فتاة الحارة
كنا غلامين صغيرين وجارين صديقين، وكنت أنا أسن منه قليلا.. ولكن الفرق كان فرق شهور لا تُقدّم ولا تؤخر، لا فرق سنوات تباعد بين الناس. وكان الوقت صيفا والمدارس مغلقة، فلا عمل أكثر الوقت إلا اللعب فى الشارع. وكان يفصل بيتينا بيت صغير لأرملة وبنتيها، وإحداهما فى مثل سننا والأخرى أكبر بسنوات وأضخم جسما، وكنت أسميها فيما بينى وبين صديقى «السقاء» لأن ثدييها كانا — فيما يبدو لى — كالقربتين. ولم أكن أرتاح إليها، ولكن أختها الصغيرة كانت أثيرة عندى وحبيبة إلىّ … فكنت لهذا أصانعها، ولكن صدرى كان يضيق بها أحيانا فأغضبها وأمرى إلى الله. وكنت إذا زجرنى أهلى عن اللعب فى الشارع، وملوا ترقيع الثياب التى ألبسها فى الصباح نظيفة سليمة فلا يجىء العصر إلا وهى ممزقة وعليها طوائف شتى من الأوحال والأقذار.. أقول كنت إذا نُهيت عن الشارع، أصعد إلى السطح وأتدلى منه إلى سطح الفتاة وأصفر لجارى فيوافينا، وننحدر جميعا إلى غرفة من غرف البيت أو إلى فنائه — وكان رحيبا — فنلعب ما حلا لنا اللعب حتى إذا أمسى الليل تفرقنا إلى بيوتنا.
واتفق يوما أن كانت الفتاة معى فى ساحة الدار، وكنت قد تخلفت بعد ذهاب صديقى وصعود الأخت الضخمة — أو «السقاء» كما كنت أسميها — وكان باب البيت مواربا، فطوقتها — أعنى البنت الصغيرة لا السقاء — بذراعى وقبلتها، وكانت فيما أحس تلين لى فى العناق، ولكنها عبست فجأة وتفلتت منى ودفعت ذراعى عنها بعنف، وذهبت تعدو إلى السلم.. فتعلقت بأذيالها، ولكنها شدت الثوب أو على الأصح ضربته بيدها، فطار من يدى وصعدت بسرعة، وتركتنى واقفا أنظر وأتعجب.
وفى صباح اليوم التالى، قالت لى أمى فجأة ونحن على الطعام: «هل أنت بنت»؟ فصحت مستغربا منكرا: «بنت»؟ فقالت: «نعم، لماذا تلاعب البنات ولا تلاعب الأولاد من أمثالك»؟
فأطرقت استحياء وقد أدركت أنها تأخذ على شيئا وتستهجن مصاحبتى لهذه الفتاة، ولم يخطر على بالى أن فى الأمر أكثر من هذا. وحان الظهر وجاء معه رجل تركى الأصل عتيق من أصدقاء أخى الأكبر — وكان يلازمه من الظهر إلى نصف الليل — وكان شعره أبيض ووجهه مغضنا، كما تبدو المدينة للمشرف عليها من قمة جبل شامخ، فصاح بى وأنا خارج: «تعال يا سيدى … تعال». فوقفت مستغربا لهجته، وقلت: «نعم». فقال: «جارتك هذه، يظهر أنها تعجبك».
فغضبت وتألمت ولكنى تجلّدت، فقد كان إذا اعتبرنا السن يعد جَدًّا أعلى لى، وقلت: «نعم».
فضحك وتفل وفتل شاربيه الكثيفين، ثم قال: «لقد رأيتك البارحة تحضنها». فصحت به: «إيه»؟ فأشار إلى بيده المتجعدة المعروقة: «لا تغضب.. كلنا كنا صغارا.. ولكن يا ابنى..».
فلم أدعه يتمها وانصرفت عنه، وأنا أغلى من الغيظ والنقمة على هذا الطفيلى الوقح الذى لا شك أنه روى لأخى ما رأى منى، فلم يسع أخى إلا أن ينبه أمى.. فقد كان غير شفيق، وكان يؤثر أن يدع أمر تربيتى لأمى.
وخرجت إلى الشارع أنفخ ولا أكلم أحدا حتى ولا صديقى الأثير، وكان يرى ما عرانى فيلح على أن أفضى إليه بالأمر فلا أجد لسانى قادرا على الدوران. وانقطعت عن الفتاة أياما كان صديقى فى خلالها حائرا بينى وبين صاحبته، يعز عليه ألا يكون إلى جانبى وهو يرانى مهموما مكروبا لا أتسلى ولا أقول بشجوى وألمى، ويكون معى فيمل صمتى الذى لا أخرج عنه، وتصبو نفسه إلى مجالسة السقاء وأخيرا نفد صبره، فقال لى يوما: «اسمع.. تعال معى إلى فوق».
وكان يعنى «بفوق» منزل الجارة، فنظرت إليه مستغربا كأنما كان عليه أن يعرف كل ما كتمت عنه فقال: «تعال.. قم.. قم».
فانحلّت العقدة وانطلق لسانى، وقلت له: «ماذا يعجبك فى هذه الفتاة»؟ فتلعثم وأخذ يتنحنح، ولم يزد على أن سأل: «إيه»؟ قلت: «أو ماذا يعجبها فيك»؟
فرمانى بنظرة عتب ثم ابتسم ولم يقل شيئا، وخيل إلى أنه لو كان له شاربان لفتلهما، ثم قال ببساطة: «الحقيقة أنى أحبها و و و وهى أيضا تحبنى». فوثبت إلى قدمى من فرط الدهشة، وتناولت كتفيه فهززتهما وصحت: «ماذا تقول؟.. أعد هذا».
قال: «ماذا جرى لك؟ ألم تسمع؟ أحبها وتحبنى.. شىء بسيط جدا». ونحى يدى عن كتفيه.
وثابت إلىَّ نفسى، فأطرقت قليلا ثم سألته: «كيف حدث هذا»؟ فقال: «لا أدرى كيف حدث؟ ولكنى أول من أمس سلمت عليها وجلست بجانبها ثم ملت عليها فقبلتها».
فسألته وأنا فى دهشة: «قبلتها؟.. هل تعنى أنك قبلتها»؟
فضحك وقال: «بالطبع أعنى أنى قبلتها.. ماذا تظننى أعنى غير ذلك»؟ فسألته: «ولم يسؤها ذلك؟ لم تغضب ولم تذهب عنك ساخطة»؟ فقال مستغربا: «تغضب؟ لماذا تغضب؟ أما أنك لغريب». فقلت وأنا مطرق: «غريب»! فقال: «غريب؟ ما هو الغريب»؟ قلت: «أعنى أنى أعرف واحدا قبل فتاة فسخطت عليه وولت منه هاربة». فقال ببساطة: «لابد أن يكون له وجه قرد».. وضحك.
وتركته وعدت إلى البيت، فكان أول ما صنعت أن نظرت فى المرآة وتأملت وجهى كما يبدو فى صقالها، ثم درت حول نفسى وعينى على جانبى وجهى ثم تنهدت وأقصرت.
•••
وكان للفتاة — فتاتى أنا لا السقاء — قطة صغيرة عزيزة عليها، فاتفق أن مر كلب ضال، وكانت هى — أعنى القطة لا الفتاة — واقفة على العتبة، فدنا منها الكلب وهى غافلة، ولعلها كانت مغفية، فأحست أنفاسه وهو يشمها، ففتحت عينيها وهى تتثاءب وانتفضت مذعورة.. وثبت وثبة، قطعت بها عرض الشارع، ولم يكف هذا لإطمئنانها، فدخلت من باب ألفته مفتوحا، وكان فى ساحة البيت شجرة «جميز» فانطلقت تتسلقها، ولم تزل تصعد فيها حتى صارت على أعلى فرع فيها. وكانت الفتاة قد بصرت بالقطة وهى تعدو مذعورة، وتدخل البيت المقابل لبيتها.. فانحدرت مسرعة ودخلت وراءها ونظرت فلم تجد شيئا، فارتدت إلى الباب وقد أغرورقت عيناها بالدموع. وأقبل صديقى فى هذه اللحظة فسألها عما بها، فقالت له إن الكلب أفزع القطة فهربت لا تدرى إلى أين وهى تخشى أن يأخذها الجيران.
فركل صديقى الكلب — أعنى أن صديقى ركل الكلب، والمعنى واضح فى الحقيقة ولكنى أوثر هذا الايضاح اتقاء لكل غلط — ودخل مع الفتاة البيت ووقفا وأرهفا آذانهما، فسمعا مواء خافتا فتلفتا، ثم عرفا أن القطة على الشجرة فجعلا ينظران من هنا ومن ههنا ويميلان رأسيهما إلى اليمين والشمال حتى رأياها، وجعلت الفتاة تدعوها بأصوات مختلفة أن تنزل والقطة تأبى أن تطمئن وتخشى إغراء الأصوات المهيبة بها أن تنزل، فتصعد حتى بلغت القمة فدعت الفتاة صديقى أن يتسلق الشجرة ليجيئها بالقطة، فهز رأسه وقال لها: «حرام عليك.. هل تريدين أن أقع فأموت»؟ فتوسلت إليه فلم يلن، وقال إن القطة لا تلبث متى هدأ روعها أن تنحدر من تلقاء نفسها. وكان هذا صحيحا فما يمكن أن تظل القطة على الشجرة طول عمرها، ولكن قلب الفتاة أبى أن يطمئن فخرجت باكية ورأيتها أنا فانطلقت أعدو إليها، وقد أحسست أن قلبى يتفطر، وسألتها ماذا يبكيها.. فقصت على الحكاية، وقالت إن صاحبي لايريد أن يتسلق الشجرة خوفا على عمره، فقرضت أسنانى وقلت: «أنا أفعل» ففرحت وأبرقت أسارير وجهها، وقالت: «صحيح»؟ قلت: «بالطبع صحيح.. وهل تظنين أنى مثله أخاف على عمرى.. ومم أخاف»؟
وخلعت حذائى ورميت الطربوش وشرعت أتسلق الشجرة المخوفة حتى صرت بين أغصانها الغلاظ المتشابكة، وذهبت أزحف على الغصون السميكة التى يحمل الواحد منها جملا لا غلاما خفيفا مثلى حتى بعدت عن الأرض جدا، وحتى أنها كانت تكلمنى فلا أسمع وأصيح بها أن ترفع صوتها وأحتاج أن أنحنى وأفرق الأوراق لأرى أين هى. ولم أزل أصعد حتى دنوت من القطة، ولكنها كانت مع ذلك لا تزال بعيدة، وشاء الحظ أن تخاف القطة فلفت حول الشجرة وأصبحت على فرع فى الناحية الأخرى، وكانت الفروع هناك أمتن وأسمك. فدرت كما دارت ومددت يدى فقبضت عليها ودسستها فى جيبى، وكان الهبوط أخطر من الصعود وأشق.. ولكن الله سلم.
وتناولت القطة منى بعد أن أخرجتها من جيبى، وكدت أخنقها وأنا أحاول إخراجها — فقد كان لابد أن أقبض على عنقها لأتقى أسنانها وأظافرها — وأهوت عليها تقبلها وتضمها إلى صدرها وتمسح لها شعرها، كأنها طفل رضيع لا قطة لعينة كانت منذ دقيقة على قمة جميزة ضخمة تحاورنى وتعرّض عنقى للدق وأنا مازلت فى مقتبل العمر. وكنت أنا أنظر إليها راضيا قرير العين فرفعت عينها إلىّ، والقطة مضمومة إلى صدرها، وقالت إنها مدينة لى بالشكر ففركت كفى مسرورا ومرتبكا، فما كنت أنتظر شكرا ولا شبهه وإذا بها تصرخ فذعرت، فقالت: «يداك» فنظرت فيهما فألفيتهما مخدوشتين فأخفيتهما وراء ظهرى، وقلت إن هذا من لحاء الشجرة وسيزول ولا شك، فقالت: «لا.. تعال» فقلت: «إلى أين»؟ قالت: «معى.. أغسلهما لك فى البيت.. مسكين..».
فنظرت إليهما مرة أخرى، وقلت: «فكرة..».
ودخلنا البيت معا.. ونسينا صديقى فى بيت الجار.. تحت الشجرة.
ووصلت القطة المستنقذة ما كان قد انقطع.