انفراد إيرجيتيس الثاني البطين بالحكم والصراع بينه وبين كليوباترا الثانية
(١) وصف بطليموس السابع
(١-١) قتل الملك الصغير وزواج بطليموس السابع من كليوباترا الثانية
وهذا العاهل على قبح خلقه رأيناه بعد دخوله الإسكندرية يكشف عما كانت تنطوي عليه نفسه من آثام وشرور؛ فقد أكد لنا المؤرخ «جوستن» أنه في نفس اليوم الذي أقام فيه الاحتفال بزواجه من «كليوباترا» ذبح ابن أخيه «نيوس فيلوباتور» وهو بين ذراعي والدته «كليوباترا»؛ ولكن الأدهش من ذلك أن هذه المرأة كان عليها أن تلقي بنفسها في أحضان القاتل في سريرها، وهو ملطخ بدم ابنها، ولا غرابة في ذلك للمطلع على تاريخ البطالمة؛ فهذا الحادث يذكرنا بحادث مماثل لهذا الذي نحن بصدده، وأعني بذلك قتل «بطليموس» «كرانيوس بن أرسنوي فيلادلف» — وقد تحدثنا عن هذا الحادث في الجزء الرابع عشر من مصر القديمة — ولكن مع الفارق أن «أرسنوي» عندما علمت بجريمة زوجها فرت هاربة إلى «ساموتراس». ولا نزاع في أن استسلام «كليوباترا الثانية» لهذا الحادث البشع قد أثار في النفوس عدم الثقة في هذا الرجل وخيانته بما لم يمكن مقاومته مهما كانت الأسباب، حتى إن الزواج الذي كانت قد عقدت أواصره بين «بطليموس البطين» و«كليوباترا» لم يكن إلا زواجًا دون معاشرة جنسية، كما يقول المؤرخ «مهفي»؛ لأن موقف الأم كان يدعو إلى الدهشة؛ بل يوحي بأنها كانت قد سُلبت كل شعور إنساني إذا كان هذا قد وقع فعلًا على مرأى منها.
وعلى أية حال فإن الزواج كان قد حدث فعلًا، وأن الابن وريث «فيلومتور» قد مات بعد ذلك مباشرة. وذلك في أحوال يحتمل أن تبقى غامضة لدرجة ما، مما ترك مجالًا للخيال يلعب دوره عن سبب اختفاء هذا الأمير، أو عن الفرد الذي ارتكب هذه الجريمة بصورة خاطفة، والواقع أن الجرائم التي ارتكبها «إيرجيتيس الثاني» فيما بعد تقشع عن عيوننا ظلمات هذا الشك؛ إذ علم الناس ما كان يجري وراء جدران القصر الملكي من آثام وجرائم لا حصر لها. وقد كان هذا الحادث مقدمة لجريمة أبشع وأشنع كما سنرى بعد.
وعلى أية حال فإن أخلاق «كليوباترا الثانية» التي عُرفت بها من قبل لا تدع مجالًا للظن بأنها استسلمت لهذا الطاغية كأنها فريسة لا حراك فيها في أحضان رجل مفترس أثيم. والواقع أنها قد وافقت على هذا الزواج لأنها كانت واقعة تحت تأثير شهوة الحكم لا لأن تكون زوج قاتل ابنها دون ريب أو شك.
(٢) بطليموس السابع يذهب إلى «منف» لِيُتَوَّجَ فيها
بعد أن استتب الأمر ﻟ «إيرجيتيس» وأصبح آمنًا على عرشه أو بعبارة أخرى عندما اعتقد أنه عاقب أهل الإسكندرية بما رأى فيه الكفاية للانتقام من أعدائه في خلال عام ١٤٤ق.م؛ أراد أن يستعطف الشعب المصري الأصيل؛ ومن ثم ولى وجهه شطر «منف» ليتوج نفسه على حسب الشعائر المصرية القديمة إرضاء للكهنة والمصريين معًا.
(٢-١) ولادة بطليموس المنفي ابن بطليموس السابع
وفي خلال إقامة الشعائر والأحفال الخاصة بعيد التتويج رُزِقَ مولودًا ذكرًا أسماه — تيمنًا وإرضاء للمصريين — «المنفي» نسبة إلى «منف» التي وُلد فيها، فكانت صدفة سعيدة.
ومما يُؤسَف له جد الأسف أن هذا الأمير الجديد الذي كان ضحية في المستقبل ضحى به والده إرضاء لشهوة الحكم. وقد أقيمت بمناسبة ولادة هذا الأمير الأفراح، وكان من جرائها الحكم بالإعدام على أفراد آخرين من جديد ممن حضروا الحفل؛ وآية ذلك أنه كان في حاشية الملك بعض رجال من أهالي «سيريني» كانوا قد حضروا معه إلى مصر من هذه البلدة؛ وذلك بسبب ما كانوا قد أدوا له من خدمات، ولإخلاصهم وولائهم له. على أن هؤلاء كانوا قد تجرءوا — بما كان لهم من مكانة ودالة — على أن يعلنوا صراحة عدم رضاهم عن تصرفات حظية الملك، التي تُدعى «إيرن» في مثل هذه المناسبة المحترمة. غير أن الملك عندما علم بهذا أمر بإعدامهم في الحال.
على أن «كليوباترا» كانت قد ظنت أنها اشترت ما حصلت عليه بصورة أكيدة، وهو اشتراكها في الملك بما أدته من ثمن دفعته بكل ما عندها من قوة احتمال، ومن سوء معاملة تفوق حد الوصف؛ فإنها مع ذلك لم تلبث أن استيقظت من غفلتها وثابت إلى رشدها؛ إذ ترى «إيرجيتيس» الرخو السمين من جهته قد بدأ — بعد أن صفا له الجو كما كان يظن — في الانغماس في اللذات والشهوات كما يحب ويريد، وفي الوقت نفسه أخذ يعمل على أن يشعر الشعب ومن حوله من رجال البلاط بأنه هو السيد المُطاع، ويقال: إن جل همه وقتئذ كان البحث عن ارتكاب جرائم ومخاز، هذا إلى أنه كان من دواعي سروره وغبطته أن يحارب الرأي العام وتقاليده.
(٢-٢) زواج بطليموس السابع من كليوباترا ابنة أخته
والواقع أن «إيرجيتيس» بزواجه من ابنة أخته قد بلغ النهاية التي ما بعدها نهاية في الخروج على التقاليد والفجور السافر، هذا فضلًا عما كان عليه من وقاحة واستهتار مما أدى إلى فقدانه أية رابطة عطف تربط بينه وبين شعبه وذويه.
أما «كليوباترا الثانية» فإننا إذا رجعنا إلى الوراء ونظرنا في ماضيها لوجدنا أنها كانت قد عملت كل ما في طاقتها لتقضي على كل ما كان هناك من خلافات ومخاصمات بين أخويها «بطليموس فيلومتور» و«بطليموس إيرجيتيس الثاني»، ومنذ ذلك العهد كان الشعب الإسكندري يعطف عليها، ومن ثم فإن محبة الشعب وإشفاقه عليها قد ازدادت بالأحداث الأخيرة، وأصبح لها منزلة مرموقة في قلوب الإسكندريين، وعلى ذلك فإن هجر «إيرجيتيس» لها بهذه الصورة المشينة كان السبب المباشر لقيام الثورة المقبلة، وكان عليه أن يدافع عن نفسه، ويقدم شريعة تعطيه حق النصر.
(٣) قيام الحكم الثلاثي في مصر ونتائجه
والواقع أن «إيرجيتيس» لم يكن في مقدوره أن ينتزع من أخته «كليوباترا الثانية» لقب ملكة البلاد كما أراد، وكذلك لم يستطع أن يغتصب منها حق الصدارة ليمنحه لابنتها زوجه الجديدة؛ ومن ثم نشأ نظام غريب في بابه في حكم أرض الكنانة، وهو ذلك النظام الذي يتألف من ثالوث الملك. والمدهش أنه لم يكن يتألف من ملكين وملكة كما حدث في عهد «فيلومتور» الذي كان يحكم فيه الأخوان والأخت؛ بل في الحالة التي نحن بصددها كانت تُحكَم البلاد بملك وملكتين. فكان يحكم: الملك، والأخت الملكة وهي «كليوباترا الثانية»، والملكة الزوجة وهي «كليوباترا الثالثة». وكان جميعهم يُدعون الآلهة «إيرجيتيس» (أي المحسنين)، وكان من الطبيعي في هذه الحالة أن يتنبأ الإنسان بأن الطموح الممزوج بالغيرة لا بد أن يدب دبيبه بين الملكتين، ومن ثم تولد التنافس بينهما، وأن الذي يفيد منه هو الملك العاتي الذي كان يضارب الواحدة منهما بالأخرى، ومن ثم كان يظهر ميله وحبه للتي يرى أنه من صالحه أن يكون في جانبها، وذلك على حسب تيار الأحوال السياسية التي كانت وقتئذ تتغير وتتشكل على حسب أهواء ونزعات ومزاج الشعب الإسكندري وميوله السياسية.
وقد برهنت الحوادث على أن هذا الانقلاب الذي أحدثه هذا الملك في نظام الأسرة البطلمية قد أحيا نار الكراهية الدفينة التي كانت تضطرم في نفوس سكان الإسكندرية للملك البطين من جديد، ومن جهة أخرى نلحظ أن آمال أولئك المهاجرين — الذين كانوا قد أفلتوا من انتقامه عندما رأوا سير الأحوال في الإسكندرية — قد انتعشت ودب في نفوسهم دبيب الأمل.
(٣-١) ظهور القائد «أتامانيس جالاتيس» والمدعي الجديد للملك
وعلى الرغم من تزعزع عرش «إيرجيتيس الثاني» فإنه بقي مدة طويلة لم يُصِبْهُ أذى. والواقع أننا لم نسمع أي شيء بعد عن الحركة التي قام بها «جالاتيس» ولا عن المدعي الجديد لعرش البلاد الذي كان في حيازته، ومن المحتمل أن عدم نجاح مؤامرة هؤلاء المهاجرين هو قلة المال الذي يمكنهم من أن يشرعوا في إشعال نار حرب أهلية. ومما يؤسف له أنه قد مرت بضع سنوات دون أن تمدنا المصادر التي بين أيدينا بأية حوادث في هذا الصدد.
(٤) سير الأحوال في سوريا
والظاهر أن أنظار المؤرخين وقتئذ كانت قد تحولت نحو سير الأحوال في «سوريا»؛ حيث كانت الأحداث هناك قد أقضت مضجع «كليوباترا» كبرى بنات الملك «فيلومتور»، فعانت من المصائب أكثر مما كانت تعانيه أختها «كليوباترا الثانية» في مصر.
(٤-١) ديمتريوس ملك سوريا وغرامه بالأميرة روديجين ونتائجه
وفي خلال تلك الفترة أحس «ديمتريوس» أنه بسبب هذه الاضطرابات قد تصبح أقاليمه التي في الشرق عرضة للوقوع نهائيًّا في يد البارثيين (إيران)؛ ومن أجل ذلك قام بحملة على هؤلاء الغزاة لاسترداد «إيران»، غير أن الحظ خانه هناك وهُزِم هزيمة منكرة، وأُخذ أسيرًا، وقد عزاه — في خلال مدة أسره — الحب الذي نشأ بينه وبين الأميرة «روديجين» ابنة الملك «متراداتيس» قاهره (١٣٨-١٣٧ق.م).
وعندما كان «ديمتريوس» يمني نفسه بالآمال في العودة إلى ملكه الذي حُرم منه، وذلك بمساعدة ملك «بارثيا»، وقد حاول الإفلات من أسره من وقت لآخر؛ نجد أن «أنتيوكوس» السيدي (أنتيوكوس السابع السيديتي) كان مستمرًّا في محاربة «تريفون». أما «كليوباترا تيا» التي كانت حبيسة مع ابنها وأطفالها في مدينة «سليوس» فقد وهبته نفسها وعرش الملك عندما علمت أن زوجها قد تزوج من الأميرة «روديجين».
وبذلك حل «أنتيوكوس السابع» محل أخيه بوصفه ملكًا وزوجًا؛ فكان بذلك بديلًا لأخيه من غير إكراه. والواقع أنه كان يعد نفسه بمثابة حارس لكل ما كان سيسلمه يومًا ما إلى الملك الشرعي الأسير (١٣٩-١٣٨ق.م)، والظاهر أن «أنتيوكوس السابع» أخذ بعد ذلك يلتفت إلى «تريفون»، وبخاصة أنه كان وقتئذ قد أصبح مكروهًا في «أنطاكية»، هذا فضلًا عن قيام خلاف بينه وبين اليهود؛ وفوق كل ذلك كان مجلس الشيوخ الروماني قد أظهر جفوته له وتغاضيه عنه، وذلك على الرغم من تقربه منه؛ ومن ثم ألقى بنفسه إلى التهلكة بما أظهره من قلة الحزم وعدم الروية، وفعلًا أدت كل هذه الأسباب مجتمعة إلى أن «تريفون» هذا قد أُسِرَ، ثم أُعْدِمَ بعد أربعة أعوام من اغتصابه ملك سوريا (عام ١٣٨ق.م). أما «أنتيوكوس» فإنه على الرغم مما أظهره من الميل إلى إعلان الحرب على «البارثيين» من أجل خلاص أخيه فإنه لم يكن في استطاعته القيام بهذه الحرب في تلك الفترة؛ إذ كان عليه قبل أن يقوم بهذا العمل الجبار أن يحول مجهوده نحو اليهود، ويرقبهم عن كثب، ثم يعلن عليهم الحرب في اللحظة المناسبة؛ أما اليهود فإنهم على الرغم مما كان بينهم من مشاحنات وخلافات داخلية، فإنهم أفادوا من المنازعات الخارجية التي كان «أنتيوكوس» مشغولًا بها لأجل أن يوطدوا استقلالهم الذاتي، هذا وكان اليهود قد تعودوا الالتجاء إلى مجلس الشيوخ عندما كانت تحل بهم كارثة أو تصيبهم مصيبة.
(٤-٢) مجلس الشيوخ يرسل بعثًا إلى الشرق لتفقد أحواله يرأسه «سبيون»
(٤-٣) البعث يبتدئ بزيارة مصر
(٤-٤) وصف زيارة البعث لمصر
أما «إيرجيتيس الثاني» فنراه وقد أسرع في السير أمام ضيوفه، والواقع أن أهالي الإسكندرية قد فرحوا برؤيته وهو مرتدٍ ثوبًا خفيفًا يكاد يكون شفيفًا، وكان العرق يغمره وأنفاسه تتلاحق بسرعة كما كان يبذل مجهودًا جبارًا للحاق برجال البعث الذين كانوا قد أرادوا أن يهزأوا منه عندما رأوا أنه كان يجر ساقيه جرًّا في شوارع الإسكندرية بسبب بدانته. وفي خلال سير الموكب مال «سبيوس» على زميله «بانيتيوس» وهمس في أذنه قائلًا: لقد أفاد فعلًا أهالي الإسكندرية من زيارتنا؛ إذ يرجع الفضل إلينا في أنهم قد رأوا مليكهم يتنزه على قدميه.
ولقد كان من الطبيعي أن يستقبل «بطليموس» هؤلاء المبعوثين الرومان بكل أبهة وحفاوة وبكل ما لديه من جاه. والواقع أنه أقام لهم ولائم فاخرة، كما أطلعهم على النفائس التي كانت تحتويها الخزانة الملكية، وذلك أثناء جولاته معهم في قصره، ومما يلفت النظر في أخلاق المبعوثين الرومان أنهم كانوا يُمَيَّزُون بما جُبِلُوا عليه من فضائل كريمة؛ فلم يتناول واحد منهم مما قُدِّمَ إليه من الطعام إلا ما كان ضروريًّا، هذا مع ترفعهم عن الأطعمة الغالية التي تدل على البذخ والإسراف؛ زعمًا منهم أنها تفسد الروح والجسم معًا. أما الثروات والنفائس التي كان الملك يُعْجَبُ بها ويعرضها أمامهم، فإنهم لم يأبهوا بها أبدًا؛ بل كانوا في الواقع يغضون من أبصارهم عنها أثناء سيرهم في جنبات القصر؛ ولكن من جهة أخرى كانوا يقبلون على مشاهدة ما كان يستحق الالتفات فعلًا؛ فمن ذلك أنهم فحصوا عن كثب موقع المدينة، وأهمية الفنار وخصائصه. وبعد ذلك نجد البعث يصعد في النيل حتى مدينة «منف» الخالدة. وفي خلال تلك المرحلة لمسوا مقدار خصوبة أرض مصر وقدروها حق قدرها، كما قدروا ما يسبغه فيضان النيل السنوي على البلاد من نفع، وكذلك عرفوا عدد مدن مصر وما فيها من سكان يخطئهم العد، كما عرفوا موقع مصر الحصين وأحوالها الممتازة التي تؤكد قيام إمبراطورية عظيمة وتضمن أمانها، وبعد أن رأوا — والدهشة تملأ نفوسهم — جموع السكان الفقراء، وكذلك تخطيط الأماكن المصرية، أجمعوا على أن هذه البلاد يمكن أن تصبح دولة قوية عظيمة إذا وُضِعَ على رأسها أسياد جديرون بتولي شئونها.
(٤-٥) مغادرة البعث مصر وتقريرهم عنها
وبعد أن انتهت جولة البعث في أرض الكنانة غادروها قاصدين جزيرة «قبرص»؛ ومن ثم ولوا وجوههم شطر «سوريا». والآن لا يسعنا في هذا المجال إلا أن نترك لرجال البلاغة والبيان العناية بنظم عقود المديح في فضائل رجال هذا البعث الذين اكتفوا من الحياة بأكل ما يسد رمقهم، ولم يغرهم ما عُرِضَ أمام أعينهم من النفائس والقناطير المقنطرة من الذهب، وعلى أية حال يمكن الإنسان أن يكون على يقين من أن رجال هذا البعث المتزنين قد دونوا ملاحظاتهم عن كل ما شاهدوه، وأن التفاتهم لم يكن بأية حال من الأحوال يرمي إلى غرض حتى لا يُفْهَم أنه كان شهوة أو رغبة شخصية. وقد حملوا معهم إلى «روما» الاعتقاد بأن بلادًا تزخر بالثراء مثل مصر لا يجب أن تفلت من يد الرومان، أما من جهة النصيحة الطيبة التي أمكنهم أن يقدموها إلى «بطليموس» بسلوكهم هذا فلا نعلم لها من أثر فعال؛ إذ الواقع أن «إيرجيتيس» ظل يعيش بين ندمائه الذين كانوا يشاطرونه متعه الرخيصة، وكذلك بين جنوده القدامى المدنسين. هذا، وقد كان مكروهًا من أهالي الإسكندرية أكثر مما كان في سائر بلاد القطر؛ إذ إن رجال الدين الذين عرفوا فيه الغيرة على إقامة المعابد، وكما أن الأهالي بوجه عام تعرف فيه ميله لتخفيف عبء السخرة عنهم؛ ومن أجل هذا كانوا يميلون إليه بعض الميل.
(٤-٦) زيارة البعث أتت بنتيجة عكسية
وما لا شك فيه أن زيارة السفراء الرومان لمصر لم تَأْتِ إلا بنتيجة عكسية؛ وذلك أنها زادت في غضب مدينة الإسكندرية التي جُبِلَتْ من أول نشأتها على الكبرياء؛ فقد أحس الأهالي من هذه الزيارة أن ملكهم الطاغية كان يستند على مساعدة الأجنبي له. وقد انتهزت «كليوباترا الثانية» التي كان يحبها الشعب الإسكندري هذه الفرصة، وحركت النار التي كان وميضها متأججًا تحت الرماد؛ وذلك للانتقام لنفسها بما كانت تكنه من حقد دفين بين جوانحها لهذا العاتي الذي ارتكب معها أبشع جرائم القتل إن صح ذلك.
(٤-٧) قيام ثورة في البلاد وهرب إيرجيتيس إلى «قبرص»
(٤-٨) بطليموس السابع يقتل ابنه انتقامًا من والدته كليوباترا الثانية
(٤-٩) انفراد كليوباترا بالملك
وعلى أية حال فإن ما جُمِعَ من مصادر متفرقة عن هذه الفترة المظلمة يدل على أن «كليوباترا الثانية» قد انفردت بملك مصر باسم «كليوباترا فيلومتور سوتيرا» (= كليوباترا محبة أمها الإلهة المخلصة). غير أنه لم يكن لها من ناصر غير أهالي الإسكندرية، وغير جزء ضئيل من أرض الكنانة؛ إذ يبدو أن أهالي مدينة «طيبة» قد اعترفوا بها ملكة على غرار ما فعله أهل الإسكندرية.
(٤-١٠) ثورة طيبة على بطليموس السابع
هذا، وحوالي شهر أكتوبر عام ١٣٠ق.م خرجت مدينة «طيبة» على «إيرجيتيس الثاني البطين»، ولكن حامية مدينة «قفط» وكذلك الجزء الأعظم من الجنود الذين كانوا تحت إمرة «باوس» الحاكم في هذه الجهة قد بقوا دائمًا على ولائهم للملك «البطين» ولزوجه وأولاده.
وعلى أية حال لم تُعرف المدة التي ظلت خلالها «طيبة» تقاوم «بطليموس البطين». أما ثورة «أرمنت» فقد قُضِيَ عليها على أكثر تقدير في ربيع عام ١٢٩ق.م، ويظهر أن ثوار «طيبة» لم يلقوا سلاحهم في نفس الوقت.
(٤-١١) الصلح بين كليوباترا وبطليموس السابع
والواقع أن حكم «كليوباترا الثانية» قد بدأ بوصفها ملكة منفردة على البلاد ثم انتهى في الإسكندرية لمدة قصيرة جدًّا؛ إذ يظهر أنها قدمت خضوعها نهائيًّا في خلال عام ١٢٩ق.م لمجريات الأمور.
(٥) الموقف السياسي والحرب في سوريا
(٥-١) كليوباترا الثانية تصل إلى أنطاكية
غير أن وصول «كليوباترا الثانية» ملكة مصر إلى «أنطاكية» في هذه اللحظة المشحونة بالمتاعب والعقبات والاضطرابات ما لبث أن حول سوء الحال إلى حالة أحسن؛ إذ من المحتمل أن هذه الملكة قد عملت جل طاقتها لإصلاح ذات البين لتجعل الأمور تعود إلى مجاريها بين «كليوباترا تيا» ابنتها وبين زوجها، وذلك بما يتفق مع خطتها التي رسمتها لنفسها، وبما يتفق مع رأي «ديمتريوس» أن قيام حرب بينه وبين مصر يكون فيها خلاصه؛ وذلك لأن الجنود — الذين لم يجرؤ على جعلهم يزحفون على «جان هيركان» و«أدوم» في «فلسطين» خوفًا من أن يخونوه — كان من المحتمل أن يتبعوه عندما يهيئ لهم فتح مصر وإطلاق أيديهم في نهبها.
(٥-٢) وصول ديمتريوس في زحفه على مصر حتى «بلوز» وارتداده
(٥-٣) قيام ثورة في أنطاكية
(٥-٤) مساعدة إيرجيتيس للثوار في سوريا
(٥-٥) سياسة كليوباترا تيا في سوريا بعد قتل أبيها
ومما تجدر ملاحظته هنا أنه منذ أن استتب الأمر في «سوريا» لم نَرَ «إيرجيتيس الثاني» — على ما يظهر — يهتم بأحوال هذه البلاد، ولا مراء في أنه كان في مقدوره أن يتتبع سير الأحوال في «سوريا» بما فُطِرَ عليه من برود الرجل الخبير بالدسائس الإجرامية التي كانت قائمة هناك، وهي التي أدت في النهاية إلى إنزال العقاب الإلهي على «كليوباترا تيا» عام ١٢١ق.م؛ إذ لاقت حتفها بيدها هي.
(٥-٦) موت كليوباترا تيا بالسم
والظاهر أن «بطليموس إيرجيتيس الثاني» — الذي كان قد أخذ يطعن في السن — أمضى السنين السبع التي بقيت له من عمره في تنظيم أحوال أسرته بعد أن تدخل سنين عدة في شئون «سوريا» دون نتيجة فعالة (١٢٣–١١٦ق.م)، كما أخذ يكفر عن سيئاته وما ارتكبه من آثام.
(٦) سياسة إيرجيتيس الثاني في الفترة الأخيرة من حياته
(٦-١) بطليموس السابع ينقلب إلى إنسان ويصدر القوانين العادلة
من المدهش حقًّا أن ما وصل إلينا من المؤرخين القدامى عن الفترة الأخيرة من حياة «إيرجيتيس الثاني» يكاد يناقض تمامًا ما عرفناه عنه في خلال مدة حكمه الأولى؛ فقد ظهرت لنا أخلاقه ومعاملاته للشعب في ثوب جديد يدعو إلى الدهشة إذا ما قُرِنَ بأيام حكمه في بادئ عهده، وتدل الأحوال على أن ضميره قد استيقظ بصورة جلية؛ فكان أول ما قام به أنه أخذ يلتفت إلى إدارة البلاد، والسهر على راحة الشعب، وتخفيف عبء الحياة عن المظلومين بين أفراده، ومن ثم أخذ يتقبل بصدر رحب شكاوى رعاياه وتظلماتهم، كما أخذ يحميهم من تعسف الموظفين، ولا أدل على ذلك من التظلم الذي قدمه كهنة الإلهة «إزيس» صاحبة معبد الفيلة؛ فقد قدموا ظلامة بأنهم أُجْبِرُوا على القيام بتقديم كل لوازم الموظفين والأجناد الذين كانوا يمرون بهم أثناء تأدية أعمالهم، ومن ثم أصبح هؤلاء الكهنة في حالة خراب شامل من جراء ما ابْتُزَّ منهم من أموال ظلمًا وعدوانًا، وقد كانت هذه الحالة المحزنة ناشئة من الانقسام في حكم البلاد أيام الاضطرابات التي وقعت بين هذا العاهل وبين «كليوباترا الثانية»، ومن أجل ذلك أصدر «إيرجيتيس» — حسمًا لكل المنازعات والشكاوى والتظلمات، ولوضع الأمور في نصابها — مرسومًا في عام ١١٨ق.م لتنظيم كل الأحوال في طول البلاد وعرضها، وهذا المرسوم صدر باسم الملوك الثلاثة (أي بطليموس إيرجيتيس الثاني، وكليوباترا الثانية أخته، وكليوباترا الثالثة زوجه)؛ ومن ثم نفهم أن المرأة قد بدأت تشترك في حكم البلاد بصورة جدية منذ هذه الفترة من عهد البطالمة. وهذا المرسوم وصل إلينا مُدَوَّنًا في ورقة عُثِرَ عليها في بلدة «أم البرجات» «تبتنيس» وقد نشرها العالمان «جرنفل» و«هنت» عام ١٩٠٢ ميلادية، وهذه البردية تُعتبر من أهم الوثائق التي تضع أمامنا صورة واضحة عن سير الحكومة البيروقراطية في عهد البطالمة المتأخر.
هذا، ويُلحظ أن هذه الوثيقة قد عُنْوِنَتْ بعبارة عفو شامل، ولم يُسْتَثْنَ من هذا العفو إلا القتلة وأولئك الذين خرقوا الحرمات المقدسة، وكل الجرائم والأحكام الجنائية حتى ٩ برمودة العام الثاني والخمسين من حكم الملك «إيرجيتيس الثاني» (= ٢٨ مارس عام ١١٨ق.م).
- أولًا: إعلان عفو شامل لكل الجرائم التي ارْتُكِبَتْ في البلاد قبل شهر برمودة من العام الثاني والخمسين، ولا يستثنى من ذلك إلا القتلة ولصوص المعابد.
- ثانيًا: الأفراد الذين اشتركوا في النهب وهربوا بسبب ذلك سيُسْمَحُ لهم إذا عادوا إلى وطنهم أن يزاولوا حياتهم التي كانوا عليها من قبل ذلك، وما بقي من أملاكهم لا تستولي عليه الحكومة.
- ثالثًا: يُلْغَى كل المتأخر من الضرائب إلا في حالة المزارعين الملكيين الذين يزرعون نصيبهم بمقتضى إيجار وراثي.
- رابعًا: النزول عن ديون الحكومة التي كان قد فرضها الحاكم العسكري فيما يتعلق بتوليهم الوظيفة؛ (ومن المحتمل أن كل الموظفين أصحاب المكانة كان عليهم أن يدفعوا مبالغ ضخمة مقابل وظائفهم).٢٥
- خامسًا: يجب أولًا على محصلي العوائد في الإسكندرية ألا يستولوا على البضائع التي كانت في منطقة «إكزهايرسيس» Exhairesis (وهي التي يمكن أن تُحْضَر إليها السلع دون ضريبة إلى المدينة)، وأية بضاعة محرمة استُولي عليها في «إكزهايرسيس» يجب أن تُوَرَّد إلى إدارة السكرتير المالي، ولن يكون المسافرون على الأقدام من المدينة إلى داخل البلاد عرضة لأي ضريبة يجمعها جباة العوائد، باستثناء العوائد القانونية (يُحْتَمَلُ أن ذلك يعني البضائع التي كانت تُحْمَل على ظهور الحمير والجمال)، ويجب أن تُفْحَصَ بأيدي مراقبي الضرائب، ولكن البضائع التي يحملها الإنسان على رأسه أو على ظهره أو في يده من الأشياء التي تُوجَد مع الفقراء؛ فإنه يُسْمَحُ أن تمر دون أخذ ضريبة عليها. وعلى أية حال فإن الأفراد الذين يسيرون على الأقدام عليهم أن يدفعوا عوائد عن الأشياء التي تُنْقَلُ بالقوارب من شاطئ لآخر، ولا يُسْتَوْلَى على البضائع التي ترد مهربة إلا عند البوابة التي تؤدي من الميناء إلى المدينة Xenixkon emporion.
- سادسًا: في مقدور كل أولئك الذين يملكون أراضيَ فعلًا وكانوا قد استولوا عليها بطريقة غير قانونية في خلال الاضطرابات؛ أن يضموها إلى ملكيتهم بأن ينزلوا أولًا عن الأرض لملوكهم، فيدفعون إيجار سنة من المحصول، ثم يتسلمون الأرض ثانية من الملوك بوصفها هبة قانونية. هذا، ولن يُفْرَض عليهم غرامات عن السنين السابقة لسنة ٥٢ الحالية. كما يثبت الوطنيون المصريون الذين استولوا بصورة غير قانونية على أراضٍ من أراضي الجنود المرتزقة، وتصبح هذه الأراضي ملكًا لهم.
- سابعًا: تُلغى بعض الخدمات التي كان على الجنود المرتزقة أن يفرضوها على أصحاب الأراضي الذين ذُكِرُوا في الفقرة السابقة.
- ثامنًا: تثبت دخول المعابد الفعلية وتصبح ملكها، وكذلك الأراضي التي تديرها المعابد بنفسها فإنها تستمر في إدارتها دون تدخل أي فرد (والواقع أن هذا مشروع وضعه الملك يجب بمقتضاه ألا يتدخل عماله في أمور المعابد).
- تاسعًا: تُلْغَى الضرائب المتأخرة على المعابد.
- عاشرًا: تُدْفَع مصاريف دفن العجول المقدسة من الخزانة الملكية.
- حادي عشر: تثبت ملكية وظائف الكهانة التي اشْتُرِيَتْ من الحكومة.
- ثاني عشر: يثبت امتياز اللجوء لتلك المعابد التي تتمتع به.
- ثالث عشر: يجب أن تُفْحَصَ المخالفات فيما يخص المكاييل والموازين التي يستعملها محصلو دخل الحكومة النوعي.
- رابع عشر: أولئك الذين يزرعون من جديد أرض الكروم أو أرض بساتين الفاكهة التي كانت قد أصبحت بورًا؛ سيملكون هذه الأراضي دون ضرائب لمدة خمس سنوات، أما في السنين الثلاث التي تلي ذلك فيدفعون ضرائب مخففة. أما الأراضي التي تقع في الإقليم المرتبط بالإسكندرية فإن زارعيها يُعْطَوْنَ ثلاثة أعوام أخرى دون ضريبة.
- خامس عشر: تبقى الأراضي أو المنازل التي اشْتُرِيَتْ من التاج ملكًا
شرعيًّا للمشترين (ويظن المؤرخ «بريسكه» أن المقصود من هذه
الفقرة هو أن كلًّا من «إيرجيتيس» و«كليوباترا الثانية» قد
اتفقا على تبادل الاعتراف فيما يخص العقود والمعاملات بين
جيران كل منهما).
هذا، ويُلحظ أن الأسطر التي أعقبت الفقرة السابقة قد وُجِدَتْ مهشمة من أول السطر ١٠٢ حتى السطر ١٣٣، ولا يمكن استنباط شيء منها يمكن الأخذ به. ثم يأتي بعد ذلك:
- سادس عشر: إن أصحاب البيوت التي حُرِقَتْ أو دُمِّرَتْ يمكنهم أن يعيدوا بناءها كما كانت (أي دون استصدار أمر آخر كان يجب أن يُحْصَلَ عليه فيما يتعلق ببناء جديد)، وكذلك المعابد يمكن إعادة بنائها (والمعابد الصغيرة دون شك التي أقامها أفراد أو قرى؛ وذلك لأن الأحزاب المتناحرة كانت على ما يظهر لم تسكت عن هدم مباني بعضها بعضًا)، ولكن على شرط ألا يزيد ارتفاعها عن عشر أذرع، ويُسْتَثْنَى من هذا التنازل بلدة «بانوبوليس» (ولا بد أن هذه البلدة كانت مركز حركة ثورية. ويقترح كل من الأثريين «جرنفل» و«هنت» أن القطعة التي جاءت في «ديدور» وهي التي تتحدث عن «بانوبوليس» بمثابة معقل وطني للثورة في عهد «بطليموس فيلومتور» قد أُسِيء وضعها، وأن الحصار الذي كان قد ضُرِبَ حولها كان قد وقع فعلًا فقط قبل عام ١١٨ق.م بقليل، ولكن المؤرخ مارتن يضع هذا الحادث في عام ١٣٠ق.م،٢٦ والظاهر أنه يُحتمل أن مكانًا مثل ذلك كان مركزًا للثورة الوطنية في عهد «فيلومتور» وقد ظل مكانًا ملائمًا بمثابة معقل حصين للثوار. ومن المحتمل أن المادة التي حرمت على «بانوبوليس» Panopolis أن تقيم معابد لا يزيد ارتفاعها على خمس عشرة قدمًا قد كانت إجراءً لضمان الأمن لا عقابًا؛ وذلك لأن المباني بالحجر التي تبلغ هذا الارتفاع كان من الممكن استعمالها لحرب الشوارع).
- سابع عشر: إن أولئك الذين يعملون مزارعين أو عمال مصانع في خدمة الملك قد أصبحوا محميين من اضطهادات الموظفين مثل الحاكم الحربي للمقاطعة والسكرتير المالي وضباط الشرطة وغيرهم.
- ثامن عشر: لا ينبغي لحكام المقاطعات الحربيين وكذلك الموظفين الآخرين أصحاب الرتب العالية أن يستولوا لأنفسهم على أرض جيدة ويزرعوها لا سيما إذا كانت تُزْرَع فعلًا من قبل بوصفها جزءًا من أرض التاج بزراع ملكيين.
- تاسع عشر: لا ينبغي لطبقات خاصة من الناس أن يوطنوا عندهم جنودًا مرتزقين وهذه الطبقات تشمل: (١) الإغريق الذين يعملون في الجيش. (٢) الكهنة. (٣) الزراع الملكيين. (٤) أولئك الذين يشتغلون ببعض صناعات مُرَخَّص لهم بها بتصاريح من التاج؛ مثل: نساجي الصوف، وصناع النسيج، ورعاة الخنازير، ومربي الإِوَزِّ، وصناع الزيت والجعة، والنحالين. وفي الأماكن التي يكون فيها لأي عضو من الطوائف المذكورة بيت آخر خلافًا للبيت الذي يسكن فيه؛ فإنه يكون للجنود المرتزقين أصحاب الأطيان الحق في أن يسكنوا فيها بشرط ألا يحتلوا أكثر من نصف البيت المذكور.
- عشرون: لا ينبغي لحكام المقاطعات الحربيين ولا للموظفين الآخرين أصحاب الوظائف العالية أن يجبروا أي فرد من الناس على أن يشتغل لحسابهم دون أجر.
- واحد وعشرون: (هذه الفقرة معناها غامض غير أنه يُفْهَم منها أنها تعفي رجال الشرطة والحرس في كل البلاد من التزامات يمكن أن تُفْرَضَ عليهم بسبب ارتكاب مخالفات حدثت في الماضي).
- اثنان وعشرون: تُرْفَعُ الغرامات التي فُرِضَتْ على أولئك الذين لم يؤدوها على حسب القانون، وذلك فيما يخص احتكار الزيت.
- ثلاثة وعشرون: تُلْغَى الغرامات التي وقعت على أولئك الذين لم يقوموا بتوريد الحسك والبوص لإصلاح الجسور (جسور النيل).
- أربعة وعشرون: تُلْغَى الغرامات التي وقعت على أولئك الذين لم يزرعوا قطع أرضهم على حسب القانون حتى عام ٥١ (من حكم هذا الملك). أما عن عام ٥٢ وما بعده فإن القانون يُطَبَّق.
- خمسة وعشرون: تُلْغَى الغرامات التي وقعت على أولئك الذين قطعوا أشجارًا في حوزتهم دون إذن من الحكومة.
- ستة وعشرون: (هذه الفقرة تحدد موضوع السلطة القضائية عند الإغريق وعند السكان المصريين. والقانون هنا يحدد أنه في الحالات التي يكون في حزب إغريقي يتنازع مع حزب آخر مصري فإن المسألة يحدد الفصل فيها على حسب اللغة التي دُوِّنَتْ بها الوثائق؛ فإذا كانت الوثائق باللغة الديموطيقية، فإن القضية يُنْظَر فيها أمام قاضٍ مصري؛ ليحكم فيها على حسب القانون المصري، وإذا كانت الوثائق بالإغريقية؛ فإن القضية تُقَدَّم أمام قاضٍ إغريقي Chrematistaie وإذا كان الفريقان المتخاصمان مصريين فإن القضية يُفْصَل فيها أمام قاضٍ مصري Laokritai وقد تحدثنا عن هذا الموضوع في غير هذا المكان).
- سبعة وعشرون: لا ينبغي أن يُحْجَز على أشخاص المزارعين الملكيين، وكذلك العمال الذين يعملون في المعامل التي يكون فيها للتاج مصلحة بسبب دين؛ إذ يمكن الحجز على سلعهم، ولكن ذلك لا يُطبق على الآلات اللازمة لأعمالهم.
- ثمانية وعشرون: لا ينبغي أن يُجْبَر عمال النسيج على العمل للموظفين دون أجور مجزية.
- تسعة وعشرون: لا يجوز لأي موظف أن يستولي على قوارب لاستعماله الشخصي.
- ثلاثون: لا يجوز لأي موظف أن يسجن أي فرد من أجل مخاصمة شخصية أو من أجل دين له. وإذا كان لديه أية تهمة يوجهها لأي شخص فعليه أن يرفع دعواه أمام المحكمة المختصة.٢٧
هذه هي مواد مرسوم العفو الشامل الذي أصدره «بطليموس السابع» وشريكتاه في الملك «كليوباترا الثانية» أخته و«كليوباترا الثالثة» زوجه. ومن بين سطوره نفهم ما كانت عليه حالة البلاد من الناحيتين القضائية والإدارية، ولحسن الحظ لدينا قضية عن ملكية وقعت أطوارها في عهد هذا الملك، وتُعْتَبَر في الواقع المصدر الأصلي للمعلومات الخاصة بالنظام القانوني في عهد البطالمة بوجه عام. ومن أجل ذلك كان لزامًا علينا أن نذكر شيئًا عن هذه القضية الفذة في بابها، وأعني بذلك قضية «هرمياس».
(٦-٢) قضية هرمياس وأطوارها
والواقع أننا لم نجد في مجاميع أوراق البردي التي كشفت عنها أعمال الحفر مجموعة مثلها من الأوراق تضع أمامنا قضية كاملة متصلة الحلقات تبحث في موضوع قضائي يقدم لنا معلومات محسة عن موضوعات لا نعرف عنها إلا القليل فيما يخص مجلس المحكمين والموظفين، كما تكشف لنا الإجراءات الملتوية في القضايا المدنية.
وسنحاول هنا أن نقدم تحليلًا موجزًا عن تقلبات هذه القضية، ولأجل أن نصل إلى ذلك لا بد أن نرجع إلى الوراء من الناحية التاريخية؛ لنربط خيوط هذه القضية بما كان يجري قبل وقوعها.
فالظاهر أنه في بداية عهد الملك «بطليموس الخامس» كان إقليم «طيبة» — كما نوهنا عن ذلك من قبل — في ثورة عارمة، وكان جنود الملك قد اكتسحوا العدو نحو الحدود الأثيوبية. يُضاف إلى ذلك أن الأجانب من مقدونيين وإغريق وفرس قد عوملوا معاملة سيئة وطُرِدوا. ومن بين هؤلاء كان فارسيٌّ يُدْعَى «بطليموس»، وكان متزوجًا من حفيدة فرد يُدْعَى «هرمون بن هرمياس»، وكان «بطليموس» هذا يعمل في حامية ﺑ «طيبة»، وكان عليه أن يترك بيته والحرم الخاص به في «طيبة» لرئيس زوجه. ونجده بعد ذلك لم يهتم بالعودة إلى سكنى بيته هذا الذي نُهِبَ وأصبح خرابًا. ومن المحتمل أن «بطليموس» هذا قد استوطن هو وزوجه في «أمبوس»؛ حيث نجد ثانية أن ابنه «هرمياس» يعمل ضابط فرسان في الحامية المصرية هناك.
وقد مرت السنون دون أن يعلن «بطليموس» هذا ملكيته للبيت وحرمه؛ ومن أجل ذلك ظن أولاد عم «بطليموس» أنه في مقدورهم والحالة هكذا أن يقسموا هذا البيت وحرمه؛ لأنه ليس له صاحب، وقد حدثت فعلًا تقسيمات وبيوع قام بها أولاد الذين استولوا على البيت وأحفادهم؛ مما جعل عدد ملاكه يختلف من جيل لجيل. وأخيرًا بعد أن قُسم هذا الإرث إلى أجزاء بِيع على التوالي بالتجزئة إلى أسرة حانوتيين. وبعد أن أصبحت هذه الأسرة الأخيرة هي المالكة لكل أرض البيت وحرمه أو ما يقرب من ذلك بنى أفرادها البيت من جديد ووضعوا فيه أدواتهم. وفي أثناء ذلك عرف المدعو «هرمياس» بن «بطليموس» متأخرًا أنه قد وقع تصرف بهذه الصورة في متاعه. ونجده قد أفلح في إلغاء أحد البيوع الذي كان قد تم مؤخرًا، وهو البيع الذي كان قد عقده «أبوللونيوس» بن «داموت» لكاهن «آمون» المسمى «هرمياس» بن «نحمنيس» ووضع يده بذلك على قطعة أرض من البيت المتنازع عليه تبلغ مساحتها عشرين ذراعًا، وهي التي كان يملكها «أبوللونيوس».
ولكنه لأجل أن يصل إلى ذلك لجأ إلى القضاء، وحصل على شهادة من كاتب الملك، وذلك بمقتضى تقارير قدمها لكاتب المركز وكاتب القرية للإقليم، وقد اعترقا فيها بأن الأرض المتنازع عليها كانت مسجلة في سجل المساحة باسم «هرمون» بن «هرمياس» جد أم «هرمياس» المدعي. غير أنه لم يَدَّعِ آنئذ أكثر من ذلك؛ ويُحتمَل أن ذلك يرجع إلى أنه قد فطن في خلال سير القضية إلى أنه قد يكون من الصعب عليه أن يطرد من البيت الحانوتية الذين كان بأيديهم مستندات كان يجب عليه أن يفترض صحتها.
وقد ذهب بناء على ذلك في شهر توت عام ٤٤ من حكم «إيرجيتيس البطين» (أي عام ١٢٧ق.م) يطالب أولئك المعتدين بحقه، فأجابوه بالسب والضرب. وقد كان من جراء هذا الدرس الذي تلقاه عمليًّا من أيدي المعتدين أن أصبح في حيرة من أمره مدة عشرة أشهر. وأخيرًا قرر أن يكتب شكاية للملك، وكان ذلك في أبيب عام ٤٤ (يوليو-أغسطس عام ١٢٦ق.م)، وقد أشار في شكايته إلى أنه يرغب في أن يحيله الملك إلى قضاة أكفاء من الذين يقومون بالفصل في القضايا في كل إقليم «طيبة». وفي هذه اللحظة بالذات كان القضاة الإغريق يعقدون جلسة أو في طريقهم إلى ذلك في مدينة «بطليمايس»، وكان «أبوللونيوس» قد وضع شكايته هناك في صندوق الرسائل الخاص بهذه المدينة. ومن المحتمل أنه كان يقصد بذلك أن يكون المحكمون قد ابتعدوا عن «طيبة» لأجل أن يفاجئ الحانوتية بأن يفرض عليهم إجراءات مستعجلة، وذلك بأن يكلفهم مشقة الانتقال الذي كان متعبًا لحضور الجلسة، كما كان يرمي في الوقت نفسه إلى إدخال الرعب في قلوبهم بأن يشعرهم بأن المسئولية القانونية تحتم بأنه سيكون في استطاعته أن يقدم شكوى أخرى يطلب فيها معاقبتهم على ضربهم له، وإحداث جروح في جسمه.
غير أن الحانوتية لم يجبنوا أمام تهديداته؛ إذ قد جمعوا معلوماتهم، وواجهوا بها «أبوللونيوس» بقوةٍ لدرجة أنه تخلى عن شكواه تمامًا. ويُحتمَل أن ذلك قد حدث بسبب بعض هدايا صغيرة قُدِّمَتْ له، وكان ذلك في الشهر التالي ٢٥ مسرى من عام ٤٤ من حكم الملك (= ١٣ سبتمبر سنة ١٢٦ق.م) أمام «هيراكليديس» الخبير الزراعي في منطقة طيبة. على أنه قد كان ممكنًا أن يكون أكثر مهارة إذا واجه القضية، وأفحم هذا الخصم الأول، وذلك بدلًا من جعله يسحب شكواه كأنه كان يخاف أن تُوضَع حقوقه تحت الفحص بوساطة قاضٍ.
وعلى أية حال نجد أن «هرمياس» لم يفكر بعد ذلك في أن يلجأ إلى القضاة الذين كان يعتقد أنهم معنتون متزمتون أكثر مما يجب. ولما عاد إلى «طيبة» قدم في عام ٤٦ مذكرة إلى الحاكم العسكري «هرمياس» الذي كان ينتظر أن يكون في صفه لبعض أسباب لا نعرفها على وجه التأكيد. غير أن الحانوتية لم يجيبوا على الادعاء الذي وُجِّهَ إليهم، ومن ثم أخذوا يماطلون ويسوفون القضية، وعلى ذلك لما ثبطت همة «هرمياس» بهذه الكيفية لزم الصمت مدة ثلاثة أعوام في حامية «أمبوس»، وفي نهاية العام التاسع والأربعين (١٢١ق.م) سنحت له فرصة حسبها أنها فرصة منقطعة النظير في صالحه؛ وذلك أن الحاكم العسكري الذي كان على ما يظهر في أغلب الأحيان يقوم بجولات في المقاطعتين أو ثلاث المقاطعات التي كانت تحت سيطرته قد حضر إلى «طيبة»، فأسرع «هرمياس» إلى مقابلته في شهر مسرى (أغسطس-سبتمبر عام ١٢١ق.م) ومن ثم توصل إلى أن يجعل الحاكم العسكري يعمل كل ما لديه من سلطان في موضوع قضيته، ولكن لما كان خصومه غائبين فإنه أمر «هرموجين» الذي كان يعمل معه قائدًا في هذه الفترة بأن يسلمه البيت، غير أنه على أثر سفره ثانية من «أومبوس» شوهد أنهم قد اندفعوا إلى البيت الذي كانوا لا يزالون يسكنون فيه حتى الآن وكأنهم سيل العرم. والواقع أن الحانوتية لم يهتموا إلا قليلًا جدًّا بدسائسهم الباطلة التي كانوا يأتونها فيما بينهم في تلك الخطة، وهي التي كانت تنحصر في أعمال تقسيم وبيع هذه الملكية المتنازع عليها، وكذلك عمل ترتيبات كان من نتائجها أن أصبح «حور» هو المالك الرئيسي للبيت المتنازع عليه من بين الحانوتية.
على أن محامي الحانوتية لم يجد كبير عناء في هدم ما أقامه المدعي «هرمياس» من حجج؛ فقد طلب إلى «هرمياس» — إذا كان في استطاعته — أن يقدم بعض براهين تثبت أن هذا البيت المتنازع عليه كان فعلًا إرثًا جاء إليه عن أجداده، وعندما اعترف «هرمياس» بأنه ليس لديه أية حجة فإنه بذلك قد أظهر أنه كان يلف عبثًا حول «حور» وشركائه لأجل أن يخيفهم ويقودهم إلى الخسران. وقد اقتبس المحامي «دينون» الإجراءات القانونية التي عُمِلَت أخيرًا بين الحانوتية بعضهم بعضًا، وفضلًا عن ذلك ذكر مرسوم العقد الشامل الذي أصدره الملك «بطليموس السابع» وهو الذي بمقتضى مواده يمكن الاستيلاء على البيت حتى دون وجود مستندات في حوزة الحانوتية. وأخيرًا أربك محامي الحانوتية المدعيَ التعس بإحراجه، وذلك بأن طلب إليه أن يبرهن بأية وسيلة من الوسائل على أن أحدًا من أقاربه أو هو نفسه قد سكن أبدًا في «طيبة» أو أن هذا البيت موضع النزاع هو ملك لأسرته. ولما لم يكن في استطاعته الجواب على ذلك؛ فقد اسْتُنْبِطَ دون أي شك أنه قد ألف شكوى من قبيل التمحيك والإعنات الكاذب، وعلى ذلك فإن القائد «بطليموس» أصدر حكمًا مخيبًا لادعاءات «هرمياس»؛ وفي الوقت نفسه جاء الحكم مثبتًا لحق «حور» ورفاقه في ملكية البيت المتنازع عليه. ومن البدهي أنه إذا كان الحكم الذي أصدره القائد هو حكم يجب نفاذه فإنه بمقتضاه كان لزامًا على «هرمياس» أن يفض قضيته؛ غير أنه كان من المفهوم أن «هرمياس» كان يريد بوضع قضيته أمام القائد بوصفه محكمًا لا قاضيًا ليفصل في مسألته، ومن أجل ذلك كان له أن يحتفظ لنفسه بحق المعارضة في هذا الحكم إذا لم يكن في صالحه.
وعلى أية حال نجد أن «هرمياس» لم يظهر بعد هذا الحكم بمظهر المغلوب؛ إذ نراه بعد ذلك يعود ثانية — كما كانت الحال من قبل — إلى كبار الموظفين الذين يمكنهم أن يثيروا قضيته من جديد ويستعملوا سلطانهم التنفيذي؛ لأجل أن يجعلوا هؤلاء الحانوتية يفرون من البيت المتنازع عليه. وقد سنحت له فرصة؛ وذلك أنه في شهر أمشير عام ٥٣ (= فبراير-مارس ١١٧ق.م) انتهز «هرمياس» فرصة مرور القائد الأعلى «ديمتريوس» لإقليم «طيبة» بهذه المدينة فوضع بين يديه شكايته، غير أن «ديمتريوس» هذا أمر بإحضار الحانوتية، ولكنهم على حسب عادتهم لم يحضروا. ولما لم يكن لدى القائد «ديمتريوس» الوقت للفصل في قضيته أعاد إليه شكايته بالبريد، ولما عاد «هرمياس» إلى بيته وجد أن شكايته قد رُدَّتْ إليه. فأهاجه ذلك، ولكنه في الشهر التالي (مارس-أبريل) ذهب بها إلى «لاتوبوليس» (إسنا) حيث كان يوجد وقتئذ الحاكم العسكري «هرمياس». وتدل شواهد الأحوال على أن الحاكم العسكري قد كتب إلى القائد «بطليموس» ليرسل إليه الحانوتية المتهمين، وقد كان «هرمياس» يأمل من وراء ذلك أن يكبد خصومه مشقة سفر متعب، ولكن أمله لم يُحَقَّق إلا فترة وجيزة. والواقع أن القائد العسكري كان يعرف دون أي شك كيف يستطيع أن يقف أمام هذا الحماس المصطنع من جانب رئيسه، يُضاف إلى ذلك أنه كان لا بد قد تكدر عندما رأى إعادة بحث شكاية كان قد حكم فيها، وبالاختصار فإن هذا القائد لم يحرك ساكنًا في هذا الأمر. وبعد انقضاء ثلاثة أشهر على ذلك؛ أي في شهر (يونيو-يوليو) كان قد زار الحاكم العسكري للمقاطعة المسمى «هرمياس» وكذلك القائد «ديمتريوس» مدينة «طيبة»، وذلك بمناسبة الاحتفال بموكب الإله الأعظم جدًّا «آمون»، وكان «هرمياس» هناك، فقدم للحاكم العسكري نسخة من المذكرة التي كان قد علق عليها من قبل، وهي التي كان قد قدمها «هرمياس» له في «إسنا»، وعلى ذلك نجد أن الحاكم العسكري فهم أن هذا الرجل اللحوح قد بدأ يتعبه من جديد؛ ومن أجل ذلك أمر بإحضار الحانوتية، غير أنهم بدورهم قد أصموا آذانهم لطلبه كما هي العادة ولم يحضروا، وعلى ذلك ركب سفينته، وعاد ثانية إلى المقاطعات الجنوبية، وقد كان في صحبته الشاكي المخدوع.
وفي هذه الأثناء لم يتطرق اليأس مع ذلك إلى نفس «هرمياس»، والواقع أن الحانوتية — كما يظهر — قد خالفوا أوامر رجال السلطة الذين كان في وسعهم في نهاية الأمر أن يحاسبوهم بسبب موقفهم الوقح، وكان «هرمياس» يعلم أن القائد «بطليموس» الذي كان قد خيب أمله في قضيته منذ عامين مَضَيَا قد حل محله القائد «هيراكليديس»، وها نحن أولاء نجد أن «هرمياس» قد قام بمخاطرة أخرى؛ فقدم مذكرة جديدة للقائد «هرمياس» ذكر فيها كل الإجراءات التي عملها منذ عشرة أعوام، وبطبيعة الحال لم يذكر الحكم الذي أصدره هذا القائد في غير صالحه عام ٥١، وقد أبرز في مذكرته عناد الحانوتية في ادعائهم، وطلب «هرمياس» هذه المرة وضع قضيته أمام المجلس الأعلى الذي كان يرأسه القائد «هيراكليديس»، وعلى ذلك سلم الحاكم العسكري للمقاطعة الوثيقة التي قدمها «هرمياس» بتاريخ ٢١ بابه عام ٥٤ (= ١٠ نوفمبر عام ١١٧ق.م) إلى «هيراكليديس» الذي كان يحمل لقب رئيس الحرس والقائد الأعلى في إقليم «طيبة»، والمشرف على دخل المقاطعة.
هذا، ونعرف المناقشات، وكذلك الوثائق المتعلقة بهذه القضية، والأدلة التي أثيرت على حسب القوانين والسوابق؛ من الملخص الذي وضعه الرئيس «هيراكليديس» وهو الذي وجهه لمساعديه، وهو ملخص يشمل الأشياء المنتظرة، والبواعث للحكم الذي كونه.
وقد رأينا فيما سبق من مناقشات عام ٥٠ أن «هرمياس» لم يكن لديه مستند يثبت ملكيته للبيت المتنازع عليه، وهو الذي يقول عنه إنه ورثه عن والده، في حين أن خصومه قد قدموا تراجم باللغة الإغريقية لعقد بيع حُرِّرَ باللغة الديموطيقية يرجع عهده إلى ما قبل قيام هذه القضية، ويثبت أن البيت الذي عليه النزاع — ويدعي «هرمياس» ملكيته — كان قد اشتراه آباء المُدَّعَى عليهم على دفعات. ولما لم تكن لدى «فيلوكليس» محامي «هرمياس» حجج مقنعة فإنه جنح إلى المعارضة في قيمة الوثائق التي قُدِّمَتْ للمحكمة، وقال بأنها لا قيمة لها من وجهة القانون المصري من جهة أنها لم تُسَجَّل بمقتضى القانون الإغريقي في الماضي. وأخيرًا طلب تطبيق القواعد التي تحتم إبعاد الصناعات القذرة التي يقوم بها المحنطون على الحانوتية المغتصبين للبيت، وبمقتضى هذه القواعد يصبح الحانوتية غير قادرين على الحصول على بيت «هرمياس» بالشراء أو بالاحتلال مدة طويلة، وقد اقتبس — لتبرير دعواه — أحكامًا قضائية خاصة مشفوعة بحجج مكتوبة مقدمة من كهنة «آمون»، بتقارير ورسائل من كتبة المراكز وحكام المقاطعات، وكل هذه سوابق تثبت أن الحانوتية يجب أن يُطْرَدوا ويُغَرَّمُوا على يدي الرئيس دون محاباة.
أما محامي الحانوتية «دينون» فإنه حلل دفاعه بطريقة مفصلة بعض الشيء؛ إذ نجده قد دحض اعتراضات الخصم نقطة فنقطة، والواقع أنه كان قد درس تمامًا ملف القضية، وذلك لأنه كان قد ترافع من قبل عن الحانوتية أمام القائد «بطليموس»، وقد أظهر «دينون» أنه منذ اليوم الذي غادر فيه والد «هرمياس» طيبة؛ أي منذ بداية حكم «بطليموس الخامس» مع جنود آخرين ليستوطنوا الوجه القبلي، أي منذ ثمانٍ وثمانين سنة؛ فإنه لا هو ولا ابنه «هرمياس» قد سكن البيت المتنازع عليه. يُضاف إلى ذلك أن هذا البيت المذكور كان فعلًا في يد ملاك آخرين، وهو البيت الذي اشتراه الحانوتية في العام الثامن والعشرين من حكم الملك «بطليموس السادس» (عام ١٤٣-١٤٢ق.م) أي قبل رفع الدعوى الحالية بسبع وثلاثين سنة، وأن الحانوتية قد تمتعوا بملكية هذا البيت طوال هذه المدة دون معارض، وأن عقود البيع قد أصبحت لا قيمة لها؛ وذلك لأن مدة الملكية الطويلة هذه قد أكدت الملكية، وأسقطت كل حق. وعلى أية حال فإنه ليس هناك حاجة إلى الرجوع إلى هذه الحجة الأخيرة بالنسبة لموكليه؛ وذلك لأن عقود البيع كانت قانونية بسبب أنها قد استوفت شروط نقل الملكية لإدارة الضرائب على البيوع.
أما من حيث مستندات البائعين؛ فليس هناك ما يدعو للبحث عنها مع وجود مرسوم العفو الشامل (وهو الذي أوردنا فقراته فيما سبق)، وفضلًا عن ذلك يوجد حق الملكية بطول حق الاستعمال الذي نظم فيما سبق موقف الملاك الذين ليس لديهم مستندات، كما أعفى هؤلاء من تقديم براهين مدونة تثبت حقوقهم، و«هرمياس» لم يقدم أي مستند، وإذا كان هذا البيت إرثًا فقد كان من الواجب عليه أن يقوم بتسجيل مستنداته ويدفع الضرائب، وبسبب أنه لم يفعل ذلك فإنه سيكون ملزمًا بوساطة هذا الرئيس أن يدفع غرامة قدرها ألف درخمة مع سقوط حقوقه. وأخيرًا فإن التأخيرات التي مُنِحَتْ لاسترداد الحقوق المغتصبة كان لا يمكن أن تستمر أكثر من ثلاث سنوات على أكثر تقدير، وذلك لأولئك الذين لهم حق، والواقع أن لا «هرمياس» ولا والده قد احتج أبدًا على اغتصاب هذا البيت.
هذا، وقد امتدت القضية حتى ٢٢ هاتور عام ٥٤ من حكم الملك «بطليموس السابع» (= ١١ ديسمبر ١١٧ق.م)، يُضاف إلى ذلك أنه لما كان القائد «هيراكليديس» قد صادق على الحكم الذي حكم به سلفه «بطليموس» فإنه بناء على ذلك قد أصدر الحكم التالي: «نحن نأمر «هرمياس» بأن يتخلى عن أعمال العنف، وكذلك أمرنا «حور» ورفاقه بأن يستمروا في ملكية البيت الذي كان في أيديهم من قبل.»
وقد فهم «هرمياس» هذه المرة أنه لا فائدة من القيام بملابسات فيما يخص قيمة الحكم أو أن يحتج بعدم اختصاص الذين أصدروا الحكم. والواقع أنه لم يعتمد في تقديم شكايته إلا على ثقته بالحكام ولطفهم معه، غير أن هؤلاء قد ساءهم إلحاحه في رد أحكامهم. ولقد كان من البدهي أنه منذ ذلك الوقت لن يعطيه أي قائد أو أي حاكم عسكري أي حق أكثر من الحق الذي كانت البراهين العدة تشهد به.
ومما تجدر ملاحظته هنا عن القضاة الإغريق في هذه القضية أنهم لم يظهروا إلا في الذيل، والواقع أنهم كانوا حكامًا يميلون إلى التساهل في حقوقهم، ويمكن القول أنهم كانوا محكمين قد تركوا كل شيء عن طيب خاطر لرجال السلطة الإدارية الذين كان قد وُكِّل إليهم أمر العناية بترتيب الأمور التي كانوا قد أعطوا رأيهم فيها.
والواقع أن «هرمياس» لم يتجه إليهم بشكواه إلا مرة واحدة؛ وذلك عندما أراد أن يجعل القانون في جانبه. وفي نهاية الأمر نجد أنه قد صُدَّ عن ادعاءاته بما حكم به قائد كل قوات المقاطعة. ولا نزاع في أن هذا الإجراء المرتبك الذي سارت فيه هذه القضية قد أدى إلى نتائج لم يكن في الاستطاعة بموجبها عمل توفيق بين الفريقين المتخاصمين.
وذلك أنه إذا كانت محكمة القضاة الإغريق تُعتبَر محكمة استئناف فلماذا لم يلجأ إليها «هرمياس» في أول الأمر منذ بداية النزاع؟ ومن جهة أخرى نجد أن «هرمياس» عندما رُدَّتْ دعواه في المرة الأولى بحكم القائد «بطليموس» التجأ إلى القيام بمناورات كان الغرض البين منها هو إلغاء الحكم السابق. وعلى أية حال نجد من الغريب أن أصحاب السلطة يسلمون له بذلك، ويتركونه يعارض في صحة الحكم القانوني الذي نطق به أعضاء محكمة نظامية. وحقيقة الأمر أن تحيزهم لم يكن فوق الشك؛ ففي بادئ الأمر تدخل حاكم المقاطعة العسكري المَدْعُو «هرمياس» لحظة وجعل الحانوتية يفرون، ومن الجائز أنه كان يوهم بأنه ينفذ قرار القضاة الإغريق الذي فسره ضابط يُوثَقُ بكلامه، ولكن كيف حدث فيما بعد أنه لا هو ولا القائد الأعلى لم يعارض الشكاوى الملحة التي قدمها «هرمياس» بأنها مخالفة للقانون؟ فهل السبب الوحيد في ذلك هو المجاملة أو لأجل ألا يكون هناك جحود نحو مواطن إغريقي يناضل مصريين بائسين، وأن كلًّا منهما كان يظهر بمظهر الغيور على منفعته مع إصرار كل منهما في قرارة نفسه على ألا يعمل شيئًا مخالفًا للقانون؟
وخلاصة القول: أن هذا الإجراء الملتوي الذي اتُّبِعَ في هذه القضية لا يقدم لنا فكرة رفيعة عن النظام القضائي في مصر في خلال القرن الثاني قبل الميلاد، كما إنه لا يمدنا كذلك بقدر ما كنا نأمل عن العلاقات الخاصة بين القضاة الإغريق وبين القضاة المصريين والموظفين — الحكام العسكريين وقواد جيش المقاطعة — وهؤلاء هم الممثلون القضائيون الذين كان في مقدورهم أن يفصلوا في قضايا الناس.
والواقع أن ما نستنبطه بوضوح من قضية «هرمياس» هو أنه في إقليم «طيبة» الذي كان لا أكثر ولا أقل يُعْتَبَر إقليمًا محكومًا حكمًا عسكريًّا، ومن ثم على ما يظهر كان في حالة حصار مستمرة، كان عمل القضاة فيه ينحصر في أنهم كانوا يعملون بمثابة رجال فتاوى قانونية، في حين أن الأحكام التنفيذية كان يصدرها القائد الحربي للمقاطعة ومعه مساعده. وعلى أية حال نستطيع أن نفهم بعد سرد قصة هذه القضية وما فيها من ملابسات وتحايل على القضاء أن المرسوم الذي وضعه «إيرجيتيس الثاني» و«كليوباترا الثانية» و«كليوباترا الثالثة» بالعفو عن الكثير من الأشياء التي كان يئن تحت عبئها أفراد الشعب قد أفاد الحانوتية الذين كانوا من أصل مصري لكسب قضيتهم التي رفعها «هرمياس» وأراد أن يكسبها بوصفه إغريقيًّا بأية حال من الأحوال؛ غير أنه على الرغم من انتشار الفساد والرشوة سارت العدالة في مجراها، وظفر أصحاب الحقوق بحقوقهم في النهاية على الرغم من أنهم من أرومة مصرية.
(٦-٣) نهاية عهد بطليموس السابع إيرجيتيس الثاني
وقد امتد أجل هذه الحرب لهذا السبب مدة خمس وعشرين سنة، هذا فضلًا عن أنه كان يرجع في نظريته في أمر تولي الملك من يستحقه من أولاده إلى «بطليموس سوتر الأول»، وعلى ذلك كلفت «كليوباترا الثالثة» بأن تقرر إذا كان نظام الأحقية هو الذي يجب أن يُتبَع أو نظام السن هو الذي يؤخذ به. وقد كان من البدهي مهما كان اختيار «كليوباترا» أن الحرب الداخلية كانت لا بد آتية بعد فترة قصيرة. ولا شك أن اختيارها كان معناه الاستعداد لحرب داخلية. هذا، ويمكن القول — حتى بعد إقصاء الابن الأكبر إلى «قبرص» — أن المناوشات العدائية قد ابتدأت، والواقع أن «بطليموس إيرجيتيس الثاني» كان على مقدار عظيم من الذكاء لدرجة جعلته يتنبأ بهذا المستقبل القريب، وأن في ذلك ما يكفي للدلالة على أنه كان محبًّا لنفسه لدرجة جعلته لا يهتم بالعرش ومن سيتولاه بعده.
ولا بد أن «إبيون» كان فعلًا حاكمًا أو نائب ملك على «سيريني» في مدة حياة والده «إيرجيتيس الثاني»، وأنه كان لا بد من إشعال نار حرب للاستيلاء منه على عرش «سرنيقا»، ولا بد أن «روما» التي كانت قد فرغت من حروبها الداخلية الطويلة، وهي التي كانت قد شغلتها بعض الوقت عن تنفيذ أطماعها في الخارج؛ قد أخذت تفكر في فتح بلاد الشرق، وذلك بعد أن أصبحت قدمها راسخة في «برجام» بوصفها الوارثة لملوكها.
ولا نزاع في أن الأحوال كانت مُهَيَّأة للرومان في تلك الفترة لتنفيذ أغراضهم؛ فقد كانوا في مصر هم الحاملين لمدة طويلة للملك «إيرجيتيس الثاني»، كما رأينا من قبل؛ ولا أدل على ذلك من أنهم قد تركوه هادئًا مطمئنًّا لمدة، وكانوا في خلال ذلك مصوبين أنظارهم إلى الجزء الذي يمكن فصله من المملكة البطلمية — أي «سرنيقا» — دون أن يقضوا على كل بنائها.
(٦-٤) حكم المؤرخين على إيرجيتيس الثاني
إن من يتتبع تاريخ «إيرجيتيس الثاني» في أول أمره يجد أنه — على حسب ما رواه الكتاب القدامى — كان سلسلة جرائم من أبشع ما عرفه التاريخ، ولكن نجد أنه بعد أن تقدمت به السن ظهر بمظهر الرجل المدقق اليقظ الذي كان يعمل على راحة شعبه والنظر في شكاوى رعاياه عن طيب خاطر؛ فكان يحميهم من عبث الموظفين ومظالمهم. والواقع أن من يقرأ مرسوم العفو الذي أصدره في عام ١١٨ق.م — وهو الذي أوردناه فيما سبق — يجد أنه على طرفي نقيض بالنسبة للصورة التي صورها لنا المؤرخون عن أخلاقه، والتي تناقلها الكتاب الأقدمون؛ ومن ثم تُعَدُّ صورة كاذبة أو على الأقل تُعْتَبَرُ صورة مبالغًا فيها إلى حد بعيد؛ ففي هذا المرسوم نجد بدلًا من الملك الطاغية الذي قتل أولاده وحصل على كل ما كان يريد أن يصل إليه بالدس والقتل كما ذكرت لنا التقاليد التي وصلت إلينا؛ قد مثل في صورة الإنسان الذي كان يسهر على راحة شعبه بوضع الإصلاحات الممتازة، كما كان يبذل جل همه في إقامة العدل بين الإغريق والمصريين على قدم المساواة؛ بل كان يقوم بنفسه في فحص شكوى الأفراد. وفي اعتقادي أن ما نُسِبَ إليه من قسوة وغلظة وتقتيل وتعذيب قد يكون بعضه صحيحًا، ويشفع له في ارتكاب مثل هذه الإجراءات — إلى حد ما — ما كانت عليه حالة البلاد من فتن داخلية واضطرابات متعددة ومفاجآت خارجية جعلته يقسو ويخرج عن حدود الإنسانية. وعلى أية حال فإن معظم ما نُسِبَ إليه من تقتيل وتعذيب لا يرتكن إلى حقائق تاريخية أكيدة محسة في عدد من الأحوال.
ومن الجائز أن «بطليموس السابع» قد يمكن أن يكون أكثر سخاء لو لم يكن في حاجة إلى مبالغ باهظة للصرف منها على المباني التي كان يقيمها في طول البلاد وعرضها، وقد كان يشجعه على ذلك ميله لإقامة المباني الدينية، هذا فضلًا عن أنه كان يريد أن يرضي الكهنة الذين كان في أيديهم زمام الشعب المصري كله. وسنتحدث عن مبانيه في فصل خاص.
ولا نزاع في أنه بعد موت «بطليموس السابع» أخذت مصر تنحدر نحو هاوية سحيقة إلى حتفها، ومن ثم فإن ما بقي من عهد البطالمة لم يكن إلا فترة نزاع موت طويلة امتد أجلها حوالي أقل من قرن من الزمان كانت في خلالها الأسرة الحاكمة قد لحق بها الدمار، وكان مثلها في ذلك كمثل دولة السليوكيين؛ فقد كانت كل من هاتين الدولتين جريحة بجراح لا يُرْجَى برؤها، وهذه الجروح ترجع في أصولها إلى المنافسات الأسرية، وقد كان «إيرجيتيس الثاني» هو الذي سبب لها هذه الجراح الفتاكة التي أصبحت لا يُرْجَى شفاؤها بعد موته، وانتهى أمرها بالقضاء على الأسرة نهائيًّا، وبخاصة عندما نعلم أن الرومان قد صوبوا أنظارهم نحو مصر، وأرسلوا البعوث لفحص كل نواحي حياتها وما فيها من خيرات لا تُجَارَى ووضعوا التقارير عنها، ومن ثم أخذوا يتدخلون في شئونها بصورة سافرة حتى وضعوا أيديهم عليها، وأصبحت درة في تاج الإمبراطورية الرومانية كما سنرى بعد.
والآن قبل أن نتحدث عن آثار هذا الملك التي خلفها في مصر يجب أن نقف هنا وقفة قصيرة لنفحص بعض الشيء مكانة شخصيتين غامضتين وإن شئت ثلاث شخصيات اختلط أمرهم على المؤرخين، ولا يزال الوصول إلى حل مرضًى بشأنهم من الأمور المستعصية في تاريخ البطالمة، وأعني بهم «يوباتور» و«نيوس فيلوباتور» وأخيرًا «بطليموس المنفي»، وسنستعرض فيما يلي كل ما وصلت إليه معلوماتنا عن هؤلاء الأشخاص حتى يومنا هذا.
(أ) بطليموس الثامن يوباتور (؟)
لم يثبت مما لدينا من وثائق أن هذا الأمير قد حكم أرض الكنانة منفردًا. وقد ورد ذكره في جملة نقوش هيروغليفية وإغريقية وديموطيقية، غير أنه على الرغم من كثرة المعلومات التي تمدنا بها هذه النقوش فإنها مع الأسف لا تساعدنا على تبسيط تاريخه بصورة واضحة جلية، وعلى ذلك فإن التفسيرات المختلفة التي أمكن الوصول إليها من هذه المعلومات يجب أن توضع هنا أمام الباحثين الذين يريدون معرفة شيء عن حياة هذا الملك الغامض الذي تضاربت فيه الأقوال.
بطليموس يوباتور وقبرص
ومن جهة أخرى لا يمكن أن نبني قضية تاريخية على نكتة شعرية.
(ب) بطليموس فيلوباتور نيوس
والواقع أن كل ما لدينا من معلومات حتى الآن ليست بكافية لكشف النقاب عن شخصية هذا الأمير الذي لم يحكم البلاد أبدًا، وأن ما تحوم حول شخصيته من شكوك هي نفس الشكوك التي لفت شخصية «يوباتور» في ظلام دامس.
والغريب أن هذين الأميرين كثيرًا ما يختلط الواحد منهما بالآخر، وسنحاول فيما يأتي أن نذكر المصادر الأثرية التي جاء فيها ذكر هذا الأمير، وما قيل عنها من آراء متضاربة، ثم نختم الكلام برأي الأستاذ «شاسينا» في موضوع توحيده مع «بطليموس المنفي» على حسب متن جديد وُجِدَ بين نقوش معبد «إدفو» الكبير، ويرجع الفضل في حل معناه إلى هذا الأثري الكبير.
ظهر اسم هذا الأمير للمرة الأولى في بردية ديموطيقية محفوظة الآن بمتحف «برلين»، ومؤرخة بالثالث أو الخامس من بشنس من العام الثاني والخمسين من عهد الملك «إيرجيتيس الثاني» (= ١١٨ق.م)؛ أي بعد الأمير «يوباتور» بحوالي أربعين عامًا.
(ﺟ) لغز بطليموس المنفي وبطليموس نيوس فيلوباتور
لقد بقي موضوع قصة «بطليموس المنفي» ابن «بطليموس إيرجيتيس الثاني» و«كليوباترا الثانية» مثار جدل ومناقشات لم تَنْتَهِ بعد بصورة قاطعة. وقد كان آخر من تحدث عن هذه المسألة المعقدة الأستاذ «شاسينا» في مقال رائع له. وسنحاول أن نتناول فحص هذا الموضوع من جديد مستعينين بكل ما كتبه المؤرخون في هذا الصدد، وبخاصة ما كتبه كل من المؤرخ العظيم «بوشيه لكلرك»، والأثري «شاسينا»، وبخاصة الأخير الذي أمضى طوال حياته في البحث في نقوش البطالمة ونقلها.
والمنظر الذي على الجدار الشرقي يظهر فيه الإله «تحوت» يقدم صولجانًا (ماكس) وثلاث جريدات من جريد النخل يتدلى من كل منها رمز العيد الثلاثيني للملك «بطليموس إيرجيتيس الثاني» وخلفه الملكة «كليوباترا الثانية» التي كانت تحمل الألقاب التالية: الابنة الملكية، والأخت والزوجة الملكية، والأم الملكية، والحاكمة ربة الأرضين «كليوباترا» الإلهة المحسنة، الأخت والزوجة لابن «رع» (بطليموس معطى الحياة أبديًّا، محبوب بتاح).
والواقع أن هذا المنظر كما يقول الأستاذ «شاسينا» ليس فيه ما يلفت النظر؛ لأنه لا يتميز عن المناظر الأخرى إذا لم يكن المفتن قد خالف المعتاد هنا ووضع بين الملك «إيرجيتيس الثاني» وزوجه «كليوباترا الثانية» صورة طفل يرتدي على رأسه تاج مصر المزدوج وعلى جبينه الصل، ويلبس نفس اللبس الذي يلبسه «بطليموس» وهو العباءة الواسعة. يُضاف إلى ذلك أن صفة هذا الطفل في هذا المنظر التي ميزت فعلًا بالمكانة التي يحتلها في هذا المنظر وبالرموز الملكية التي يتحلى بها؛ قد حُددت كذلك بنقش حُفِرَ بالقرب من صورته جاء فيه: الوارث الملكي لمن أنجبه والملكة، وهو الذي يوجه سير السيد الأوحد، (وهذا التعبير يعني إحدى الوظائف التي كان مكلفًا بها في العبادة التي كانت تُؤَدَّى لوالده، وكان الملك نفسه يقوم بأدائها بوصفه كاهنًا للآلهة المختلفين)، والابن الملكي البكر محبوب الملك «بطليموس» بن «بطليموس إيرجيتيس الثاني» الإله المحسن. هذا، ولدينا متن آخر وُضِعَ فوق الزوجين الملكيين بصورة واضحة يفسر علاقة هؤلاء الأشخاص الثلاثة وهو: «الملك والملكة وابنهما.»
والمنظر المقابل لهذا المنظر الذي وصفناه يوجد على الجدار الغربي للمحراب، وهو صورة طبق الأصل من الأول مع رواية تختلف اختلافًا بسيطًا في التفصيل: فيُشَاهَد هنا «تحوت» وفي يده أربع جريدات نخل، ويكتب المدائح الملكية أمام «بطليموس إيرجيتيس الثاني» الجالس: ملك الوجه القبلي (وارث الإلهين الظاهرين، والمختار من «بتاح»، الذي يعمل العدالة ﻟ «رع»، تمثال آمون الحي)، الإله المحسن ابن «رع» (بطليموس العائش أبديًّا، محبوب بتاح)، والإلهة المحسنة «كليوباترا الثالثة» الحاكمة، ربة الأرضين، «كليوباترا» الزوجة الملكية لابن «رع» (بطليموس العائش أبديًّا، محبوب بتاح).
ولا نزاع في أن وجه الشبه هنا بين هذين المنظرين ليس ظاهرًا. وسنحاول فيما يلي أن نعرف ما هي أوجه الخلاف بينهما بوساطة شخصيات الأسرة الملكية الذين مُثلوا فيهما.
والواقع أن المتون كما تُقْرَأ على جدران المعبد لا تدع مجالًا لأي شك؛ وذلك لأن المطلع عليها لا يجد أي مجال لتصحيح في المتن؛ لأن ناقشها كما هو واضح لم يُسِئ استعمال لقب، كما أنه لم يخلط بين أشخاصها؛ فالألقاب: الابنة الملكية والأخت زوج الملك والأم الملكية هي ألقاب الملكة «كليوباترا الثانية»؛ فقد كانت «الابنة الملكية» لأنها ابنة «بطليموس الخامس»، وكانت «الأخت الزوجة» بزواجها من أخيها «بطليموس فيلومتور»، وفيما بعد بزواجها من أخيها «بطليموس إيرجيتيس الثاني»، وأخيرًا كانت «الأم الملكية» لأنها أنجبت «بطليموس يوباتور» و«كليوباترا كوكي» وهما اللذان أنجبتهما من زوجها الأول؛ و«بطليموس المنفي» الذي رُزِقَتْ به من زوجها الثاني «إيرجيتيس الثاني»؛ وعلى ذلك فإن الأمير الصغير ليس «بطليموس فيلومتور» كما يقول «بركش»، بل هو ابن أخيه؛ أي ابن «بطليموس إيرجيتيس الثاني». غير أنه لسوء الحظ لم يَأْتِ مع اسمه وصف يميز نسبه؛ ومن ثم كان من المستحيل أن تميزه في أول الأمر.
وعلى أية حال عُزي ﻟ «بطليموس إيرجيتيس الثاني» أربعة أولاد ذكور؛ وهم: «بطليموس المنفي» وهو الذي أنجبته له أخته «كليوباترا الثانية» بعد موت «بطليموس السادس» وزواجها منه، و«بطليموس سوتر الثاني» و«بطليموس الحادي عشر الإسكندر» وقد أنجبتهما له زوجه الثانية «كليوباترا الثالثة»، وأخيرًا «بطليموس نيوس فيلوباتور».
ويُلْحَظُ فقط أن اسم ابن «كليوباترا الثانية» قد تبعه نعت: «الإله المحسن»، ابن الملك، الأمير محبوب الملك (بطليموس بن بطليموس العائش أبديًّا)، الإله المحسن. وهذا النقش لم يظهر بعد طغراء ابن «كليوباترا الثالثة» الذي كان يُنْعَت: روح الملك الحية … (بطليموس بن بطليموس العائش أبديًّا، محبوب بتاح). وهذا النعت لا يمكن أن يُنْسَب لوالد «إيرجيتيس الثاني»، وإلا لكان قد كُرِّرَ في المنظرين، وفضلًا عن ذلك فإنه لما لم يكن هناك في النقش الخاص بالابن الأكبر ما يدل على أنه كان لا يزال على قيد الحياة؛ فإن النقش الخاص بالابن الآخر ينعته بأنه «روح الملك الحية»، وعلى ذلك فإنه ليس من غير المعقول أن يُسْتَنْبَطَ أن «بطليموس بن بطليموس، محبوب بتاح، الإله المحسن» هو بلا شك «المنفي» الذي كان قد مات فعلًا، وأُلِّهَ في اللحظة التي عُمِلَ فيها هذا المنظر، وهو الذي يُوَحَّدُ أحيانًا بالملك «نيوس فيلوباتور».
وعلى أية حال فإن هذا الاستنباط يقوم في وجهه اعتراض فيما يمس توحيد «بطليموس المنفي» ﺑ «نيوس فيلوباتور»؛ فإن أولهما يُنْعَتُ ﺑ «الإله المحسن»، والآخر يُنْعَتُ ﺑ «الطفل الإلهي محبوب والده». وعلى ذلك يظهر من الصعب أن نفسر أنه من الممكن أن نطبق هذين النعتين على شخص واحد بعينه، وأعتقد أنه من الجائز وجود حل لهذه المعضلة التي في ظاهرها تُعْتَبَرُ غير ممكن حلها عند فحص الحوادث التي تميز عصرًا من أظلم عصور حكم «إيرجيتيس الثاني»، وترتكز معرفة هذه الحوادث بكل أسف على وثائق ناقصة وغير كافية؛ مما أدى إلى وجود فجوات عدة في تاريخ هذه الفترة تفرض على الباحث في أغلب الأحيان أن ينهج تفسيرًا خياليًّا مرتجلًا؛ فمن ذلك أن المؤرخ «بوشيه لكلرك» استعرض حل هذه المسألة بصورة واضحة في ظاهرها، غير أن مَنْظَرَيْ معبد «إدفو» اللذين نحن بصددهما الآن يُحْتَمَلُ أن يسمحا بتغيير بعض ما جاء في هذا الاستعراض أو تكميل ما جاء فيه ناقصًا في بعض النقاط.
وتوضيح ذلك أن أهالي الإسكندرية بعد أن أعلنوا سقوط «إيرجيتيس الثاني» والاعتراف ﺑ «كليوباترا الثانية» بمثابة ملكة عليهم؛ كانوا قد فكروا على ما يُظَنُّ احترامًا للعادة المرعية في مثل هذه الحالة أنه لا بد من البحث في الأسرة الملكية عن وارث ذكر للعرش؛ لأجل أن يكون زوجًا شرعيًّا سواء أكان حقيقيًّا أو اسميًّا. ويقال: إنه قد وقع اختيارهم على ابن أكبر له من حظيته «إيرن»، وهو بالطبع ابن سفاح، ولكن والده لما علم بذلك أحضره من «سيريني» ثم أمر بقتله، وقد هاج أهالي الإسكندرية عند السماع بهذه الجريمة، وعلى أثر ذلك كسروا تماثيل هذا الملك المبعد عن العرش، وقد كان جوابه على هذا التحدي الذي نسبه إلى «كليوباترا الثانية» أن قتل ابنه «المنفي» وأرسل أشلاءه هدية لأمه في يوم عيد ميلادها.
وعلى أية حال فإنا نجهل كل شيء عن هذا الأمير المجهول الاسم الذي لم يذكره أحد من المؤرخين إلا «جوستن»، وهو الذي في الوقت نفسه جعلنا منه ابنًا لمحظية الملك «إيرن»، دون الإدلاء بأي برهان يثبت ذلك. على أن إبعاد «المنفي» الذي اختطفه والده منذ هربه إلى «قبرص» لا يمنع أبدًا أن يُنصب ملكًا على البلاد على الرغم من أن ذلك لا يمكنه من الحكم بصورة فعلية، وهذا ما كان يجب أن يحدث، وإذا كان موت «المنفي» قد أكده كثير من الكتاب القدامى، فإنه ليس لدينا إلا مؤرخ واحد قد أشار إلى موت ابن الحظية «إيرن» المزعوم، وعلى أية حال — دون أن نلقي ظلًّا من الشك على حسن نية «جوستن» — فإن الشك قد غامر المؤرخ الفاحص في دقة هذا الخبر؛ إذ يجوز أنه قد غشه أحد أولئك القصاصين الذين لا يُعْتَمَد على آرائهم، أو أنه قد ضل السبيل بين التقارير المفككة والمتضاربة العديدة التي كانت تُرْوَى عن جرائم «إيرجيتيس» وأسبابها، وهذه الجرائم كانت تُنْقَل من فم إلى فم بصورة مبالغ فيها، ولعب فيها الخيال دورًا هائلًا، ولا نزاع إذن في أن جريمتين شنيعتين كهاتين اللتين ذكرناهما، وجاءت الواحدة تلو الأخرى في مدة قصيرة، وكان لكل منهما علاقة بالأخرى؛ لا بد أن تكونا قد تركتا أثرًا في الأذهان، ومع ذلك فإن المؤرخين الذين كانوا يصغون كثيرًا إلى من يتهمه «جوستن» بأنه ارتكبهما لم يحافظوا إلا على واحدة. على أن صمت المؤرخين في ذلك يدعو الإنسان إلى أن يفكر في أنهم قد أهملوا الأخرى؛ لأنهم يعرفون أن الاتهام كان كاذبًا … وعلى ذلك فإنه حسب هذه النظرية يظهر أن المأساة التي كان سببها الانفعال السياسي الذي بلغ أشده في الإسكندرية قد زاد في عظم خطرها بسخاء حتى صور منها أسطورة شنيعة، وسنحاول أن نسلسل حوادثها بالصورة الآتية: عندما أصبحت «كليوباترا» صاحبة السلطان في الإسكندرية فإنها لا بد كانت قد نصبت ابنها «المنفي» بوصفه خلفًا لوالده «إيرجيتيس الثاني» ولقبته «نيوس فيلوباتور»، وبعد ذلك أمرت بكسر صور الملك المخلوع؛ لأجل أن تؤكد فقدان حقوقه في الملك بوصفه ملكًا مخلوعًا. وقد كان قتل الطفل «المنفي» الذي كان قد استولى عليه والده كرهينة عندما احتمى في «قبرص» هو النتيجة الأولى من أعماله، وبذلك نرى أن «إيرجيتيس الثاني» قد أزال العقبة الوحيدة التي كانت حائلة بينه وبين عرشه المفقود، وقد كان يتخذ الأهبة فعلًا لاسترجاعه بمساعدة جيش من الجنود المرتزقين.
والآن هل ينبغي علينا أن نستنبط أن الملك المسن قد استسلم لتضرعات «كليوباترا الثانية» ورضى في النهاية — بعد أن عاد إلى صوابه أو لثقل السنين على كاهله — ليعيد إلى «المنفي» الاسم الذي كان ينبغي أن يحكم به، ويكتب اسمه في قانون الآلهة الأسريين بوصفه الإله «نيوس فيلوباتور»؟
وتدل شواهد الأحوال على أن تاريخ البطالمة مليء بالمواقف أكثر مما يجب التي لم يكن في الحسبان وقوعها، وهي التي نجد فيها حتى أصبح الشاذ مقبولًا، لدرجة تجعل مثل هذا التغير جائزًا. على أنه لا يمكننا أن نصدق ذلك دون تحفظ عندما تعوزنا الأدلة.
والتردد في ذلك على أية حال طبيعي؛ وذلك لأن القدامى أنفسهم لم يكونوا متأكدين من المكان الذي يليق بأن يُنْسَب إلى الإله «نيوس فيلوباتور» ليوضع فيه في القوائم الملكية، وهذا التردد الغريب يحتمل أن ينسب بصورة أكيدة إلى التغييرات التي عُمِلَتْ في هذه القوائم على أثر الإدراج المتأخر المصحح لضحيتي «إيرجيتيس الثاني» وهما الإله «يوباتور» والإله «نيوس فيلوباتور» والأخير قد حل محل «المنفي» بوصفه الإله المحسن، وهذا التغيير الأخير قد سبب في بادئ الأمر بعض التردد في نفس أولئك الذين لا يعرفون الأسباب الحقيقية التي كانت التدابير قد اتُّخِذَتْ لمنع إذاعتها بين الناس. ومهما يكن من أمر فإنه قد حصل على حقيقة جديدة مؤكدة، ويرجع الفضل في ذلك إلى المنظر الذي حُفِرَ على واجهة جدار محراب معبد «إدفو»، وهذه الحقيقة هي رفع ابن «إيرجيتيس الثاني» و«كليوباترا الثانية» إلى مرتبة الإله المحسن (إيرجيتيس) بعد موت الأول.
أما تفسير المنظر الذي يقابل السابق، وهو الذي ظهرت فيه «كليوباترا الثالثة» فليس فيه أية صعوبة، ومعناه واضح، وذلك أن الطفل الممثل فيه هو «بطليموس العاشر سوتر الثاني»، وشخصية الملكة في هذا المنظر مؤكدة باللقب الذي تحمله، وهو «زوج الملك» وهو اللقب الذي يميزها من «كليوباترا الثانية» التي كانت تحمل لقب الأخت الزوجة، وذلك في الفترة التي تلت مدة شقاقها مع «إيرجيتيس الثاني».
وعلى أية حال فإن «إيرجيتيس الثاني» عندما قدم تكريمًا لزوجه الأولى بوصفها أمًّا فإنه لم يكن في استطاعته أن ينسى أنه مدين إلى زوجه الثانية بالابن الذي دُعِيَ ليكون خليفته على ملك أرض الكنانة. ومن الجائز أنه كان يأمل كذلك من وراء هذا العمل الذي منح ترضية عادلة لكل من زوجيه قد جلب في هذه الأسرة الغريبة التي تتألف من زوج وامرأتين الهدوء والسلام الظاهرين الذين لم يذق طعمهما أبدًا على وجه التأكيد هذا الملك إذا كان كل ما نُسِبَ إليه صحيحًا.
وخلاصة القول أن هذا التفسير الذي أوردناه هنا لحل هذا الارتباك الأسري من حيث ترتيب ملوك البطالمة لا يخرج عن كونه نظرية في ظاهرها مقبولة غير أن الحل النهائي الحاسم لا يزال نفتقر إليه، وقد لا يكون بعيدًا ظهوره؛ لأن جوف أرض مصر مليء بالمفاجآت التي لا ينقطع معينها.
وفي نهاية حياته في السنة الرابعة والخمسين من حكم هذا الملك الحادي عشر من شهر بئونة وُضِعَتْ أسس جدار الحرم والبوابة، وفي أثناء العمل في ذلك من كل الجهات (في هذا الجزء من المعبد) مات الملك.