين، وكانت خطبهم كلها عويل
وأنين موضحين بأنه إذا لم يسارع الرومان برفع صوتهم عاليًا في وجه «أنتيوكوس» فإن
طرد «بطليموس» و«كليوباترا» من الملك لا بد واقع، وعلى ذلك فإنهما سيأتيان إلى
«روما»، وسينال بسبب ذلك الرومان بعض الخزي لعدم القيام بتقديم أي عون في تلك
الأزمة المستحكمة الحلقات، وقد قرر مجلس الشيوخ في خلال تلك الجلسة تعيين ثلاثة
مبعوثين للذهاب إلى «أنتيوكوس» أولًا ثم إلى «بطليموس» بعد ذلك؛ ليفسروا لهما أن
الاستمرار في الحرب معناه قطع العلاقات مع الشعب الروماني. وبعد ثلاثة أيام من هذه
المقابلة في مجلس الشيوخ سافر البعث الذي عُين مع السفراء المصريين.
٣٤
والآن يتساءل الإنسان عن سبب المماطلة والتراخي في عدم إنجاز هذه المأمورية التي
كانت مُرسَلة على وجه السرعة؟ ذلك أن «بوبيليوس»
Popillius الذي كان أحد أعضاء البعث قد مر ﺑ
«كالسيس»، ثم عرج على «ديلوس»، ثم احتُجِز في الجزيرة المقدسة بالطرادات المقدونية،
ولم يخرج منها إلا في شهر سبتمبر بعد هزيمة الملك «برسيوس»، وبعد ذلك مكث البعث
مدة
خمسة أيام في «رودس»، وعلى ذلك لم يصل إلى الإسكندرية إلا بعد سبعة أشهر من مغادرته
«روما»، وسبب ذلك يرجع إلى سياسة مجلس شيوخ «روما» الذي كان — كما نعرف — لا يريد
أن يرتبط بأية مخاطرة، ولا يصطدم بأي شخص ما دامت الحرب بينه وبين «مقدونيا» قائمة.
ومع ذلك فإن «بوبيليوس» الذي كان ينتظر اللحظة المناسبة للقيام بمأموريته لم يصل
متأخرًا أكثر مما كان واجبًا، ومن ناحية أخرى يجب الاعتراف بأن «أنتيوكوس» لم يسارع
إلى الوصول إلى «الإسكندرية»، فقد غادر «سوريا» في أوائل الربيع، وكان كما نعلم
وقتئذ مسيطرًا على «بلوز» (الفرما)، هذا فضلًا عن أنه لم يكن أمامه في أي مكان حشود
للتغلب عليها، غير أنه لم يجد وسيلة للوصول إلى مواني «الإسكندرية» قبل حمارة
الصيف، وقد رأى أنه من الصواب أن يستولي على بلاد القطر قبل أن يهاجم الملكين في
«الإسكندرية».
يُضاف إلى ذلك أن «أنتيوكوس الرابع» كان يعلم ما يدور بخلد الرومان؛ ومن ثم لم
يكن يخشى بأسهم ما دامت الحرب مستعرة بينهم وبين ملك «مقدونيا» الذي كان يصد
جيوشهم، وينزل بهم الضربات القاسية، هذا فضلًا عن أنه في هذه اللحظة قد استحق بعض
احترام الرومان له، بعد أن علموا أنه رفض طلب المقدونيين للتحالف معه على حساب
الرومان، وبخاصة عندما نعلم أن عروض تحالف مماثلة كانت قد عُرضت على «إيمونيس» ملك
«برجام» مما سبب تزعزع ثقة الرومان في هذا العاهل، ومن أجل ذلك كان لدى «أنتيوكوس»
الوقت للذهاب إلى «منف»، وربما كان القصد من ذلك هو التأكد من خضوع المقاطعات
العليا لحكمه، بعد ذلك نراه ينحدر ثانية في مراحل صغيرة إلى «الإسكندرية»، وعندما
أصبح على مسيرة أربعة أيام منها حيث وصل إلى ضواحي «إليوسيس»، وعندما كان يعبر
القناة هناك؛ قابله البعث الروماني، وكان لقاءً عظيمًا تبارى المؤرخون القدامى —
بصرف النظر عن المؤرخين الأحداث — في تصوير ما حدث فيه. وفي هذه المقابلة نجد أن
«بوبيليوس»
Popillius قد تحاشى الإجابة على مظاهرات
الود والمجاملة التي كان يقدمها له «أنتيوكوس» — وكان يعرفه من قبل في «روما» —
وذلك عندما مد هذا السفير يده إليه بعتو وكبرياء مسلمًا إليه رسالة مجلس الشيوخ،
وفي هذه اللحظة كان «أنتيوكوس» يحاول أن يتخلص من ذلك، غير أنه لما رأى في نهاية
الأمر أنه كان مجبرًا على أن يجيب — قبل أن يفلت من المأزق الذي وُضع فيه — الرومان
على الرسالة، قال بصوت متهدج: سأفعل ما يرغب فيه مجلس الشيوخ.
٣٥ وكان ما يرغب فيه مجلس الشيوخ من «أنتيوكوس» هو أن ينسحب من مصر جميعها
في الحال على شرط أن يكون خارج حدودها في ميقات معين، وأن يوقع مقدمًا على
الترتيبات التي يرى المندوبون الرومان فوق العادة اتخاذها، وعندئذ فهم «أنتيوكوس»
أن مصيره قد قُرر في «بيدنا». وقد كانت هذه غلطة «أنتيوكوس»؛ لأنه فاته أن يساعد
المقدونيين في الوقت المناسب على الرومان، ومن أجل ذلك لم يَبْقَ أمامه إلا أن يشرب
كأس خزيه ويخضع للأمر الواقع. وعلى أثر مغادرة «أنتيوكوس» الديار المصرية ثبت
مبعوثو مجلس الشيوخ الاتفاق الذي كان قد أُبرم بين الأخوين ملكي مصر، وكانا قد وقعا
الصلح فيما بينهما في نفس الوقت، وبعد ذلك أقلع المبعوثون إلى «قبرص» وطردوا أسطول
«أنتيوكوس» الذي كان قد هزم فعلًا السفن المصرية في موقعة هناك. وتُعتبر مقابلة
بعث
مجلس الشيوخ ﺑ «أنتيوكوس الرابع» بمثابة ناقوس الخطر بالقضاء على دولة
السليوكيين.
وقد انتشرت أصداء هذا البعث في كل أنحاء العالم المتمدين، وذلك بسبب أن مصر قد
انتُزِعَت من بين براثن «أنتيوكوس»، بعد أن كان قد استولى عليها فعلًا، وقد عادت
الآن ثانية ملكًا لسلالة البطالمة.
٣٦ ولسنا في حاجة إلى القول بأن ذيوع هذا الخبر قد زاد في خزي «أنتيوكوس»
وإذلاله. ومما زاد في كسر أنف «أنتيوكوس» أن مبعوثي مجلس الشيوخ لم يكن عندهم ثقة
بكلامه، ومن أجل ذلك لم يغادروا مصر إلا بعد أن أخرجوه منها ومن «قبرص»، يُضاف إلى
ذلك أنه على الرغم مما كان يملأ نفسه من غرور وكبرياء نجده قد أحنى رأسه وأذل نفسه
أكثر مما كان يتطلبه مجلس الشيوخ؛ يدل على ذلك أنه عندما تقابل سفراؤه في «روما»
مع
أولئك السفراء الذين كانوا يحملون شكر البطالمة لمجلس الشيوخ على صنيعهم؛ كلفهم
بأن
يقولوا بأنه قد أطاع أوامر المبعوثين كأنها أوامر من عند الله، وأنه كذلك كان على
استعداد لمساعدة الرومان لإيقاع الهزيمة ﺑ «برسيوس» إذا كانوا قد رغبوا في ذلك.
٣٧ ومن جهة أخرى نرى كيف كان «بطليموس فيلومتور» يحافظ على كرامته إذا ما
قُرن ﺑ «أنتيوكوس»؛ ولا أدل على ذلك من أن «بوبيليوس» قد طلب إلى «بطليموس» أن يسلم
فردًا يُدعى «بولياراتوس»
Polyaratos من حزب
«برسيوس» — وقد كان الرومان قد طردوه من بلادهم فلجأ إلى مصر — على أن يُرسَل إلى
«روما»، فبدلًا من إرساله إلى «روما» فإن أحد أصدقائه الذي يُدعى «ديمتريوس» قاده
إلى «رودس»،
٣٨ وفي مقابل ذلك أُفرج عن فرد يُدعى «مينالسيداس»
Menalcidas الذي كان سجينًا عند
الرومان.
ومما لا شك فيه أن «أنتيوكوس» كان يريد أن يصب جام غضبه على أولئك الذين كانوا قد
فرحوا بما لحق به من خزي وعار، والمقصود بذلك هنا هم اليهود، أولئك القوم الذين
كان
من السهل أن يُتهموا في ولائهم، وقد دفعوا ثمن ما لحق به من عار على يد الرومان؛
فقد خانوه، وانصرفوا عنه في أحرج وقت عندما بدت لهم الفرصة؛ كما هي عادتهم.