ليلى
وقفت ليلى أمام المرآة تصلح شعرها، وتضع فيه المشابك وتسويه براحتها وأناملها، وتثنى شعرات منه هنا وترد أخرى إلى مكانها هناك، ثم تناولت المثبنة وفتحتها ونظرت فيها هنيهة ثم قلبتها على المنضدة ونفضتها بأطراف أصابعها، ثم نحّتها وراحت تتأمل ما أفرغته منها. ثم هزت رأسها آسفة، وشرعت ترد الأشياء إلى الحقيبة: المشط والمنديل وثلاثة طوابع بريد بثلاثة ملاليم.. لا شىء غير ذلك.. حتى ولا أجرة الترام إلى عملها الجديد الذى فازت به. وما غناء ثلاثة من طوابع البريد بثلاثة ملاليم.. لو كانت عشرة لباعتها وركبت، إن المسافة طويلة من حدائق القبة إلى شارع سليمان باشا. ولو كانت عشرين لباعتها أيضا — لتركب — فإن المشى يسهل أن يحتمل إذا كان معها قرش تأكل به. كلا.. لابد أن تصبر على الجوع، وأن تتجلد وتحتمل المشى مع الطوى، وما بقى سوى يومين ثم تقبض أجرها عن هذا الأسبوع الأول. ولكن هل تستطيع أن تحتمل الجوع وتعب العمل والمشى يومين كاملين؟ وأبت أن تفكر فى هذا وأن تدعه يثبط همتها وقالت لنفسها إن حسْبها أنها وفقت إلى عمل، وأنه فى وسعها أن تظل حية إلى اليوم. وهبطت على كرسى وهى تقول «آخ» لا من التعب بل مما ستلقى فى يوميها هذين. ومر أمام عينيها كشريط السينما ما كان من أمرها إلى الساعة، فقد تخرجت فى المدرسة السنية ولكنها لم تشتغل بالتدريس.. فقد أحبت فتى رشيقا أغراها بنفسه ووعدها بالزواج وكرر الوعد وأكده وأقسم على الحفاظ — وما أسهل بذل هذه الوعود على الشبان — حتى فاز منها بما يبغى. وألحت عليه تطلب منه الوفاء. وتوسلت إليه، وبكت وقبّلت يديه ورجليه. ولم يكن هو ينوى الوفاء، ولا كان هذا فى وسعه.. فما كان سوى عامل فى مصنع، وإن كان مظهره يوهم أنه من الوجهاء. ولم يكن يدرك ما تورط وورطها فيه — وماذا عسى أن يخشى مثله؟ ولكنها هى كانت لا يخفى عليها ما هى صائرة إليه من الفضيحة لا محالة إذا لم تعجل بالتدبير المنقذ. وليتها أطلعت أمها على ما كان من أمرها مع هذا الفتى.. ولكن ما جدوى «ليت» بعد ثلاث سنوات قضت فيها الحسرة على الأم المسكينة ولم ترقق قلب أبيها الغليظ؟ وكانت ليلى تخشى ضعف أمها وقوة أبيها فلم تجد أمامها الا فتاها تلقى بنفسها عند قدميه باكية متوسلة، وهو يرى تضعضعها هذا فيتجبر ويتغطرس ويتحكم ويدعوها أن تفر معه. وتتردد وتحجم عن هذه الخطوة الحاسمة التى لا رجعة بعدها إلى أهلها، فإن أباها عنيف عنيد يؤثر أن يقتلها على أن يقبلها فى بيته. بل هو لا محالة قاتلها إذا عرف الحقيقة، وإذا أطاعت فتاها وفرت. وسيعرف الحقيقة إذا بقيت فالفرار أنجى. وقد لا يكون أشرف، ولكنه سبيل الحياة إذا شاءت أن تبقى حية. وقد كان … فرت مع هذا الفتى وحملت معها فى حقيبة الثياب حليها وشيئا من حلى أمها أيضا، وقد نفعها ذاك فما أقامت مع الفتى إلا أياما فى فندق زرى، وكان ظنها أنها ذاهبة إلى بيته، وأنها ستكون زوجة له، فيكون مما يرجى، أن تغتفر زلتها على جسامتها.. فإذا بالفتى لا يريد إلا أن يقضى أياما فى متعة خالصة ثم يلقى بها عظمة بعد أن أكلها لحما. فكادت تجن … واغتنمت فرصة خروجه من الفندق يوما، فحملت حقيبتها وأدت حساب الفندق، وانطلقت على غير هدى. وصارت المسألة «أين تذهب»؟ بيت أبيها لا سبيل إليه، وأترابها فى المدرسة … كلا، هذا أيضا ممتنع. وتذكرت وهى واقفة فى محطة للترام صديقة لها كانت من جيرانها فى زمن الحداثة، وهى الآن «حكيمة» فى قصر العينى. ولكن الحكيمات فى هذا المستشفى يبتن فيه ولا يخرجن إلا أياما معلومة، فما العمل؟.. ولم يطل ترددها فذهبت إلى العيادة الخارجية، وسألت تلميذة لقيتها فيها عن صاحبتها، واتفق أنها كانت تعرفها فدلتها عليها وأنبأتها أنها تعمل فى قسم الرمد، وكتبت إليها ورقة بعثت بها مع خادم أو «تمورجى» كما يسمى فدعتها الحكيمة إليها.. وكانت هذه المقابلة بداية الفرج.
أقامت ليلى بعد ذلك مع أهل الحكيمة، وكانتا تلتقيان يوم الأحد ويوم الخميس والجمعة إلى المساء — كل أسبوعين مرة — وكانت ليلى ربما اشتاقت إلى صديقتها فى أيام عملها بالمستشفى فتذهب فى الظهر أو فى الساعة التاسعة لتراها وهى خارجة من المستشفى فى طريقها إلى «الهوستل» حيث الطعام والنوم، فتحدثها دقائق ثم تكر راجعة إلى البيت. وكانت المسألة التى تشغل البنتين هى كيف ينبغى أن تحيا ليلى. فقد كان مفهوما أن إقامتها فى بيت صاحبتها ليست سرمدا، وإن كانت تنفق على نفسها من ثمن ما تبيعه من الحلى.. فإن لهذا آخرا على كل حال. وكان مما فكرا فيه أن تعمل فى عيادة أحد الأطباء، ولكن ليلى أشفقت أن تلتقى عنده بأحد من أهلها أو معارفها. وخطر لهما أن تعمل فى مصلحة التليفون ولكن السعى أخفق ولم تجد وساطات الأطباء الذين استعانت بهم «الحكيمة» فقد تحول التليفون وانقلب. «أوتوماتيكيا» فما الحاجة الى بنات جديدات؟ وخشيت أن تشتغل بالتعليم فى مدرسة أهلية فيهتدى إليها أبوها، وكان خوفها من ذلك عظيما. وأخيرًا اقترح عليها طبيب أن تتدرب على الآلة الكاتبة، ففعلت وأتقنت ذلك حتى صارت تكتب ثمانين كلمة فى الدقيقة، وأعانها الطبيب وألحقها بمكتب يتلقى طلبات «النسخ» ولكن العمل كان قليلا لأن أكثر ما كان يطلب كان باللغتين الفرنسية والإنجليزية. وكانت تعرف الإنجليزية فقد تعلمتها فى المدرسة، فلم يسعها الا أن تتدرب على كتابتها على آلتها، وسهل عليها بعد ذلك أن تستطيع «نسخ» الفرنسية أيضا، فإن الحروف واحدة وإن كان جهلها بهذه اللغة قد جعلها أبطأ. غير أن السرعة يمكن أن تجىء مع الوقت.
واستغنت على الأيام عن المقام فى بيت صديقتها، وإن كانت صلتها بها قد بقيت وثيقة فإن فضلها عليها كبير، وجميل صنعها معها ليس مما يجحد ولا مما ينسى، حتى لو نزعت نفسها إلى الكفران. وأفلس المكتب فانتقلت إلى سواه بعد عناء، على الرغم من أنها أصبحت معروفة فى هذا المحيط.. محيط الكاتبات الناسخات. وكانت حليها قد ذهبت جميعا فى نفقات الحياة وأجور التعليم وسد النقص.
وها هى ذى الآن قد التحقت بمكتب جديد، بعد أن ظلت عاطلة شهرين أكلت البطالة فى خلالهما القليل الذى كان مدخرا.
ونهضت عن الكرسى وهى تتنهد، وتناولت حقيبتها لتخرج إلى عملها. وكانت الساعة السابعة.. فأمامها ساعة كاملة للمشى إلى المكتب، وقد عرفت بالتجربة أن الساعة فوق الكفاية، ولكن فسحة الوقت خير من ضيقه. ومضت إلى بابها لتفتحه وتخرج، وإذا بقرع خفيف عليه.. فقالت: «تفضل»، فدخل رجل بدين وسلم وقال: «أراك خارجة» فقالت: «نعم» وهمت أن تقول أنها مضطرة إلى التبكير، ولكنها كبحت نفسها فما يعنيه هذا، فقال: «أجرة الغرفة عن ثلاثة أسابيع.. ألا يمكن أن تعطينى منها شيئا على الحساب»؟
فقالت: «آسفة.. وإنى لشاكرة لك هذا الصبر كله.. والعطف أيضا.. وبعد يومين.. أقبض أجرة الأسبوع فأعطيك شيئا».
قال: «إنك تحرجيننى مع زوجتى.. هذا الصبر الطويل ليس له عندها إلا معنى واحد. وقد أنذرتنى اليوم.. وعبثا أحاول أن أفهمها الحقيقة.. لا تريد أن تفهم.. كل ما تعرفه أن الأجرة تأخرت ثلاثة أسابيع. وكل ما تريده هو أن تؤدى إليها هذه الأجرة أو تخرجى اليوم».
قالت: «ألا يمكن أن تمهلونى يومين اثنين.. أين أذهب إذا خرجت اليوم.. ليس لى مكان آخر». فهز الرجل كتفيه الغليظتين، ولم يقل شيئا.
فدنت منه ليلى، وقالت: «أرجو أن تمهلنى.. كن شفيعى عندها».
فقال: «لو كان الأمر إلى لما تقاضيتك شيئا قط.. ولكنك تعرفين زوجتى.. ولست أعرف لى حيلة».
قالت: «ولكن كيف أستطيع أن أعطيك اليوم شيئا؟ لا أعرف أحدا أقترض منه. ولا يمكن أخذ شىء من المكتب إنى جديدة فيه».
فقال: «اسمعى، لو لم تكونى بلهاء لأمكن تذليل كل هذه المصاعب، ولكن لم أر فتاة مثلك».
فقالت: «ماذا تعنى؟ كيف يمكن تذليل الصعاب»؟
فأراح كفيه الغليظتين على كتفيها، وقال: «أنا أستطيع أن أدبر الأمر إذا طاوعتنى». فهزت رأسها غير فاهمة، فقال: «تعالى».
وطوقها بذراعيه، وأدنى شفتيه الممطوطتين من فمها.. فحاولت أن تنأى عنه، ولكنه جذبها إليه بقوة، فحولت وجهها عنه، فذهبت تعبثان فى نحرها وكتفها، وكانت يده اليسرى تتحسس صدرها وتقف وتتكور على ثديها الراسخ، فكاد عقلها يطير وتفلتت من عناقه بعنف، وارتدت راجعة إلى آخر الغرفة، وهى تلهث وتنهج، كأنما كانت تجرى وصدرها يعلو يهبط كالموج من جهد المقاومة ومن الغضب أيضا، وكان هو ينظر إليها نظر النقمة والغيظ فصاحت به وهى ترتجف: «إذا لم تخرج من هنا فسأصرخ».
فزام وهز رأسه، وقال وهو يدور ليخرج: «طيب.. سنرى.. أما أن تدفعى اليوم، وإلا فاخرجى أنت».
فلم تقل شيئا.. وماذا عسى أن تقول؟
•••
– بونجور.
– بونجور … خذى هذا العنوان واذهبى إليه حالا … عمل مستعجل … الرمنجتون ذهب بها أحمد … العمل يستغرق يومين … ثلاثة … المهم الاتقان … يجب أن يكون راضيا.. فاهمة؟
فذهبت ولم تسأله أهو عربى أم أفرنجى.. وماذا يهم.. كله عمل.. آلى. ودخلت الشقة فإذا هى بيت لا مكتب، وقالت للخادم النوبى: «إنى من محل …».
فاكتفى بأن يشير إلى غرفة المكتب، فجلست على كرسى من الجلد كبير وثير.. وأدارت عينها فى الغرفة، فلم تر فيها أثاثا غير كرسى آخر كالذى جلست عليه. وحول الجدران رفوف كثيرة عليها كتب لا تحصى، وفى الركن مكتب أنيق، وفى وسط الغرفة منضدة صغيرة مما يستعمل للشاى وضعت عليها «الرمنجتون» فتوقعت أن ترى رجلا عالى السن، وأدهشها أن يدخل عليها شاب يناهز الثلاثين، وأن تعلم أن هذا هو الذى جاءت لتعمل له ولتنسخ ما يشاء.
وقال برقة لا تكلف بها: «قهوة»؟
قالت: «أشكرك.. فيما بعد.. بماذا تأمر؟..».
فقال — وهو يناولها ملفا ضخما: «فى كم يوم يمكن الفراغ من نسخ هذا كله»؟
فقلبت الأوراق ونظرت فى الخط والسطور، ثم رفعت رأسها إليه وقالت: «صعب أن أقول كم يستغرق.. ولكن.. بعد ورقة أو اثنتين أستطيع أحكم حكما قريبا من الصحة».
فهز رأسه وهو يبتسم وتحول عنها، ثم خطر له خاطر، فدار على عقبيه بسرعة وسألها: «يهودية»؟
فابتسمت وقالت وهى تهز كتفيها: «لأنى شقراء»؟
فقال: «إذن أنت..».
فأراحته من عناء التخمين، وقالت: «مسلمة».
فقال وهو يهز رأسه بعنف: «أنا أيضا مسلم».
فلم تقل شيئا واجتزأت بالابتسام وشرعت ترفع غطاء الرمنجتون، وتركها هو وذهب فجلس على الكرسى الآخر، ثم رآها تتلفت فى الغرفة، فنهض وهز رأسه مستفسرًا، فنهضت هى أيضا وقالت: «لا تتعب نفسك.. أظن أن فى وسعى أن أجد كرسيا من الخيزران فى..».
فقال وهو يعدو إلى الباب: «بالطبع.. أما أنى لمغفل..».
وعاد بالكرسى وهو يقول ضاحكا: «لكأنما كنت أظن أنك ستجلسين القرفصاء وتكتبين على حجرك.. لم تشهدى ذلك العهد بالطبع.. لا يمكن فإنك ما زلت صغيرة.. أوه جدا.. ولكن أين تعلمت الكتابة على هذه الآلة؟.. معذرة إذا كنت أتطفل، ولكن المصريات يندر.. جدا أن تعنى واحدة منهن بذاك».
قالت: «أضطررت أن أتعلم.. صنعة فى اليد أمان من الفقر …». وابتسمت، فقال: «أهو ذاك؟ معذرة، كان سؤالى فضولا منى لا يغتفر … سامحينى».
فسرها منه هذا الأدب، وقالت: «ليس هذا سرا.. ألست أعمل؟ لست هاوية بالطبع».
فقال: «إذا كنت تعملين فى مكتب.. فإنك ولا شك تعرفين لغة أجنبية أو اثنتين.. فـ.. فـ..».
قالت: «أعرف الانجليزية.. وأصبحت أعرف من الفرنسية ما يكفى للنسخ.. وأتكلمها أيضا، فإننا جميعا نتكلمها هناك».
فقال: «أوه لست أريد أن أفتح لك محضر تحقيق.. معذرة مرة أخرى». ورفع يده إلى جبينه العريض ومسحه، وقال: «هذه أول مرة أرى فيها مسلمة تشتغل بالنسخ — وضحك — أرانا نتقدم.. أليس كذلك»؟
وكانت قد شرعت تدق على الآلة الكاتبة، فاكتفت بالابتسام..
وتركها هو بعد ذلك وخرج بعد أن قال لها أن فى وسعها أن تطلب ما تشاء من الخادم.. أى شىء.. قهوة.. شاى.. أكل.. كل ما فى البيت تحت أمرها..
ولكنها لم تطلب من الخادم شيئا، ولم تقلق راحته بل أقبلت على الآلة تدق وتدق بسرعة ثمانين كلمة فى الدقيقة، وتخرج له من كل ورقة نسختين. واستغرقها العمل، ووجدت فيه متعة لا عهد لها بها فى مثله.. فقد كانت هذه رواية تنقلها — استعدادا لطبعها ولا شك — وكانت الصور التى يرسمها المؤلف — هذا الشاب الوسيم المؤدب — تتجسد لها، والمواقف تتمثل وهى تدق وتدق بسرعة ثمانين كلمة فى الدقيقة. وكانت نفسها تجيش بمثل العواطف الموصوفة والإحساسات المصورة، فتضحك تارة، وتخنقها العبرة تارة أخرى، وتعبس حينا.. وترى نفسها تنطق الألفاظ التى تدقها بقوة وعنف كأنها تمثل ما تقرأ أو كأنما كان الأمر حقيقة لا خيالا. وكانت بعد ورقة تلقى فى السلة على المكتب، وهى ذاهلة عن كل شىء. فما قامت مرة، ولا تمطت لتريح أعضاءها المكدودة وتحرك أصابعها التى كادت تتشنج وتتصلب أو تتخشب، ولا شعرت بظمأ أو جوع، ولا كان لها بال إلا إلى هذه الرواية التى تقرأها وهى تنسخها. ولقد كانت مشغولة أيام المدرسة بالروايات والقصص، ولكنها منذ ثلاث سنوات لم تقرأ رواية، وإن كانت قد ذهبت مرارا إلى السينما — وهى مطمئنة — فإن أباها من ألد أعداء السينما. ومع ذلك كانت تتحرز وتلقى على وجهها نقابا خفيفا شفافا، حتى حين تمشى فى الطريق كانت تتنقب زاعمة أن هذا وقاية من الشمس والتراب.
ولم تشعر بعبد الحميد — فقد كان هذا اسمه — حين دخل عليها، ووقف ينظر إليها أكثر من دقيقتين. فلما رآها لا تنظر إليه ولا ترفع عينها إليه عن الورق ولا تتمهل أو تتباطأ فى العمل، قال: «معذرة.. إن هذا انتحار».
فرفعت رأسها حينئذ، وقالت: «أوه.. لم أرك لما جئت.. كلا.. إنى على العكس مسرورة.. وأعترف لك بأن هذه أول مرة سرنى فيها عملى … رواية مدهشة».
فقال وهو ينحى كفيها عن الرمنجتون: «قد تكون الرواية مدهشة.. ولكن أبعث على الدهشة أن لا يحتاج الإنسان إلى راحة.. تفضلى وقومى، أريحى جسمك قليلا على هذا الكرسى» وتناول ذراعها لينهضها، فقالت وهى تقوم: «صدقت.. أستريح دقيقة».
فقال وهو يمضى بها إلى الكرسى: «تستريحين تماما».
فقالت، وهى تجلس على الكرسى: «ولكنى أريد أن أعرف بقية الرواية».
فقال: «اضطجعى أولا.. أنا أقص عليك البقية.. ألخصها لك فى ألفاظ قليلة».
قالت: «كلا، هذا يفسدها … إنى أريد أن أقرأها».
قال: «إذن أقرأها لك». قالت: «تتعب.. دعنى أقرأها أنا وأنا أستريح». قال: «بعد الغذاء.. الوقت طويل».
فقالت: «الغذاء..؟ كلا.. اسمح لى أن أخرج وأعود فى الساعة الثالثة كالعادة».
قال: «ولم لا تبقين وتتغدين هنا..؟ قولى إنك باقية».
قالت: «لا أستطيع.. سأعود بالطبع بعد الظهر».
وكانت تعلم أنها مفلسة، وأنها لا تستطيع أن تذهب إلى بيتها — حيث ذلك الرجل الخشن الفظيع — وهبه ليس فيه، فما تصنع هناك؟ وإذا لم تذهب إلى البيت فأين يمكن أن تذهب؟ هذا شاب يعرض عليها أن يطعمها وأن يريحها من الأنياب التى تمزق أحشاءها ويعفيها من الشعور الثقيل بالقرص والعض فى جوفها، فلم لا تطيع وتقعد وتأكل؟ وأحست وهى تدبر هذا فى نفسها بالدموع تترقرق فى مآقيها أمامه.. فقرضت أسنانها وشدت أعصابها ونهضت متحاملة على نفسها. فقال: «إلى أين؟.. لا يمكن أن تخرجى.. عيب.. لا يليق».
فقالت بضعف، فما بقيت فى بدنها ذرة من القوة بعد أن أنفقت البقية فى المكابرة: «أرجو..» ولم تزد، فقد هوت كالجثة أو كأنها ثوب فارغ.
ولم يكن هذا مما يجرى لصاحبنا فى حساب، فلم ينتبه إلى ما حدث إلا بعد أن ارتمت على الأرض.. بعضها على الكرسى، وسائرها على السجادة. فانحنى عليها وحملها وأراحها على الكرسى، وخرج يعدو ويصيح: «محمد. محمد. تعال حالا..» ولم ينتظره بل ذهب إلى غرفة النوم، وجاء منها بزجاجة من الكولونيا رش منها على وجهها الأصفر، وأقبل على راحتيها يدلكهما وخلع حذاءيها وجوربيها، وراح يدلك قدميها أيضا بالكولونيا ومحمد واقف ينظر وينتظر الأوامر التى لا تصدر ولا يصنع شيئا.
بعد لأى ما، بدأ الدم يعود إلى وجهها الممتقع.. فتنفس عبد الحميد الصعداء واطمأن. وفتحت ليلى عينيها وأجالتهما فيما حولها بفتور، ثم تنهدت ووسعها أن تتكلم. فقالت: «لم يحدث لى هذا أبدا».
فقال بشىء من العنف: «كان جميلا جدا أن يحدث لك هذا فى الشارع.. هه». فابتسمت، وقالت: «أشكرك، إنى آسفة … هذه أول مرة». فقال: «محمد. خذ هذه الزجاجة وضعها فى مكانها.. والآن لا يسعنى — وقد خرج محمد — إلا أن أوجه إليك سؤالا ثقيلا … باردا فى الحقيقة … ولكنه واجب … متى أكلت آخر مرة؟ احذرى أن تكذبى».
قالت: «لا داعى للكذب.. أمس، الظهر».
قال: «لقد ظننت ذلك..». قالت: «كيف عرفت؟».
قال: «أوه المسألة فى غاية البساطة.. ليست المسألة فراسة، ولكنها مسألة ضم قرينة الى قرينة.. مررت بمكتب.. واستدرجت صاحبه إلى الكلام عنك، فقال إنك معروفة فى مكاتب النسخ وإن كنت من الجديدات عنده.. هذا يومك الخامس فى مكتبه، وأثنى عليك وطمأننى كأنما كنت أحتاج إلى ذلك، فلما أغمى عليك الآن أدركت أن هذا من التعب والجوع … ألا ترين أنى أصلح للقيام بدور سنكلر أو شرلوك هلمز»؟
فضحكت وقالت: «لماذا سألت عنى»؟
فقال: «قبل أن أجيبك، يجب أن تنتظرى قليلا حتى أعود إليك».
وخرج وتركها، فراحت تفكر مسرورة فى هذا الشاب. نعم هو شاب، وإن كان الأرجح أنه جاوز الثلاثين. وفى رقته ودعته، وفى مروءة نفسه وحسن أدبه، وفى براعته فى فن الرواية، براعة جعلتها تعمل كما لم تعمل قط فى حياتها، وفى وسامته، وفى هذا السحر الذى ينطلق من عينيه فينفذ إلى القلب، ثم تنهدت آسفة.. سحر أو لا سحر … سيان، لا شك أنه يعجب بها، هذا واضح. ولكن ما قيمة هذا الإعجاب؟ وهبه أحبها فما أملها معه إلا أمل الخليلة، وهيهات أن ترضى ذلك. ولو كانت ترضى ذلك، لما فاتها ما فاتها من الفرص، ولا كانت خسرت ما خسرت من الأعمال، فما كان أكثر أصحاب الأعمال الذين طمعوا فى هذا النوع من العلاقة، فلما خيبت أملهم ألقوا بها فى الشارع، وحسبها زلة واحدة فى حياتها أورثتها هذا الشقاء الطويل.
واختصرت زفرة طويلة، فقد دخل فى هذه اللحظة محمد وأمامه سيده.. الخادم يحمل سلطانية متوسطة فيها مرق، والسيد يحمل فوطة، وقال السيد: «اشربى هذا حالا».
وطرح الفوطة على حجرها ففعلت كما أمر، وقال: «هذا يكفى الآن.. بعد طول الطوى، يحسن التخفيف حتى لا تتعب المعدة».
فقالت وهى تضحك: «لا تبالغ، إنه يوم واحد ليس إلا».
قال: «هذه الشجاعة التى تظهرينها تسرنى وتعليك فى عينى، ولكنها تكلّف على كل حال».
فقالت مستغربة: «تكلّف … أبدا».
قال: «إن الذى أعنيه هو أن الشجاعة لا تكون إلا تكلّفا شىء يحمل الإنسان نفسه عليه، هذا ما أعنى».
فسألت: «ولكنى لست فاهمة».
قال: «نؤجل الدرس إلى وقت آخر. ونتحدث الآن عنك.. قولى ما اسمك». فقالت: «فريدة». قال: «ينطقونها فى المكتب «فريدا».. ما علينا.. هل هذا اسمك الحقيقى»؟
قالت: «ولماذا تظن أنه ليس اسمى»؟ قال: «ما رأيت من شجاعتك يحملنى على هذا الظن.. أنت بنت ناس».
قالت: «كل الناس أبناء ناس». فضحكت، فقال: «أعنى أنك تشعرين بكرامة تحرصين عليها».
قالت: «هل أنا الوحيدة التى تفعل ذلك»؟ قال: «أعترف أنى انهزمت … عندى كلام كثير … حجج … ولكنى أوثر الهزيمة … فما قولك أن نكون صريحين»؟
فضحكت.. ولم يكن ضحكها مسرورا، بل عن شعور بالضعف وبالاضطراب الذى أدركت أنه سيدفعها إلى الاعتراف بكل ما فى نفسها، فقال: «قولى لى اسمك الحقيقى.. سأحتفظ به».
فأقرت من حيث تريد المكابرة، وقالت: «ولكن ما الفرق بين اسم واسم..؟ كله اسم».
قال: «ها.. لقد صح ظنى، والآن اسمك الحقيقى. لقد وعدتك بكتمانه فهل تستطيعين أن تثقى بى»؟ قالت: «نعم، ليلى» قال: «ليلى، ليلى ماذا». قالت: «ألا تعفينى؟ لست أشعر أنى أستطيع المقاومة إذا ألححت ارحم ضعفى».
فقال: «بالطبع … معذرة … لست أريد أن أستغل ضعفك … كلا، اغفرى لى فضولى، فإنه ليس عن خسة بل عن».
وأمسك مترددا، فقالت وقد رأت تردده وأدركت بغريزتها الذكية دلالته: «عن».
فقال: «عن حب … لقد قلتها … قولى عنى مغفل. ما شئت قوليه.. ولكنها الحقيقة، وقد استرحت الآن، رفعت عن صدرى حجرا.. تنفست.. عجيب ولا شك.. هى دقائق رأيتك فيها.. ولكنى مع ذلك أحببتك كأنى عرفتك من قبل أن أُخلق، كأنما كنا معا فى عالم آخر قبل هذا. ولست أقول هذا لأخدعك. وإنى لأعلم أن الرجل يستطيع أن يخدع المرأة بتمثيل دور العاشق، ولكنى لا أحاول خداعك ولا مطمع لى فيك، كل ما أعرفه أنى أحببتك، قد يكون هذا شعورا وقتيا يفتر بعد قليل أو كثير، وأى حب لا يفتر؟ على كل حال لا أعلم، أعرف فقط أنى أنا فوجئت بهذا الحب الذى غمر نفسى وشاع فيها علوا وسفلا … انظرى إليه كيف شئت … باستخفاف إذا أردت أو لم يسعك غير ذلك. ولكن صدقينى، فإنى أحتمل الاستخفاف، ولكنى لا أستطيع أن أحتمل التكذيب. كلا»!!
فقالت ببساطة: «إنى أصدقك» فصاح بها: «إيه»؟ قالت: «ألم تسمع؟ هات أذنك وأنا أصيح لك فيها … صدقتك … هل سمعت الآن؟ لالالالا … صدقتك معناها صدقتك فقط..».
وعرف اسمها الكامل اسم أبيها أيضا، فقال وهو يمسح جبينه: «انظرى … أليس والدك هو الذى كان ضابطا فى الجيش»؟
قالت: «هو بعينه» قال: «وكان يسكن فى شارع …».
قالت: «هذا هو البيت الذى ولدت فيه».
قال: «غريب.. لقد كان أبى رحمه الله صديقا جدا لأبيك. ولداهما يلتقيان الآن.. غريب. ماذا حملك على ترك أبيك؟ أسمع أنه كان عنيفا». قالت: «لأنى خفت عنفه … اسمع … سأقص عليك حكايتى كلها … لم يبق بد من هذا. وأحببنى بعد ذلك إذا استطعت، ربما كان هذا لازما لتُشفى».
وقصت عليه الحكاية ولم تكتم شيئا ولم تحاول أن تهون من زلتها. وكان يصغى وهو مطرق، فلما فرغت قالت: «والآن يمكنك أن تبلغنى أنك دفنت حبك المباغت لهذه الفتاة الطائشة».
قال: «لقد كنت ضحية … ولست أدفن حبي لك، ولكنى أنوى أن أعلنه، فهل تسمحين لى بأن أطمع أن تحبينى يوما من الأيام»؟
فأطرقت تفكر، فقد أساءت فهم ما قصد إليه وتوهمت أنه يريدها كما أراد غيره، خليلة … وشعر هو من إطراقها أن معنى كلامه ليس واضحا وشجعه ترددها الظاهر فقال: «إنى لا أرى أنى أستطيع أن أعيش بعد اليوم بدونك، فهل تقبليننى زوجا على أن تكون الطاعة منى والحب … ولا يكون منك إلا ما يسمح بالأمل فى أن تحبينى يوما ما»؟
فصاحت: «ولكنى أحبك من الآن!».
وندعهما … فما بقى لنا مقام معهما.