الببغاء والقط
– أعوذ بالله من الستات … إنهن لا يرحمن ولا يتركن رحمة الله تنزل.
قلت: «لماذا؟ ماذا يسخطك على الجنس اللطيف»؟
فاعتدل على كرسيه وحدق فى وجهى، وقال — أو صاح على الأصح: «لطيف؟ أتقول لطيف..؟ أيكون جنسا لطيفا ذاك الذى يلبس هذه الثياب الخفيفة فى البرد ويبدو فيها مكشوف الذراعين إلى ما فوق المرفق؟ إننا نحن الجنس اللطيف لو عقل الناس».
قلت: «يا سيدى.. ثم ماذا أيضا»؟ قال — غير عابئ بتهكمى: «ثم إنه ليس لطيفا فى الحقيقة».
قلت: «هذه ملاحظة سمعناها فهى مكررة.. فإما قلت شيئا جديدا، وإلا فاسكت».
قال: «أنا أعنى أنه جنس غير لطيف المعاشرة».
قلت: «وكيف كان ذلك؟.. أعنى ماذا يسخطك عليه اليوم»؟
قال: «لعلك تذكر «إحسان».. لقد عرفتك بها. تعلقت بى كأنها ظلى، فسئمت وأقول لك الحق أنى خفت العاقبة.. فقد كنت أستملحها وأستعذب حديثها وأستريح إلى مجلسها، ولكن المصيبة أنها تحسب أن الملاطفة والمجاملة حب. الحق أن أمر هؤلاء البنات عجيب.. كل كلمة من الرجل — أعنى كلمة ملاطفة أو تودد — يتخذنها دليلا على الحب.. فإذا قلت لها إن ثوبها جميل، أو أن شعرها المرسل أو المرجل بديع، أو أن حذاءها حسن، أو أن ابتسامتها حلوة أو عذبة، أو أن ظل أهدابها على وجنتيها فاتن أو غير ذلك — أى كلمة ثناء تنطق بها — فما أسرع ما تؤولها بأنها صادرة عن حب وعشق وهيام وتدله! مصيبة يا أخى والله، يظهر أن هؤلاء الفتيات بهن ظمأ شديد إلى الحب، ويخيل إلىّ أن حياتهن تجفف نفوسهن وتذويها وتؤجج فيها الشوق إلى الحب.. فلا تكاد الواحدة منهن تسمع لفظا عاديا من ألفاظ المدح التى يستدعيها حسن المجالسة وأدب الحديث حتى يثب خيالها من فرط اللهفة إلى سماء الوهم السابعة».
فقلت — وقد برمت بهذه المحاضرة: «أتريد أن تقص حكاية أم أن تتفلسف؟ يجب أن أعرف لأعد نفسى، وأتهيأ لما سأتلقى».
فقال: «طيب.. قلت لك أن هذه الفتاة — «إحسان» توهمت — أو أنا خفت أن تكون قد توهمت — أنى أحبها. ولست أكرهها أو أستثقلها فإنها ظريفة جدا، ولكنها ليست الفتاة التى أختارها للزواج ولا سيما بعد أن عرفت «حورية»».
قلت: «إنى أهنئك».
قال بلهفة: «أو تعرفها.؟ أليست بالله مدهشة؟ ألا ترى أنها..» قلت — وأنا أرفع يدى لأصد هذا السيل المنحدر: «مهلا.. مهلا.. أنىَّ لى أن أعرفها؟ إنما راقنى الاسم وجرى فى خاطرى أنك.. لعلك..».
فلوح بيده وقال: «إنك ثقيل.. تخجل المرء وتلقى على حماسته ماء باردا.. ما هذه الطباع السخيفة؟ لماذا تحب أن تصدم الناس على هذا النحو القاسى»؟
قلت: «آسف يا صاحبى.. لم أصدمك.. ولو كنت أعلم أن كلمتى سيسوء وقعها فى نفسك إلى هذا الحد لما نطقت بها. والآن ارجع إلى حوريتك، فإن اسمها يبشر بحكاية …».
قال: «أو هذا كل ما يعنيك … الحكاية ليست إلا … شىء بارد».
قلت: «يا أخى كن منصفا … هل تريد أن أحب حوريتك هذه من فرط حبك لها وأعجابك بها»؟ قال: «أعوذ بالله» قلت: «انتهينا إذن … هات الحكاية».
فاقتنع وقال: «الحكاية أن حورية أهدتنى ببغاء صغيرا وقطة أيضا.. لا أدرى لماذا؟ ولكن لعلها ظنت أن بيتى حديقة حيوانات.. على كل حال هذا ما حدث.. ثم سافرت، وخطر لى أنى أستطيع فى فترة غيابها أن أتخلص من «إحسان» حتى إذا عادت حورية، وجدت الميدان خاليا.. فقد كنت أخاف أن ترى إحسان معى مرة فتظن بى الظنون وإن كان لا محل لها فى الحقيقة، فما بينى وبين إحسان ما يدعو إلى أى ظن.. ولكن النساء لا يفهمن الصداقة، ولا سيما بين الرجل والمرأه. وإحسان — كما تعلم — رقيقة الإحساس جدا، دقيقة الحساب والتقدير لكل حركة. وكانت أمى تحبها وتخالفنى فى رأيى فيها.. ولكنى كنت أقول لها — أعنى لأمى — إنى أنا الذى سيتزوج لا أنت، فاسمحى لى بحرية الاختيار. وأختصر فأقول: إنى اتفقت معها — أعنى إحسان فى هذه المرة لا أمى — أ ن تمر بى فى البيت لنذهب معها إلى القناطر الخيرية ونقضى يومنا هناك ومعنا أمى. وسافرت فى ذلك اليوم على الرغم من احتجاج أمى واعتراضها، ولكنى حلفت لها أن العمل الذى يدعونى إلى السفر لا يحتمل الإرجاء. وطمأنتها فأوصيتها بإحسان وألححت عليها — وإن لم تكن بها حاجة إلى ذلك — أن تكرمها وتسرها وأن تتقى أن «تكسر خاطرها» كما يقولون.. فهل تدرى ماذا صنعت أمى»؟
فهممت أن أقول شيئا، ولكنه منعنى بإشارة ومضى يقول: «إن الذى أريد أن أقوله هو أن أمى — على ما يظهر — سئمت عشرة القطط والببغاوات — ولها العذر — والحقيقة أنى لا أدرى كيف يمكن أن يوفق بين قط قوى صحيح وثاب وببغاء صغير لا يستطيع أن يتكلم ولا يحسن إلا أن يخرج أصواتا كتلك التى قد يخرجها كروان أصابه زكام — لا تقاطع أعوذ بالله من هذه المقاطعة — إنما أعنى إذا أمكن أن يصاب الكروان.. أو أى عصفور بالزكام.. هل استرحت الآن؟ فقد كان القط لا ينفك يثب إلى القفص محاولا أن يقتنص الببغاء، وكان الببغاء لا ينفك يصرخ أو يصيح أو يستنجد أو لا أدرى ماذا أسمى هذه الأصوات المزعجة التى يخرجها ويستغيث بها حين يهم به القط. ومن العبث أن تحاول أن تفهمه أنه فى قفص وأن القط يستطيع أن يقتل نفسه وثبا، فإن له — أعنى للببغاء — من القفص وقاية كافية. وكيف السبيل إلى الراحة فى بيت فيه ببغاء لا يكف عن الصراخ، وقط لا يكف عن الوثب حول قفصه؟ والقط حيوان خبيث متلصص لا سبيل إلى منعه أن يدخل على الببغاء فى حيث يكون من البيت إلا إذا وقفت له بالعصى على باب الغرفة طول النهار. ومع ذلك يستطيع أن يغافلك ويتسلل من بين رجليك وأنت غير دار بما فعل، وإن كنت واقفا كالعصى أو المقشه التى فى يدك. وقد حيرنا جدا هذا القط — أعنى أنه حير أمى فقد تركت الأمر كله لعنايتها فإذا وضعنا الببغاء على حافة الشرفة لينعم بالشمس والهواء قليلا، نط القط إليه وراح يحاول أن يدخل من بين القضبان فينأى الببغاء المذعور إلى آخر القفص، ويرى القط أن يده لا تصل إليه فيطوى كفه ويثنى يده ويروح يحكها بالقضبان — عامدا بلا شك — فينقلب القفص ويصيب الببغاء الرعب، فيضرب بجناحيه كالمجنون ويطلق أعلى صيحاته المنكرة، والقط يحوم حوله ويلوب ويموء مواء له دلالته التى لا تخفى، ويُطل الجيران من نوافذهم وشرفاتهم على القيامة التى قامت فى شرفتنا، ونسمع نحن الضجة فنذهب نعدو كمركبة الإسعاف. أعنى أننا لا نبالى ما يكون فى طريقنا من الأشياء، فكم من طاولة انقلبت بما عليها، ومن زهرية انكسرت، ومن أطباق سجاير انتثرت فى الغرفة، الخ الخ.. وإذا علقنا الببغاء — أعنى قفصه يا سيدى — راح القط يتوثب حوله غير عابئ بما يسقط عليه حين يهبط إلى الأرض من وثباته، ويقلبه أو يكسره.. ولا أطيل عليك فإن فى وسعك أن تتصور حياتنا مع القط والببغاء.. وأكبر الظن أن حورية أرادت أن تتخلص من هذا البلاء فأهدته إلينا وقيدته علينا فى سجل حسناتها. المهم على كل حال أن أمى فى غيابى أحسنت الاعتذار إلى «إحسان» وأهدت إليها القط والببغاء جميعا.. ويخيل إلى الآن أنها رمت عصفورين بحجر.. لاحظ أنى لا أقول أصابتهما، وإنما أقول إنها رمتهما فما أصاب الحجر سوى رأسى.. ذلك أنى بعد أن عدت وعرفت ما كان واضطربت له وقلقت، انتهيت إلى أن الخيرة فى الواقع وأنه ليس فى الإمكان خير مما كان.. ومضت أيام وأنا مغتبط بالراحة الجديدة التى شعرنا بها بعد أن تخلصنا من هذين البلاءين — القط والببغاء — وإذا بحورية داخلة كالمدفع الرشاش. ولست أستطيع أن أقص عليك ما سمعت منها، فقد دار رأسى حتى صرت لا أعى ما أسمع، ولكن أمى لخصت لى الموضوع بعد خروجها، فقالت إنها عرفت — لا أدرى كيف — أنى أهديت هديتها، القط والببغاء، إلى «إحسان» فهى لهذا واجدة ناقمة ولا تريد أن ترى وجه هذا الخائن بعد اليوم.. وهكذا طارت من يدى حورية.. ما أظن بأمى إلا أنها تعمدت أن تطيرها بهذه الحيلة.. فقد كنت أريد أن أتخلص من إحسان فما تخلصت إلا من حورية. ولا أدرى ماذا أصنع فإنها لا تقبل أن تسمع منى كلاما أو تصغى إلى شرح وتفسير، فهل عندك رأى تشير به»؟
فقلت: «قل لى أولا.. هل تعلم كيف استطاعت إحسان أن توفق بين القط والببغاء»؟
فقال: «الحق أقول لك أنى أعتقد أن المرأة أحزم من الرجل، فإن إحسان لم تحاول قط أن تحل العقدة.. وأنما قطعتها بحد السيف. ذلك أنها لم تكد تصل إلى بيتها وترى كيف ينظر القط نظراته المريبة إلى الببغاء حتى خيرت نفسها فاختارت الببغاء. ثم تناولت القط ودسته فى غرارة ودفعت به إلى الخادم، وأمرته أن يذهب إلى الطرف الآخر من المدينة ويفرغ الغرارة هناك. ويطهر أن حورية عرفت هذا أيضا فإنى أرى نقمتها تزيد وتشتد ولا أراها تفتر فما العمل»؟
فقلت: «أوه.. لا شىء.. لا تقطع نفسك حسرات.. دع الأيام تعمل عملها».
فصاح بى: «ولكن عمل الأيام زفت وقطران.. فكيف أتركها تعمل عملها»؟
فهززت رأسى ومططت بوزى. وماذا أقول لمن يتكلم هذا الكلام؟ ثم خطر لى سؤال فقلت: «هل أمك رجل»؟ فصاح: «إيه»؟
قلت: «لماذا لم تحل العقدة كما حلتها إحسان وهى امرأة مثلها»؟
فمضى عنى ساخطا ولم يجب.