عقاب اللّص
لست أخشى اللصوص.. فما معى ولا فى بيتى ما أخشى عليه الضياع وأتقى أن أُمنّى فيه بخسارة. ولو أن لصا كريما فيه مروءة دخل بيتى — أو حيث أقيم فما هو بيتى — وحمل ما فيه من متاع لحملته شكرى، ولبعثت بنسخة منه إلى الصحف.. فإن من اللؤم أن يقابل الإحسان بأقل من الشكر. فما أرى لى متاعا فى شىء مما حولى. وسبب آخر يجرؤنى على لقاء اللصوص وينفى عنى الخوف منهم ويجعلنى لا أتهيبهم، وذلك أنى كما تعلم — أو كما لا تعلم — ضامر ضاو، ظاهر الضآلة بادى الضعف. وأوجز تعريف بنفسى يحضرنى الآن، وهو أنى امرؤ فارغ الثياب.. وأحسب أن هذا تعريف شامل محيط جامع مانع، فإن لم يكن كذلك فأمهلونى، حتى يلهمنى الله ما هو أوفى. وأرجع إلى اللصوص فأقول إن الذى يجعل لقاءهم خطرا فى ساعات العمل هو أنهم يريدون التخلص مما وقعوا فيه اتقاء السجن وما فيه، والمفاجأة فى هذه الحالات تذهلهم وتطير صوابهم، فيحدث أن يضيفوا إلى جريمة السرقة جريمة أخرى هى الاعتداء على النفس.. أما إذا كان الذى يفاجئهم رجلا صغير الجسم مأمونا مثلى، لا خوف من قدرته على منع السارق من الفرار والنجاة.. فإن العدوان لا يخطر لهم على بال. وحسبهم أن يشدوا هذا المتطفل بحبل ويلقوه فى زاوية أو ركن، ويمضوا فى عملهم كأنما لم يعطلهم معطل. ومن هنا اطمئنانى، وهو اطمئنان لم يزعزع الثقة به إلى الآن مزعزع.
وقد اتفق لى أن كنت مرة فى الأُقصر وكان الوقت شتاء، والأقصر تطيب فى هذا الوقت.. فنزلت بالفندق ومضى يوم أو يومان — فقد نسيت لطول العهد — وإذا بصديق من أغنياء الأقصر يقع علىّ فى شرفة الفندق حيث يجلس أكثر النزلاء يشربون الشاى قبيل المغرب. وأقول يقع على — وأنا أعنى ما أقول — فقد كان ظهرى إليه وهو مقبل، ويظهر أن باله لم يكن إلى الأرض وهو سائر فاصطدمت رجله بساق الكرسى الذى كنت جالسا عليه فكاد يقع وارتمى فوقى — أعنى الصديق لا الكرسى — ثم شرع يعتذر وشرعت أنا أيضا أهز له رأسى إيذانا بقبول الاعتذار، فالتقت العيون وإذا به يكف عن الاعتذار ويصيح: «أوه.. أهو أنت»؟
كأنما هذا ينفى وجوب الاعتذار ويعفيه من تكاليفه ويجعلنى غير أهل له، فقلت له: «نعم، أنا أنا يا صاحبي» قال مستغربا: «وماذا جاء بك إلى هنا»؟
قلت: «قذفتنى موجة الحياة على هذا الساحل الذى لا أراه أرفق بى من اليمّ». قال: «آسف يا صاحبي..» فقلت مقاطعا: «لأن الحياة رمت بى على شاطئكم»؟
قال وهو يجلس: «لالالا.. إنما عنيت أنى آسف لأنى وقعت عليك».
قلت: «هذا أدهى.. أؤكد لك أنى لم أتعمد أن أكون فى طريقك».
فصاح بى: «يا أخى، لا.. ليس هذا ما أعنى.. ألا يمكن أن أقول شيئا لا تستطيع أن تؤوله على هذا النحو؟ إنما أعنى.»
فترفقت وقلت: «أعرف ما تعنى.. وأعرف أيضا أنك حمار.. والآن هات حديثا آخر».
وعرف أنى مقيم بالفندق، فدعانى إلى النزول ببيته فأبيت.. وشكرته فألح، فقلت له إنى هنا حر أفعل ما بدا لى ولا أتوخى إلا راحتى. وحريتى أعز على من أن أقبل ضيافتك الكريمة، فأبى فأصررت، ثم مضى وفى ظنى أن الأمر انتهى.. وإذا بى أعلم حين هممت بالعود إلى غرفتى لحاجة لى، أن الصديق حمل حقيبتى ومضى بها إلى بيته وترك لى مركبته، وأنه لم تبق لى فى الفندق غرفة.
وأُوجز فأقول: إنى لم يسعنى إلا أن أذهب إلى البيت على فرط استثقالى لذلك، فإذا البيت شىء مهول وإذا هو بيتان فى الحقيقة.. واحد للرجال وآخر بعيد عنه للنساء، وبينهما بستان واسع وحديقة زهر فيحاء، وفضاء رحيب.. ألفيت أبناء صديقى يلعبون فيه — أو خيل إلى فى أول الأمر أنهم يلعبون — ولكنى لما دنوت منهم رأيت رجلا معروفا لم أرتح إلى وجهه ولم يعجبنى شارباه المفتولان وصلعته الناصعة، وكان قصيرا مثلى.. ولكنه أشد منى دمامة وأضيق عينا. وكان هذا الرجل يصيح بالغلمان وهو واقف لا يتحرك، فيحركون أيديهم أو أرجلهم وينثنون ويعتدلون ويستلقون على ظهورهم ويرفعون سيقانهم وأذرعهم، وكان صديقى واقفا يهز رأسه راضيا مرتاحا، فقلت له: «ما هذا الذى أرى؟ ومن هذا الرجل القبيح؟ ومن هؤلاء الصبية؟ هل نويت أن تقيم فى بيتك (سيرك)»؟
فقال وهو يضحك: «لالالا.. هؤلاء أبنائى».
فقلت مستغربا: «أبناؤك؟ ولماذا تترك هذا الرجل القبيح يمرغهم فى التراب»؟
فقال وهو يجرنى: «لا تصح هكذا لئلا يسمع.. إنه معلم الرياضة فى المدرسة.. يدرب الأولاد على الحركات الرياضية».
فقلت: «أولا يكفى تدريبه لهم فى المدرسة؟ مدهش.. أمن أجل أن الله رزقك مالا تروح تبعثره فى هذا الكلام الفارغ ليقال إنك متمدين»؟
قال: «لا، إنك لا تعرف.. إن الحكاية طويلة ولكنى أختصرها لك فأقول: إن أحد السياح الأمريكيين كان هنا فى الشتاء الماضى، فاتصلت به بطبيعة الحال — صديقى تاجر عاديات — ورأى أبنائى فنصح لى — وهو طبيب — أن أعنى بحياة أبنائى الرياضية، وأن أتخذ لهم معلما. هذه هى الحكاية.. وقد نسيت أن أقول إن أحدهم كان مريضا».
قلت: «هذا ما قلت.. تقليد ليس إلا.. ما علينا.. أين الحقيبة؟ فلست أنوى أن أقيم فى مصحة».
ولكنى أقمت فى المصحة وإن كنت قد استطعت أن أتقى هذا «التصحيح» الذى يجرى على أبناء مضيفى..
•••
والأقصر — إذا كنت مقيما فى بيت لا فى فندق — مملة، لأن الحياة كلها فى الفنادق، وقد حزمنى صاحبي وألقانى فى بيته. فلم أكن أخرج إلا نهارا لأزور الآثار، فإذا جاء الليل ذهبنا إلى شرفة الفندق ومكثنا قليلا، ثم عدنا إلى البيت لنتعشى حتى ولو كنت غير جائع وإلا عد نفسه مقصرا فى حقى، ولا أدرى لماذا.. ولكن هذا هو الاعتقاد الشائع. وضقت ذرعا بهذا الكرم ولم أعد أطيقه، فغافلته مرة وانطلقت أعدو إلى الفندق، ودخلت البار وشربت حتى ارتويت ثم خرجت إلى الحديقة الرحيبة، وذهبت أتمشى فيها وأطوف فى أرجائها. وكانت الليلة مقمرة والهواء لا رطوبة فيه، فطال تجوابى فلما نظرت فى الساعة إذا هى الحادية عشرة ولم يكن هذا ظنى، فبادرت إلى العودة إلى البيت وقد سرنى أنى استطعت أن أروح وأجىء وحدى وكما أحب وفى حيث أريد والسلام، وإن لم يكن هذا — بمجرده — خيرا مما فررت منه.. فما كان ثم أى حرج فى أن أشرب أو أفعل ما أشاء وهو معى، ولكن الوحدة أشعرتنى حرية كنت افتقدتها معه إذ أراه إلى جانبى، وكان هو يتوخى مرضاتى فى كل شىء كبر أم صغر. ولكنى لم أكن أرتاح إلى هذا ولا كان يسرنى أن أرى رجلا يقيد نفسه بى، وكان يخيل إلى أنه فى سريرته كاره غير راض، وأنه مثلى لا يريد أن يكون غير مرتبط أو مشدود إلى أحد. ولم يكن هذا كذلك فى الحقيقة، فإن الرجل كريم عظيم الأريحية، ولكن هذا هو الذى قام فى نفسى وكبر فى وهمى.
وعدت إلى البيت وأنا أشعر أن الحياة تستحق أن يحياها المرء وأن الدنيا جميلة، وشعرت بشىء من الظمأ على كثرة ما شربت.. وكنت أعرف الطريق إلى حيث أطفىء ظمئى ففتحت بابا ودخلت إلى حيث الشراب، وهو مكان رحيب فيه خزانات شتى، فيها ما لم أحصه من الزجاجات المختلفة الألوان والحجوم، وفى الوسط مائدة مستطيلة مغطاة بالمخمل الأخضر وحولها الكراسى الوثيرة.. فأدرت مفتاح النور، وإذا بى أرى ذاك الرجل الدميم القصير الذى يقيم الأولاد ويقعدهم ويعذبهم بالانحناء والانثناء والقفز والوثب والنط إلى آخر ما كرهت منه ومن منظره، فندّت عنى صيحة استغراب وإنكار، وماذا يجىء به إلى هنا فى الليل — فى منتصف الليل — وهو لا يبيت معنا بل يذهب إلى بيته؟
ولم يخالجنى شك فى أنه لص شرير، على أنه خطر لى مع ذلك أن بيت الرجال أو الضيوف ليس فيه ما يسرق غير الأثاث وهو ضخم لا يسهل حمله أو نقله، ورجح عندى أن هذا المعلم الرياضى لص خمر وأنه جاء متسللا ليشرب كأسين أو ثلاثا بلا ثمن … وسواء أكان هذا أم ذاك هو الصواب، فقد شعرت أن من واجبى أن أنغص عليه ليلته.
وصحت به: «من أين دخلت أيها اللص الجاحد الناكر للجميل»؟ وكنت أتكلم بعنف وفى يدى عصا ضخمة وفى عينى لمعة أظن الفضل فيها لما سقانى صاحب «البار» فى الفندق، فرأيت الرجل يستخذى ويتضاءل ويتراجع إلى النافذة، فأطلقت عليه صيحة عالية: «قف» فوقف كالجندى، وكان الفضل فى سرعة الوقفة واعتدالها وجمال منظرها لتربية الرجل الرياضية أو العسكرية لا لقوة الصيحة، ولكنه أطاع على كل حال.. فسررت وقلت له مرة أخرى: «قل من أين دخلت فى الليل.. فى منتصف الليل»؟
فقال بذلة وضراعة: «من النافذة.. فقد وجدت الأبواب موصدة، والخدم نياما». قلت: «آه.. ولكنى أنا لم أجد الباب موصدا».
وأيقنت أنه كاذب وأنه تعمد أن يدخل من حيث لا يراه أحد، وهم فى هذه اللحظة أن يقول شيئا فأطلقتها عليه صيحة أخرى مدوية.. فى أذنى أنا فما أظن أحدا سمعها أو سمع بها خارج الحجرة: «اخرس».
فخرس ووقف ساكنا لا يتحرك، فسرنى مرة أخرى أنه يطيع على هذا النحو، وقلت لنفسى إن للرياضة نفعا على ما يظهر. ولو لم يكن هذا الرجل رياضيا، لكان الأرجح أن يحاور ويجادل ويكابر ويناقش ويوجع لى رأسى، ويسلب الأمر كله ما أجد الآن فيه من المتعة.
وقلت له: «ألست أنت الرجل الذى يكلف هؤلاء الأولاد المساكين أن يتلووا ويتعوجوا وينطوا ويقفزوا»؟
قال: «نعم يا سيدى». قلت: «أرنا إذن بعض ما أتقنت يا صاحبي».
قال: «نعم».
قلت: «تلو.. تعوج.. انثن.. انحن.. افعل كل ما رأيتك تأمرهم أن يفعلوا.. تفضل».
فتردد برهة لا أدرى لماذا أو كيف، ثم كأنما بدا له أن خير ما يصنع هو أن يطيع وأمره لله.. فراح ينثنى ويعتدل، وأنا أقف أنظر إليه معجبا مسرورا، وكلما نظر إلى استزدته حتى خيل إلى أن ظهره سيقصم.. فدعوته أن يقف، وشرعت أفكر فى عذاب آخر أنزله به، ففركت جبينى ثم تذكرت فقلت: «آه.. لقد كنت واثقا أنى سأتذكر.. اصنع من جسمك عقدة كعقدة الحبل».
فلم يفهم، فقلت له مرة أخرى: «ألا تعرف العقدة؟ تلف الحبل وتصنع منه دائرة وتدخل طرفا منه فى هذه الدائرة ثم تشد الطرفين فتعقد العقدة. هكذا أريد منك الآن أن تصنع بنفسك. اصنع من خصرك دائرة وأدخل ساقك فيها.. أو لا أدرى كيف تصنع ذلك؟ المهم أن تصنع ذلك وأن أراه … تفضل».
فرقد الرجل على الأرض، وراح يقوس ظهره كما لم أكن أتوقع أن يستطيع أن يفعل.. وأنا متكئ على المائدة، وفى يدى سيجارة أشعلتها ورحت أدخن وأنظر معجبا مغتبطا. ورأيته يحاول أن يعقد العقدة التى أمرته بها، فلم يسعنى إلا أن أضحك.. فقد كان منظره يغرى بذلك وهو يلتوى على الأرض، ولكنى لحماقتى ضحكت والدخان فى فمى، فكادت روحى تزهق … وجعلت أسعل سعالا شديدا، فاغتنم الخائن الماكر هذه الفرصة ووثب إلى رجليه ثم إلى النافذة، ومنها إلى حيث لا أعرف.
وبينما كنت أوصد النافذة.. وأنا آسف على المتعة التى لم تطل، إذا بمضيفى يقول: «يا أخى أنت كنت فين.. لقد حدثتنى نفسى أن أبلغ البوليس والله».
فقصصت عليه القصة وأنا أكاد أقع من الضحك، فقال: «يا شيخ حرام عليك.. هذا رجل مسكين».
فصحت به: «أما أنك لرجل مدهش.. إذا كنت تعتقد أن تكليفه هذه الحركات البهلوانية تعذيب له فإنها تكون أيضا تعذيبا لأولادك».
فقال: «لا، ولكنه كبير السن وأولادى صغار … ثم إنه لا يكلفهم أن يلووا أجسامهم ويصنعوا منها عقدة كعقدة الحبل.. كيف خطرت لك هذه الفكرة الخبيثة»؟
قلت: «لم يخطر لى شىء، وإنما كان هذا ما بدا لى أنه يكلف أولادك أن يصنعوه حين رأيتهم».
قال: «قم لتنام، وحسبك هذا طول العمر».
وقد صدق.. فما أزال أضحك إلى الآن كلما تذكرت تلك الليلة.