حالة البلاد المصرية بعد طرد أنتيوكوس منها والنضال الذي قام بين الأخوين
بعد أن خرجت «روما» منتصرة في الحرب التي نشبت بينها وبين «برسيوس» ملك «مقدونيا»
عام
١٧١ق.م وهي التي انتهت بصلح «بيدنا» الذي أطاح بما كان لمقدونيا من سلطان وجاه، أصبحت
«روما» صاحبة الجاه والسلطان في كل العالم المتمدين، كما أصبحت الحكم في كل الخصومات
التي كانت تظهر بين الدول المتنافسة بوجهٍ عام، ولا أدل على ذلك من أن «أنتيوكوس
الرابع» قد خضع لأوامر الجمهورية الرومانية وأعاد للبطالمة بلادهم بعد أن كان قد
استولى
عليها، غير أن الرومان لم يتركوا البلاد المصرية وشأنها لتحكم نفسها بنفسها؛ بل على
العكس رأينا أن مجلس الشيوخ بعد أن انتزع مصر من بين براثن «أنتيوكوس» أخذ يعمل على
تقويض العمل الذي أحدثته ثورة «الإسكندرية»، وذلك بأن يعيد للسلطة الملكية وحدتها،
وتدل
ظواهر الأحوال على أن السياسة الرومانية كانت تمتاز بدورها في تاريخ العالم الذي
يتمثل
في القول المأثور «فرق تَسُدْ»، ومن ثم كان لزامًا عليها في حالة مصر أن تفيد من
الانقسام الذي كان موجودًا، والذي لم تكن في حاجة لإثارته، وعلى ذلك استمر كل من
الملكين الأخوين يحكمان البلاد سويًّا، وكان الوئام بينهما سائدًا لدرجة أنه لم يكن
للملك إلا لقب واحد رسمي، وكذلك لم يكن هناك إلا ملكة واحدة وهي زوج «بطليموس» الأكبر
«فيلومتور».
وفي الحق ليس في استطاعتنا أن نضع فكرة واضحة عن هذه الحكومة التي كان يشترك فيها
ملكان، أو — كما شاهدنا على الآثار — كان يحكمها ثلاثة ملوك: رجلان وامرأة؛ يدل على
ذلك
نقش بالإغريقية على شرف الملك «بطليموس» أخ الملك «بطليموس» والملكة «كليوباترا»
الآلهة
المحبين لأمهم.
١
يُضاف إلى ذلك أن نقود الملكين لا تحمل إلا «بطليموس بازيليكس» في حين أنها تحمل
نسرين بدلًا من نسر واحد.
٢
وقد كانت أول نتيجة لنظام الحكم الجديد أن برزت على مسرح الحكم في البلاد الملكة
الوحيدة التي لم تكن فقط ملكة بوصفها زوج ملك؛ بل كانت وصية تحمل نفس اللقب الذي
يحمله
كل من الملكين، ولا نزاع في أن هذا الحادث كان فتحًا جديدًا للجنس اللطيف في ميدان
السياسة البطلمية، وقد عرفت الملكات اللائي جئن بعدها في هذه الأسرة كيف يمكنهن
المحافظة على هذه المكانة، ومن الغريب أننا لا نعرف كيف كانت السلطة موزعة بين هذين
الملكين، وعلى أية حال لم يكن هناك تقسيم فيما بينهما من حيث أرض الدولة، وهذه طريقة
قد
أصبح من الضروري تحديدها لأجل عدم الارتباك في الحكم المشترك، وكان الجدال في هذا
الموضوع يتجه بصورة خاصة إلى مسألة التأريخ بسني حكم كل من الملكين، وهذا أمر هام
عند
فحص الآثار، وإن كان لا يهم المؤرخ كثيرًا. وعلى أية حال فإن هذا الموضوع غامض.
ولا نزاع في أن ما كان لا بد من حدوثه في مدة خمس السنوات التي ظل فيها هذان الملكان
يحكمان سويًّا قد أمكن التنبؤ به من مجريات الحوادث؛ إذ كانت فترة خمس السنوات هذه
تُعتبر فترة استعداد لحروب أهلية شبت بين الأخوين، فقد كان «فيلومتور» في أعماق نفسه
ينطوي على بعض الصفات الإنسانية والاستقامة الخلقية، غير أنه في الوقت نفسه كان ينقصه
النشاط واستقامة الرأي، أما أخوه «إيرجيتيس الثاني» فقد كان أكثر قوة إرادة وذكاء،
ومن
جهة أخرى كان منذ صباه ميالًا للرذائل والقسوة، هذا إلى أنه كان طموحًا إلى حد الإفراط،
وكانت له كنية يُعرف بها عند الشعب وهي «الشرير»، كما كان ينابذه الشعب «الإسكندري»
ﺑ
«البطين» (أبو كرش)، وفي هذا منتهى السخرية والاستخفاف والاستهزاء برجل يحكم البلاد.
٣
ويُلحظ أن ما كان بين هذين الرجلين من تناقض في الأخلاق والطباع كان لا بد أن ينتهي
بقيام نزاع مرير بينهما، وفعلًا اشتد الخلاف بين الأخوين، وتحرج الموقف حتى أدى إلى
أن
طرد «إيرجيتيس الثاني» أخاه «فيلومتور» من «الإسكندرية» بالقوة عام ١٦٤ق.م.
٤ ولا بد أن طرد «فيلومتور» من البلاد كان يُعتبر بمثابة ترويح عن نفوس
المصريين؛ وذلك لأن الخلاف الذي كان متوطنًا في البلاط كان قد بدأ يضرب بأعراقه في
البلاد، فمنذ عام ١٦٧ أو ١٦٦ق.م ظهر في أفق السياسة المصرية رجل صاحب شخصية ممتازة
من
أرومة مصرية صميمة يحمل اسمًا مصريًّا وهو «بتوسرابيس» واسمًا آخر إغريقيًّا وهو
«ديونيسيوس»، وكان يُنظر إليه بأنه حامي «بطليموس» الصغير من شرور أخيه الكبير، ومن
أجل
ذلك أشعل نار فتنة كان عليه أن يخمد أوارها بحرب جبارة، وكان «ديونيسيوس» هذا قد
نال
شهرة عظيمة بما اتصف به من شجاعة نادرة بين مواطنيه، والواقع أنه كان قد فكر في أن
يفيد
من النزاع الذي كان قائمًا بين الأخوين، وبخاصة لأنه كان يحتقرهما لصغر سنهما وقلة
تجاربهما، وكان يعد العدة للتخلص من «بطليموس فيلومتور»، وذلك باستغلال ما كان لأخيه
الصغير من شهرة ومحبة لدى الشعب الإسكندري، كما كان يرغب في أن يفيد من «بطليموس
إيرجيتيس الثاني» بالالتجاء إلى وطنية الشعب المصري، وبذلك يصل إلى عرش الملك.
وكان أول عمل قام به هو أنه أثار خواطر الشعب «الإسكندري» لدرجة أنه كاد يودي بحياة
«فيلومتور»، وكانت نتيجة ذلك أن عرض «فيلومتور» على أخيه الصغير عرش البلاد بمفرده،
غير
أن «إيرجيتيس» احتج على اتهامه بالاشتراك في التآمر على أخيه، وبعد ذلك تفاهم الملكان،
وخرج كل منهما يلبس تاج الملك أمام الشعب؛ ليرى كل الناس أنهما على وفاق تام. وقد
كان
من جراء ذلك المظهر أن أفل نجم «ديونيسيوس» بعد أن كُشف أمره، غير أنه أخذ من ناحية
أخرى يستحث الجنود الوطنيين؛ فحرضهم على الانضمام إلى جانبه، وكان يأمل من وراء القضاء
على أسرة البطالمة أن يعود بالحكم إلى يدي مصري، ونراه بعد ذلك قد ارتد بما لديه
من
جنود إلى «إليوسيس»
Eleusis وهناك جمع كل الموالين
للثورة، ويبلغ عددهم حوالي أربعة آلاف مقاتل من الخارجين على البطالمة، وعندئذ سار
الملك لملاقاة «بتوسرابيس» في ساحة القتال؛ فهزمه وقتل بعض أتباعه، ثم قفى أثر الفارين،
وقد أجبر «بتوسرابيس» على أن يعبر النهر عاريًا، ومن ثم التجأ إلى بعض المصريين،
وهناك
أمكنه أن يثير عواطف مواطنيه، وجعلهم يخرجون على الملك، وقد أمكن هذا البطل المصري
بما
كان يتمتع به من مكانة عظيمة في نفوس المصريين أن يجمع حوله جمعًا غفيرًا من أبناء
مصر
المتحمسين لوطنهم، وقد وطد الجميع العزم على أن يوثقوا عرى الاتحاد والصبر على النضال
٥ حتى النهاية.
ومما لا شك فيه أن هذا الاتحاد كان طعمًا لهبوب ثورة قومية، وهذا يذكرنا بالحالة التي
كانت عليها البلاد في عهدي «بطليموس الرابع»، و«بطليموس الخامس».
عزل بطليموس السادس بعد انتصاره
بعد ذلك نرى «فيلومتور» يزحف على رأس جيش نحو الوجه القبلي لمنازلة الثوار هناك،
وقد تمكن من أن يُخضع بسهولة بعض العناصر الثائرة في إقليم «طيبة»، غير أن مدينة
«بنابوليس» كانت على ربوة يصعب الوصول إلى مدخلها، وكان قد تحصن فيها فريق نشط من
الثوار. ولما علم «فيلومتور» ما كان عليه المصريون من عناد وشدة مقاومة، هذا
بالإضافة إلى حصانة المكان الذي لجئوا إليه؛ فإنه نصب حول المدينة حصارًا منظمًا،
وبعد مقاومة جبارة تحمل فيها الملك خسائر جسيمة استولى على المدينة في آخر الأمر،
وعاقب الثوار الذين استسلموا إليه، ثم ولى وجهه شطر مدينة «الإسكندرية»، غير أن
الأمر الذي يدعو إلى الدهشة والعجب هنا هو أن «فيلومتور» لم يتمكن من دخول
«الإسكندرية» بجيشه الذي عاد به من الصعيد مظفرًا منتصرًا. وعلى أية حال لا ندري
تمامًا في أي الأحوال اضطر هذا الملك إلى الخروج من «الإسكندرية»، غير أنه مما لا
شك فيه أن «إيرجيتيس الثاني» كان محبوب الشعب «الإسكندري»، وهو الذي اختاره ملكًا
على البلاد من قبل، ومن ثم لا بد أنه قد انتهز الفرصة المواتية لطرد أخيه
والاستيلاء على البلاد وحده، وبخاصة أن «فيلومتور» لم يكن محبوبًا من الشعب
«الإسكندري»، يُضاف إلى ذلك أنه كان جبانًا رعديدًا؛ فقد شاهدناه يترك — بجبن وخور
عزيمة — عرش البلاد أمام ظل من الخطر، كما رأينا أنه قبِلَ أن يصبح تحت حماية ملك
«سوريا»، وأنه فضلًا عن ذلك سلمه ملك بلاده، وحاصر معه «الإسكندري»، وقصارى القول:
طرد «إيرجيتيس» أخاه «فيلومتور» من الإسكندرية فأصبح شريدًا، وعندئذ لم يَرَ الأخير
مخرجًا له إلا الانقلاب إلى «روما» ليشكو لمجلس شيوخها ما حاق به من غدر وخيانة
على
يد أخيه، وكانت «روما» وقتئذ ملجأ الملوك المنفيين. ويقص علينا المؤرخ «ديدور» الذي
كتب عن هذا العهد، فيحدثنا أن هذا العاهل الطريد جاء إلى «روما»، وأنه عندما كان
يقترب من المدينة العظيمة سائرًا على قدميه دون أن يكون في رفقته إلا خصي وثلاثة
عبيد، رأى الأمير «ديمتريوس السليوكي» مقبلًا لملاقاته — والأخير هو ابن أخ
«أنتيوكوس الرابع» وكان حبيسًا في «روما» بمثابة رهينة — وقدم إلى «بطليموس» ملابس
ملكية وتاجًا وجوادًا مسرجًا بسرج فاخر؛ لأجل أن يستطيع دخول «روما» بمظهر أقل حطة
مما هو عليه، ولكن «بطليموس» لم يعبأ بمثل هذه المظاهر الرسمية، فقد كان يريد أن
يبعث — بالمظهر الذي هو عليه — الشفقة والعطف على حالته، وبذلك يتمكن من قضاء حاجته
التي جاء من أجلها، ومن ثم رجا «ديمتريوس» ألا يهتم به، بل طلب إليه أن يبقى في
المؤخرة؛ ليترك له المجال لتقديم نفسه بنفسه بالحالة التي تتناسب مع المصيبة التي
حلت به.
بطليموس السادس في روما
والواقع أنه عندما وصل «بطليموس» إلى «روما» ذهب توًّا إلى مسكن حقير يملكه فرد
يُدعى «ديمتريوس» وهو رسام كان قد عرفه وآواه في «الإسكندرية»، وقد كان من جراء
تصنع «بطليموس» المسكنة والظهور بمظهر التواضع أنه غادر «روما» بعد أن حقق ما كانت
تصبو إليه نفسه؛ إذ إن مجلس الشيوخ اعتذر إليه عن عدم إرسال حاكم ليكون أمامه
لاستقباله، كما اعتذر إليه عن أنه لم يجهز له سكنًا رسميًّا؛ وذلك لأنه لم يعلنه
في
الوقت المناسب؛ إذ الواقع أن وصول الملك فجأة وخفية كان موضع دهشة كل الدنيا اللهم
إلا أولئك الذين كانوا يعلمون بالأمر مثل الأمير السوري «ديمتريوس».
وبعد ذلك سكن «بطليموس» على حساب الحكومة الرومانية، ووكل أمر العناية به إلى
ضابط، وبعد ذلك دعاه مجلس الشيوخ إلى جلسة،
٦ وقد قام كل من الطرفين بتمثيل دوره بصورة تامة.
وعلى أية حال فإن كل هذه المجاملات التي تنطوي على اللطف وحسن المعاملة لم تأت
بنتيجة مباشرة مرضية من قبل الرومان؛ لأن مجلس الشيوخ لم يكن أبدًا حذرًا في
تعابيره المرضية إلا عندما يكون قد حسب حسابه بأنه لن يتورط في أمر لا يعود عليه
بالنفع، ومن المحتمل أن «بطليموس» إذا لم يكن قد انتظر مدة طويلة لحضور جلسة مجلس
الشيوخ لضاع عليه الحصول على جواب يحدد مقاصد الحكومة الرومانية معه. وعلى أية حال
فإنه لم يُخبر بأن مجلس الشيوخ قد وجد الفرصة الممتازة ليقوم بقسمة السلطة الملكية
بينه وبين أخيه؛ بل كذلك لتقسيم البلاد نفسها فيما بينهما، ومن أجل ذلك نصح إليه
مجلس الشيوخ — على ما يُظن — أن يذهب إلى قبرص وينتظر هناك مجرى الحوادث. ولا بد
أن
مجلس الشيوخ قد أرسل معه أو في أعقابه بعثًا للتوفيق بين الأخوين على أن يقوم
بمهمته على حسب الأحوال، وهذا ما دعا للقول فيما بعد أن الرومان قد أعادوا الملك
المخلوع إلى عرشه.
إعادة بطليموس السادس لعرش الملك
والواقع أن «فيلومتور» قد استدعاه الشعب «الإسكندري» من «قبرص» بعد أن اتضح له
بسرعة أن سفر «فيلومتور» قد أرخى العنان لغرائز «إيرجيتيس»، وقد كانت تنطوي نفسه
على الشر والانتقام والأخذ بالثأر، وقد حدث ذلك على إثر قتله «تيموتيس»، وهو شخصية
معروفة كان قد أرسله من قبل «فيلومتور» في بعثٍ إلى روما عام ١٧١ق.م، وقد كان من
جراء ذلك أن نفد صبر «الإسكندريين» وجعلهم يقومون بتشتيت شمل البيت المالك،
واستدعاء «بطليموس فيلومتور» من «قبرص»، وهذا ليس بمستغرب على الشعب «الإسكندري»،
فقد كان مذاق طعم الثورات لا يفارق أولئك الذين تعودوا عليها، وسكان «الإسكندرية»
قد اعتادوا منذ زمن بعيد أن يولوا الملوك ويخلعوهم بإعلان الثورة كلما وجدوا في
ذلك
صالحهم.
وعلى أثر هذه الثورة تدخل السفيران الرومانيان «كانوليوس»
Canulius و«مرسيوس فيليبوس»، ولم يكن القصد من
هذا التدخل مساعدة «فيلومتور»، ولكن لأجل منعه من إساءة استعمال انتصاره، وحماية
«إيرجيتيس» الذي أثار غضب غمار الشعب عليه، وكذلك ليحفظ له جزءًا من إرث والده،
وقد
شهد فيما بعد هذان السفيران أمام مجلس الشيوخ وباعتراف «فيلومتور» نفسه أن
«إيرجيتيس» مدين لهما بملك «سيريني» بل وبحياته، فقد بلغ كراهية الشعب له وحقده
عليه إلى هذا الحد، ولذلك فإنه لما رأى أن منحه ملك «سيريني»
٧ لم يكن في الحسبان؛ بل كان أمرًا دعا إلى دهشة الرأي العام، فقد قبله
بسرور، وعلى ذلك أخذ يتبادل مع أخيه المواثيق على ذلك.
٨ حقًّا كانت بين الأخوين قسمة فيما بينهما (غير أنه لم يكن هناك انفصال،
فقد كان ملك «سيريني» لا يزال يحمل لقب «فيلومتور») وعلى أية حال عُقدت بين الأخوين
معاهدة بمقتضاها تُعزل «سرنيقا» عن مصر على أن تؤلف مملكة مستقلة يحكمها «إيرجيتيس»
عام ١٦٣ق.م. وهكذا نرى أن السياسة الرومانية تحت ستار الصلح والتراضي بين الأخوين
قد نقضت العمل العظيم الذي جاهد في إتمامه البطالمة الأول، فقد ضربت بمعولها البناء
الذي كانوا قد أقاموه، وكذلك نجد أنها قد ادخرت لنفسها الحق في أن تثير عند الحاجة
طمع أحد الأخوين عندما يشعر أنه قد نال نصيبًا أقل من ملك والده.
أما «فيلومتور» فإنه على أثر هذا الانقلاب أظهر حسن النية على الرغم مما حدث؛ إذ
قد سارع إلى إعلان عفوه عن أولئك الذين كان لهم ضلع في نفيه، وقد كان هذا الملك
يأمل في أن يعيش بعد ذلك بضع سنين في هدوء وسلام، غير أن «إيرجيتيس» لم يَكَدْ
يعتلي عرش «سيريني» حتى قام محتجًّا على المعاهدة التي أُبرمت بينه وبين أخيه، وأخذ
يشكو مر الشكوى من تصرفات «روما» على أثر الحوادث التي كانت تجري في «سوريا»؛ وذلك
أن «أنتيوكوس إبيفانيس» ملك «سوريا» كان قد حضره الموت في عام ١٦٤ق.م بصورة عُللت
بأنها انتقام إلهي، وقد ترك بلاد يهودا في يدي «يوداس مكابي»، أما عرشه فقد تولاه
من بعده ابنه الصغير «أنتيوكوس الخامس يوباتور»، وفي الواقع كان يوجد مُطالبٌ آخر
بعرش السليوكيين وهو «ديمتريوس» الذي كان ينادي منذ ثمانية عشر شهرًا بأحقيته في
ملك «سوريا» لأنه ابن «سليوكوس الرابع»، الذي تولى الحكم بعده «أنتيوكوس الرابع»
كان بدون حق، وقد جاء الآن ابن الأخير وتولى عرش الملك وهو لا يزال رهينة في روما،
ومن ثم احتج «ديمتريوس» لدى مجلس شيوخ «روما» على هذا التصرف. غير أن المجلس الأخير
كان يفضل أن يرى على عرش «سوريا» طفلًا على «ديمتريوس» الذي كانت طباعه غير مرضية،
ومن أجل ذلك أُرسل بعث إلى الشرق في أوائل عام ١٦٢ق.م برياسة «أوكتافيوس»
Octavius مهمته فحص سير الأمور في «مقدونيا»،
وكان عليه وهو في طريقه كذلك أن يحسم بعض الخلافات التي كانت بين «جالاتيس»
Celates وبين «أريارات»
Ariarathe صاحب «كبادوشيا»، وأخيرًا يتمم
مأموريته الرئيسية، وذلك بأن يفض بصورة منظمة كل ما كان قد بقي لدى ملك «سوريا»
من
قوة حربية. وفي أثناء طريق هذا البعث للقيام بهذه المهام كانت شكاوى «بطليموس
إيرجيتيس الثاني» قد وصلت إلى «روما»، فأرسل مجلس الشيوخ أمرًا للبعث بالذهاب كذلك
إلى «الإسكندرية» لأجل أن يصلح بين الملكين الأخوين بقدر المستطاع، والواقع أن
الصيغة التي وُضع فيها أمر مجلس الشيوخ فيما يخص عمل صلح بين الملكين لا يُشتم منها
رائحة الرغبة الشديدة في إصلاح ذات البين، ومن أجل ذلك رأى البعث أن يفرض على
الملكين المتخاصمين احترام الاتفاقات التي صُودق عليها في العام المنصرم على يد
«كانوليوس»، وأنه في ذلك الكفاية. غير أن البعث الروماني لم يستمر في طريقه حتى
الإسكندرية؛ لأن رئيسه «أوكتافيوس» قُتل في مدينة «لاؤديسيا» من أعمال «سوريا» بيد
رجل يُدعى «لابتين»
Laptine، ومن المحتمل أن هذا
القاتل كان من الوطنيين الذين أحفظهم قتل الفيلة وحرق السفن الحربية على حسب أمر
هؤلاء الرومان الذين جاءوا لتنفيذ ذلك،
٩ وقد اعتُبر هذا التعدي على جلالة الشعب الروماني بمثابة
«أعجوبة».
إيرجيتيس الثاني يذهب إلى روما
غير أنه من جهة أخرى لُوحظ أن صبر «بطليموس إيرجيتيس الثاني» كاد ينفد، ومن أجل
ذلك غادر «سيريني» وفي حرسه فرد يُدعى «بطليموس سيمبتيسيس»
Symptesis، وقصد بشخصه «روما» ليشكو من أنه قد
ضحى به من أجل أخيه، وطلب إلى مجلس الشيوخ النظر في إعادة تقسيم ملك مصر، وكان يرغب
في أن تُضم إليه «قبرص»، على أنه كان من المعلوم أن مجلس الشيوخ قد سن قانونًا عام
١٦٦ق.م حظر فيه على الملوك المجيء إلى «روما».
غير أن المجلس رأى أنه من الصواب عدم تطبيق هذا القانون على «إيرجيتيس الثاني»
الذي كان يُعتبر في حماية الرومان، وبخاصة لأن هذا القانون العام لم يُستخدم إلا
مرة واحدة، وهي حالة ملك «برجام». وقد سنحت حينئذ الفرصة للملك «إيرجيتيس الثاني»
أن يستعرض قضيته بحرية على مجلس الشيوخ، مبينًا أنه كان مُجبَرًا بحكم الضرورة على
أن يوقع على القسمة التي أُبرمت عام ١٦٣ق.م، وأنه إذا استولى على «قبرص» بالإضافة
إلى «سيريني» يكون نصيبه متكافئًا مع أخيه، ولكن «فيلومتور» كان في تلك الفترة يرقب
خطوات أخيه، ومن أجل ذلك أرسل سفراء إلى «روما» على رأسهم «منيللوس»
Menyllos للدفاع عن حقه، وقد عاضد «منيللوس»
هذا في دفاعه أعضاءُ مجلس الشيوخ الذين كانوا قد حضروا القسمة بين الأخوين، ومن
ثم
يمكن الاعتقاد بأن مجلس الشيوخ لم يكن في مقدوره إنكار ما قام به هؤلاء المفوضون،
غير أن منطق الحكومة الرومانية كان له المكانة الأولى قبل كل اعتبار، وأن تضحية
حب
الذات كانت أخف شيء يمكن الرومان أن يأتوه من أجل خدمة الوطن، وتفسير ذلك أن مصلحة
روما كانت في إضعاف مصر؛ حتى لا تجعلها تستعيد وحدتها التي كانت فيما سبق تُعتبر
قوتها.
تدخل الرومان في شئون مصر
ومن أجل ذلك قرر مجلس الشيوخ أن يرسل بعثًا مؤلفًا من عضوين من مجلس الشيوخ وهما
«توركاتوس» Torquatos و«ميرولا»
Merula ليعيدا السلام بين «بطليموس فيلومتور»
و«بطليموس إيرجيتيس الثاني»، على أن تُعطى «قبرص» للأخير، وعلى أن يكون ذلك عن
طريقة المحبة ودون أي نزاع أو قتال. والظاهر من الفقرة الأخيرة من تعليمات مجلس
الشيوخ أنه كان يقصد من ورائها الطاعة التامة التي يجب على المتخاصمين الخضوع لها،
وكانت هذه الفقرة قد وُضعت خوفًا من أن تكون هناك مقاومة من أحد الأخوين.
وعلى أية حال لم يكن «إيرجيتيس الثاني» مقتنعًا بأن أخاه سيذعن بما قرره مجلس
الشيوخ؛ ولذلك نجد أنه عندما وصل إلى بلاد الإغريق مع المبعوثين الرومانيين جند
معه
قوة كبيرةً من الجنود المرتزقين وعلى رأسهم اللص المقدوني «داماسيبوس»
Damasippos، ومن هناك مرَّ ﺑ «رودس» و«بيروس»
الرودسية، ثم تقدم في سيره على طول شاطئ «بامفيليا»، وكان مستعدًّا وقتئذ بأن يقذف
بجيشه الصغير على «قبرص»، غير أنه عند «سيدي» Sidé
لُوحظ أن مفوضي مجلس الشيوخ — اللذين كانا قد تركا «بطليموس» يفعل ما شاء حتى الآن
— ذكراه بأنه محظور عليه استعمال القوة، وعلى ذلك قررا أن يصرف «إيرجيتيس» جنوده
المرتزقة، ثم ضربا معه موعدًا عند حدود «سرنيقا» وحدود مصر حيث أخذا على عاتقيهما
أن يُحضرا هناك «فيلومتور» ويقومان بعقد جلسة بين الأخوين المتخاصمين، وقد بقي
«ميرولا» مع «إيرجيتيس» خوفًا من حدوث مخالفات جديدة، أما «توركاتوس» فقد أبحر إلى
«الإسكندرية»، وفي أثناء ذلك كان الملك «إيرجيتيس الثاني» في طريقه إلى «سرنيقا»
مارًّا بجزيرة «كريت». هذا، ولم يظن «ميرولا»
Merula أن من واجبه منع «إيرجيتيس» من تجنيد
ألف جندي آخر من أهالي «كريت»، وقد ادعى الملك أنه يريد أن يؤلف منها حرسًا لنفسه
لا جيشًا، وعندما نزل «إيرجيتيس» في «أبيس» التي لا تبعد كثيرًا عن الحدود المصرية
انتظر هناك نتيجة المفاوضات التي كان يقوم بها «توركاتوس» في «الإسكندرية» مع
«فيلومتور»، ولكن انتظاره قد طال؛ لأن «فيلومتور» لم ير لزامًا عليه أن ينزل عن
كل
ما تطلبه نزاعات «روما»، فقد عارض كل إلحاحات «توركاتوس» المعسولة، وذلك تارة
بالحجج وتارة أخرى بالرفض مما مد في أجل المحادثات طويلًا، ولما نفد صبر «إيرجيتيس»
رجا «ميرولا» أن يذهب إلى «الإسكندرية» ليرى فيها سير الأحوال، وفعلًا ذهب «ميرولا»
إلى الإسكندرية، ولكنه لم يَعُدْ منها؛ وذلك لأن «فيلومتور» كان حريصًا على النظام
الذي وضعه لنفسه تجاه الرومان، فقد طوق جيدهم بالهدايا، يُضاف إلى ذلك أنه أوحى
إليهم بأنه سيخضع لأمر مجلس الشيوخ، غير أنه كان يؤجل دائمًا، ومن ثم أبقاهما عنده
كما يُقال على الرغم منهما.
وفي أثناء ذلك كان «إيرجيتيس» قد أمضى أربعين يومًا مع جنوده الكريتيين دون عمل
على البحر في «سرنيقا».
ثورة سيريني على إيرجيتيس
وفي خلال ذلك طُعن من الخلف طعنة نجلاء جعلته يسقط من عليائه وتُطاح بآماله؛ فقد
قامت ثورة في «سيريني» امتدت إلى الأقاليم الأخرى، وعندئذ شعر «سيمبتيسيس» قائده
أنه لا حول له ولا قوة لإخضاع مثل هذه الثورة، ومن أجل ذلك رأى أنه من الخير له
أن
ينضم إلى الثوار، ولا نزاع في أن هذه الثورة كانت هي العقاب الحق ﻟ «إيرجيتيس» على
ما اقترفه من الأعمال الاستبدادية بل الجنونية التي كانت سببًا في إيقاظ عاطفة
الأسف والأسى لدى الأهالي على حريتهم التي فقدوها في ظل حكم هذا الطاغية. والواقع
أنه خُيل للملك «إيرجيتيس الثاني» دون أي شك أن وزيرًا من أرومة مصرية يمكنه أن
يقوم مقامه أثناء غيابه في رحلته، وأنه لا يمكن أن يُغرى على الاتحاد مع الأهالي
في
بغضائهم للحكم الأجنبي، ولكن الحوادث قد كذبت ما كان يأمل؛ إذ إنه هو شخصه كان
ممقوتًا مكروهًا في «سرنيقا».
وعلى أية حال فإن «إيرجيتيس» على أثر قيام الثورة نسي «قبرص» والاستيلاء عليها،
وطار على جناح السرعة لإنقاذ ملكه؛ فزحف بشجاعة مع فرقة جنوده التي كان قد ألفها
من
بين الكريتيين على «سيريني»، ومنذ المراحل الأولى في زحفه إلى «كاتاباتموس»
Katabathmos العظيمة — وهو مكان صعب الوصول
إليه — وجد الطريق مغلقة في وجهه بحشود من اللوبيين والسرينيين، ولكنه تخلص بمهارة
من هذا المأزق؛ إذ أمر بإنزال نصف جنوده في سفن، فأخذ هؤلاء اللوبيين من الخلف،
وذلك أثناء أن كان هو يهاجمهم من الأمام، وبذلك استولى على الممر وعلى القلعة
الصغيرة هناك، وفي هذا المكان وجد الماء بكثرة، وأمكنه أن يمد جيشه بالمؤن اللازمة
لاختراق الصحراء التي كانت أمامه هناك، وقد أمضى سبعة أيام في قطع هذه المفازة
القاحلة تتبعه مراكب أهل «موخيرينوس»
Mochyrinos
ولكن أهالي «سيريني» من جهتهم كانوا قد وطدوا العزم على الدفاع عن أنفسهم، وعندما
اقترب جيش «بطليموس» من المدينة رأى أمامه حشود جيش يبلغ ثمانية آلاف مقاتل من
المشاة وخمسمائة من الفرسان، ولقد كان من الطبعي أنه لم يكن لجيشه الصغير قِبَلٌ
لمقاومة هذا الجيش العظيم؛ ولذلك كان لزامًا عليه أن يتقهقر، وعلى أية حال كان من
حسن حظه أن الجيش السيريني قد حصر همه في الدفاع وحسب. وقد قابل «بطليموس» أثناء
تقهقره «ميرولا» قادمًا من «الإسكندرية» ليخبره أن أخاه «فيلومتور» لم يُرِدِ
النزول عن شيء، كما لم يرغب في أن يغير أي شيء في معاهدة القسمة التي عُقدت بينهما.
١٠
وعلى ذلك كان لا بد من بدء موضوع التوفيق بين هذين الأخوين من جديد، ومن ثم أصبحت
المعاهدة نفسها لاغية، لا سيما أن أهالي «سيريني» اعترفوا بحكم «فيلومتور» ملكًا
عليهم، وكان لا بد من اعتراف «روما» به في هذه الحالة. وعلى أية حال عندما عاد
«ميرولا» إلى «روما» أرسل معه «إيرجيتيس» سفيريه «كومانوس» و«بطليموس» وهما أخوان،
وكلفهما بأن يضعا أمام مجلس الشيوخ ما وصل إليه أخوه «فيلومتور» من شره وغطرسة.
أما
«توركاتوس» فقد تبع زميله؛ لأن «فيلومتور» في خلال تلك الفترة كان قد سرحه فعاد
بخُفي حنين. هذا، ولم يَفُتْ «فيلومتور» أن يرسل في أعقابه بعثًا لمعارضة ما يطلبه
أخوه، ووكل أمر الدفاع عنه إلى «منيلوس» مواطن «ألابندا» وهو السياسي الذي كان مثله
فيما سبق أمام مجلس الشيوخ منذ المناقشة الأولى التي أثارتها تظلمات «إيرجيتيس
الثاني».
تدخل الرومان بين الأخوين
وقد شعر «فيلومتور» أنه في تلك الفترة كان في موقف لا يُحسد عليه؛ إذ سيكون من
الصعب على «روما» أن تغفر له رفضه لطاعتها بصورة علنية تقريبًا، وذلك على الرغم
من
أن الموضوع قد حُل بإبرام عقد حقيقي تحت أعين «الرومان» بموافقة سفرائها، ومع كل
ذلك فإن «فيلومتور» لم يعمل شيئًا غير التمسك برأيه، ولم يعارضه أحد في ذلك لأنه
كان حقه، غير أنه لما كان مجلس الشيوخ يريد الآن أن يدخل في عملية جديدة فإنه نصح
لسفرائه بأن يحلوا هذا الموضوع حبيًّا؛ أي: عن تراض من الطرفين المتنازعين، وفي
خلال الجدال الذي أثير أمام الجمعية التي عُقدت لسماع الوفدين المصريين لم يَغِبْ
عن «منيلوس» أن يحبذ حججه قائلًا: إنه على حسب القانون لا يُوجد جواب للخصم يثبت
ما
يدعيه. والواقع أنه لم يكن في هذه الأيام رجال فتاوى في مجلس الشيوخ، ومن أجل ذلك
قرر المجلس أن يتخذ من هذا النزاع مثالًا يُحتذى به، وكان كل من «توركاتوس»
و«ميرولا» قد عاضد محامي «إيرجيتيس»، غير أنه في خلال المناقشة أخذ سوء خلقهما
الدبلوماسي يلعب دوره، أضف إلى ذلك الانفعال الخفي الذي كان في صدر الجمعية؛ مما
أحدث في نهاية الأمر الانفجار الذي كان يتوقعه كل فرد هناك؛ إذ أخذت أصوات رجال
مجلس الشيوخ في الجلسة، وعلى أثر ذلك أمر «منيلوس» أن يغادر «روما» في خلال خمسة
أيام،
١١ على أن يذهب ليخبر سيده بأن الشعب الروماني لا يعترف به حليفًا.
أما «إيرجيتيس» فأرسل إليه مبعوثًا يعلنه رسميًّا بقرارات مجلس الشيوخ، فسافر كل
من «أبوستيوس» Apustius و«لنتولوس»
Lentulus في الحال إلى «سيريني» حيث كان
«إيرجيتيس» قد وجد وسيلة إلى العودة إلى مقر حكمه، ومن المحتمل أنه قد توصل إلى
ذلك
بإدخال الرعب في قلوب أهالي «سيريني» بإفهامهم أن الرومان قد تدخلوا في الأمر،
ويبدو أن ثورة أهالي «سيريني» واستدعاء «إيرجيتيس» إلى ملكه قد وقعا في عام ١٦١ق.م.
عودة إيرجيتيس إلى سيريني بعد الثورة
وعلى أية حال فإن أهالي «سيريني» كان لديهم الوقت الكافي لوزن الأمور والتفكير في
مصيرهم، ولا نزاع في أن ما كانت تصبو إليه نفوسهم هو أن يبقوا منفصلين عن مصر، هذا
فضلًا عن أن حرمان «إيرجيتيس» من حقه كان يعرضهم إلى حكم مصر من جديد من
«الإسكندرية».
والظاهر أن «فيلومتور» لم تروعه هذه الضربة المثيرة التي أنزلها به مجلس الشيوخ
كالصاعقة، ولم يحرك لها ساكنًا. وعلى أية حال نجد أن مجلس الشيوخ قد اكتفى بإرسال
رجال سياسته لتبليغ إنذاره إلى «فيلومتور»، ولم يرسل معهم أي جنود لتكون تحت إمرة
«إيرجيتيس» لتنفيذ رغباته، ولكنا نجد الأخير قد جند على جناح السرعة جيشًا لمحاولة
الاستيلاء على «قبرص».
١٢ غير أننا حال نجد من جهة أخرى أن سكان هذه الجزيرة لم يكونوا على
استعداد لاستقبال الرجل الذي استبد بالسيرينيين حتى أصبحوا يمقتونه، وعلى ذلك لم
يكن «فيلومتور» ليؤخذ على غرة بهجوم من أخيه. يُضاف إلى ذلك أن «إيرجيتيس» الذي
كان
يستعد للحرب جهارًا لم يكن في الواقع يرتكز إلا على مساعدة الرومان له، تلك
المساعدة التي لم تتجاوز حتى الآن إلا مظاهراتٍ دبلوماسية، ولكن مجلس الشيوخ رأى
أنه — بعد أن حاول تهديد «فيلومتور» — قد زاد دون شك عن حده في مساندة فريق لم يكن
الحق في جانبه فيما ادعاه، ومن أجل ذلك فإن سفراء «روما» بعد أن استقوا معلوماتهم
في هذا النزاع من مصادرها الأصلية رأوا أنه لا بد لهم من إيجاد سبب يغطي انسحابهم
—
الذي كان ضروريًّا — من هذا المأزق، وقد انتهى رأى «إيرجيتيس» باقتناعه بأنه لا
جدوى من المجهودات التي يبذلها في هذه المسألة، وعليه إذن أن يبقى هادئًا في عقر
داره يترقب الفرصة التي بها يضع يده على «قبرص»، وكان الرومان قد سمحوا له بذلك
على
أن يتحمل هو كل ما عساه أن يحدث من أضرار من جراء ذلك.
فترة هدوء في حياة بطليموس السادس
وهكذا نرى بعد كل هذا النضال أن «فيلومتور» أصبح هادئ البال لبضع سنين قام في
خلالها بعمل كل ما في وسعه؛ ليكون محبوبًا عند الكهنة والأجناد؛ وذلك بطوافه مع
الملكة «كليوباترا» زوجه لزيارة المعابد، وإغداق الهبات العظيمة عليها، كما طاف
على
حاميات الوجه القبلي وتفقد أحوالها، يُضاف إلى ذلك أنه زاد عدد رجال الدين الذين
كانوا مخصصين لعبادة الأسرة في مدينة «بطوليمايس» من ثلاثة إلى تسعة
١٣ بين عامي ١٥٩ و١٥١ق.م.
وأخيرًا نعلم أنه في عهد «بطليموس السادس» عادت حالة التفاهم والمهادنة مع
اليهود، وقد تحدثنا عن ذلك في الجزء الرابع عشر من هذه الموسوعة … إلخ.
وعلى أية حال لم يكن السلام الذي كان يتمتع به «فيلومتور» في هذه الفترة إلا
برقًا خلبًا وترابًا تحته وميض نار، فكان مثله كمثل الواقف على بركان يكاد ينفجر
في
أية لحظة، وذلك بالنسبة للسياسة الرومانية التي لم تكن قد نزلت قط عن رأيها رسميًّا
في عدم أحقية «إيرجيتيس» في «قبرص». وقد كان الأخير يترقب الوثوب عليها عندما تسنح
الفرصة.
محاولة «ديمتريوس سوتر الأول» ملك «سوريا» الانقضاض على «قبرص»
غير أنه من سوء حظه ظهر منافس آخر، وبعبارة أدق: لص آخر يريد الاستيلاء عليها،
وأعني بهذا اللص ملك سوريا الجديد «ديمتريوس سوتر الأول»، فقد كان بدوره يعد جزيرة
«قبرص» بمثابة إقليم في استطاعته الاستيلاء عليه. ولقد أفلح «ديمتريوس» هذا في
إغراء حاكم هذه الجزيرة، ويُدعى «أرخياس» Archias
ليسهل له أمر الاستيلاء عليها، ووعده مكافأة على ذلك بمبلغ خمسين تالنتا وبأمجاد
في
بلاطه، وفي اللحظة التي كانت ستتم فيها المؤامرة كُشف أمر الخيانة لبلاط
«الإسكندرية»، وعندما علم «أرخياس» بافتضاح مؤامرته شنق نفسه تخلصًا مما عسى أن
يلقاه من تنكيل وتعذيب (عام ١٥٥ق.م).
ومن المحتمل أن الخائن «أرخياس» هذا هو نفس الشخص الذي صاحب الملك «بطليموس
السادس» في رحلته إلى «روما» عام ١٦٤ق.م. وعلى أية حال فلا بد أن هذا الحادث قد
فتح
عيني «بطليموس» وجعله أكثر يقظة، ولذلك أخذ يعمل على حراسة «قبرص» باهتمام أكثر
من
ذي قبل، وكان «إيرجيتيس» قد بدأ منذ هذه اللحظة يفهم أن آماله في الاستيلاء على
هذه
الجزيرة قد تمتد إلى ما لا نهاية.
ادعاء إيرجيتيس الثاني محاولة قتله
ولا نزاع في أن هذه المحاولة من جانب «ديمتريوس» قد أثارت ما في صدره من شرور
وأحقاد، وأخذ يبحث عن طريقة أخرى يمكنه بها أن يجعل أنظار «روما» تتجه إلى شخصه
ومصالحه. غير أن الطريقة التي دبرها كانت من نسج الخيال؛ فقد علم ذات يوم في «روما»
أن «بطليموس الصغير» قد أفلت من الموت الذي كان قد دبره له أخوه بنصب أحبولة للقضاء
عليه. والواقع أننا لا نعلم على وجه التأكيد إذا كانت هذه الأحبولة كلها من صنع
«فيلومتور» أو أن «إيرجيتيس» أراد أن يفيد من حادث جاء عفو الخاطر، ورغب بعد ذلك
في
أن يلصقه بأخيه. وعلى أثر ذلك سارع «إيرجيتيس» في الذهاب إلى «روما» ليطلع مجلس
الشيوخ على الجروح التي أصابته، وكان برفقته محامياه، وهما «نولايداس»
Neolaidas و«أندروماكوس»
Andromachos بغية اتهام «فيلومتور» بالشروع في
قتله، وعندما سمع مجلس الشيوخ بهذا الحادث فرح فرحًا شديدًا؛ إذ أصبح في استطاعته
أن ينشر إجرام «فيلومتور» علنًا بوصفه سفاحًا حاول قتل أخيه. ولا غرابة في ذلك؛
فإن
مجلس الشيوخ هذا كان يسعى منذ سنين مضت إلى وضع يده على أية غلطة تدين هذا العاهل،
وتجعل الرأي العام العالمي يثور عليه. هذا، ولم يسأل «بطليموس إيرجيتيس الثاني»
كيف
عرف أن أخاه هو المحرض على ارتكاب هذه الجريمة النكراء؛ بل اعتبرت جراحه البراهين
التي لا يتطرق إليها الشك من حيث خيانة أخيه وغدره. وعلى أثر ذلك أمر مجلس الشيوخ
سفراء «فيلومتور» بمغادرة «روما» في الحال، أما «إيرجيتيس» فإنه عاد إلى «سيريني»
وفي ركابه خمسة سفراء، نخص بالذكر منهم «ميرولا» و«مينيسيوس ترموس»
Minicuis Thermus، وكان هؤلاء المبعوثون من قبل
مجلس الشيوخ مكلفين رسميًّا بتتويج «إيرجيتيس الثاني» على عرش «قبرص» وفي الوقت
نفسه أُعطيت السلطة لحلفاء «الرومان» سواء أكانوا إغريقًا أم أسيويين بمد يد
المساعدة القوية لتنفيذ أوامر مجلس الشيوخ. وقد أُرسلت لهؤلاء الحلفاء رسائل تؤكد
هذه الأوامر
١٤ (عام ١٥٤ق.م).
ولكن دلت شواهد الأحوال على أن «إيرجيتيس» في هذه المرة قد وصل إلى نهايته؛ إذ
الواقع أن «الرومان» كانوا قد غالوا هذه المرة كثيرًا في مساعدته حتى أصبح من
العسير عليهم التراجع فيما قرروه، وفي الوقت نفسه كان «إيرجيتيس» يعيش على ما
للرومان من سلطان في الشرق؛ غير أن «الرومان» كانوا أحيانًا يبيعون عزة نفوسهم بثمن
بخسٍ، فكانوا لا يترددون أبدًا في ذلك عندما تكون مصلحتهم في كفة القدر، ومع ذلك
فإن «إيرجيتيس» قد سولت له نفسه أن ينساق أمام وهم كاذب اشترك فيه، وعاضده
«الرومان» حماته. وقد دلت الأحوال على أن مجلس الشيوخ قد أساء معرفة كنه أخلاق
«فيلومتور»، عندما تذكر تمامًا أنه قد رؤي في «روما» في حالة خضوع وذلة تدعو إلى
الأسى والحزن. وعلى أية حال فإن الرومان كانوا ينظرون إلى البطلمي على أنه سكير
وجبان، ولكن «فيلومتور» الذي لم تجد معه المقاومة السلمية حتى الآن استمر على رأيه
في عدم التسليم لمطالب الرومان، ومن ثم فإن المبعوثين الرومان — الذين لم يمكن تتبع
أثرهم — لم يكن في استطاعتهم زحزحة «إيرجيتيس» عن موقفه الصحيح، كما لم يمكنهم غل
يديه عن تحصين «قبرص» حتى تصبح قادرة على الدفاع عن نفسها. وقد أصبح الموقف أكثر
حرجًا عندما علم أن حلفاء «روما» الذين كُتب إليهم لمساعدة «إيرجيتيس» لم يروا من
المستحسن أن يظهروا غيرتهم لهذه المشكلة أكثر من الرومان أنفسهم، فنراهم يتظاهرون
بأنهم لم يفهموا أن إعطاءهم حق التدخل في موضوع «قبرص» إن هو إلا مجرد دعوة دُعوا
إليها وحسب، يُضاف إلى ذلك أنه كان لديهم سبب يدعوهم إلى إساءة الظن بتلك الدعوة؛
وذلك لأن اللغة التي صِيغت بها الرسائل التي أُرسلت إليهم كانت خارقة للمعتاد لدرجة
أنهم شكوا في أن الدعوة كانت جد خطيرة.
الصلح بين الأخوين
وهكذا وجد «إيرجيتيس» نفسه قد أصبح وليس لديه سند يعتمد عليه إلا ما لديه من قوة
حربية وعتاد؛ يُضاف إلى ذلك أن ولاء سكان «قبرص» للملك «فيلومتور» قد جعل مشروعه
في
غزو هذه الجزيرة أمرًا مستحيلًا، ومن ثم نجده قد حوصر في مدينة «لابتوس»
Lapethos ووقع في قبضة أخيه. ومن الغريب أن
موقف «فيلومتور» من الاتهامات التي اتهمه بها أخوه قد أتت بنتيجة على عكس ما كان
منتظرًا؛ فبدلًا من معاملته معاملة الثائر الذي قبض عليه شاهرًا سلاحه ويستحق بذلك
القتل فإنه عرض عليه أن ينسى الماضي، ويعقد معه أواصر التحالف والإخاء من جديد،
وألا ينقض أبدًا ما بينهما من روابط دم ومودة.
وكان من نتائج هذا الصلح أن أخاه لم يقف عند ترك «سيريني» له؛ بل عرض عليه كذلك
الزواج من ابنته،
١٥ كما وعده بأن يقدم له دخلًا سنويًّا من القمح بمثابة مهر الأميرة
الصغيرة.
تسامح بطليموس السادس والإشادة بحسن أخلاقه
وهذا التسامح الكريم من جانب «فيلومتور» لم يأت عفو الخاطر؛ بل لا بد أن الخوف من
«روما» كان له دخل فيه. وعلى أية حال لا بد من الاعتراف بما كانت تنطوي عليه نفس
«فيلومتور» من طيبة طبيعية، هذا بالإضافة إلى روابط الدم التي كانت تربط الواحد
منهما بالآخر. وعلى ذلك لا يتردد الإنسان في الاعتراف بأن «فيلومتور» كان رجلًا
تقيًّا، كما كان من أرق الشخصيات الملكية في التاريخ البطلمي، ومن أجل ذلك قدم له
رفاقه في السلاح — وهؤلاء هم الذين حاربوا جنبًا لجنب معه في قبرص، واشتركوا معه
في
تنفيذ أعماله الجليلة — إكليلًا من الذهب في معبد «ديلوس»، كما قدموا له بهذه
المناسبة شكرهم على حسناته لهم ولأوطانهم، وقد أُعْجِبُوا بوجه خاص بطيبته وسمو
نفسه التي ساعدت على قيام المحبة والسلام في البلاد. هذا، بالإضافة إلى سعيه جهد
الطاقة وراء الوصول إلى أن يكون على وفاق مع الرومان.
١٦
وعلى أية حال لم يتم مشروع الزواج الذي كان قد عرضه على أخيه من ابنته، والسبب في
ذلك لا يزال مجهولًا لدينا. أما «إيرجيتيس» فإنه قد لازم الصمت منذ ذلك
الحين.
وكان لديه من الوقت ما يسمح له بالقيام بدور الأمير الطيب في «سيريني»، وكذلك
القيام بمهام خاصة يرقى بها ببلاده مثل القيام بدور كهانة «أبوللون» السنوية مما
هيأ له الفرصة ليقدم الهدايا لأسلافه.
١٧
هذا، ولا يبعد أن مبعوثي الرومان قد ساعدوا — وهم في حالة ضعف — على هزيمة من كان
في حمايتهم وإخضاعه، ومما لا ريب فيه أنهم عند عودتهم إلى «روما» عام ١٥٤ق.م أو
السنة تلت ذلك لم يعزوا عدم تنفيذ رسالتهم إلا إلى «فيلومتور»، وقدموا في الوقت
نفسه مجموعة شكاوى جديدة تدين هذا الملك الجامح، غير أن «كاتو» المسن الذي كان يشغل
وظيفة مراقب أهاجته هذه الدسائس المريبة، ومن ثم أخذ يدافع عن «فيلومتور»؛ فوصفه
ملكًا ممتازًا ومحسنًا كريمًا، ثم أخذ يكشف عن دهاء «إيرجيتيس» وشرهه، وبعد ذلك
أمر
بعمل تحقيق مع «ترموس» نفسه أدى إلى إدانته، ووُصف بأنه غير موال لمجلس الشيوخ.
١٨ وقد كان أكثر غضبه — من الأمور المتعلقة بمصر — هو أنها حولت الأنظار
عن «قرطاجنة».
وكان «كاتو» يسره أن يحول أنظار السفراء والجمعيات والبحوث التي كانت تجري آنذاك؛
لتكون بمثابة مقدمة لتنفيذ الأعمال الحربية التي كان يرمي إليها في أفريقيا. وتدل
الظواهر على أن تدخل «كاتو» مضافًا إلى ذلك الاستعدادات الخاصة بالحرب التأديبية
الثالثة — بصرف النظر عن ظهور علامات تدل على قطع العلاقات قريبًا بين «روما»
والحلف الآخي؛ لم تساعد على خلاص «فيلومتور» من هم كان يشل مبادرته بالقيام بأي
مشروع منذ خمسة عشر عامًا، والسبب في ذلك واضح جلي؛ ذلك أنه ما دام «الرومان» لم
يقضوا قضاء مبرمًا على «قرطاجنة» فإنه كان لديه الفرصة في أن يكون حر اليدين، ومن
أجل ذلك كان في مقدوره أن يتناول من جديد الأعمال السلمية في داخل البلاد كما سنرى
بعد، أما في خارج مصر فإنه كان يهتم بوجه خاص بالأرخبيل اليوناني وبالأحوال الجارية
هناك. والمظنون أنه قد تعرف الباحثون على صورة للملك «فيلومتور» في تمثال عليه نقش
مصري يمكن أن يكون الملك قد أعطاه «إزيس» في «ميتانا».
١٩ هذا، ونعلم أن إيطاليِّي «كريت» عندما هاجمهم «البراسيين»
Parassens دعوا «فيلومتور» للأخذ بناصرهم،
٢٠ وكان الكريتيون يفهمون دون شك أن «فيلومتور» من بين الملوك الذين
يمكنهم أن يتحدوا مع الآخيين على الرومان.
وأخيرًا نجد «فيلومتور» يحول أنظاره تجاه «سوريا»، حيث كانت الأحوال مُهَيَّأَة
للبطالمة ليكون لهم أمل في الأخذ بالثأر لأنفسهم بسبب ما حلَّ بهم من غم ومصائب
في
الماضي.