الذى يضحك أخيرا يضحك كثيرا
لما جاءنى رسول أختى برقعة منها يدعونا فيها — أمى وأنا — إلى قضاء العيد معها، لأن زوجها سافر إلى الإسكندرية.. أدركت أن فى الأمر شيئا، وأن خلافا لابد أن يكون قد شجر بينهما، ولكن دقة إحساسها بالواجب حملتها على البقاء فى بيتها بدلا من أن تجىء هى إلينا.
ولم تفت أمى دلالة هذه الدعوة، فقد سألتنى: «أتظن أن شيئا حدث»؟ فقلت: «لابد» فقالت: «أترى أن نسألها»؟ فهززت رأسى، فليس أكفل بفساد الأمر بين زوجين — فى رأيى — من الدخول بينهما.
وكان وجه أختى وحده كافيا للارتفاع بالظن إلى مرتبة اليقين. نعم، كانت تبتسم ولكن ابتسامها كان متكلفا، وكلامها أكثر مما ألفنا منها، وحركاتها أسرع، وكان لونها ممتقعا حتى لقد احتاجت إلى الأحمر لخديها وشفتيها. وكان الجو باردا، فاحتجنا إلى ما نُدفئ به.. فجاءتنا بموقد صار الفحم فيه جمرا لأنها تكره مدفأة الكهرباء أو البترول لشدة تجفيف الكهرباء للجوّ، ولأن البترول له رائحة لا تطيقها.
وسألتها وأنا أتبسم: «وأين اللعين زوجك»؟
وكان لابد أن أسألها عنه، وإلا كان اجتناب ذكره واشيا بالفطنة إلى ما عسى أن يكون قد وقع بينهما. وما دامت هى لم تقل شيئا فقد يربكها أن تعلم أننا نعلم.
فقالت ببساطة: «أوه.. أظنه ملنا.. سافر ليبحث مع شريكه أمر هذه الشركة الجديدة التى يريد أن يؤلفها.. إنك تعرفه.. لا يعترف بعيد، ولا يطيق أن يقعد بلا عمل».
فسرنى أنها تكذب لتستر حماقته.. وكنت أعرف أن هذه كذبة لأنه أخبرنى بما تم، فالأمر مفروغ منه ولا حاجة به إلى سفر جديد، ولكنها لم تكن تدرى أنى أعرف هذا وإلاّ للجأت إلى كذبة أخرى.
وقضينا النهار على خير ما نستطيع، وإذا بنا بعد العصر نتلقى هذه البرقية: «اصطدمت السيارة وتحطمت، وإصابتى خفيفة. فهل تستطيعين أن تحضرى؟.. سيكون أخى بانتظارك بسيدى جابر» خليل.
فذعرنا جميعا فقد كان من الواضح أن الحادثة أكبر مما زعم.. ولم تستطع أختى أن تضبط نفسها، فبكت وهمت أمى أن تزجرها عن البكاء، فقلت لها: «دعيها فما خلق الدمع للناس عبثا». فقامت ترتب لها أشياءها فى الحقيبة، وتضع معها ما قد يحتاج إليه زوجها مخافة أن تكون حقيبته قد فقدت فى الحادثة، أو تركت مع السيارة المحطمة.
وقلت لأمى: «اذهبى معها، وسألحق بكما غدا.. فإنى مضطر إلى البقاء الليلة، وأبرقوا إلى فى الصباح بعد أن تروه ليطمئن قلبى».
وودعتهما فى المحطة وعدت إلى البيت — بيت أختى — حزينا كاسف البال موجع القلب، وجلست فى البيت أفكر فى هذا الحظ السيئ وأسخط على خليل، وأقول لنفسى هل كان لابد أن يصنع هذا الأحمق ما صنع، وأن يعلن إلى زوجته الجفوة ليلة العيد، ويروح يكسر عظامه أيضا ويرج زوجته هذه الرجة الشنيعة؟ ولكنه لقى فوق جزائه. مسكين. ومن يدرى ماذا جرى له؟ ولعله الآن مشرف على الهلاك، وإنها لقسوة أن ألومه. ثم أنه كان مثال الزوج الصالح، ولم تكن سيرته معها قط إلا سيرة المحب الذى لا يعنيه من الدنيا سوى زوجته، فماذا يا ترى جرى حتى كانت هذه الجفوة المشئومة؟
وإنى لجالس أدخن سيجارة فى إثر أخرى، وبى ما يعلم الله من الحزن.. وإذا بخليل داخل كالقنبلة! فانتفضت واقفا وحدقت فى وجهه مذهولا وفمى مفتوح كالأبله، فلما رآنى كذلك وقف هو أيضا، وسألنى أول ما سأل: «أين فريدة؟».
فأحسست أنى سأسقط على الأرض، فانحططت على أقرب كرسى ورفعت يدى إلى رأسى، فأقبل على يهزنى بعنف ويقول بصوت عال جدا: «أين فريدة؟ قل.. انطق، ماذا جرى»؟
فحاولت أن أتكلم، ولكن لسانى وقف فى حلقى، فأشرت إلى البرقية المشئومة، فتناولها مستغربا ولم يكد يقرأها حتى صرخ: «إيه»؟
فوجدت لسانى، وقلت: «ماذا تظن؟ من أرسل هذه البرقية»؟ قال: «لا أدرى.. ماذا نصنع الآن؟.. فكر.. فكر.. فقد ضاع عقلى.. فريدة.. من يدرى فى أيدى مَنْ من الأشرار ستقع الآن؟»
فقلت: «وأمى أيضا معها.. رهينتان لا واحدة يا صاحبى».
فقال: «رهينتان؟ هل تعنى أنك تعتقد؟»
قلت: «بالطبع.. أى معنى لهذه البرقية غير ذلك؟ إنها شَرَك.. وليس المهم الآن حل اللغز بل السفر وراءهما لإنقاذهما.. لمنعهما من الوقوع فى أيدى هؤلاء الأشرار كائنين من كانوا».
فقال: «صدقت.. قم بنا» قلت: «سيارتك لا تصلح لهذا.. ألا تستطيع أن تجد لنا سيارة قوية.. تستعيرها من أى صديق؟»
وفى هذه اللحظة أقبل أخى فتشهدت واستبشرت، فقد كانت له سيارة جديدة من طراز هدسون تستطيع أن تطير بنا، فدفعته إلى الباب وسبقته إلى السلم وأنا أناديه وأدعوه أن يسرع ورائى.
وكان أخى يكره السرعة فتوليت أنا القيادة، وجلس هو وكلبه معه وراءنا، وجلس خليل معى وكان لابد من التمهل حتى نخرج من المدينة وإلا عطلنا الشرطة، وكنت كالجالس على الجمر، ولكن ما حيلتى؟ واجتزنا شبرا بعد أن ضاع ربع ساعة ثمين، فسألت أخى: «هل الأنوار قوية»؟ ولم تكن بى حاجة إلى السؤال فإنى أنا السائق وأمامى مفتاح النور وفى وسعى أن أجرب، ولكن السؤال جاء دليلا على مبلغ اضطرابى. ودليل آخر على هذا الاضطراب هو أننا لم نخبر أخى ما الحكاية، فراح يكلم كلبه ويقول: «روكسى إنه يسأل عن الأنوار هل هى قوية؟ كأنه لا يعلم، لا بأس. هل تظن أن من حقه أن ينتظر جوابا؟ نعم، الجواب تحصيل حاصل.. بالطبع.. الحق معك.. ثم إنه أرسل النور أمامه وهو يضيىء إلى مسافة أميال.. أليس كذلك؟ ولكن إلى أين يمضى بنا يا روكسى؟ نعم؟ أتقول إن هذه هى الطريقة الأمريكية فى الاستيلاء على السيارات واغتصابها من أصحابها الشرعيين؟ إنها كذلك على التحقيق.. وإنى أراك مصيبا دائما فى ملاحظاتك يا روكسى أوه.. تسعون؟ روكسى.. إنه يخطف بنا الأرض فهل تظن أنهما ارتكبا جناية»؟
وهكذا وهكذا..
ولم أكن أستطيع أن أقول له شيئا لإن عينى على الطريق. وكان خليل يساعدنى فينظر إلى عداد السرعة ويخبرنى بالرقم الذى نرتقى إليه وينظر فى الساعة كذلك، فيطمئننى أو يزعجنى، وأخى ماض فى هذره حتى بلغنا بنها. ولم أدخلها بل آثرت أن آخذ طريق سيارات النقل لأنه أقصر وإن كان غير ممهد — اجتنابا للبطء الذى نضطر إليه فى شوارع المدينة. وبعد أن اجتزنا الكوبرى الجديد، ثم جسر السكة الحديدية — أو المزلقان كما يسمونه — أطلقت للسيارة العنان فجعل خليل ينظر ويقول: «مائة.. مائة وخمسة. وعشر. وعشرون.. وخمس وعشرون.. امض امض. لا شىء.. هذه دجاجة..».
فقال أخى: «أظنها ذهبت إلى جنتها — جنة الدجاج — قبل الأوان.. أتراه سباقا يا روكسى»؟
وبلغت السرعة مائة وثلاثين كيلو، فلولا أن السيارة كبيرة ومتينة وثابتة لانقلبت بنا وقتلتنا.. ولكن أخى خبير بالسيارات والذى لا يعرفه عنها لا يستحق أن يعرفه أحد. والحق أنها كانت سيارة أصيلة، بل هى السيارة وكفى. لكن بالى لم يكن فى ذلك الوقت إلى شىء من هذا، بل إلى ما بقى من الوقت حتى يصل القطار إلى طنطا أو دمنهور وإلى مبلغ الأمل فى إدراكه قبل أن يبلغ سيدى جابر.
وتأدى إلى صوت أخى يقول: «هل تعلم يا روكسى أن إسماعيل مهمل — يعنينى — أموافق أنت؟ هذا ما كنت أنتظر.. ولكنه ينقصك أن تعلم لماذا.. أتريد أن أسر إليك يا روكسى بالسبب؟ اسمع إذن ولكن لا تخبره.. لقد أردت أن أستعير حقيبته الصغيرة. أقول لك الحق يا روكسى بينى وبينك يا روكسى.. استعرتها فعلا.. ولكنى وجدت أنه أهمل أن يضع فيها المفتاح ولهذا جئت إلى بيت الأخت لعلى أجده فآخذ المفتاح.. أعرف ما تريد أن تقول فإنك ذكى.. بالطبع لم يكن ينتظر أن يعطينى المفتاح.. ولكنى كنت سآخذه على كل حال.. أوه بطريقة من الطرق.. من غير أن يشعر بالطبع..».
وقد هممت مرات أن أصيح به، ولكنى كبحت نفسى فليس هذا وقت الاختلاف على الحقائب.. ولكنه غاظنى مع ذلك أنه أخذها وهو يعلم أن فيها أشيائى، فقد كنت أعددتها لرحلة قصيرة، فلما جاء رسول أختى عدلت وكان ما كان.. ونويت أن أغتنم أول فرصة تسنح لاستردادها. بطريقة من الطرق.. كما يقول.. والبادى أظلم.
ولم أكن أطمع أن أدرك القطار فى طنطا، فلم أستغرب أن أعرف أنه تركها قبل وصولنا بعشر دقائق، واحتجنا إلى البنزين فضيعنا دقائق أخرى، ثم استأنفنا السير بأقصى سرعة لنعوض — سلفا — التأخير الذى لابد منه فى كفر الزيات. واعترانى ما يشبه الحمى، فلم أعد أبالى كيف أقطع الطريق. وكنت ربما صادفت مركبة أو رجلا على حمار أو جمل فأمرق ولا أعنى نفسى باليمين والشمال. ولم يكن الطريق بعد كفر الزيات على خير ما يمكن أن يكون، ولكنى لم أكن أحفل بذلك ولم أترفق بالسيارة. وكان أخى يرى هذه السرعة الجنونية — فقد بلغنا أربعين بعد المائة وأصررنا عليها — فيقول لكلبه: «انظر يا روكسى.. إن الخبيث ينتقم منى — أعنى منا، فإنك شريكى فى كل شىء — لأنى أستعرت حقيبته.. من أجلها يريد أن يفجعنى فى السيارة.. أى والله يا روكسى. فتعال نبك على ما كلفتنا من مال يضيع الآن فى هذه السكة المنحوسة.. ثلاثمائة وخمسون جنيها خرجت عنها من حر مالى.. وماذا يعنيه هو.. يأخذها بلا استئذان، وينحينى عن مجلسى فيها، يردنى إلى الوراء.. هل هذا يليق يا روكسى»؟
ولولا أن خليلا صاح فى هذه اللحظة: «القطار، القطار، سنسبقه يا إسماعيل … سنسبقه بالتأكيد … الحمد لله» لمضى أخى فى هرائه. وكنا قد قاربنا دمنهور، فلما بلغنا مدخلها عاد أخى إلى الثرثرة، ولكنى لم أسمع شيئا لأن أذنى كانت تطن. ودنونا من المحطة، فوقفت وفتحت الباب، وقلت لخليل: «انزل.. بسرعة» فشرع يفتح الباب من ناحية وأخى يقول: «ألم أقل لك يا روكسى إنه سباق.. بين السيارة والقطار»؟
ولم أسمع بعد ذلك شيئا لأنى ذهبت أعدو إلى الرصيف الذى يقف عنده القطار. ولم نكد نفعل حتى دخل، فركبت — بلا تذكرة، وماذا يهم؟ — وخليل ورائى. ومشينا خلال المركبات حتى وجدنا أمى وأختى، فانحططت بجانبهما بلا كلام.
ولو كان فى رأسى أو رأس خليل عقل لنزلنا بهما من القطار وعدنا بالسيارة على مهل، ولكنا لم نفكر فى شىء حتى كان القطار فى طريقه إلى سيدى جابر، فأدركنا أننا تعرضنا لغرامة فادحة لم يكن لها داع. وكان فى الوسع اتقاؤها لو عنينا أن نخبر المفتش أو أحدا من رجال القطار أننا راكبون من هنا، وسندفع الأجر فى القطار.. على أن الثقة بأنا أنجينا الفريستين هونت علينا الخسارة.
وقلت لأختى: «هذا زوجك.. البرقية مزيفة، فما الرأى الآن؟».
ولكنها لم تكن فى حال تسمح لها بإبداء رأى. وأى رأى هناك يمكن أن يشير به أحد.. لقد ضاعت الفرصة الذهبية فى دمنهور، ولو كنا أخبرنا أخى على الأقل لاستطاع أن يبرق إلى بوليس سيدى جابر بالموضوع، ولكان لاستمرار السفر فى هذه الحالة معنى، أما الآن …
وعلى أنا قلنا إن الفرصة لم تضع، وأن من الممكن إذا تركنا الاثنتين تسيران أمامنا وحدهما وعيوننا عليهما أن نرى هذا الذى سيتقدم لهما نائبا عن أخى خليل، وقد نستطيع فى ذلك الوقت أن نجعل البوليس يقبض عليه.. على كل حال لم يبق إلا هذا..
ولكنا لم نجد فى سيدى جابر غير الحمالين. ووقفنا بعيدا ووقفت الاثنتان تنتظران أن يتقدم إليهما أحد — رجل أو امرأة — حتى البوفيه لم يكن فيه أحد، فقلنا لعله ينتظر فى الشارع فأومأنا إليهما أن تخرجا أمامنا، فلم يكن حظنا خارج المحطة أحسن منه داخلها. ولم تبق فائدة من التفرق فركبنا وهممنا بالمضى إلى الفندق. ولكن خاطرا خطر لى فجأة فنزلت وذهبت إلى مكتب التلغراف وبعثت ببرقية منه.
وفى اليوم التالى كنا فى مصر..
ولكن هذا لم يكن كل شىء. وهنا يحسن أن أدع أخى يتكلم: «لعله يعنيكما — يريد أختى وأمى — أن تعرفا كيف كانت عودتى البارحة بعد أن تركنى هذان المخلوقان. لا فائدة من قولى انتظرت، فإن هذا القول لا يدل على شىء. فقد تركنى فجأة وذهب يعدو كأنى جرب.. حتى محرك السيارة لم يعن بأن يوقفه. ستقولون جميعا إنه كان معذورا فليكن فإن الجدال عبث، وستسمعون بأشياء أخرى أرجو أن يكون عذره فيها أوضح.. وكان معى روكسى كما لا أحتاج أن أقول، ولا أدرى ماذا كنت أصنع لو لم يكن هذا الرفيق معى. لعلى كنت أجن أو يحدث لى شىء من هذا القبيل. ما علينا، هل أقول إن الأمر طال على وأنا قاعد فى السيارة؟ كلا، وهل أقول إنى كنت ميتا من الجوع؟ كلا أيضا. وأختصر حكاية مؤلمة، فأقول إنى نزلت من السيارة وسرت فى الاتجاه الذى رأيتهما يقصدان إليه، ولم يكن الأمر يحتاج إلى ذكاء.. فقد كان كلامهما دائرا كله على القطار ووجوب سبقه، وإن كان فيما عدا ذلك لا معنى له عندى. ولم أجدهما فى المحطة كما تعلمون، لأنهما شاءا أن يركبا القطار من غير أن يبعثا لى بكلمة. وقد سمعتهما يقولان أنهما أديا أجر الركوب مضاعفا، وهذا حسن وأن كان قليلا.. ولكنه يبرد بعض الغلة. وقد وصفتهما لكل من فى المحطة، فظن واحد أنهما هاربان من سجن، واعتقد ثان أنهما مجنونان خطران. واقتنعت أنا بأن لا فائدة من البحث، وأن أبى — رحمه الله — أخطأ حين رمانى بهذا المخلوق وزعمه أخا، وأن أمى أخطأت أيضا فى ربطنا بهذا المخلوق الثانى الذى أخفوا أمره عنى حتى خطف أختى، فصار واجبي الآن بعد أن عرفته أن أخفيه أنا عن الناس. ما علينا.. فلندع هذا التاريخ القديم.. أظنكم ستضحكون حين أقول أنى احتجت أن آكل وأن أطعم روكسى وقد يسركم أن تعلموا أنى أحب أن أنسى فترة هذا الأكل وأن أمحوها من تاريخ حياتى الحافل بالتضحيات فى سبيل من لا يستحقون شيئا.. ولكنى هكذا دائما.. كريم مفضال، وجزائى من الناس بل ممن يمرحون فى أبراد نعمتى الجحود والكفران. ما علينا أيضا.
وقلت لروكسى: تعال يا صاحبى، فإن هذا بلد لا يستحق أن يتشرف بوجودنا فيه، فلنرجع إلى بيتنا فى مصر.. وقد كنت أسلمت السيارة إليه وهى سليمة لا شىء بها، ويشهد شريكه فى المؤامرة أنها أنقذتهما، ولكنى حين أردت أن أدير محركها أبى أن يتحرك.. ولا أطيل. قضيت نصف ساعة فى هذا البرد حتى استطعت أن أقنعها بالحركة والعودة إلى دفء البيت.
وكانت السيارة كأنما ركبها قبلى ألف عفريت، ولكنى صبرت وقلت عوضى على الله، وهذا جزاء من يكون له أخ كهذا ونسيت كهذا.. وأظن أن الفجر بدأ يطلع حينما بلغنا شبرا، فتنهدت وتمهلت فى السير وإذا بشرطى يستوقفنى، فوقفت فدار حتى صار إلى جانبى، وقال وهو ينقر على الزجاج: «تفضل معى إلى الكركون».
فقلت: «الكركون»؟، قال: «نعم، تفضل انزل».
فقلت «ولكن لماذا؟ ماذا صنعت؟ إنى لم أكن مسرعا بل كنت أسير بسرعة خمسة أمتار فى اليوم والليلة».
فقال بلهجة جافية: «انزل ولا تحوجنى أن أجرك بالقوة».
فقلت لنفسى إن المكابرة والجدال عبث، ولا شك أنى سأجد رجلا يفهم فى مركز البوليس. وذهبت معه، فقال: «اقعد هنا»، فقعدت حيث أشار، وهم بتركى فتعلقت به وقلت: «ألا تسمح من فضلك بأن تخبرنى لماذا جئت بى إلى هنا»؟
فنهرنى بعنف، فهويت إلى الكرسى وروكسى بين يدى لم أر أحدا مستعجلا سواى. وأخيرا جاء شرطى آخر، وجلس إلى مكتب وأخرج أوراقا وبدأ يستعد للكتابة، وسألنى عن اسمى وعنوانى ومولدى وعن السيارة ورقمها، ثم سألنى بخبث: «ماذا معك فيها»؟
فابتسمت وقد خيل إلى أنه ظننى من مهربى المخدرات، وقلت ببساطة: «ليس معى سوى روكسى».
فقال: «إيه»؟ قلت: «يعنى الكلب.. اسمه روكسى»، فقال متهكما: «يا حبيبى يخوى.. كمان عامل لى قمع ومعاك كلب.. تعملوها وتِخيلوا والله».
فلم أدر ماذا أقول له.. وأعفانى من الكلام، فسألنى: «هل معك مفتاح السيارة»؟
فناولته المفتاح، فنادى شرطيا وطلب منه أن يفتحها أمامى، وأن يجىء بما يجده فيها فلم يجد الا الحقيبة.. اضحكوا.. اضحكوا.. لا بأس.. سيجىء يوم أثأر فيه لنفسى..
فلما جاءوه بالحقيبة، ابتسم ابتسامة عريضة جدا وتنهد مرتاحا، وقال لى: «لا شىء.. هه..؟ طيب».
فابتسمت أنا أيضا وقد صح عندى أنه يحسبنى من المهربين وأيقنت بقرب الفرج. وشرع يسألنى عن الحقيبة، فقلت له إنها لأخى وذكرت اسم الأخ المحترم، فأدهشنى بأن سألنى هل أنا أعترف بأن الحقيبة لإسماعيل أفندى زفت وقطران؟ فقلت بالطبع أنا معترف.. إنه أخى.
فقال: «أخوك..؟ أواثق أنت أنه أخوك»؟
فضحكت وقلت: «بالطبع واثق … ولكن ما هى الحكاية»؟
فقال: «أين المفتاح»؟
قلت: «معه … لم آخذه منه». وهممت بأن أقص عليه القصة، ولكنى رأيت أنها مما لا يصدق فأقصرت، فقال: «هل تستطيع أن تثبت شخصيتك»؟
فقلت: «بالطبع.. ماذا تظن»؟.. ودفعت يدى فى جيبى لأخرج له أوراق السيارة ورخصة القيادة وغير ذلك مما عسى أن يكون فى جيبى، فما راعنى إلا أن الجيب خال ليس فيه قصاصة واحدة! وأظن وجهى فضحنى على الرغم من محاولتى أن أتماسك وأتجلد، فقد سألنى بعد ذلك مباشرة عن السيارة ولمن هى؟ فأيقنت أنى وقعت، وقلت له: «اسمع.. إنك تطيل بلا داع.. لابد أن يكون قد حدث خطأ، ومن سوء الحظ أنى نسيت الأوراق كلها فى البيت، فإذا سمحت فأرسل معى شاويشا أو عشرة إذا شئت إلى البيت لأجيئك بكل ما يزيل الشك ويريح ضميرك».
فلم يبال بهذا الاقتراح المعقول، وقال: «هل أنت مصر على دعواك أنك أخو إسماعيل؟»
فقلت: «الحقيقة أنى مستعد للتبرؤ منه ولكن إلى أن أفعل لا يسعنى أن أنكر أنه أخى». فقال: «إذا كنت أخاه، فلماذا يبعث ببرقية كهذه»؟ وناولنيها، فقرأت فيها الحكم على.
وللرجل العذر لأنه إذا كان إسماعيل هذا أخى، فلماذا يطلب من البوليس أن يحجز السيارة رقم كذا، وفيها حقيبة صفتها كيت وكيت. لا تعترض من فضلك.. لقد كانت عبارة البرقية يفهم منها أنك تريد حجز السيارة أيضا. ولا أكتمك أنى لم أجد جوابا لهذا السؤال، وأنى استحييت أن أقول إنه مزاح بارد.
وحرت ماذا أصنع، ولم يفتح الله على بحيلة تخرجنى من هذا المأزق الثقيل.. وكان النهار قد طلع ولكنا ما زلنا فى البكور، ولا يليق أن أزعج الناس فى مثل هذا الوقت، فعدت إلى اقتراحى أن يبعث معى من يشاء إلى البيت، فرفضه. فسألته عن المأمور من هو؟ عسى أن يكون من معارفى.. فانتهرنى بغلظة، فتساهلت وسألته عن المعاون أو غيره، فلم يزد على أن قال: «بلاش دوشة»، فناشدته أن ينظر إلى ثيابى، وأن يفكر هل هذه ثياب مجرم ولص؟ فقال وهو يضحك: «إن بين اللصوص من هم أشد أناقة منك» فوضعت أصبعى فى الشق، وأسلمت أمرى إلى الله.
•••
وخُتم المحضر على هذا … أى على أنى لص ولا شك وأن البوليس حاذق فطن ولا شك. ولست ألوم البوليس، فقد كانت كل القرائن ضدى. وأشهد له أنه كان رفيقا، فقد سمح لى بأن أشترى — أعنى أن يبعث من يشترى شيئا لطعامى وطعام روكسى. ولا أنكر أنى شربت قهوة أيضا، وإن كانت أشبه بمغلى الفول السودانى أو بماء الوحل الساخن. ولكن هذا لم يكن ذنب البوليس.
وأخيرا فى الساعة الثامنة دخل ضابط علينا، فنظرت إليه ببلادة.. فقد فترت ويئست ولم أعد أبالى ما يجرى لى، ولكنى لم أكد أرى وجهه حتى انتفضت واقفا، وصحت به «حمدى.. الحمد لله.. أين المحقق»؟
فاستغرب وسألنى عن الحكاية، فقصصتها عليه فضحك ملء شدقيه. مدهش أن يضحك الناس من هذه الفصول الباردة! والباقى لا يحتاج إلى كلام … جئت إلى هنا ونمت ساعة أو اثنتين على هذا الكرسى بثيابى.. ولكنه ينقصك يا حضرة الأخ أن تفسر للبوليس مزاحك، فقد صار الأمر مزاحا مع البوليس لا معى».
فما استطعنا أن نتكلم ونغالب الضحك، قلت: «هون عليك.. فإنى أعرف ماذا أقول.. ولكنى أرجو أن يكون ما حدث درسا لك».
فقال وفى عينيه نظرة خبيثة: «وأنا أرجو أن يكون ما حدث لكم درسا كذلك».
فقال خليل: «ماذا تعنى»؟
فقال أخى: «أعنى أنكم لو لم تكونوا عميا لعرفتم أن اليرقية ليست لكم.. للجار رقم ٢٢٣، وقد تشابه الرقمان على الساعى واتفق أن اسم الجار خليل أيضا، واتفق أنكم عمى لا تبصرون. ولولا ذلك لقرأتم الرقم واسم الجار الذى أرسلت إليه البرقية.. هذا ما أعنى.. فقوموا كفروا عن سيئاتكم يا جهلة».