(١) حالة «سوريا» قبل الحرب السابقة مع «مصر»
رأينا فيما سبق أن «بطليموس فيلومتور» كان منتصرًا على أخيه في النضال الذي قام
بينهما، وقد أراد أن يفيد من هذا النصر باسترداد «سوريا الجوفاء»، وكانت الأحوال
السياسية في العالم المتمدين وقتئذ مُهَيَّأَة له لنيل أمنيته؛ فقد كانت قوة
الإمبراطورية السليوكية وقتئذ آخذة في التدهور والانحدار الشديد، ويرجع السبب في
ذلك إلى أمرين هامين: الأول: ما كان يجري في داخلها من خلافات شديدة مما أدى إلى
وقوع انشقاق على تولية العرش، والأمر الثاني: هو أنه منذ أن هزم الرومان السليوكيين
أصبح مجلس الشيوخ الروماني يراقبهم عن كثب هم وحلفاءهم، ويدسون لهم الدسائس كلما
رأوا أنهم أخذوا يفيقون من هزيمتهم.
وقد قامت الخلافات الداخلية في أسرة السليوكيين على تولي العرش الذي كان
وراثيًّا.
تدخل الرومان في شئون السليوكيين
ولم نلبث أن رأينا الرومان يمدون أصابعهم إلى خرق هذا النظام الوراثي، وذلك
أن «أنتيوكوس الرابع إبيفانس» قد خلف أخاه «سليوكوس الرابع» خارقًا بذلك قانون
الوراثة الذي كان يعطي حق العرش لابن أخيه «ديمتريوس» الذي كان قد حل محله في
«روما» بمثابة رهينة. هذا، وكان «إبيفانس» بدوره قد ورث العرش لابنه «أنتيوكوس
الخامس» الذي لُقب «يوباتور» Eupator وذلك في
عام ١٦٤ق.م. غير أن «ديمتريوس» فر من إيطاليا، واستولى لنفسه على عرش الملك بعد
أن قتل الوارث الصغير المغتصب للعرش، وذلك في عام ١٦٢ق.م. والظاهر أن هرب هذا
الأمير لم يكن مثار غضب أو حنق من قبل مجلس الشيوخ الروماني؛ بل ربما كان عن
رضًى منه، ولقد كان من جراء هذا العمل الذي قام به «ديمتريوس» الذي لُقب «سوتر
الأول» أن قام لمناهضته حزب كان يترقب اللحظة التي يمكنه فيها القضاء عليه
بمساعدة الملوك المجاورين له، وهم الذين كان يهمهم الإسراع في تشتيت شمل
الإمبراطورية السليوكية؛ هذا بالإضافة إلى أن «روما» كانت مشتركة سرًّا في هذه
الحركة، وذلك بتغاضيها عما عساه أن يحدث لقلب حكومة «ديمتريوس»، وقد عجل القضاء
على هذا العاهل ما كان يتصف به من كبرياء وغطرسة؛ مما أدى إلى كرهه وشجع
المتآمرين عليه. والعقبة التي كانت تقوم في وجه مناهضيه هي من سيرث العرش بعد
القضاء عليه؟ غير أن «ديمتريوس» كان قد فطن لذلك فقضى بحد السيف على كل نسل
الأسرة المناهض له، على أنه لما أعوز مناهضوه وجود وارثٍ حقيقي للملك وُجد
مُدَّعٍ ليتولى العرش، وأخذ على نفسه القيام بتمثيل هذا الدور.
الإسكندر بالاس وعرش سوريا
وآية ذلك أن الملك «أتالوس الثاني» ملك «برجام» الذي كان يعلم فيما مضى ما
قام به «أنتيوكوس إبيفانس» من اغتصاب العرش؛ قد كشف في «أزميرنا» أو «رودس» عن
وجود شاب في مقتبل العمر يُدعى «بالاس» Balas.
وقد ادعى «بالاس» هذا أنه ابن «أنتيوكوس إبيفانس»، ومن المحتمل أنه كان ابنه من
إحدى حظياته.
هذا، وقد أمر بإحضاره إلى «برجام» واعترف به ملكًا على «سوريا» باسم
«الإسكندر»، وبعد ذلك ألقى بخبر هذه الشعلة التي أوقدت نار الشقاق فوق حدود
«كليكيا» عام ١٥٤ق.م، وعلى ذلك بدأت الثورة المنتَظرة في الحال، فقاد المدعي
لعرش «سوريا» سياسيٌّ قديم يُدعى «هيراكليدس» — وكان على استعداد لذلك — إلى
روما، وعاد منها بعد أن اعترف به ملكًا على الإمبراطورية السليوكية من مجلس
الشيوخ عام ١٥٢ق.م.
مساعدة بطليموس السادس للإسكندر بالاس
ولم يكن ينقص هذا المدعي الجديد إلا جيش لتثبيت عرشه، وقد لبى هذا الطلب
«بطليموس فيلومتور»؛ فجهزه بجيش كامل العدة، ولا غرابة في ذلك؛ فإن مصر قد
انتهزت هذه الفرصة لتنتقم لنفسها مما حاق بها من خزي وعار من جراء «سوريا
الجوفاء»، على أن مصر من جهة أخرى كانت تقوم بذلك وهي آمنة مطمئنة من ناحية
إغضاب «روما»، والواقع أن «بطليموس فيلومتور» لم يَنْسَ ﻟ «ديمتريوس» الطريقة
التي كانت تدل على عدم الوفاء عندما حاول الاستيلاء على «قبرص» منه بالقوة. ومن
الجائز كذلك أنه لم يَنْسَ ما دار بينهما من حديث في «روما» سابقًا، وكيف أنه
احتقره هناك وهو في حالة بؤس لا تليق بملك، وأفهم «فيلومتور» على أية حال أن
الفرصة كانت مواتية في هذه اللحظة للاستيلاء من جديد على «سوريا
الجوفاء».
والظاهر أن «فيلومتور» لم يشترك في الحملة التي قام بها «بالاس» هذا والتي
خُتمت بهزيمة «ديمتريوس سوتر الأول» وموته عام (١٥٢–١٥٠ق.م). وحقيقة الأمر أن
«بطليموس فيلومتور» كان قد وكل قيادة جيشه لصديقه «جالائستيس»
Galaestes «الآتاماني»، أما «بالاس» فكان
على رأس فصيلة من الجنود المصريين وصل بها إلى شاطئ «فنيقيا»، ولم يَمْضِ طويل
زمن حتى فتحت حامية «بطليمايس» أبوابها له.
١ ومنذ هذه اللحظة أمكن التنبؤ بنتائج هذه الحملة؛ إذ إن أعداء
«ديمتريوس» كانوا يرتكنون على عدم محبة الشعب لملكهم، وأن عواطف الشعب لم تكن
معه، هذا إلى أنه لم يكن في مقدوره كسب محبة جنوده، وأخيرًا لم يكن الملك
مسيطرًا حتى على عاصمة مملكته التي قامت بثورة عاتية عليه، ومع كل ذلك فإنه وطد
العزم على الدفاع عن نفسه، وذلك على الرغم من أنه كان يشعر بسوء المنقلب، ولا
أدل على ذلك من اهتمامه بوضع ولديه في مكان بعيد عن الخطر وهو بلدة «كنيد»
Cnide وعلى أية حال فإن إحساسه بالخطر لم
ينتزع شيئًا من نشاطه، وفعلًا كسب الجولة الأولى في أول لقاء مع العدو لدرجة أن
انتصاره كاد يكون كارثة لقرنه، ولكن لم يلبث الملوك الذين كانوا يحاربون في صف
«الإسكندر بالاس»، أن رقعوا الصدوع والثغرات التي حدثت في صفوف الجيش، وإنْ هي
إلا هنيهة قصيرة حتى أخذ جنود «ديمتريوس» يفرون إلى جيش العدو بكثرة، يُضاف إلى
ذلك أن اليهود الذين كانوا منذ عهد «إبيفانس» يحاربون في صف ملوك «سوريا» قد
انضموا إلى جانب المدعي الجديد للملك.
وانتهت المعركة بهزيمة «ديمتريوس» ووقوعه صريعًا في ساحة القتال بعد أن قام
بأعمال بطولة خارقة لحد المألوف،
٢ وعلى أية حال ترك هذا البطل أمر الانتقام له لأولاده، وكان لا يشك
في أن «بطليموس فيلومتور» سيساعدهما على هذا الانتقام.
زواج بالاس من كليوباترا ابنة فيلومتور
ولسنا في حاجة إلى القول بأن «الإسكندر الأول بالاس» كان يعرف تمام المعرفة
لمن هو مَدين بتاجه، ومن أجل ذلك رأى أنه من حسن اللياقة والمهارة، وفوق كل ذلك
من السياسة الحاذقة أن يطلب إلى «فيلومتور» يد ابنته «كليوباترا» (تيا)، ولا
نعجب إذا كان «بطليموس فيلومتور» يرغب في الوقت نفسه بل اقترح هذا التحالف
الأسري بينه وبين «الإسكندر»، ومع ذلك يظهر أنه كانت توجد أسباب كثيرة تحمل على
الظن أن «بطليموس فيلومتور» قد أتم هذا الزواج على الرغم منه بعض الشيء، حقًّا
لم يعد «فيلومتور» يأمل في زواج ابنته هذه من أخيه «إيرجيتيس»، بل ربما كان لا
يرغب هو حتى في هذا الزواج، غير أن الأمر الذي كان يقلق باله هو أنه كان يشك في
أن «الإسكندر» هذا لم يكن من دم «سليوكي»، وإن كان هو قد عامله على هذا الأساس
للوصول إلى غرضه.
موقف بطليموس السادس من الحروب التي قامت على بالاس
وحقيقة الأمر أن غرضه الأصلي كان أن يأخذ منه «سوريا الجوفاء» بعد نصره
بمثابة مكافأة على مساعدته له، ولكنه رأى بعد أن تم زواج «الإسكندر» من ابنته
أنه قد أصبح من الصعب أن ينتزع «سوريا الجوفاء» من زوج ابنته، ولهذا فإن سلوك
«بطليموس» فيما بعد يفسر لنا بطريقة أوضح كيف أن هذا التحالف الوثيق مع
«الإسكندر بالاس» لا يمكن أن يمرَّ دون أن يحدث بعض ارتباكات في مشروعاته
الاستعمارية.
تم الزواج في مدينة «بطليمايس» بين الإسكندر «بالاس» و«كليوباترا» (تيا) ابنة
«فيلومتور» حيث جاء الأخير بنفسه مع ابنته، وقد تسلمت هذه الأميرة — بمثابة مهر
—
مبلغًا ضخمًا من الذهب والفضة يليق بابنة ملك، يُضاف إلى ذلك أن الأمير
اليهودي «جوناتان» قدم هدية لها، ولكنه تسلم ثمنها في الحال؛ وذلك لأنه أتى
بهذه الهدية ليطلب إلى هذا العاهل منحه استقلال بلاده استقلالًا تامًّا، وقد
حصل على ذلك فعلًا.
٣
وعلى أية حال لم يبق «الإسكندر بالاس» ثابتًا على عرش ملك السليوكيين طويلا؛
إذ على أثر عودته من ميدان القتال بدأت بوادر سقوطه تظهر بما قام في البلاد من
حروب داخلية، وذلك أن هذا المحدث الغر لم يَكَدْ يستقر به الملك حتى أخذ يلهو
ويلعب، ويقيم الولائم، ويقضي وقته بين الحظيات من جهة وبين الفلاسفة الأدعياء
والأساتذة أصحاب الأخلاق السهلة المنحلة، وترك مقاليد أمور الدولة في يد
«أمونيوس» Ammonios يتصرف فيها كيف شاء، ومن ثم
بدأ الشعب يُظهر له العداوة والبغضاء والاحتقار أكثر من سلفه، وعلى ذلك فإن ما
كان يُنتظر قد حدث؛ إذ بدأ رد الفعل الناتج عن سوء سلوكه يحيي الآمال في نفس
«ديمتريوس الثاني نيكاتور» بن «ديمتريوس سوتر»، فنجده قد نزل فعلًا في بلاد
«كليكيا» بجيش صغير من الجنود الكريتيين المرتزقين (عام ١٤٨ق.م) وفي تلك
الأثناء كان «بطليموس فيلومتور» يرقب سير الأمور في مملكة زوج ابنته
«كليوباترا» (تيا)، وعندما تأكد أن المدعي الجديد أخذت كفته ترجح، وأن الأمل في
انتصاره قد أصبح قاب قوسين أو أدنى؛ تدخل في الأمور، ووضع نفسه موضع الحكم في
الموقف الذي نشأ جديدًا، ورأى أنه في قدرته أن يصحح الأوضاع كما يشاء على حسب
المعاهدات السابقة، ومن أجل ذلك زحف بجيش وأسطول على ساحل بلاد «فنيقيا»، وكان
الشعب يقابله في كل مكان بمظاهر الفرح والترحاب، وقد أخفى «فيلومتور» الغرض
الحقيقي من زحفه.
والآن يتساءل المرء: هل يا ترى كان الشعب يحييه بوصفه حليف «سوريا»؟ أو أن
أهل «فنيقيا» كانوا يرحبون به بوصفه سيدهم الجديد، وأنه هو الذي سيضم بلادهم
إلى الأملاك البطلمية التي كان يسودها وقتئذ السلام؟ الحقيقة أن الجواب على ذلك
لم يَكُنْ سهلًا ميسورًا؛ لأن «بطليموس» لم يفصح عن نواياه، ومن أجل ذلك ترك
الشعب الفنيقي يتحدث بالحدس والتخمين، وفي الوقت نفسه كان يظهر بمظهر ملك
البلاد؛ يدل على ذلك أنه أخذ يستمع لشكاوى سكان «أشدد» التي خربها اليهود، أضف
إلى هذا أنه كان يتقبل خضوع «جوناتان» في «يافا»، ولا بد أن أفعال «بطليموس»
هذه قد ألقت الرعب في سكان «أنطاكية»، ومن أجل ذلك أخذ «أمونيوس» يستعد للقضاء
على حياة «بطليموس» بيد أحد المجرمين الذين كانوا حوله، وبذلك يتخلص من شروره،
ويضمن لنفسه ولمليكه الخليع الثبات على عرش ملكه.
محاولة اغتيال بطليموس السادس في سوريا
والثابت عن ذلك أن «بطليموس» عندما وصل إلى «بطليمايس» السورية حُووِلَ
اغتياله، وقد عُزيت هذه الجريمة — سواء أكان ذلك بالحق أم بالباطل — إلى
«أمونيوس» وزير «الإسكندر بالاس»، وعلى أثر ذلك أمر «بطليموس فيلومتور» صهرَه
أن يسلم المجرم، وعندما رفض «الإسكندر» تسليمه ثار ثائر «بطليموس»، واتهم صهره
بأنه هو نفسه المدبر لهذه الجريمة، وعندما اشتدت الحال إلى هذا الحد حاول أهالي
«أنطاكية» عبثًا إرضاء «فيلومتور» بقتل «أمونيوس» الذي كان مبغوضًا من الشعب،
غير أن ذلك لم يُرْضِ «بطليموس»، ومن ثم أصبح الملك «الإسكندر» هو المجرم في
نظره.
بطليموس ينقض المعاهدة التي بينه وبين بالاس
واتخذ «بطليموس» ذلك ذريعة لنقض المعاهدة التي كانت بينهما، وقد ذكرت لنا
المصادر اليهودية التي كانت موالية للملك «فيلومتور» وقتئذ أن «بطليموس» كان
على حق في كل ما فعله مع صهره، ولم تذكر لنا أنه كان يقصد من وراء ذلك استرداد
«سوريا الجوفاء». ولا نزاع في أن «بطليموس فيلومتور» كان يعلم على حسب ما مر به
من تجارب أنه في الاستطاعة اتهام إنسان زورًا وبهتانًا بارتكاب جريمة القتل،
وذلك بالدسائس والخداع. والظاهر أن «بطليموس» قد سارع إلى جعل مسئولية هذه
الجريمة تقع على عاتق زوج ابنته الذي لم يكن له أية مصلحة في التخاصم مع والد
زوجته، لا سيما أنه جاء فعلًا بحافز حمايته من هذا المدعي للملك. وعلى أية حال
فإنه لمن الصعب على المرأ أن يفهم أن «بطليموس» قد قلب مشاريعه هكذا دون أن
يكون لديه معلومات كافية حتى أصبح عدو حليفه وحليف من كان يحاربه، اللهم إلا
إذا كان قد سمح لنفسه أن يقلب ظهر المجن لصهره، ومهما يكن من أمر فإنه يظهر
أمامنا ما كان يكنه في قرارة نفسه بصورة واضحة على ما يُظن إذا عرفنا بأية
وسيلة نجح «بطليموس» في انتزاع ابنته من أحضان «الإسكندر بالاس»، وهي التي لو
كانت قد بقيت مع زوجها للعبت دور الرهينة عنده. (ومما يؤسف له أن «بطليموس
فيلومتور» هذا قد استعمل ابنته «كليوباترا» (تيا) بمثابة قطعة متاع يحركها كيف
شاء؛ فقد حدثتنا الأخبار أنه زوجها من ثلاثة ملوك سوريين، وكان أول أزواجها
«الإسكندر بالاس» الذي نحن بصدده، وبعد خلعها منه زوجها — كما سنرى بعد — من
«ديمتريوس الثاني نيكاتور»، وأخيرًا زوجها من «أنتيوكوس السابع» سيديتيس
Sedites.)
بطليموس السادس يزوج ابنته «كليوباترا» (تيا) من «ديمتريوس» مقابل النزول عن
سوريا الجوفاء
هذا، ونجد أن «بطليموس فيلومتور» بعد انتزاع «كليوباترا» (تيا) من أحضان
«الإسكندر بالاس» أراد أن يزوجها من «ديمتريوس»، وذلك بعد وعده إياه بإعادة ملك
والده له، وبطبيعة الحال قَبِلَ «ديمتريوس» هذا العرض عن طيب خاطر؛ إذ إنه لم
يكن يحلم به، وقد طلب «بطليموس» في مقابل ذلك من «ديمتريوس» أن يعيد إلى مصر
«سوريا الجوفاء»، ولا ندري على وجه التأكيد إذا كان «بطليموس» قد أملى شروطه
هذه قبل دخول «أنطاكية» أو بعدها، والمرجح أن ذلك قد حدث قبل دخول المدينة.
٤ أما «الإسكندر بالاس» فإنه لما رأى نفسه قد حُرم من كل عون لم يَرَ
فائدة من المقاومة. وعلى أية حال لم يَبْقَ على خلعه والتخلص من شروره إلا
إقناع سكان «أنطاكية» بألا يترددوا في القضاء عليه. والواقع أن سكان هذه
المدينة كان مثلهم في هذا الموقف كمثل المستجير من الرمضاء بالنار، حقًّا لم
يكن لديهم أية عاطفة حب «للإسكندر بالاس» ولكنهم من جهة أخرى كانوا يحملون في
نفوسهم أحقادًا دفينة ﻟ «ديمتريوس سوتر» الذي استبد بهم، ولاقوا في حكمه
الهوان، وكانت هذه الأحقاد تمتد بطبيعة الحال إلى خلفه، ومن ثم كانوا يخافون
شرًّا مستطيرًا من ابنه الذي كان سيتولى أمورهم. وقد حاول «بطليموس» في حديثه
مع السكان — بكل ما لديه من قوة — تأمين خوفهم، وفي النهاية حصل منهم على
الموافقة بطرد «الإسكندر بالاس» الذي لجأ إلى «كليكيا» وهي التي كانت تُعتبر
المنفى العادي لكل أولئك الذين يخرجون على النظام المقرر، ومع ذلك نجد أن أهالي
«أنطاكية» لم يكونوا راضين عن قبول تنصيب «ديمتريوس» ملكًا عليهم.
بطليموس السادس يُنصب ملكًا على سوريا
هذا، وقد اقترح الوزيران اللذان عينهما «الإسكندر الأول بالاس» بعد موت
«أمونيوس» وهما «هيراكس» Hierax و«ديودوتوس»
Diodotus للتخلص من هذا المأزق؛ فكرة غريبة
في بابها، وليست من الوطنية في شيء في الوقت نفسه، وهي منح تاج «سوريا» ﻟ
«بطليموس فيلومتور» نفسه، وعلى ذلك نرى أنه عندما دخل ملك مصر «أنطاكية» عاصمة
الملك لإنهاء المفاوضات قَابَلَه الشعب الأنطاكي بالهتافات مرحبين به، واعترفوا
به بصوت واحد ملكًا على «سوريا». وهكذا تحقق حلم «أنتيوكوس إبيفانس»؛ إذ تم
اتحاد المملكتين سوريا ومصر تحت صولجان واحد، ولكن بصورة معكوسة، فقد كان هذا
الاتحاد لصالح الملك البطلمي الذي كان قد حُووِلَ فيما مضى إسقاطه من على عرشه.
هذا، وقد قبل «بطليموس فيلومتور» على الرغم منه وتحت ضغط الرأي العام السوري
وضع التاجين على رأسه. غير أن «فيلومتور» في غمرة النصر فاته أن يحسب حساب
الدرس الخطر الذي أحدثه هذا النبأ في مجلس شيوخ «روما»، ولكن «فيلومتور» على ما
يظهر أحس بالخطر الذي كان يتهدده من جراء هذه الخطوة الجريئة التي خطاها؛ ولذلك
فإنه لما هدأت الأحوال قليلًا من جراء هذا النبأ جمع الشعب الأنطاكي وأخبره
بأنه سيكتفي بملك مصر، وأنه كفيل بمراقبة «ديمتريوس» صهره الذي لم يُكِن أي ضغن
في نفسه لهم، وأنه قد أخذ على نفسه ميثاقًا بألا يقدم على ارتكاب أية جريمة
للانتقام من أعداء والده. وبهذه الكلمات المطمئنة أمكن «بطليموس» أن يجعل أهل
«أنطاكية» يعترفون بتنصيب «ديمتريوس» ملكًا عليهم.
بطليموس السادس ينزل عن عرش سوريا لديمتريوس
على أن سير الحوادث لم يَنْتَهِ عند هذا الحد؛ لأن «الإسكندر بالاس» على
الرغم من هزيمته لم يلبث أن ظهر ثانية على رأس جيش جديد جنده من أهالي
«كليكيا»، وأخذ يخرب به إقليم «أنطاكية» نفسه، وعندما سمع «فيلومتور» بهذا
النبأ سارع في الحال لنجدة زوج ابنته «ديمتريوس» وشد أزره.
والظاهر أنه كان يحتفظ بجيش له عسكر في «سوريا الجوفاء». وقد وقعت فعلًا بين
الفريقين حرب عند شاطئ نهر «أونوبا راس»
Oenoparas أحد روافد نهر الأرنت (نهر
العاصي الحالي). وقد دارت الدائرة على «الإسكندر بالاس» بانتصار «بطليموس»
وصهره نصرًا حاسمًا.
موت بطليموس السادس متأثرًا بجراحه
غير أنه مما يُؤْسَفُ له أن «بطليموس فيلومتور» حُمِلَ من ساحة القتال جريحًا
بعد أن هُشم رأسه، وبقي فاقد الوعي مدة أربعة أيام، حاول الطبيب في خلالها جبر
الكسر الذي حدث في رأسه، ولكنه مات أثناء العملية.
تُوفي «بطليموس السادس» وهو في السنة السادسة والثلاثين من حكمه.
٥ ويحدثنا المؤرخ اليهودي «جوسيفوس» أن «بطليموس فيلومتور» عاد إلى
شعوره في اليوم الخامس من سقوطه من فوق جواده، وأمكنه أن يرى «الإسكندر بالاس»
الذي أُحضر إليه قبل مفارقته الحياة، وكان قد أرسله إليه أمير عربي يُدعى
«زباديل» وكان «الإسكندر» قد طلب إلى هذه الأعرابي أن يجيره. ويؤكد «جوسيفوس»
أن منظر هذه الغنيمة الشنيع قد ملأ قلب «بطليموس» بالفرح، وأنه مات وهو مرتاح
النفس عام ١٤٥ق.م. غير أن هذا النبأ الذي أورده «جوسيفوس»،
٦ فيه شك؛ إذ لا يتفق مع أخلاق «فيلومتور»، وأغلب الظن أنه أكذوبة من
الأكاذيب التي اعتاد هذا المؤرخ أن يحشرها في ثنايا حوادث التاريخ الذي كان
يكتبها على حسب ما يُرضي الميول اليهودية.
ولم تَسْرِ الأحوال على حسب ما كان يتمناه «فيلومتور»؛ وذلك أنه مات وترك
«سوريا الجوفاء» — التي كانت شغله الشاغل طوال مدة حياته — تحت رحمة «ديمتريوس»
السليوكي زوج ابنته، كما أنه ترك ابنه الصغير «يوباتور» الذي كان قد نصبه
حديثًا نائب ملك على جزيرة «قبرص» تحت رحمة أخيه «بطليموس ملك سيريني»، وكان
الأخير بدوره كاظمًا غيظه منذ زمن طويل لما لاقاه من عنت من أخيه الراحل، ومن
ثم كان يرقب الفرصة ليتولى عرش مصر من جديد.
أخلاق «بطليموس فيلومتور»
والآن قبل أن نتناول الحديث عن الأحداث التي وقعت عقب وفاة «بطليموس
فيلومتور» دعنا نستمع لما حدثنا به المؤرخ «بوليبيوس» معاصر هذا الملك عن أخلاقه.
٧
لقد مات «بطليموس» ملك مصر متأثرًا بجراحه في الحرب، وهو في نظر بعضهم جدير
بالثناء الرفيع وبالمكانة العالية في التاريخ، ولكن آخرين يعتقدون خلاف ذلك.
ولا نزاع في أنه كان رجلًا رقيق الطبع طيبًا أكثر من أي ملك سبقه من أسرته،
وأقوى برهان على ذلك هو أنه قبل كل شيء لم يأمر بقتل أي من أصحابه بسبب تهمة
قُدمت له ضده، ولا أعرف أن أي «إسكندري» عوقب بالموت بسببه، يُضاف إلى ذلك أنه
على الرغم من أن إسقاطه من عرش الملك كان يرجع إلى أخيه كما كان المظنون، فإنه
صفح عن جرمه، وبعد ذلك نجد أخاه قد عاد للتآمر عليه مرة أخرى.
وعندما وقع في قبضة يده في «لابيتوس»
Lapethos من أعمال «قبرص» وعلى الرغم من
أنه كان قد أصبح صاحب التصرف في جسمه وحياته؛ فإنه مع ذلك أبى كل الإباء أن
يعاقبه كثائر عليه بل أثقل كاهله بالهبات، هذا فضلًا عما كان يملكه فعلًا
بالمعاهدة، ثم وعده بأن يزوجه من ابنته. وعلى أية حال عاهدناه في المواقيت التي
كان يسعده فيها الحظ ويصحبه النجاح يجنح إلى الدعة والضعف، وكان ينتابه نوع من
فقدان القوى والخمول الذي كان عادة ينتاب ملوك البطالمة، وعندما كانت تنتابه
هذه الحالة كانت تحل به المصائب.
هذا ما قصه علينا «بوليبيوس» عن أخلاق «فيلومتور»، ومنه يتضح أنه يطريه
بصراحة، وعزز ما قاله بالأمثلة المُحسة، ولم يأخذ عليه «بوليبيوس» أكثر من طيبة
نفسه التي كانت طبيعة متأصلة فيه، وذلك عندما نظر إليها من الناحية السياسية،
وعلى أية حال سنرى فيما بعد الفرق الشاسع بين أخلاقه وأخلاق أخيه الذي لعب
دورًا رهيبًا شنيعًا في مدة انفراده بحكم مصر.