ثمن سيجارة
كم تظن السيجارة كان ثمنها فى سنة ١٩٠٩م؟
لا أدرى ممن القارئ.. أمن الأيفاع الذين يزدان بشبابهم الغض هذا القرن العشرون، أم من المخضرمين الذين أدركوا — مثلى — القرن الماضى وهو يجود بأنفاسه، وأبوا إلا أن يركبوا هذا الزمن بشبابهم الدائم الذى يأبى أن يدركه الهرم أو يرده الشيب إلى تكلف الوقار؟ وإن كان — أعنى شبابهم المتلكىء — لا يمتاز لا بغضاضة، ولا ببضاضة. وليكن القارئ من شاء — من المحدثين أو ممن هم أحدث منه وإن كانوا أعلى سنا — فهذه فذلكة تاريخية يستطيع أن ينتفع بها إذا كان له من الذكاء حظ. وهل أحرص منى على فائدة القراء؟
كنت فى تلك السنة — سنة ١٩٠٩م — قد تخرجت فى مدرسة المعلمين العليا، ومن كان يشك فى ذلك فليسأل وزارة المعارف فلن تحابينى. وكنا فى مقدمة الصيف، وكنت متعبا مرهقا — لا أدرى لماذا؟ فما أعرفنى عنيت بحفظ درس فى حياتى — فاستشرت طبيبا أو على الأصح ألح أهلى أن أستشيره، فقد صارت لحياتى قيمة بعد أن حملت هذه «الدبلوم» وبلغت بها مبالغ الرجال الذين يكسبون رزقهم وينفقون على سواهم. فلما فحصنى الطبيب، قال: «لا شىء.. يكفى أن ترتاح وتتنزه» قلت: «أين»؟ وكان ضيق الصدر فقال: «وهل أنا أعرف.. فى أى مكان غير البيت» فلم يحسن وقع جوابه فى نفسى، فقلت له: «وهل كنت تحسب أن بيتى منتزه يا أخى.. أم خيل إليك أنى بنت لا أعرف غير غرف البيت.. سبحان الله العظيم» وأنصرفت ساخطا.
وأوسعته ذما فى الطريق إلى بيتى — مزقته ونثرت لحمه وجلده للكلاب.. حتى الشعرات القليلة التى بقيت فى رأسه الأصلع انتزعتها واحدة واحدة، وسرنى أنه كان يتألم ويتلوى وأنا أشدها بأظافرى وأقتلعها من جذورها — بخيالى — وكنت أقول له: «هذا جزاؤك يا وقح.. عسى أن يعلمك هذا أن التهكم على الناس غير جائز».
ويظهر أنى كنت أكلم نفسى فى الطريق بصوت عال، فقد استوقفنى قريب لى وقال لى: «مالك.. ماذا جرى»؟
قلت له مستغربا: «نعم.. ماذا جرى»؟
وتجهمت له فقال: «من الذى تشتمه وتسبه هذا السب القبيح»؟
فأفقت وارتد إلىّ عقلى.. وكان قريبى هذا له نسيب عندنا له بقية من مال قليل استودعناه إياه ليجريه مع ماله فى تجارته، فقلت له: «يا أخى هذا الطبيب الذى أرسلتمونى إليه يقول لى: إنه لا دواء لى إلا أن أذهب إلى لبنان، وأنه لا أمل لى فى الشفاء بغير ذلك.. ولا أدرى ما أصنع، فقد ذهب أكثر نصيبى فى نفقات التعليم والباقى لا يكفى للسفر إلى الشام. ولست أحب أن أجور على نصيب أمى وأخى وإن كان من السهل رد ما أقترض بعد أن أقبض مرتبى من وظيفتى.. وعلى ذكر ذلك، أقول لك إنى عينت مدرسا فى المدرسة السعيدية الثانوية».
وكان الذى أخطر الشام على بالى فى هذه اللحظة، أن لى صديقا أصابه صداع ملح أعيا الأطباء شهورا.. فبعثوا به إلى لبنان فاستراح من آلامه، وكتب إلى من هناك يصف لى جمال البلاد ويدعونى إلى اللحاق به.
وكان لابد من موافقة أمى على الاستدانة من نصيبها أو نصيب أخى من هذه البقية الباقية من المال القليل، وكانت — رحمها الله — قوية ذكية، ولم أكن أجرؤ أن أكذب عليها.. ولو أنها كانت سألتنى لما وسعنى إلا أن أحدثها بما دار نفسى من أساليب الاحتيال عليها — لا خوفا منها، بل لأنها عودتنى أن أصدُقها وألا يكون جزائى على الصدق إلا الخير. غير أنها لم تسألنى شيئا بل وافقت وقالت: «اقتراح حسن.. اذهب إلى … خذ منه ما يكفيك».
ولو كنت ذكيا لأدركت أن فى الأمر سرا، وأن وراء هذه الموافقة السريعة التى لم أكن أتوقعها تدبيرا خفيا.. ولتذكرت أنها كانت تحبنى حتى كانت لا تستطيع أن تفارقنى يوما واحدا فكيف بشهر أو شهرين؟ ولكن خفة الشباب صرفتنى عن النظر فى شىء من هذا، فصدقت وذهبت إلى الرجل فقال: «ليس معى الآن إلا خمسة جنيهات فخذها، ولولا أنى مريض لخرجت معك لأجيئك بكل ما تحتاج إليه.. ولكن بضعة أيام لا تقدم ولا تؤخر».
فخرجت مغتبطا فما كنت رأيت قط قبل ذلك اليوم خمسة جنيهات — ذهبا — فى كفى أصنع بها ما أشاء ولا أُسأل عنها. وأنسانى الفرح أن كونى لا أُسأل عن هذه الجنيهات ماذا صنعت بها هو التدبير الذى لجأت إليه أمى اعتمادا على ما تعرف من تبذيرى وإسرافى اللذين أعياها علاجهما.
ومضت أيام ثلاثة نقصت الجنيهات التى معى بعددها، فقد أبقيتها فى جيبى.. فطارت واحدا بعد واحد كأن لها أجنحة، فعدت إلى صاحبنا وقلت له أنى أريد بقية المبلغ اللازم لأنى أخشى الضياع على كل ما يعطينى.. فأبدى الاستغراب وسألنى عما بقى معى من الجنيهات الخمسة، فقلت لم يبق إلا اثنان فقط.. فهز رأسه ولم يقل شيئا وناولنى خمسة أخرى وقال: «إلى أن أشفى».
فكبرتُ فى عين نفسى، فقد كنت فرحت بخمسة وأحسست أنى رجل عظيم.. فكيف وقد صار معى سبعة لا خمسة فقط.. ولم أعد فى تلك الليلة إلى البيت إلا قبل الفجر متسللا، فألفيت أمى قاعدة تدخن وتنتظرنى، ولكنها لم تقل شيئا واكتفت بالنظر والابتسام. ولو كنت ذكيا لاستغربت أن تبتسم لابنها الذى لا يكاد يقوى على الوقوف على قدميه — لا من السكر فما كنت سكيرا بل من التعب والإعياء والسهر — وكانت هى تعرف أن الخمر لا تعنينى فلم تكن تخشى شيئا من هذه الناحية.
•••
ولا أطيل على القارئ، فإنى أخشى أن أستطرد إلى غير ما أردت — والحديث ذو شجون كما يقولون — ويكفى أن يعلم أنى أضعت خمسة عشر جنيها فى خمسة عشر يوما. وكان الذى عنده ما بقى من مالنا يتماثل للشفاء، وكنت أزوره لأعوده كل يوم فما يليق غير ذلك، فاتفق يوما أن كنت عنده — معه فى غرفته — فجاءه الطبيب على عادته فى كل يوم فخرجت إلى الشرفة وجعلت أتمشى فيها — وكانت رحيبة — إلى أن يفرغ الطبيب من فحصه، وكنت قد اشتريت «علبة» من الفضة للسجاير — فقد صار هذا البذخ فى وسعى — فأخرجتها من جيب البنطلون حيث رأيت أبناء الوارثين يضعونها، وأشعلت سيجارة وانطلقت أدخن وقال لى الطبيب: «هذه قسوة».
فاستغربت وسألته عن معنى كلامه، فقال إنه — أى الطبيب — حرم التدخين على نسيبنا هذا، وقد كانت رائحة الدخان تدخل الغرفة. وكان يرى المسكين تجحظ عيناه ويهتز رأسه على الوسادة، ولكنه لا يستطيع أن يقول شيئا لأنه — أى الطبيب — واقف، وحذرنى من أن أعطيه دخانا، وقال إن مريضه لاشك سيتعلق بى ويلحف فى رجائى أن أعطيه ولو سيجارة واحدة.. ولكن مصلحته تقتضى أن لا أرق له. ثم انصرف.
وعدت إلى صاحبنا وقد اختمرت فى رأسى فكرة — آخذ عشرة جنيهات دفعة واحدة، فإن أخذ الخمسات لا فائدة منه — وأسافر بها بلا تريث، وأطلب من هناك كل ما أحتاج إليه.. فما يعقل أن يضنوا على بشىء فى الغربة. ودنوت منه، وفركت كفى وقلت: «أظن أن لا فائدة اليوم من طلب شىء».
فوافق — وهو عابس — على أن لا فائدة.
فقلت: «حتى لو كان الطلب لا يعدو عشرة جنيهات لا أكثر»؟
فزاد وجهه عبوسا وهز رأسه هزات متوالية بلا مناسبة فما كان ثم ما يقتضى هذا العنف وهو المحتاج إلى الراحة التامة. ثم إنى لم أتعود منه إلا التلبية السريعة، فاقتنعت بأن رائحة الدخان — أو الطباق كما علمنى المرحوم الشيخ حمزة فتح الله — هى المسئولة عن هذا السلوك الجديد الذى لا عهد لى به منه.
قال بلهجة الجزم: «أبدا» ولم يزد.
قلت: «لا حول ولا قوة إلا بالله».
ومددت يدى إلى جيبى، فأخرجت العلبة الفضية منه وفتحتها ببطء — وكانت ملأى بالسجاير — وخفضت يدى بها وأملتها وأنا أتناول منها — ليرى ما فيها من صفى السجاير، وأخرجت واحدة ورددت العلبة إلى مكانها، وأشعلت السيجارة.
وإذا بالنائم ينتفض ويقعد على السرير ويصيح بى بصوت كالرعد: «هات العلبة.. هات العلبة».
فصحت به وأنا لا أريم مكانى ولا أظهر اكتراثا لانتفاضه: «إيه»؟
فصاح وهو يلوح بكلتا يديه: «هاتها.. أقول لك هاتها. ألا تسمع»؟
فقلت وأنا أتظاهر بأنى لم أفهم مراده إلا الآن فقط: «آه تقصد السجاير..»؟
وأخرجت العلبة وفتحتها له وأنا فى مكانى — على نحو مترين منه — «هنا — فى هذا الجانب سجاير الفيل.. وفى هذا الجانب سجاير جناكليز».
فصاح: «هات.. هات.. هات».
قلت ببرود: «هى لك كلها إذا شئت».
فصاح: «أو لم أشأ.. لقد قلت لك هات مائة مرة فهل أنت أصم.. هات.. أقول لك هات».
قلت، وأنا فى مكانى: «وهل تظن أنى أضن عليك بشىء؟ إذن أنت لا تعرفنى.. ولكنى أشعر بحاجة شديدة إلى عشرة جنيهات.. عشرة ليس إلا.. مبلغ زهيد فى الحقيقة وقد جئت إليك وفى مأمولى أن أبلغ عندك مقصودى، فما قولك»؟
قال: «خمسة.. مثل كل مرة».
قلت: «عشرة.. والعلبة كلها لك.. إذا شئت.. أما إذا لم تشأ، فالأمر على كل حال لك».
قال: «اجعلها سبعة.. وهات بقى».
قلت: «إنى أكره المساومة.. طباعى تأباها.. وتربيتى تجعلنى أنفر منها.. أوه أنفر جدا منها.. إنك لا تستطيع أن تتصور شدة نفورى من المساومة.. يبلغ من كرهى لها أن أزهد فى الأمر كله فلا أعود أقبل الكلام فيه مهما كان الذى يبذل لى».
وطويت العلبة على سبيل التأكد لهذا النفور ووضعتها فى جيبى وقلت: «والآن.. أستودعك الله.. إن شاء الله. إن شاء الله أراك غدا بخير» وأدرت وجهى وهممت بالخروج، وإذا به يصيح بى: «تعال يا مجنون.. خذ العشرة التى تريدها.. هات بقى».
قلت: «حتى تصير العشرة فى كفى هذه».
وبسطتها له حتى لا يساوره الشك.. فتنهد، وناولنيها وعددتها على مهل ثم رميت له العلبة.
وخرجت وتركت له السجاير غير عابئ بأوامر الطبيب، فما أطيش الشباب وأشد حمقه وأقل رفقه.. ولكن الله سلم ونجا ولم تقتله السجاير. أما أنا فلم يكتب لى الله أن أذهب فى سنتى تلك إلى الشام. ولهذا حديث طويل ليس هذا وقته فإن أكثر الذين يعنيهم لا يزالون أحياء فموعدنا به بعد عمرهم الطويل.