العقلة
لم يكن «عبده» يشكو قبل هذا أن فى لسانه عقلة، وأن الكلام يتردد فى فمه ولا يكاد يخرج منه.. ولكنه أحب بنت خاله، فماذا يقول لها أو لأمها أو لخاله؟ وكيف تحتمل علته هذه فتاة عصرية تحب أن تباهى النساء بزوجها؟ والمصيبة أن شعوره بهذه الحبسة يزيد لسانه امتساكا كلما جالسها. فكان إذا هم بكلامها لا يزيد على أن يخرج صوتا كهذا «أ أ أ أ أ أ..» أو «مـ مـ مـ مـ» أو «فـ فـ فـ فـ» وأين الفتاة التى لا يحيله هذا مضحكا فى نظرها؟ وأخيرا أشاروا عليه بأن يستشير طبيبا، قالوا له إنه بارع فى علاج هذه الحالات.. فقصد إليه، فلما جاء دوره وقف أمامه يقول أو يحاول أن يقول: «أ أ أ أ.. شنـ سششسسسشـ لللللـ..» فقال الطبيب: «ظاهر، ظاهر.. إن هذه الحالات العصبية معروفة» فأراد عبده أن يقول إنه ليس مصابا بمرض عصبى، فقال: «أ أ أ أ أريد أاان ا أتتتتززززززوج وووو» فسأله الطبيب: «ماذا تقول»؟ فحاول أن يبين، ولكن الحبسة حالت دون الإفصاح.. ففرك الطبيب جبينه، ثم قال: «غن إذا استعصى عليك الكلام» فدهش عبده ولم يصدق أن الطبيب يطلب منه الغناء، وبدا عليه أنه يريد أن يستوثق، فقال الطبيب: «بالطبع غن. غن بما تريد.. إنها طريقة حسنة للتغلب على العلة، وإن كان إسعافها وقتيا».
فملأ عبده صدره بالهواء ورفع عقيرته بأنكر ما سمع الطبيب فى حياته، حتى لقد لام نفسه على حماقته فيما أشار به. وبعد أن اضطرب لسان عبده قليلا، انطلق يقول بصوت شبيه بشهقة المصاب بالسعال الديكى إنه يريد أن يتزوج. ولكن هذه الحبسة تقضى على أمله. وكان كلما أخرج صوتا أحس الطبيب أن حجرا دفع فى صدره، فما ندم فى حياته على نصيحة كما ندم فى يومه هذا، فقد حمس عنده وظن نفسه فى موقف مناجاة، فمضى يغنى: «طول الليالى وناطيفك على بالى، ياللى غرامك ملك قلبى وشغل بالى، يا خوفى من طول بعادك واللى خبّالى».
فأسرع الطبيب يقول مقاطعا: «تمام … لم تكن بك فى الحقيقة حاجة إلى إتعاب نفسك بهذا الغناء البديع. الآن اسمع: إن حالتك عصبية وأنت على ما يظهر شديد الحياء». فلم يرق عبده هذا التشخيص، وحاول أن يعترض، فحالت الحبسة دون ذلك … فتذكر أن الغناء أسعفه كما لم يسعفه شىء فيما يذكر، فصاح يقول: «لا، لا، لا، ليس بى حياء بل أنا قليل الحـ..».
وقاطعه الطبيب بدوره إشفاقا على نفسه وعلى سُمعة عيادته، وعجل بأن يقول: «طبعا.. طبعا.. والآن اسمع ولا تضيع وقتى. يجب أن تفهم أن علاجك الوحيد أن تجترئ على الناس بالكلام.. تعرفهم أو لا تعرفهم، سيان. والأفضل أن يكونوا ممن لا تعرف. ابدأ بالكلام كل من تلقاه إذا استطعت، بأى كلام … وحبذا لو كلمت النساء فإذا فعلت هذا كل يوم، فأنت لا شك تشفى بعد حين».
فنفخ عبده صدره استعدادا للاستفسار بالغناء، فريع الطبيب منه وسد أذنيه وخاف أن تطير لعيادته سمعة سيئة، وصاح به: «لالالا.. ابق صوتك الحلو لمن تقابل لا تسرف يا صاحبي» وأسرع فأدراه إلى الباب وأحكم إيصاده وراءه وتشهد.
وكانت عيادة الدكتور — ولعلها ما زالت — فى العباسية فلما خرج عبده اتجه إلى آخر محطة الترام الأبيض إلى مصر الجديدة حيث بيت خاله، وكان وهو يمشى شارد الذهن موزع النفس، يفكر فيما أشار به الطبيب من ابتداء الناس بالكلام وإن كان لا يعرفهم. وكيف بالله يبدأ غريبا لا يعرفه بمثل هذه الأصوات: «ممممن ففففضلك السسسساعة كككككام». إن هذا مستحيل. وهذا الطبيب لا شك مجنون إنه طبيب مجانين لا طبيب … ماذا؟ أى طبيب هو؟ لقد أرشده إخوانه إليه أنه أخصائى فى هذه الحالات، غير أنهم لم يقولوا أى حالات فهل تراهم حسبوه؟ ولكن هذا غير معقول وكان قد بلغ المحطة وراح يتمشى ريثما يجىء الترام، وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب، ولم تكن المصابيح التى رفعتها شركة النور سبعة أمتار فوق الرءوس إلا كالنجوم التى لا تنير، وأنما تريك كيف تكون العتمة، وكيف تغيب معارف الأرض، وكيف تستطيع أن تظن الرجل شجرة ومصباح النور فتاة هيفاء، والظل على الأرض ماء يحسن أن تتقى بلله وتلويثه للحذاء الجميل. وإنه لكذلك، وإذا به يرى رجلا عجيب الثياب مقبلا يتمشى مثله، فوقف مكانه مبهوتا. وكان الرجل لابسا جلبابا قد يصلح أن يكون كلة لسرير، ولكنه لا يصلح ثيابا لآدمى مهما بلغ من الجسامة، وكان الثوب لسعته يكنس الأرض، وقد اضطر صاحبه أن يطوى أكثره تحت أبطه. وكان يحمل عمامته مقلوبة على كفه، كما يحمل الخادم القصعة. وكانت مشيته بطيئة، وعلى ثغره ابتسامة العاشق رأى فى منامه حبيبته تؤاتيه بعد طول الصد والحرمان. وحدث عبده نفسه أن لا ضير من خطاب رجل كهذا، ولكن غرابة أمره صدته. على أن الأمر خرج من يده، فقد دنا منه الرجل وقال بابتسامته المتحجرة: «كله من فضل الله.. كلوا مما رزقناكم» ونظر عبده فى العمامة المقلوبة، فلم يجد شيئا فهم بأن يقول شيئا على سبيل الاعتراض على هذا المزاح، ولكنه لم يستطع أن يجاوز ابتداءاته المعهودة.. وقال له الرجل يشجعه: «لا تستحى أن الخير كثير. اطلب تعط. ألست مؤمنا مسلما.. هه»؟ فلم يفهم ما العلاقة بين الإيمان وبين ما فيه الرجل، ولكنه شعر بأن الحزم يقضى عليه بأن يجيب فقال: «ننننعم ممممـ مسسسسسلم ووو مممموحد ببببالله» فأشرق وجه الرجل، وحنى رأسه تواضعا وقال وهو يبتسم: «انتهينا إذن.. أنا ربك» فذعر عبده وتلفت ناحية الترام، وألفى نفسه يقول وهو يتلفت: «أأأنا مممممؤمن ججججدا».
فقال الرجل: «لا عجب أن تتلعثم فى حضرة إلهك، فما كل يوم يظهر الله للناس. لا تقل لأحد أنك رأيتنى، فإنى أحب أن أظهر لمخلوقاتى فى السر». فحنى عبده رأسه مرات عديدة بسرعة لم يكن يدرى أنه قادر عليها أو أن رأسه يحتملها، ومضى الرجل فى كلامه فقال: «أنت من أحسن من خلقت. وإنى لأذكر أنى أردت أن أخلق من طينتك بغلا، ولكن شيئا ألهمنى أن أجعل منك إنسانا … وقد ندمت على ذلك ولكنى أرى الآن أنى لم أخطئ، فاطلب ما تشاء. هل تريد مالا؟ أو تريد غير المال؟ سلنى فليس فىّ بخل … عندى من الحب كل صف يورث الجنون ويضرم النار هنا — ودفع كوعه فى بطنه — حتى لتحرق الصدرية وتزغرد من فوقها. وعندى من الحب ما يجعل منك شاعرا، وثالث تصير به خطيبا، ورابع يغريك بالخيالات ويحبب إليك احتضان أعمدة السرير، فأيها تريد؟ تعال هنا … بعيدا عن الناس … فى هذا الكشك ولنغلقه علينا، فأنى أرى الترام آتيا وأخشى أن يرانا أحد فلا يظفر بنصيبك العادل من وجودى».
وأمسكه من ذراعه وجعل يدفعه أو يقوده، فقد كان عبده بادى الزهد فى هذه الخلوة … ولما بلغا الباب كان الترام قد وصل فاندفع الرجل داخلا، واندفع عبده راجعا، ووثب إلى الترام فدخل فى الدرجة الأولى وانحط على كرسى وهو ينهج ويمسح العرق المتصبب. وكانت أمامه سيدة تنظر إليه، وهو غير شاعر بها. وكان يتنهد ويتشهد ويثب من حين إلى آخر، لينظر من النافذة مخافة أن يكون ذلك المجنون قد لحق به. وكان الترام قد قطع شوطا كبيرا، فهدأت نفسه شيئا فشيئا وأبصر السيدة.. وكان الترام لم يقف بعد أن ركبه فلا شك أنها كانت من أول الأمر هنا معه. وتذكر أنه دخل كالمدفع وانحط على المقعد كالحجر وأنه لا شك قد بدر منه ما يريب، فأراد أن يفسر ما لعلها استغربته من سلوكه … غير أن دخول الكمسارى قطع عليه عزمه، وكان الكمسارى ثرثارا فجعل يقول وهو يتناول القرش ويقدم التذكرة: «مجنون هرب من المستشفى.. وجدوه فى محطة العباسية. فى آخر محطة وقفنا فيها، لكنه اختفى بسرعة غريبة. من يعرف يمكن يكون ركب الترام. لكن هذا مستحيل … ومع ذلك أين اختفى؟ ليس فى المحطة مكان يختبئ فيه.. لابد أن يكون ركب الترام».
وكان عبده حين سمع ذلك قد ذعر وفتح فمه كالأبله.. وكانت السيدة تنظر إليه وتسمع حديث الكمسارى ثم تنظر إلى عبده، وترى آيات الفزع فى وجهه. وخرج الكمسارى إلى حيث الركاب الآخرون وأحس عبده أن عليه أن يقول شيئا، ولو على سبيل التفكهة والتسلية وليخفف عن هذه السيدة التى لا شك أنها ريعت من حديث الكمسارى، ولا سيما أنه — أى عبده — الوحيد الذى يعرف أين اختبأ المجنون — وهذا العلم وحده يغرى بالكلام. ولكن لسانه خانه على عادته فقال — على حين لم تكن تنتظر كلاما: «أأأأأنا ششفففته».
وأمسك، فما فى مثل هذا فائدة، وتذكر أن الطبيب قال له: «غن».
فرفع صوته يقول مغنيا: «المجنون يا ستى الذى سمعت عنه مختبىء فى الكشك هناك».
ولم تتح له فرصة لإتمام ما بدا.. فقد وقفت السيدة وانطلقت تصرخ بأعلى صوتها وتصيح: «أدركونى.. أدركونى.. الحقوا..».
وكان الترام قد بلغ محطة وقف عندها، فلم يسع عبده الا أن ينزل مسرعا … فما بقى له مقام فى هذا الترام وإلا قبضوا عليه على أنه المجنون الهارب، وانطلق يعدو.
وأخيرا بلغ البيت وقابل — أول من قابل — بنت خاله، فأدهشه وأدهشها أن الحبسة زالت عنه.