فى رأس السنة
دهش الثلاثة ووقفوا حيث هم — آذانهم مرهفة، وأحداقهم ثابتة، وأنفاسهم معلقة. وكانت الليلة ليلة العام الجديد — أو رأسه — وقد تهيأ حامد للخروج، ولبس ثياب السهرة وأدار الراديو وراح يتمشى فى الغرفة، ريثما تجىء جارته فتنقر له على النافذة المفتوحة.. فيمضى بها إلى العشاء والرقص والمرح. وكانت الإذاعة فى تلك اللحظة رواية متخيرة، ولكن حامدا لم يكن باله إليها وإنما أراد أن يغرق ضجات الطريق المتقطعة فى ضجة أخرى أكبر لأنها أدنى — لا تنقطع ولا تفتر فيألفها ويتسنى له أن يفكر، بعد أن تسكن أعصابه إلى وقعها المتصل، فى أمره مع جارته أو فيما ينبغى أن يصنع ليحمل أباه العتيق الطراز على الرضى بما تقتضيه حياة العصر الجديد. ولم تكن به حاجة إلى أبيه، ولكنه لم يكن يريد أن يفسد بينهما الحال أو أن يضيف إلى عبء السنين التى يحملها عبء الشعور بخيبة الأمل — إذا وسعه ألا يفعل. وكان أبوه فى تلك اللحظة قد دخل بالمفتاح الذى أعطاه إياه حامد ليروح ويجىء كما يشاء. ولم يشعر به حامد لأن خواطره كانت تستغرقه ولأن الراديو كان أعلى من أن يسمح بالالتفات إلى باب يفتح أو يغلق، ثم لأن الرجل لم يكد يرد الباب حتى وقف مذهولا، فقد سمع ضحكات نساء ولغط رجال، وكان ريفيا ساذجا فيه ورع وتقوى يعرف الراديو ويصغى بخشوع إلى ما يذاع من كتاب الله، وقد يتفق له أن يسمع بعض المقطوعات الموسيقية.. ولكنه لم يشهد فى حياته رواية تمثل، ولم يخرج عن عادته فى التبكير فى النوم إلا فى الفلتات القليلة. فإذا كان قد وقف الآن مستغربا منكرا، فلا شك أنه كان معذورا. ولم يكن يفهم شيئا من الأصوات التى تأدى إليه أو يفطن إلى دلالة الكلام. وكان المذيع يصف حركة الروليت بعد أن توضع النقود، وتذهب العجلة تدور وتخفت الأصوات انتظارا لوقوف الكرة عند الرقم السعيد.. ولكن الرجل لم يكن يعرف أن هذا مذيع يصف للسامعين ما لا يرون، بل كان يظنه أحد رفقاء حامد ابنه فى سهرة جمع فيها طوائف شتى من الرجال والنساء.. نعم والنساء فما فى هذا شك، أليست هذه امرأة تقول: «اسرع يا ميمى.. أسرع.. بين الـ ٧ والـ ٨..».
وهذا صوت رجل يصيح: «لالالا.. هذا من حق لولو.. نعم فقد رأيت ما حدث.. البيك نقل الورق عن موضعه بكفه، وهو لا يدرى».
وها هى الفتاة تعود إلى الكلام مرة أخرى، وتقول: «مرسى يا حبيبى.. ميل مرسى».
فيقول الرجل الأول، هو بعينه بالتأكيد فإن الصوت واحد: «العفو.. لقد رأيت كل شىء، وإذا كنت تسمحين بأن أقدم إليك نصيحة رجل مجرب.. فنصيحتى أن تكفى عن اللعب، فإن مثل هذه الغلطة فى العادة تكون إيذانا بانتهاء حظ اللاعب».
لعب … نصيحة … حظ … نساء ورجال … ما معنى كل هذا يا ترى؟ فى هذا وقف الرجل المسكين يفكر. وكان يفكر فى شىء آخر هو هل يدخل فيعرف الحقيقة كائنة ما كانت أو يخرج ويدع ابنه لشأنه؟ ولكن كيف يستطيع أن يخرج ويدع ابنه.. وكيف يدخل ومعه نساء غريبات؟
ولم يكن هذا الأب الساذج هو الحائر الوحيد فى تلك اللحظة، فقد كان هناك رجل آخر من طراز غير طرازه وجد باب المطبخ مواربا.. فتسلل منه ودخل على أطراف أصابعه وفى مرجوه أن يخفف عن صاحب البيت — وعن نفسه أيضا — ولم يكد يبلغ باب الدهليز حتى صافح سمعه هذا اللغط الكثير المنبعث من غرفة الاستقبال، ولم يكن كالآخر ساذجا فلم يلبث أن فطن إلى أن ههنا أناسا يقامرون، فسمرته الدهشة والحيرة، فقد كان يظن البيت خاليا فإذا هو عامر بل غاص بالخلق. وكان سبب حيرته أن وجود هؤلاء اللاعبين جميعا يجعل فرصة الغنم فى ليلته هذه أكبر، والورق أخف محملا وأخفى أمرا، وحامله أقل تعرضا للاعتقال، ولكن كثرة الموجودين تجعل تعرضه للوقوع فى المحذور أشد فماذا يصنع؟ أيأخذ بالأسلم فيعود من حيث جاء، أم يذعن للإغراء فيبقى؟ ولا سيما والأرجح أن القوم يشربون وبعد قليل يسكرون.. على أن الأمر خرج من يديه، فقد جاء اللبان فى هذه اللحظة ووقف بباب المطبخ كعادته، ورفع صوته بكلمة واحدة ولكنها طويلة ممطوطة «لبن» فريع الرجل ووثب ودار حول نفسه، فقال اللبان: «اللبن.. عايزين لبن الليلة»؟
فمشى إليه الرجل كالمضروب على أم رأسه، فعاد اللبان يسأله: «عايزين لبن والا إيه؟.. ما ترد».
فأفاق الرجل وأشار اليه، وقال: «هس.. هس».
فاستغرب اللبان وقال: «هس إيه.. عايزين لبن.. أنت مين قبله»؟
فألهم أن يقول: «أنا الخادم الجديد».
فقال اللبان: «طيب ما تقول كده من الصبح! عايز كام»؟
– واحدة.
فناوله سلطانية ووقف ينتظر وصاحبنا ينظر إلى الدهليز، ثم قال اللبان: «ماتجيب امال خلينى أروح لحالى».
قال المسكين: «أجيب.. إيه»؟
– حق السلطانية.
فألهم مرة أخرى أن يقول: «الصبح.. عندنا ضيوف.. ما أقدرش أنادى سيدى دلوقت».
فمشى اللبان ومسح الرجل عَرَقه ووقف يستعيد انتظام أنفاسه، وقد دار برأسه أن خير ما يصنع هو أن يخرج وراء اللبان وأمره لله فى هذه الليلة المنحوسة، ولكن القدر أبى إلا أن يعد له مفاجأة أخرى أدهى وأمرّ.
ذلك أن الفتاة كانت قد وصلت ونقرت على حافة النافذة، فخف إليها حامد وانثنى على النافذة يقبلها، ثم اعتدل وهم بأن يقول لها إنه سيخرج لها حالا وإذا بها تستوقفه وتسأله: «من عندك»؟ وتشير إلى الدهليز، فقد رأت بابه يختفى فيه شبح، فعجب حامد لسؤالها ونفى لها أن أحدا عنده، ثم نظر إلى حيث كانت تنظر محدقة فخيل إليه أنه يسمع أصواتا، فقال: «انتظرى» وخرج.. ولكنها لم تنتظر، فقد كانت فتاة عملية، وكانت تحب حامدا وتقرأ الروايات البوليسية، فجمح بها خيالها وجسم لها الأمر، وأوهمها أن خطرا عظيما قد أحدق بفتاها.. فذهبت تعدو إلى أقرب شرطى وجرته من ذراعه جرا، فقد كانت خطوته بطيئة وهى تريد أن تطير.
وفى أثناء ذلك كان حامد قد خرج، فألفى أباه واقفا وراء باب الشقة، فقال حين رآه: «يا شيخ ظنناك لصا».
فسأله أبوه: «من عندك»؟ فخطر لحامد أن هذا هو الليلة سؤال الناس كلهم، فضحك وقال: «لا أحد.. لماذا لا تدخل.؟ لماذا تقف هكذا»؟
وتذكر أن الفتاة واقفة عند النافذة، ولم يدر كيف يفسر لأبيه وجودها. نعم، يستطيع أن يقول إنها جارته — وهذا صحيح — وأنها مرت به فوقفا يتبادلان التحية، ولكن أباه رجل محافظ ثم إنه يريد أن يعرّف أباه بها أحسن تعريف. على أن تفكيره فى هذا لم يطل، فقد سمع حركة فى المطبخ فمشى إليه مستغربا وضغط زر الكهرباء.. فاذا صاحبنا الذى تركناه هناك حائرا بين البقاء والهرب يمد يده إلى سلطانية اللبن، وقد خطر له أن خير ما يصنع هو أن يأكلها قبل الخروج، فلا يكون قد خرج من المولد بلا حمص كما يقول المثل.
وبقيت يد الرجل ممتدة لا هى تصل إلى السلطانية ولا هى تنثنى إلى صاحبها، فقال حامد: «ماذا تصنع هنا»؟ فتلعثم قليلا، ثم قال: «جوعان»!
قال حامد: «أهو ذاك؟ ومن أين دخلت»؟
قال: «رأيت اللبان داخلا، فلما خرج.. وقفت أنادى فلم يرد أحد فدخلت».
فمال حامد إلى تصديقه وكان مستعجلا، فقد ترك الفتاة عند النافذة فقال: «طيب كل واخرج.. خدها كُلْها على السلم».
ودفعه وأغلق الباب وراءه وهم بأن يعود، فسمع وقع أرجل.. ولكنه لم يعبأ بذلك، وكر راجعا إلى الغرفة، فإذا أبوه واقف ينظر إلى الراديو ويضحك فلم يفهم ومضى إلى النافذة وأطل، فلم ير أحدا، فالتفت إلى أبيه يريد أن يسأله، ثم آثر العدول. وسمع دقا على باب المطبخ وصوتا ناعما يناديه، فذهب يعدو وفتح الباب وإذا به يرى شرطيا ضخما مفتول الشاربين وفتاته، والرجل بينهما وفى يده السلطانية فارغة، فارتد حامد خطوات وقال: «ما هذا»؟
قالت صفية: «لقد صح ظنى.. الحمد لله..».
فقال حامد ببلاهة: «تفضلوا..» وأفسح لهم الطريق ثم أردف: «ولكن لماذا الشرطى»؟
فقالت صفية وهى تدخل: «لماذا؟ أو تسأل؟ ألا تعلم لماذا؟ للص يا روحى» فكاد يضع يده على فمها، ولكن أباه كان قد خرج فلم تبق أى فائدة.
وقال حامد: «بابا.. هذه صفية.. جارتنا.. بنت أحمد بك.. لا ليس هذا لصا.. أنا أعطيته السلطانية ليأكلها..».
فقال الشرطى: «إذا كان الأمر كذلك فلا داعى لوجودى. سعيدة».
وخرج وهو ينظر إلى صفية نظرة محنق. وقالت صفية: «شرفت يا عمى..».
فتمتم الرجل وهو مطرق، وقال حامد: «أ.. أ.. نحن.. أعنى صفية وأنا.. اء.. خطيبان.. اتفقنا على الزواج.. بعد موافقتك طبعا..».
فدنت منه صفية ومالت على كتفه وهمست فى أذنه: «قل إنك موافق..».
فقال الرجل: «أنا متوضئ … ابعدى قليلا..».
فضحكت، وقالت: «إذا لم توافق فإنى أنقض لك الوضوء..».
ففزع الرجل ونهض قائما، وقال: «لالالا احذرى.. الدنيا برد وأنا راجل كبير ضعيف، وأريد أن أصلى العشاء».
فقالت: «قل أولا أنك موافق.. وإلا.. هه».
فلوح الرجل بذراعه، وقال: «أنا مالى … مفلوقين فى بعض … فين السجّادة يا حامد»؟