البحث عن الذهب
وجدت صديقى ينتظرنى — كما وعد — فدخلنا معا وجلسنا متقابلين إلى مائدة صغيرة، وبدأنا بأيدينا ففركناها.. فقد كان البرد شديدا، وكان كلانا قد خلع المعطف والطربوش، وكانت الحجرة دافئة ولكنه لم يكن قد مضى من الوقت ما يكفى لانتقال الدفء إلى أبداننا. ثم أكب صاحبى على البيان الذى فيه ألوان الطعام، وجعل يسردها لى لأتخير ما يطيب لى منها. وفرغنا من ذلك بعد طول التردد، وانصرف العامل بدفتره الذى دون فيه ما طلبنا، فقال صديقى وهو يميل على المائدة: «والآن ما العمل»؟
قلت: «هذا هو السؤال الأبدى.. وما أظن بنا إلا أننا سنظل نسأل عن ذلك طول العمر — طال أم قصر — المسألة مسألة حظ يا صاحبى».
فقال: «كلا.. لابد أن هناك وسائل لاكتساب المال بسرعة.. كثيرون يفعلون ذلك. وهذا دليل على أن الوسائل موجودة، ولكنا نحن — لسبب ما — لا نهتدى إليها».
قلت: «فليكن الأمر كما تصوره، فلست أرى أن هذا يجدينا شيئا».
قال: «ولكن لابد أن تكون هناك وسيلة».
قلت: «إذا كان ينفعك أو يريحك الإيقان من ذلك.. فأيقن وأرح نفسك».
فقال وهو يهز رأسه: «نحن اثنان.. كلانا محتاج إلى مبلغ حسن من المال.. والحاجة ملحة والسرعة لا مفر منها. لا سبيل إلى الاقتراض، لأن الذين يقرضون يطلبون ضمانا.. شيئا يطمئنون به على مالهم.. سخافة.. ولماذا ينبغى أن نرد شيئا؟ ألسنا أحق بالمال من هؤلاء الذين لا يعرفون كيف ينفقونه ويروحون يكترونه ويدفنونه فى خزانات أو فى قدور يدسونها تحت الأرض»؟
فضحكت، وقلت: «هذه بلشفية».
قال: «لا تصدق.. آه لو كنت غنيا، إذن لصارت الدنيا أرغد وأهنأ».
قلت وأنا أبتسم: «ماذا كنت تصنع»؟
قال: «أصنع؟ أتسأل؟ كنت أضع المال فى صرر وأرمى بها لمن أتوسم فيهم أنهم أهل لأن يكون فى يدهم مال» — وأطرق شيئا ثم رفع رأسه وقال: «هل تعرف أنى زرت اليوم أختى؟ إنها غنية كما تعرف.. وكيف لا تكون غنية وهى لا تنفق شيئا؟ فلما دخلت عليها وفتحت فمى لأتكلم، رفعت يدها وقالت: «ولا مليم» فغضبت وصحت بها ونهرتها عن هذا السلوك. أكّدت لها مائة مرة إنى محتاج إلى قليل من المال، فوقفت وأكدت لى أنى سأكون محتاجا إلى هذا المال حين أخرج من بيتها.. سلوك يطير العقل.. فهل تسمى هذه أختا؟ أنى أتصور أختا ظريفة لطيفة سخية كريمة تعطينى وهى تعتذر وتملأ يدى وهى مغضية. هكذا تكون الأخت».
فقلت: «لماذا لا تفكر فى طريقة لكسب المال»؟
فقال بلهجة الاستنكار: «أفكر..؟ وما الفائدة من التفكير؟ لا فائدة ما دامت الدنيا مقلوبة. آه لو كان لى سلطان فى هذه البلاد، إذن لعقدت امتحانا كل ثلاثة شهور للأغنياء.. يجلس أعضاء اللجنة ويقف أمامهم الغنى، فيقول له أحدهم: «كم تملك يا مولانا»؟ فيقول: «ألف فدان ونحو مائتى ألف جنيه فى المصرف، وعمارتين — كل منهما ذات سبع طبقات فى شارع الملكة نازلى». فيقول أحد الأعضاء: «وماذا تصنع بكل هذه الثروة»؟ فيقول: «أوه لا أصنع شيئا.. كل ما زاد على حاجاتى الضرورية جدا أضيفه إلى المدخر» فتقول اللجنة: «شىء جميل.. أهذا رأيك فيما ينبغى أن يصنع المرء بالمال؟.. لا بأس.. اسألوا أحمد — أى العبد الخاضع المطيع — ماذا يكفيه»، فأقول ردا على السؤال: «أوه يكفينى القليل.. خمسون ألفا. كفاية.. أعنى مؤقتا» فتقول اللجنة: «أحمد هذا رجل يحسن إنفاق المال.. أعطوه ما يطلب» فأقبض المبلغ وأشكرهم وأفرك يدى وأقول: «إذا سمحتم لى يا حضرات الأعضاء الموقرين، أستأذنكم فى لفت نظركم إلى رجل يعرف كيف يعطى.. بارع جدا فى الإنفاق» فيسأل أحدهم: «من هذا؟ قل بسرعة» فأقول: «إنه المازنى» فيقول: «آه صحيح.. كيف نسيناه.. هاتوه حالا.. علينا به. اقبضوا عليه فى حيثما تجدونه» فيقبض عليك الشرطة ويجرونك مصفدا إلى اللجنة، فيضحك الأعضاء ويقولون: «خذ.. خذ.. خذ أيضا» فتخرج معى مسرورا.. وتروح تنفق باليمين وبالشمال حتى يحين موعد الامتحان التالى. ما قولك»؟
فقلت وأنا أضحك: «شىء عظيم جدا.. ولكن إلى أن يتيسر أن تلى أمور الناس، ماذا تصنع»؟
فقال: «آه هذه هى المسألة.. ما رأيك أنت»؟
قلت: «يمكننا أن نكسب الورقة الأولى الرابحة من يانصيب المواساة أو اليانصيب الإرلندى».
قال: «هذا ممكن.. ولكن ذلك يتطلب أن ننتظر بضعة شهور والعجلة من الشيطان».
قلت: «صدقت.. يمكن أن نخترع شيئا ونحتكر بيعه — وصنعه بالطبع — فنغتنى».
قال: «صحيح.. فكرة لا بأس بها.. سأدون هذا فى مذكرتى.. تنفع فى المستقبل.. وعلى ذكر ذلك، ماذا نخترع»؟
قلت: «باب الاختراع واسع.. واسع جدا: مثلا نخترع طريقة تجعل السيارات تستغنى عن البنزين وتكتفى بالماء — أو حتى بالهواء — أو نخترع بديلا من النقود فإن النقود هى أصل البلاء فى هذه الدنيا.. أو نخترع..».
فقال: «يكفى.. يكفى. ولكن هذا كله يحتاج إلى زمن.. والمطلوب هو الاهتداء إلى وسيلة تكفل إعداد المال اللازم فى أربع وعشرين ساعة.. أنا أقول لك»!
فقلت وأنا أضطجع وأرسل الدخان من فمى خيطا ملتويا، بعد أن فرغنا من الطعام: «يظهر أن الضرورة تفتق الحيلة حقيقة».
فقال: «معلوم … اسمع، أترى هذا الرجل القاعد هناك فى الركن الأيمن؟ أترى كيف يأكل؟ أترى كرشه المدورة كالكرة ووجهه المنتفخ، وكيف يفتح عينا ويغمض أخرى، وينظر حوله قبل أن يدس اللقمة فى فمه كأنما هو يخشى أن يراه أحد؟ الحق أقول لك أنى أكره وجهه ولا أرتاح إلى النظر إليه».
قلت: «يا أخى لا تنظر إليه.. دعه وحول عينك عنه».
قال: «ولكنى لا أستطيع.. إنه وجه سوء، لا يمكن أن يكون هذا الرجل من أهل الخير.. إنه ممن لا يؤتمنون على القُصَّر والأيتام والأرامل.. هذا الرجل لابد أن يكون منطويا على أسرار يكره أن تذاع.. لأن وجهه ناطق بأنه شرير. فلو قمت إليه الآن وهمست فى أذنه أنى أعرف سره الذى يجاهد لإخفائه، ألا تظن أنه يفزع ويضطرب ويشترى سكوتى بأى ثمن»؟
فقلت: «أها! أهذه طريقتك؟ أتريد أن تبتز المال من الناس بهذه الوسائل»؟
قال: «المصيبة أنى لا أستطيع.. تنقصنى الشجاعة، ولكنى واثق أنى أنجح إذا استطعت أن أصنع هذا.. ومع ذلك لكل إنسان سره القبيح.. ولو أن واحدا جاء إلى ووقف على رأسى الآن وحدق فى وجهى، ثم هز رأسه هزة العارف بكل ما هناك، ثم قال: إنى أعرف سرك يا أحمد، لما وسعنى إلا أن أضطرب.. على كل حال يظهر أنه لا فائدة.. لا أمل فى مال كثير نحصل عليه بالسرعة اللازمة».
قلت: «صدقت لا أمل».
قال: «خسارة.. سأظل أتحسر لأنى لم أجد الشجاعة الكافية للوقوف على رأس هذا المجرم — هو مجرم ولا شك — وإبلاغه أنى أعرف باطنه كما أعرف ظاهره البادى لنا … خسارة، نهايته.. نقوم»؟. قلت: «تفضل».
ودفع إلى الخادم ثمن الطعام وخرجنا.
وقلت لصاحبى وأنا أودعه: «على فكرة.. من قبيل الاحتياط للمستقبل ما هو الجواب الصحيح أمام اللجنة»؟
قال: «آه.. أنفق ما فى الجيب يأتك ما فى الغيب».
قلت: «أهو ذاك؟ أما ما فى الجيب فلست أحتاج فى أمر إنفاقه إلى التكلف.. وأما ما فى الغيب فهل تعرف متى يأتى»؟
فأشار لى بيده.. ومضى عنى وهو يضحك.