الجارة
كثيرا ما أطلب العزلة والهرب من الناس لا لأنى أكرههم أو أنفر منهم، بل ليتسنى لى أن أخلو بنفسى وخواطرى. ولست أعنى أنى أشتهى أن أكون فى مكان خلاء.. وأنما أعنى أنه يحلو لى أحيانا أن أرى أن كل من حولى ممن لا أعرف. ولا أدرى كيف هذا.. ولكنه يخيل إلى حين يتفق لى ذلك، أنى خلعت ثيابى على ساحل بحر ورميت نفسى على مائه ورحت أسبح فيه، وأضرب بذراعى ورجلى، وأفعل غير ذلك مما يفعل السابح. وما أعرف من السباحة شيئا.. وأنى لشبيه بابن الرومى الشاعر الذى يقول فى بعض شعره إنه لم يتعلم من السباحة سوى «الغوص» وأنه لو ألقى به فى الماء لسبق الحجر. ولكن هذه هى الصورة التى ترتسم بذهنى حين أرانى فى حشد كبير ممن لا أعرف من الخلق. وكثرا ما يسألنى أخوانى: «أين كنت البارحة؟» فأقول: «كنت فى السينما» فيسألوننى: «وحدك؟» فأقول: «نعم مع الأسف» ولا داعى للأسف، ولكنى أقول ذلك لهم على سبيل المجاملة، فيقول قائلهم: «ولِمَ لمْ تخبرنا؟.. إذن لذهبنا معك وأنس بعضنا ببعض» فأقول: «أى والله.. ولكن هذا هو الذى كان، فلندعه إلى الحاضر الذى نحن فيه».
وفى نوبة من هذه النوبات، ركبت سيارتى وانطلقت بها إلى سينما «المتروبول» وأنا أحدث نفسى بما أرجو أن أفيده من السرور والمتعة حين أرى تلك الطفلة الفاتنة «شيرلى تمبل» من غير أن يكون إلى جانبى أحد يقول لى: «انظر.. يا سلام أما إنها لراقصة.. يا للبراعة. كيف استطاعت أن تجيد التمثيل إلى هذا الحد؟ ترى كم ينقدونها أجرا لها فى الأسبوع»؟.. إلى آخر هذا الهذر الفارغ الذى يفسد علىَّ كل متعة.
ووقفت أمام الشباك ومددت يدى إلى الفتاة بثمن التذكرة، وإذا بيد على كتفى.. فأبيت أن ألتفت إلا بعد أن آخذ التذكرة، ويحل غيرى محلى أمام الشباك مخافة أن يكون هذا صديقا فيلازمنى، وماذا يبقى لى حينئذ من الوحدة التى أطلبها وأحدث نفسى بحلاوتها. ومن يدرى أى صديق هذا؟ فقد يكون ممن أحب وآنس بهم وأرتاح إليهم، وقد يتفق أن يكون من الثقلاء الذين يفرضون أنفسهم على الناس، فلا مهرب لمن يقعون عليه. وأحسست أنى نجوت فقد اخترت مقعدا بين مقاعد أخرى ليس واحد منها خاليا، فأنا على الأقل فى أمان من جيرة هذا الذى وضع كفه على كتفى. ووسعنى أن ألتفت إليه وأنا مطمئن لأرى أى أنسان هو.. فلم يخب ظنى، فقد كان ممن ينبغى أن يهرب المرء منهم ويسأل الله السلامة من صحبتهم، فسألنى: «وحدك»؟ فكرهت أن أكذب واكتفيت بأن أشر بيدى، وأنا أمضى عنه، إشارة قد يكون معناها أن معى غيرى أو أنى ذاهب إلى مكان ما أو غير ذلك، مما يمكن أن يفهمه الإنسان من إشارة غامضة كهذه.
ونجوت بنفسى، وكان فى الوقت متسع.. فقلت لنفسى: إنى أخشى أن يلحق بى فلأبعد. فرحت أتمشى على الرصيف فى شارع فؤاد — وهو يغص بالناس فى مثل هذه الساعة — فجعلت أنظر إلى الرائحين والغادين أو لعل الأصح أن أقول الرائحات والغاديات وهن مقبلات ومدبرات فى ثيابهن المحبوكة التفصيل. التى تبدى منهن أكثر مما تستر. نعم تستر الجسم، ولكنها تعرض على عينك صورة للقوام هى أبرع من صورة البدن العارى. فقد يكون الثدى مسترخيا فيرفعه ويبرزه الرباط، وقد يكون الخصر أكثر امتلاء مما يجب.. فيرده حسن التفصيل أهيف ويبرز من تحته الردفين. ولم أزل أتمشى حتى آن أن أعود، وإذا فتاة أعرف وجهها ولا أجهل أين بيتها، فإنه قريب من بيتى.. وكثيرا ما رأيتها فى شرفتها أو داخلة أو خارجة من البيت أو نازلة من الترام. وأحسبها تعرفنى كما أعرفها، فقد لفتت وجهها وأطالت النظر إلىَّ — فى عينى — فبيننا معرفة يسهل جدا أن تصبح وثيقة فى أوجز وقت، إذا أمكن أن يفتح أحدنا فمه بكلمة. ولكن من هو الذى ينبغى أن يبدأ؟ أما أنا فإنه من العسير علىَّ — بل من المستحيل كما تبينت ذلك بالتجربة المرة — أن أبدأ إنسانا لا أعرفه بكلام، رجلا كان أو امرأة. وقد خطر لى وهى تنظر إلى — لا بل تحدق فى وجهى — أن فى وسعى على الأقل أن أبتسم. ولم لا؟ إن الابتسامة تحية ظريفة، فإذا قابلتها بمثلها انتهى الأمر، واستطعت أن أنتقل أو أترقى إلى الكلام. وإذا أغضت عنها كأنها لم ترها، ففى مقدورى أن أعزى نفسى بأنها خجلت أو أنها خشيت ألا تكون هى المقصودة بها. وإذا قابلتها بالعبوس أو غير ذلك من مظاهر الامتعاض والنفور، ففى إمكانى أن أزعم لنفسى مغالطا أنى لم أكن أعنيها حين تبسمت، وأن أهز كتفى استخفافا بها كأنما أريد أن أقول إنها ليست المرأة الوحيدة فى هذه الدنيا، وإنها ليست أجمل الفتيات، وإنها حرة.. ولها إذا شاءت أن ترفض نعمة الاتصال بى.
دار كل هذا بخاطرى، وأنا أنظر إليها وهى تنظر إلى، وكان ينبغى أن أتبسم.. فما فى ذلك بأس، ولكننى لفرط شعورى بنفسى خشيت أن أبدو كالأبله، ووددت فى هذه اللحظة لو أن معى مرآة فأنظر فيها إلى وجهى، وأرى كيف يكون حين أبتسم لفتاة لا أعرفها. ولكنى أرجو أن تفتنها الابتسامة وتغريها بمثلها — على سبيل التجربة — وأين المرآة؟ ومتى كان الرجال يحملون المرايا معهم كالنساء؟ وهب مع الرجل مرآة، فهل يستطيع أن يخرجها ويتأمل وجهه فيها ويروح يبتسم وحده وهو يفعل ذلك كالمجنون!
وذهبت الفتاة وغابت عن عينى، وأنا أحدث نفسى بهذه السخافات.. وضاعت الفرصة وأزف الوقت، فعدت إلى السينما وأنا أقول لنفسى: «ألم يكن فى وسعى أن أدنو منها وأقول لها مثلا إننا جاران من قديم أو كلاما آخر كهذا … كلاما أبرع من هذا وألطف وأوقع فى النفس فإن كونها على طريقى إلى البيت لا يستوجب أن تعرفنى وأعرفها»؟
وذهبت أنشئ أحاديث وأتخيل حوارا بينى وبينها من أظرف وأرق ما يمكن أن يخطر على البال، وكنت وأنا أتخيل ذلك أحس أن وجهى ترتسم عليه المعانى التى تدور فى نفسى.. فخجلت وخفت أن يرى الناس ذلك منى فيتعجبوا ويشكوا فى عقلى — أعنى فى صحته — وكنت قد بلغت المدخل، فدفعت «التذكرة» إلى العامل فتقدمنى ووقف عند صف، وأشار إلى موضع الكرسى وقال: «السادس» فسألته على سبيل التثبت: «الثالث؟» قال: «لا. لا. لا.. السادس..» فاستأذنت الجالسين ودخلت بظهرى — أعنى أن ظهرى كان إليهم وأنا أخطو أمامهم متحرزا — فلم أر وجوههم ثم جلست وبدأت أتلفت، فما راعنى إلا أن الفتاة جالسة إلى جانبي..
ولا أدرى لماذا فزعت.. وقد كان المعقول أن يسرنى هذا لأنه يتيح لى فرصة جديدة، فقد تلتقى يدى بيدها أو تقع رجلى على رجلها فأعتذر بأدب وأعرب لها عن الأسف فيفتح باب الكلام الموصد. أو قد تضحكنا «شيرلى» بنكاتها أو بحسن أدائها فألتفت إلى جارتى فأراها تضحك مثلى، ويمنعها السرور فى هذه اللحظة السعيدة أن تعبس أو تقابلنى بالجفوة. ولكنى فزعت كما قلت ولم أشعر بسرور. وإنما كان فزعى لأنى توقعت أن أعجز عن اغتنام هذه الفرصة الطويلة — وهى إذا ضاعت لا يمكن أن تعود — فأروح أوسع نفسى بعد ذلك تأنيبا وتقريعا وذما وهجاء. وأدرت عينى فى المكان لأرى هل فيه من يعرفنى.. أو على الأصح من أعرفه أنا؟ فإن من عوامل التشجيع أن يشعر المرء أنه غير معروف، وخجل المرء ممن يعرف أقوى من خجله ممن لا يعرف فى مثل هذه المواقف.. على أنى لست على يقين من هذا، فقد يكون وجود الإخوان دافعا إلى الجرأة، والإنسان لا يسره أن يعرف أصدقاؤه أنه جبان.
ولم أر وجها أعرفه، فأخرجت سيجارة وأشعلتها، ورحت أدخن. وخطر لى وأنا أفعل هذا أنه يحسن أن أستأذنها.. فلعلها لا تحتمل الدخان، وهذا أدب لا ضير منه، ثم أنه مألوف. ولكن الوساوس لم تترك لى راحة. فقد قلت لنفسى إنى أستطيع أن أستاذن أى فتاة أخرى فلا تستغرب ولا تستريب، أما هذه فإنها خليقة أن تتوهم أنى أتحكك بها وأحتال للكلام معها. ثم عدت فقلت لنفسى إنى أريد أن أكلمها، وما أظن بها إلا أنها تعرف ذلك. نظرتى إليها تشى بهذه الرغبة. ولماذا لا أكلمها؟ أى بأس هناك فى ذلك؟ ولماذا أقدر أن يسوءها كلامى؟ ومن يدرينى أنها لا ترغب فى كلامى؟ ولكن ماذا بالله يدعوها إلى الرغبة فى قزم دميم الخلقة مثلى؟ سخافة … كلا، لست دميما إلى هذا الحد المنفر، ثم إن رأى المرأة فى الجمال غير رأى الرجل.. أوهوهو.. لقد وصلت إلى الكلام فى الجمال. أما إنى والله. لسخيف..
وضحكت.. فالتفتت إلىّ مستغربة، فليس من المألوف أن يضحك العاقل وحده ومن غير أن يكون هـناك ما يوجب الضحك. فلها العذر إذا كانت قد استغربت.. ووجمت أنا، وخيل إلى أنها تنحت قليلا. ومن المحقق على كل حال أنها لمست طرف المعطف وكان متدليا، فجعلته على فخذها. فسخطت على نفسى وصببت وجهى فى قالب صارم من الجد، وجعلت عينى إلى الستار لا أحولها عنه.
وبدأت الرواية ووضعت كوعى على المسند — عفوا — وكانت كفها عليها أيضا.. فلمسها كمى، فجذبت يدى وتمتمت بألفاظ أعتذر لم أسمعها أنا، فكيف بها؟ ولم يسعنى إلا أن أضع يدى على ساقى. ولم أعد أرى أو أسمع شيئا من الرواية. وكانت نفسى تقول لى بصوت غليظ فيما أحس: «إنك بليد.. هذا أنت.. وحمار أيضا.. أين جرأتك؟ لماذا تجفل من هذه الفتاة الوديعة التى تتوقع منك أن تكلمها والتى وطنت نفسها على ذلك واستراحت إليه؟ هل بلغ من سخافتك وجبنك أن تتوقع أن تبدأك هى بالكلام؟ اجترئ يا شيخ، لقد كان أجدادك الأولون يخطفون النساء خطفا ولا يبالون شيئا، وكان النساء يسرهن ذلك. وقد ذهب الخطف بالقوة، ولكنه بقى — وسيظل باقيا — أن المرأة تنتظر من الرجل أن يهاجمها، بالكلام — على الأقل — ثم بعد ذلك بالقبل والضمات والعناق».
فقلت لها: «استحى يا نفس.. إننا فى سينما.. وهذا الكلام.. هذا التحريض على الأعمال الفاضحه لا يليق.. إننى رجل متمدين ولست وحشا كما كان آبائى».
فسخرت منى نفسى، وضحكت.. نعم ضحكت الملعونة ضحك السخر والزراية.. فكدت أجن، ولكنها لم تعبأ بذلك وذهبت تقول: «أين المدنية؟ سبحان الله العظيم! وهل المدنية تمنع أنك إنسان وأن شعورك بالمرأة هو نفس شعور جدك الأعلى الذى كان يسكن الكهوف والغيران؟ أو تخشى أن تغضبها بالتطفل عليها؟ فاعلم أن المرأة إنما يغضبها أن ترى الرجل بليدا جبانا.. هذه يدها على مسند الكرسى فضع يدك عليها. نعم لا تخف.. وماذا تخاف؟ إنها لن تأكلك، بل ستترك كفها تحت كفك وتنعم بملامستك لها … أدن ساقك من ساقها.. انقل إليها بعض الحرارة التى فى جوفك. قرب فمك من خدها.. يا له من خد أسيل.. هل رأيت أحلى منه؟ دع أنفاسك تصافح هذا الخد. قد انتهى الفصل الذى لم تر منه شيئا وأضيئت الأنوار، فادع هذا البائع واشتر منه قطعتين من الشكولاتة المثلوجة وقدم لها واحدة وتبسم تبسم ياشيخ هل أنت قطعة من جليد القطب الشمالى».
ولكنى استحييت أن أفعل ما تشير به هذه النفس.. فظلت تقرعنى طول الفصل الثانى وتفسد على قصة «شيرلى».
وانتهت الرواية، فنهض الناس ونهضت.. وأولتنى الفتاة وجهها، فأفسحت لها لتخرج قبلى، فقالت «مرسى» فابتسمت ابتسامة عوجاء وتحركت شفتاى، ثم فتح الله على فقلت لسخافتى: «تفضلى» فابتسمت وقالت مرة أخرى: «مرسى» والخطوة الأولى هى الصعبة، كل شىء يسهل بعدها.. فلا غرابة إذا كنت وجدت لسانى الذى كأنما كانت به عقلة، فقلت لها: «أظن أننا جاران» قالت وهى تضحك: «أظن ذلك».
قلت: «إذا كان طريقك إلى البيت، فإن معى سيارة صغيرة تحملنى.. فإذا خربت حملتها أنا».
قالت: «أعرفها.. لا تطعن عليها.. رأيتك فيها كثيرا».
قلت: «سنجد السيارة ترقص» قالت: «ولماذا ترقص؟» قلت: «طربا.. ألست تثنين عليها؟ ليتنى أنا السيارة».
وفتحت لها بابها وقلت لنفسى وأنا أدور إلى الباب الآخر: «أرأيت؟ إن أساليب المتوحشين لا تصلح لهذا الزمان.. إنك نفس قديمة.. عتيقة».
فقهقهت اللعينة وقالت: «لولا درسى! على كل حال العبرة بالخواتيم».