الشبكات والألعاب الاجتماعية
الإدراك المكاني يدعم التفاعل الاجتماعي، والتفاعل الاجتماعي يدعم الإدراك المكاني. إن إدراك تواجد الآخرين ومواقعهم الجغرافية في الفضاء المادي يمثِّل أمرًا محوريًّا في طريقةِ تصوُّرنا للفضاءات المكانية وطريقة تفاعلنا مع الآخرين في تلك الفضاءات. قبل وجود الأمكنة الرَّقْمِيَّة، كان الناس يستطيعون أن يستدِلُّوا على خصائص فضاءات مكانية معينة وخصائص الناس في تلك الفضاءات، من خلال حديثهم مع الآخرين الذين امتلكوا الخبرةَ المباشرة، أو عن طريق القراءة عن تلك الفضاءات وهؤلاء الأشخاص في الصحف والمجلات. ولكن إمكانية الاتصال المتزايدة بين الأمكنة — مدعومة بتكنولوجيات الأجهزة المحمولة ذات الإدراك المكاني — في الفضاءات العامة ساهمَتْ في نوعٍ جديدٍ من الاتصال الاجتماعي. ناقشنا في الفصل الثاني طريقةَ منْحِ الأجهزة المحمولة ذات الإدراك المكاني للناس فرصةَ الوصول إلى المشهد المعلوماتي الذي يشكِّل الأمكنة الرَّقْمِيَّة والمشاركة فيه. أما في هذا الفصل فنوجِّه اهتمامنا إلى طريقة مساهمة إدراك المستخدم لمواقع الأشخاص الآخرين الجغرافية في هذه الفضاءات في تشكيل الأمكنة الرَّقْمِيَّة؛ فالقدرة على تصوُّر موقع الأشخاص المتواجدين في الجوار — وليس فقط الموقع الجغرافي للمعلومات والأشياء — تغيِّر الطريقة التي تتطور بها الروابط الاجتماعية التقليدية في الفضاءات العامة والخاصة على حد سواء. وهي تؤثر على الفضاءات المكانية التي يُحتمل أن نزورها، والأشخاص الذين يُحتمل أن نتواصل معهم. وتزداد شعبية هذه الأنواع من تطبيقات الإدراك المكاني، ولكنها، على غرار معظم التكنولوجيات التي ناقشناها في هذا الكتاب، تمتلك تاريخًا طويلًا من التجارب والتطوير.
تُعَدُّ شبكات التواصل الاجتماعي المعتمدة على الموقع وألعاب الأجهزة المحمولة المعتمدة على الموقع بيئاتٍ اجتماعيةً شبكيةً؛ ولهذا فإنها تمتلك أصولًا ضمن البيئات المتعددة المستخدمين على الإنترنت. تُعتبَر «الزنازين» أو النطاقات المتعددة المستخدمين التي ابتكرها روي ترابشو وريتشارد بارتل عام ١٩٧٨ أولَ أنواع بيئات التواصل التزامني على الإنترنت. أتاحت هذه الأنظمة لمستخدميها أن يتحدث أحدهم إلى الآخر على الإنترنت آنيًّا. وبهذا المفهوم، كانت تُعتبَر شبكاتٍ اجتماعيةً، ولكنها كانت أيضًا ألعابًا (بارتل، ١٩٩٦)؛ حيث كانت تشتمل على سمات مثل مهام وقواعد وأهداف حفَّزَتِ الناس على اللعب والمشاركة في مجتمع اللعبة. أصبحت النطاقات المتعددة المستخدمين شهيرةً جدًّا في بداية ثمانينيات القرن العشرين، وتولَّدَ عنها العديدُ من الأنظمة المماثلة، من غرف الدردشة إلى ألعابٍ متعددة المستخدمين أكثر اعتمادًا على الرسوم وموجَّهة نحو هدفٍ محدد، كان يُطلَق عليها اختصارًا «إم أو أو».
وكما يبين توريل مورتينسون (٢٠٠٦)، تحوَّرَتْ ألعاب النطاقات المتعددة المستخدمين إلى ما يُسمَّى «ألعاب الإنترنت الكثيفة اللاعبين» في وقتنا الحاضر، مثل لعبة «إفَركويست» ولعبة «ورلد أوف ووركرافت». وكانت ألعاب النطاقات المتعددة المستخدمين أيضًا مصدرَ إلهامٍ لتطوير عوالم الإنترنت الافتراضية، مثل «أكتيف ورلدز» (١٩٩٧) و«سَكَنْد لايف» (٢٠٠٣). يوضح ديبل (١٩٩٩) أن الرابط بين هذين النوعين من الفضاءات الاجتماعية على الإنترنت كان كودَ خادم النطاقات المتعددة المستخدمين المصغَّر، الذي ابتكره جيمس أسبِنز عام ١٩٨٩. أخذ أسبِنز — الذي كان لاعبًا شغوفًا بلعبة «الزنازين المتعددة المستخدمين» — البنيةَ الترميزية المشابهة لِلُعبة «الزنازين المتعددة المستخدمين»، ولكنه أزال كلَّ عناصر اللعب، مثل المهام و«القتل»، تاركًا فقط إمكانية التفاعل الاجتماعي. ومن هذا المنظور، بدأَتِ العوالمُ الافتراضية على الإنترنت بوصفها عوالم ألعاب دون بنية اللعبة. ما تبقَّى كان فضاءً (رقميًّا) من أجل التفاعل الاجتماعي.
تُعَدُّ الألعاب وشبكات التواصل الاجتماعي المعتمدة على الموقع من سلالةِ هذه العوالم الافتراضية الأولى؛ فالعلاقة التاريخية بين ألعاب الأجهزة المحمولة المعتمدة على الموقع وبين شبكات التواصل الاجتماعي المعتمدة على الموقع مشابهةٌ أيضًا لتلك التي بين النطاقات المتعددة المستخدمين وخوادم النطاقات المتعددة المستخدمين المصغرة. كانت الأشكال الأولى من شبكات التواصل الاجتماعي المعتمدة على الموقع ألعابًا مثل: «بوتفايترز» و«موجي»، ثم ظهرت ألعابٌ للأجهزة المحمولة معتمدة على الموقع مثل: «لوبت» و«برايتكايت». وأبقَتْ على بنية الألعاب المعتمدة على الموقع نفسها؛ وهي التفاعل مع الآخرين اعتمادًا على المسافة المادية بينهم، ولكنها أزالت عناصر الألعاب من التطبيق. ومن المثير للاهتمام أن الكثير من هذه التطبيقات — كما سنرى لاحقًا — كانت منذ ذلك الوقت تضيف عناصرَ من عناصر الألعاب كي تزيد المشاركة.
بغضِّ النظر عن دافع المرء للمشاركة، أصبح تأثير مواقع المستخدمين على التفاعلات الاجتماعية على الإنترنت أمرًا شديدَ الوضوح. ومع أن الألعاب والعوالم الافتراضية كانت تُتَّهم بأنها تعزل الناس بعضهم عن بعض وعن العالم «الواقعي»، فإن الأمكنة الرَّقْمِيَّة تتحدَّى ذلك الافتراض؛ فالشبكات الرَّقْمِيَّة تربطنا بالعالم المادي وتقدِّم إطارًا للتفاعلات الاجتماعية مُحدَّدة الموقع جغرافيًّا.
(١) الاتصال الرقمي في الفضاءات المادية
كانت أولى محاولات خلق شبكات اجتماعية معتمدة على الموقع هي ما سُمِّي «أجهزة إدراك الترابط بين الأشخاص». هذه الأجهزة استخدمَتْ خاصيةَ البلوتوث (موجات راديوية قصيرة المدى) للربط. وهكذا، بدلًا من الربط بين عدد ضخم من المستخدمين في مواقع مختلفة عديدة، تتصل الأجهزة المجهزة بخاصية البلوتوث مع أجهزة أخرى موجودة في مسافة قصيرة (١–١٠٠ قدم). وتبعًا لذلك، كانت هذه الأشكال الأولى من الشبكات الاجتماعية محدودةً بسبب القُرْب المكاني، وأول جهازِ إدراكٍ للترابُط بين الأشخاص كان يُسمَّى «لافجيتي» وصُنِع في اليابان عام ١٩٩٨. كان «لافجيتي» جهازًا لاسلكيًّا صغيرًا بما يكفي لأن يُحْمَل في جيب الشخص أو حقيبته، وإذا اكتُشِف جهاز «لافجيتي» آخَر في الجوار، كان الجهاز يُصدِر صفيرًا، وإذا وَضَعَ المستخدِمَان المتفاعلان سمة المواعَدة قيدَ العمل، كان الجهاز يُطلِعهما على جنس الآخَر وإنْ كان متاحًا أم لا. كان «لافجيتي» محاولةً مبكرةً لوضع المواعَدة الإلكترونية والتواصُل الاجتماعي في الفضاءات المادية.
استند فنَّانو الوسائط المرتبطة بالمكان على هذا المفهوم ليخلقوا شبكاتٍ قصيرةَ المدى بين الأشخاص في الفضاءات المادية. وبالرغم من أن الكثير من تطبيقات التعليقات التوضيحية للأجهزة المحمولة، التي ذُكِرت في الفصل الثاني، سمح بتبادُل المعلومات بين النظراء، فإنها افتقدت إلى القدرة الوظيفية التي تسمح للمشاركين أنْ يكون أحدهم على علمٍ بتواجُد الآخرين أثناء تواجُدهم بالفعل. كان في إمكان المستخدمين الوصول إلى موقع معلومة رقمية محددة وأشياء مادية مرتبطة بالموقع بواسطة مستخدمين آخرين، ولكن لم يكن في إمكانهم الوصول إلى المستخدمين أنفسهم. سعَتْ أعمالٌ مثل «ذي فاميليار سترينجر» لإريك باولوس وإليزابيث جودمان (٢٠٠٢)، و«أمبريللا.نت» لكاثرين موريواكي وجوناه بروكر-كوهين (٢٠٠٢) إلى تغيير ذلك.
كلا هذين العملين كان مؤثرًا في ترسيخ الإمكانيات الاجتماعية للاتصال القصير المدى في الفضاءات العامة. كانت مساهمتهما بسيطة: الرغبة في تحديد الموقع تضمَّنَتِ الرغبة في التواصل مع آخرين في الموقع. ويمكن أن يكون جهازٌ محمول كجهاز «لافجيتي» أو هاتفٌ محمول أو مظلةٌ واجِهةً للتفاعل المادي. ولكن هذه الأنظمة كانت محدودة؛ إذ لم تستطع أن تربط تعقيدات الموقع الحالي للمرء بالمواقع البعيدة الأخرى.
(١-١) الشبكات الاجتماعية للأجهزة المحمولة
بعد عامين من إطلاق جهاز «لافجيتي»، ابتُكِرت خدمة «إيماهيما» في اليابان. «إيماهيما» — التي تعني في اليابانية «هل أنت غير مشغول الآن؟» — كانت تطبيقًا مخصَّصًا للهواتف المحمولة التي تدعم خدمة «آي-مود» القياسية. زعم مبتكره نيراج جهانجي أنه تخيَّلَ هذا التطبيق في أحد الأيام بينما كان جالسًا بالخارج لتناول طعام الغداء بمفرده، وتساءل عمَّا إذا كان أي من أصدقائه بالجوار أم لا (رينجولد، ٢٠٠٢). طوَّرَ جهانجي خدمةً تتيح لمستخدمي الهاتف المحمول أن يبثوا موقعهم، ويستقبلوا رسائل نصية بها تحديثات مواقع الأصدقاء. وفي الوقت نفسه تقريبًا، طُوِّرت في الولايات المتحدة خدمة مماثلة تُسمَّى «دودج بول»، ومع ذلك، لم يتم إطلاق «دودج بول» تجاريًّا قبل عام ٢٠٠٥ حينما استحوذت عليها «جوجل». كان تطبيقَا «إيماهيما» و«دودج بول» يمتلكان السمةَ المشتركة بتمكين المستخدمين من «بثِّ» موقعهم الحالي للأصدقاء الموجودين في «قائمة الرِّفاق المفضَّلين»، عن طريق إرسال رسالة نصية قصيرة إلى خادم التطبيق، وبعد ذلك كان الخادم يوزِّع الرسالة على أصدقاء المستخدم. غير أنه لم تعتمد أي من هذه الخدمات على قدرة الهاتف المحمول على إدراك الموقع أو تستخدم إمكانيات رسم الخرائط؛ لهذا، وبالرغم من أن جهاز «لافجيتي» وتطبيقَيْ «إيماهيما» و«دودج بول» استهدفَتِ الربط بين مستخدمي الأجهزة المحمولة في الفضاءات المادية، فلم يكن أيٌّ منها «ذا إدراك مكاني» بذاته.
في عام ٢٠٠١ فاز تطبيق «إيماهيما» بجائزة «آرس إلكترونيكا» للخيال الشبكي/التميُّز الشبكي الرفيعة الشأن. وبالرغم من تمتعه بقدر كبير من النجاح داخل عالم الفن الراقي نوعًا ما، فإنه لم «يصل» إلى الانتشار العام. أدَّى «إيماهيما» والمشروعات المماثلة دورًا عظيمًا في تيسير الاتصال الرقمي بين الناس في الفضاءات المادية، إلا أن هذه المشروعات لم تراعِ الاهتمامَ بإيجاد سببٍ وجيهٍ يدفع الناس لاستخدامها؛ إذ لم يوجد سبب منطقي يدعو إلى تفاعل المستخدم مع تلك الأنظمة. وكان يوجد قدرٌ قليل من التحفيز على المشاركة في هذه الأنظمة باستثناء الحافز الناتج عن كونها ابتكارًا جديدًا؛ لذا، لم يجد السؤال «لماذا يشارك المرء في أنظمة كهذه؟» إجابةً إلا عندما أُضِيفت عناصر الألعاب إلى المعادلة.
(٢) الألعاب والتفاعل
تُقدِّم الألعاب سببًا منطقيًّا لتفاعل المستخدم. بينما توجد وسائل عديدة لتعريف اللعبة، فإن ألعاب الأجهزة المحمولة المعتمدة على الموقع تمتلك سمات ثابتة، ومن تلك السمات: النقاط أو الأوسمة التي تُعطَى مكافأةً على أنواع مختلفة من المشاركة، أو التنافس والتعاون المصمَّمَيْن ليؤدِّيَا إلى تفاعُل المستخدم مع اللعبة، أو استخدام قصةٍ ما لتستحثَّ الرغبة في اللعب. هذه السمات مجتمعةً تُشجِّع على ما يدعوه إيان بوجوست (٢٠٠٧) «بلاغة إجرائية»؛ حيث يكون الدافع للمشاركة هو عملية المشاركة في حد ذاتها أكثر من كونه ناتجًا عن محتوى أي فعل محدَّد من أفعال المشاركة، مثلًا: المشاركة في لعبة لجمع الأدلة تحفِّز اللاعب على التحرك خلال فضاء ما للعثور على الغرض التالي في القائمة. وعملية البحث ذاتها أكثر أهميةً من خصائص فضاء البحث. أو تأمَّل لعبة «مونوبولي». تقوم اللعبة على الرأسمالية والتداوُل في العقارات، ولكن إلقاء النرد وجمع المال يشكِّلان أسلوبَ اللَّعِب. ليس ما يحفِّز اهتمام اللاعب هو قصة اللعبة في حد ذاتها، بل قواعد اللعبة؛ نظام المكافآت والتنافسية اللذان يحيطان بمحتوى القصة.
إضافة سمات الألعاب أو سمات شبيهة بها إلى أي نظام للتفاعل يمكن فعليًّا أن يخلق دافعًا للمشاركة لدى المستخدم. هذه الحقيقة البسيطة شديدة الأهمية في تاريخ طريقة إدخال التفاعل إلى الأجهزة ذات الإدراك المكاني. أول تجربة لبناء منصة اجتماعية باستخدام تكنولوجيا جي بي إس كانت لعبةً بسيطة جدًّا تكاد تكون قد ابتُكِرت بالصدفة. في الثالث من مايو عام ٢٠٠٠، أراد استشاري كمبيوتر يُسمَّى ديف أولمر أن يختبر دقةَ جهازه الجي بي إس الجديد؛ فقرَّرَ أن يواري خبيئة من الفيديوهات والكتب والبرامج الحاسوبية ونَبْلَة في الغابة بالقرب من منطقة بيفركريك بولاية أوريجون، وسجَّلَ إحداثياتها ونشرها على الإنترنت، وسمَّاها «البحث الأمريكي العظيم عن الخبيئة باستخدام الجي بي إس»، وأرسل رسالة مختصرة إلى منتدًى للجي بي إس يحتوي على عبارة إرشادية واحدة بسيطة: «خذ بعض الأغراض، وضَعْ بعض الأغراض.» وفي خلال ثلاثة أيام، وجد شخصان خبيئة أولمر ونشرَا تجربتهما على الإنترنت. في نهاية الشهر، كان المئات من الناس في كل أنحاء العالم يخبئون أشياء ويعثرون على أشياء. ومع تنامي المحادثات، تغيَّرَ الاسم. أصبح «البحث العظيم عن الخبيئة باستخدام جي بي إس» معروفًا باسم «تتبع المخابئ جغرافيًّا».
بعد التسجيل في اللعبة، يُنبَّه اللاعبون بواسطة رسالة نصية عندما يتواجد لاعب آخَر بالجوار. وبإمكان اللاعبين أن يردُّوا بإرسال ردٍّ يحتوي شيئًا مثل «أطلِقِ النارَ على اللاعب سين.» كانت دقة طلقتهم تعتمد على نوع البندقية التي بحوزتهم وبُعْدهم المادي عن الأهداف.
جرت أحداث «بوتفايترز» على مدار أربع سنوات في بلدان مثل فنلندا والسويد والمملكة المتحدة وأيرلندا وروسيا، وأشار بعض لاعبي «بوتفايترز» أنهم اختبروا مدنهم بطرق غير اعتيادية أثناء اللعب، مثلًا: قال اللاعب السويدي بيورن إدرين: «ينتهي بك الأمر بقيامك بجولات في أماكن لم تكن ستذهب إليها لولا تلك اللعبة. وجدتُ نفسي جالسًا أتصفَّح الويب محاوِلًا العثور على مقهًى جيد في جزء مجهول من ستوكهولم كي أتمكَّن أنا وصديقتي من القيام بنزهة خلوية، وأيضًا تدمير آليٍّ معين» (موبايل كيلرز، ٢٠٠١).
كان المقصود من اللعبة أن تؤثِّر على أنماط الحركة في المدينة، وأيضًا أن تحفِّز اللاعبين على تشكيل روابط جديدة، وذلك بوسيلتين؛ الأولى: هي أن يتخيَّل اللاعبون مدنهم المعتادة من منظور حكاية خيالية، والثانية: هي دفع اللاعبين للذهاب إلى أجزاء من المدينة لم يذهبوا إليها من قبلُ. نشد القائمون على اللعبة تهيئةَ مقارَبةٍ حميمية وسياحية في آنٍ واحدٍ، بإنشاء روابط بين الأحداث المحلية والمعلومات وشبكة ضخمة من الأنشطة تجري حولها. كما نشدوا تكوينَ مجتمعٍ من اللاعبين على الإنترنت وخارجها. أتاحت البلاغة الإجرائية لِلُّعبةِ الدافعَ للتجوُّل في المدينة، وإضافةً إلى ذلك، أتاحَتْ أيضًا الدافعَ للتفاعل الاجتماعي في المواقع غير المرتبطة بممارسة اللعبة. حملت قواعد اللعبة اللاعبين على استكشاف المواقع، ولكن كانت اللقاءات الاجتماعية الناتجة عن ذلك هي ما عزَّزَ إدراك الموقع.
منذ ظهرت لعبة «بوتفايترز» للمرة الأولى، صُنِعت ألعاب أشد تعقيدًا لتعزيز الإدراك المكاني. أول مشروع مزَجَ بين رسم الخرائط والاتصال في الوقت الحقيقي بين المشاركين المحليين والبعيدين، وأيضًا تتبع مواقع اللاعبين؛ كان عرضًا لفن الوسائط معزَّزًا بعناصر اللعبة يُسمَّى «كان يو سي مي ناو؟» طورته في عام ٢٠٠١ المجموعة الفنية البريطانية «بلاست ثيري» ومعمل «ميكسد ريالتي» بجامعة نوتينجهام. وكان على طراز لعبة «باك-مان»، التي يطارد فيها اللاعبون أحدهم الآخَر في أنحاء المدينة. أما الابتكار الحقيقي لهذا العمل فكان فَصْلَ فضاء اللعبة إلى بيئتين مختلفتين: هما المادية والرَّقْمِيَّة؛ منتجًا عنه ما أطلق عليه بعض الباحثين «ألعاب الواقع الهجين» (دي سوزا إي سيلفا، عام ٢٠٠٩). أُطلِقت النسخة الأولى من اللعبة على هيئة عرض ليوم واحد في مدينة شيفيلد بالمملكة المتحدة. لم تُستخدَم الهواتف المزوَّدة بأنظمة «جي بي إس» في لعبة «كانْ يو سي مي ناو؟» لأن اللعبة طُوِّرت عام ٢٠٠١. عوضًا عن ذلك، مزجت بين أجهزة «جي بي إس» لتحديد الموقع، وبين أجهزة لاسلكية محمولة (ووكي توكي) للاتصال. وفي الوقت الذي كان فيه لاعبو «بلاست ثيري» يَجرُون عبر شوارع شيفيلد — حامِلِين أجهزة «جي بي إس»، وأجهزة المساعد الرقمي الشخصي، وأجهزة لاسلكية محمولة (ووكي توكي) — استطاع اللاعبون عبر الإنترنت من أي مكان في العالم الولوجَ إلى خريطةٍ ثنائية الأبعاد للمدينة، ومن هناك كان بمقدورهم أن يتفاعلوا مع لاعبي الشارع الذين كانوا ممثَّلين بنقاطٍ على الخريطة. في تلك الأثناء، كان باستطاعة لاعبي الشارع أن يروا الموضعَ النسبي لِلَّاعبين عبر الإنترنت ممثَّلًا في نقاط بيضاء على خريطةٍ لنفس المنطقة على شاشات أجهزة المساعد الرقمي الشخصي الخاصة بهم. وكان هدف اللاعبين عبر الإنترنت هو الهروب من لاعبي الشارع، ولكن أينما كان يقف أيٌّ من لاعبي الشارع في نطاق خمسة أمتار من أحد اللاعبين عبر الإنترنت، يمكن أن «يأسر» لاعبُ الشارع ذلك اللاعبَ من لاعبي الإنترنت ويُجبِره على مغادرة اللعبة.
كانت كل التفاعلات بين اللاعبين معزَّزةً بنوعٍ من الاتصال. سمحَتِ الدردشةُ الحية لِلَّاعبين عبر الإنترنت بأن يرسلوا رسائلَ نصية إلى اللاعبين الآخرين عبر الإنترنت، وإلى عدَّائي «بلاست ثيري» في الشوارع. وكان بإمكان عدَّائي «بلاست ثيري» أن يتصل أحدهم بالآخر وباللاعبين عبر الإنترنت عن طريق أجهزة «ووكي توكي» اللاسلكية. كان الاتصال استراتيجيًّا (كان لدى أعضاء «بلاست ثيري» قناة خلفية خاصة لتطوير استراتيجيات اللعب)، وتكامليًّا لصياغة إدراك الموقع (إذ تحدَّثوا عن ظروف الطقس المحلي والمَشاهد المادية للمدينة لإشراك اللاعبين عبر الإنترنت ذهنيًّا في الفضاء المحلي). كان كلُّ نوعٍ من نوعَي اللاعبين يَشغَل فضاءات مادية وأخرى على الإنترنت، وهو نوع من الفضاء الهجين الذي يتشكَّل عن طريق إعدادات الصلات الاجتماعية المحلية والبعيدة.
في النُّسَخ الأحدث من اللعبة صارت لوحة اللعبة على الإنترنت نموذجًا ثلاثيَّ الأبعاد لفضاء المدينة، ويُزَوَّد العدَّاءون بهواتف محمولة تعمل بشبكات الجيل الثالث المدعَّمة بخاصية «جي بي إس». واستمرت مجموعة فنَّاني «بلاست ثيري» ومعمل «ميكسد ريالتي» في إسهامهم في تطوُّر الأعمال المماثلة، مثل «آنكل روي أول أروند يو» (٢٠٠٣)، و«آي لايك فرانك» (٢٠٠٤)، و«ذي داي أوف فيجارينس» (٢٠٠٦)، و«رايدر سبوك» (٢٠٠٧). كانت هذه المشروعات تنشد إشراكَ اللاعبين في الفضاءات الحضرية، سواء أكانت تلك المشاركة محليًّا أم عن بُعْد، وابتكارَ وسائل جديدة للوصول إلى المعلومات المعتمدة على الموقع وللتفاعل مع الغرباء في الفضاءات الحضرية.
وَضَعت ألعاب مثل «بوتفايترز» و«كان يو سي مي ناو؟» المعاييرَ لمشاريع لاحقة مثل «موجي» في اليابان. كانت لعبة «موجي» لعبةَ بحثٍ عن كنزٍ، كان لزامًا على اللاعبين فيها أن يحدِّدوا مواقع أغراض افتراضية ويجمعوها، مثل حيوانات وفواكه منتشرة عبر مدينة طوكيو، وعندما يكون أحد اللاعبين في نطاق ٤٠٠ متر من واحد من هذه الأغراض، كان يجري تنبيهه. كان الهدف من هذه اللعبة هو جمع مجموعة من الأغراض المتشابهة. ولأن لعبة موجي صدرت عام ٢٠٠٣، كانت تمثِّل ما سمَّاه جَاستِن هول (٢٠٠٢) «الجيل الثاني من ألعاب الأجهزة المحمولة المعتمدة على الموقع»؛ إذ كانت تعمل على الهواتف المحمولة المدعَّمة بخاصية الجي بي إس، وهو ما سمح بتتبُّع مواقع اللاعبين تتبُّعًا أوتوماتيكيًّا أكثر دقةً، هذا إلى جانب أنها أظهرت — على غرار لعبة «كان يو سي مي ناو؟» — مواقعَ اللاعبين على خريطةٍ ثنائيةِ الأبعاد للأجهزة المحمولة لمدينة طوكيو، كي يصبح فعليًّا في إمكان المستخدمين أن «يَرَوْا» المسافةَ المادية التي تفصلهم عن اللاعبين الآخرين في صورةِ تمثيلٍ بيانيٍّ على شاشة أجهزتهم المحمولة. كان هذا الابتكار مُتَضمَّنًا في لعبة بوتفايترز في أوروبا، ولعبة «إيليان ريفولت» في البرازيل (دي سوزا إي سيلفا، ٢٠٠٨)، ولاحقًا في لعبة «ذي شراود» في الولايات المتحدة. جديرٌ بالملاحظة أن كل هذه الألعاب طُوِّرَت على يد شركات ناشئة صغيرة. وبالرغم من أن هذه الألعاب كانت تجارية حقًّا ومتاحةً للجمهور العام، فإنها كانت ذات طبيعة تجريبية.
درس كريستيان ليكوب ويوريكو إنادا (٢٠٠٦) سلوكَ مستخدمي لعبة «موجي» في اليابان. ومثلما هي الحال مع لعبة «بوتفايترز»، وجدَا أن اللاعبين يغيِّرون كثيرًا من أنماط تنقُّلاتهم المعتادة خلال المدينة من أجل ممارسة اللعبة، فمثلًا: يمكن أن يركب بعض اللاعبين الحافلةَ العامة بدلًا من قطار الأنفاق أثناء رحلتهم اليومية من العمل وإليه في سبيل الحصول على إشارةِ هاتفٍ محمول خلال الرحلة. ويمكن أن يغيِّر آخَرون خطَّ سَيْرِهم إلى العمل من أجل اتباع دربٍ يشتمل على عددٍ أكبر من الأغراض الافتراضية. وأيضًا، قد يقوم آخرون برحلات خاصة أثناء ساعات المساء إلى بعض مناطق المدينة — التي ما كانوا ليذهبوا إليها لغرضٍ آخَر — من أجل العثور على أغراض افتراضية. بالإضافة إلى تغيير اللعبةِ طريقةَ تفاعُلِ اللاعبين مع المواقع، فإنها أثَّرَتْ أيضًا على طريقة إدراك اللاعبين حسيًّا للتواجُد المشترك للآخرين. إلا أن ذلك لم يكن تجربة جيدة لكل اللاعبين؛ إذ فسَّرَ البعض ذلك الدنوَّ اللحوح المستمر على الشاشة للاعبين الآخرين بأنه نوعٌ من الملاحقة (ليكوب وإنادا، ٢٠٠٩). عندما شعر اللاعبون أنهم لا يمكن أن يُترَكوا وشأنهم، فإن الشعور المريح بالتواجُد المشترك غطَّى عليه شعورُ قلقٍ بفقدان الخصوصية. توضِّح هذه الدراسة أنه في الأمكنة الرَّقْمِيَّة، الموازنةُ بين وجودِ الناس والمعلومات وغيابِهما هي السمة المميِّزة للتصميم الجيد.
(٢-١) التعلُّم الموقفي
في عام ٢٠٠٣، بدأ باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في تشكيلِ ألعابِ واقعٍ مُعزَّز من أجل دمج إمكانات استخدام الأمكنة الرَّقْمِيَّة مع بيئات التعلم. تُحَوِّل ألعابُ الواقع المُعزَّز الأجهزةَ المحمولة إلى شاشة تُستَعرَض من خلالها البيئاتُ المادية والواقعُ المعزَّز بالمعلومات. سعَتْ مجموعةُ البحث في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا إلى استخدام المشهد المادي لتعزيز نوع التعليم الذي يجري في حجرات الدراسة.
وهكذا، كانت ألعاب الواقع المُعزَّز قادرةً على إشراك الطلاب في عمليات محاكاة مُحدَّدة المكان، وترتبط بنطاق موضوع معين. كانت لعبة «إنفايرونمنتال ديتيكتيفز» (كلوبفر وسكواير وجنكنز، ٢٠٠٤) — التي طوَّرَها كيرت سكواير وإريك كلوبفر — واحدةً من أوائل ألعاب الواقع المُعزَّز التعليمية. سعى اللاعبون في هذه اللعبة إلى تحديد مكانِ مصدرِ تسرُّب كيميائي سامٍّ في مصدر مائي قريب؛ فاستخدموا أجهزتهم المحمولة من أجل فحص انتشار المواد السامة، وأخذ عينات من الماء، واستجواب شخصيات تخيُّلية للوصول لاستنتاجاتٍ عن ذلك التسرب الكيميائي. وبعد ظهور هذه اللعبة، طُوِّرَت ألعاب مماثلة، مثل لعبة «تشارلز ريفر سيتي» (برنامج تعليم المدرس بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وإديوكاشين أركاد، ٢٠٠٤)، ولعبة «ميستري آت ذي ميوزيام» (برنامج تعليم المدرِّس بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وذي إديوكاشين أركاد، ٢٠٠٣).
وهكذا، استخدمت «فريكونسي ١٥٥٠» الفضاءات المادية للمدينة المُعاصِرة لدفع اللاعبين إلى الاندماج في الماضي. كانت المواقع مليئةً بالمعلومات اللازمة لجعل قراءة الماضي ممكنةً للاعبين؛ فكانت تلك المواقع الغنية بالمعلومات هي سياق التعلم ومحتواه. كان أحد أهداف هذه اللعبة هو ربط خبرة التعلم بالفضاءات المادية. ولأن الطلاب يتواصلون مع المواقع المادية وبعضهم مع بعضٍ، من خلال تكنولوجيات الأجهزة المحمولة المُدعَّمة باﻟ «جي بي إس»، فإن الفكرة هي أن عملية التعلُّم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بسياقها.
(٣) نشر الإدراك المكاني
مع إصدار هاتف «آي فون» من الجيل الثالث و«درويد» في عام ٢٠٠٨، برز الإدراك المكاني في الواجهة، واشتمل بعض التطبيقات الأوَّلية التي يسَّرَتْ ذلك على خليط من تطبيقات التعليقات التوضيحية للأجهزة المحمولة والشبكات الاجتماعية المعتمدة على الموقع؛ فعلى سبيل المثال: سمح تطبيق «إفويكس» الذي ذكرناه في الفصل الثاني للمستخدمين أن يضيفوا أصدقاء بصفة «جيران». وسمحت هذه الوظيفة للمستخدمين أن يتشاركوا قصصًا مع أُناسٍ في شبكتهم الاجتماعية، وهو ما أضاف عنصرًا اجتماعيًّا للتعليقات التوضيحية. ولم توضِّح خريطةُ البؤر الساخنة على الهاتف معدلَ المقالات الصحفية الشعبية في منطقةٍ ما فحسب، ولكنها أيضًا حدَّدَتْ مواقعَ تحديثات الحالة التي نشرها «الجيران».
في الفترة نفسها تقريبًا، ظهرت تطبيقات أخرى لشبكات اجتماعية معتمدة على الموقع، مثل «لوبت»، و«ورل»، و«برايت كايت». توارثَتْ هذه التطبيقاتُ ذلك النوعَ من التفاعل المعتمد على الموقع من ألعاب الهاتف المحمول المعتمِدة على المواقع التجريبية، التي سبق ذِكْرها في هذا الفصل، مضيفةً إلى ذلك سمات التواصل الاجتماعي العادي: ينشر المستخدمون تحديثاتٍ وصورًا معتمدة على الموقع، ويستطيعون رؤيةَ منشوراتِ الأصدقاء مُدرَجةً تبعًا لدرجة القُرْب المكاني، على النقيض ممَّا يُسمَّى التسلسُل الزمني المعكوس، وهو النمط الشائع للمدونات والمنتديات النقاشية. ونتيجة هذا النشر هي نوع من السرد الذي يتطور حول الموقع المكاني.
على سبيل المثال: يستطيع مستخدمو تطبيق «ورل» أن ينشروا تحديثاتٍ وصورًا معتمدة على الموقع المكاني على واجهة خريطة، ويمكنهم أيضًا أن يَطَّلِعوا على منشورات أصدقائهم على خريطة. كذلك شجَّعَ تطبيق «ورل» مستخدِمِيه على إنشاء رواياتٍ حول مواقع معينة. («ما قصتك؟» كان واحدًا من شعاراتهم.) كانت الفكرة أن المستخدمين يمكنهم مشاركة أكثر من مجرد تحديثات موجزة مثل «أنا هنا»، بل يمكنهم جمع العديد من التحديثات الموجزة في رواية متصلة بالموقع. إن كتابة ملاحظة عن موقع المرء شيء (مثل: «غروبٌ جميلٌ في ماليبو هذا المساء»)، وعندما تكون الملاحظة المرتبطة بموقعٍ ما متاحةً للآخرين في ذاك الموقع ليصلوا إليها فذلك شيء آخَر. مجمل القول، صُمِّم هذا الارتباطُ الفعال بالمعلومات المعتمدة على الموقع المكاني للتأثير على طريقةِ تفكيرِ المستخدم في الفضاء الذي يكون موجودًا فيه حينما يترك تعليقًا، وعلى الطريقة التي يختبر بها المستخدِمُ الموقعَ المكاني عندما تضاف إليه رواية المستخدم الشخصية أو روايات الآخرين، وعلى الطريقة التي قد يستعمل بها المستخدم روايات الآخرين في تشكيل روابط شخصية. على الرغم من أن التأثير الأول يمثِّل صفةً مميِّزةً لكل الوسائط (حتى المطبوعة)، فإن التأثيرَيْن الأخيرَيْن موجودَان فقط في التطبيقات ذات الإدراك المكاني (سوتكو ودي سوزا إي سيلفا، تحت الطبع).
تَجمع الشبكات الاجتماعية المعتمدة على الموقع الإدراك المكاني بمواقع المستخدمين الآخرين مع إمكانية إلحاق معلومات بالأماكن. يستطيع المستخدمون رؤيةَ مواضع الآخرين على هواتفهم المحمولة والتواصل فيما بينهم، مثلما في لعبتَيْ «كان يو سي مي ناو؟» و«مُوجي»، ولكن دون عناصر اللعبة. كان تطبيق «لوبت» (٢٠٠٨) هو أول تطبيق لشبكة اجتماعية معتمدة على الموقع متاح تجاريًّا في الولايات المتحدة، إلا أنه بنهاية عام ٢٠٠٩، أصبح يوجد أكثر من مئتَيْ تطبيق (مورجان، ٢٠٠٩). امتلكت كل هذه التطبيقات صفتين مُميِّزتين: الأولى هي أنها استخدمت الإدراك المكاني للهاتف المحمول لعرض موقع المستخدم أوتوماتيكيًّا، مُستبعِدةً الحاجة إلى إعلان المستخدم ذاتيًّا عن مكانه، أما الثانية فكانت أنها امتلكَتِ القدرة على عرض مواقع المستخدمين آنيًّا على خريطة (دي سوزا إي سيلفا وفريث، ٢٠١٠). فعندما يفتح المستخدم تطبيقَ «لوبت»، كان موقعه يُحَدَّد باستخدام خاصية التتبُّع عبر اﻟ «جي بي إس»، وكان في مقدور المستخدم أن ينظر إلى خريطة ويرى إنْ كان أيٌّ من أصدقائه موجودًا في الجوار أم لا. وإذا سجَّلَ أحد الأصدقاء دخولَه عبر التطبيق لاحقًا، كانت تظهر علامةٌ على الخريطة تحدِّد موقعَه، وكان في استطاعة المستخدِم أن يتابع ما يفعله الأصدقاء عبر تحديثات الحالة متعددة الوسائط. ومكَّنَتْ تحديثاتُ الحالة تلك الناسَ من نشر صورٍ لموقعهم؛ متيحين لأصدقائهم أن «يروا» بيئتهم المادية المحيطة.
يتيح تطبيق «لوبت» أيضًا للناس أن يؤدوا دورًا نَشِطًا في تحديد مواقع أصدقائهم بإرسال تنبيهات بالتواجُد على مقربةٍ منهم؛ فمثلًا: لو أن صديقًا محددًا أصبح في نطاقِ مسافةٍ مادية معينة، فإن الهاتف يطلق تنبيهًا (تولت، ٢٠٠٨). وكمعظم الشبكات الاجتماعية المعتمدة على الموقع، أتاح «لوبت» لمستخدميه أن يضيفوا تعليقات على الفضاءات المادية على نحوٍ رقميٍّ؛ فعلى سبيل المثال: لو أن عضوًا لشبكة «لوبت» كان يبحث عن مطعم جيد في وسط المدينة، يمكنه أن يسجِّل دخوله في التطبيق ويرى إنْ كان أيٌّ من أصدقائه قد ترَكَ أيَّ تقويمات عن المطاعم في منطقته الحالية، ثم يمكنه أن يقرأ تلك التقويمات ويختار مطعمًا استنادًا إلى المعلومات الرَّقْمِيَّة المُرفَقة بالفضاءات المادية. تتيح الشبكاتُ الاجتماعية المعتمدة على الموقع للناس أن يتعاونوا وأن يستخدموا المعرفة المستندة إلى المجتمع المحلي لإحداث تغييرٍ محتملٍ في إدراك مكانٍ ما.
شجَّعَ كثير من تطبيقات الشبكات الاجتماعية المعتمدة على الموقع أيضًا مستخدِمِيه على مقابلة «أشخاص غرباء» في الفضاءات العامة، أُسوةً بتطبيق «لافجيتي» ومشروع «فاميليار سترينجر». أتاح تطبيق «لوبت ميكس» لمستخدميه أن يحددوا موقع المستخدمين القريبين الذين لا يعرفونهم. ووسَّعَ تطبيق «برايت كايت» هذه الوظيفة، فأتاح للمستخدم أن يرى موقعَ أيِّ مستخدم للتطبيق في نطاق مربع سكني (٢٠٠ متر)، أو في الحي (٢ كيلومتر)، أو في المنطقة (٤ كيلومترات)، أو في المدينة (١٠ كيلومترات)، أو في الإقليم (١٠٠ كيلومتر). أخَذَ تطبيق «سيتي سينس» فكرة «برايت كايت» خطوة أبعد بأنْ عرضَتْ واجهته مواضعَ مجموعات من الناس مُمَثَّلين في شكلِ بؤر ساخنة، ولكنها لم تعرض مواضعَ المستخدمين الفرديين؛ إذ عرضت واجهةُ التطبيق خرائطَ حرارية لتوضِّح التجمعات المكانية للمستخدمين.
على الرغم من أن أقدم الشبكات الاجتماعية المعتمدة على الموقع كانت مستوحاةً من التجارب الأولى للألعاب المعتمدة على الموقع، فإن تلك الشبكات في البداية لم تكن ألعابًا. ولكن بحلول عام ٢٠١٠، أضافت معظم الشبكات الاجتماعية القائمة على الموقع بعضَ عناصر اللعبة إلى استراتيجية التفاعلات داخلها. أُدرِجَت عناصرُ اللعبة في الشبكات الاجتماعية المعتمدة على الموقع لتعزيز الروابط بين المستخدِمين وإرساء إطارٍ للاتصال بالمواقع؛ فمثلًا: طرَحَ تطبيقُ «ورل» «شاراتٍ» و«مجموعات» لتكون أدواتٍ لتحفيز المشتركين، وأطلق تطبيق «لوبت» ما دعاه «نجمةَ لوبت» واصفًا إياها بأنها «لعبة جوائز للأجهزة المحمولة».
(٤) فضاءات جديدة وممارسات جديدة
لم تَعُدْ فضاءاتنا كما كانت عليه؛ فتطوُّر ممارسات رسم الخرائط، والقدرة المتزايدة على إلحاق معلومات الفضاءات المكانية، والاهتمام المتنامي بتحديد مواقع الناس والأشياء في الفضاءات المادية، كلها أمور تصنع الأمكنة الرَّقْمِيَّة. وبالرغم من أننا دائمًا كنا على إدراك بالمواقع، فإن الشعبية المتزايدة لأدوات رسم الخرائط ولتكنولوجيات الأجهزة المحمولة ذات الإدراك المكاني، تغيِّر الطرق التي نختبر بواسطتها المواقع، البعيدة منها والقريبة. ولأن الفضاءات المكانية هي بذاتها اجتماعية (لوفيفر، ٢٠٠١)، فإن إعادة تشكيل الفضاءات تعني بالتبعية إعادةَ هيكلة التفاعلات الاجتماعية التي تجري فيها.
أدرَكَ معظم الفنانين والباحثين والمطورين الأوائل الذين أسهموا في ابتكار المشروعات التي ذكرناها في هذا الفصل أن الموقع كان عاملًا حاسمًا في صياغة التفاعل الاجتماعي. ليس ذلك فحسب، ولكنْ تحدَّتْ هذه التجاربُ المبكرة أيضًا التصوُّرَ التقليدي القائل بأن اللقاءات المباشرة وجهًا لوجه هي الوسيلة الوحيدة لخلق تفاعلٍ اجتماعي «حقيقي». لا شك في أن الموقع المكاني له أهمية كبيرة، لكن مواقعنا المكانية في الوقت الحاضر مدمجة في روابط شبكية، والتفاعلاتُ الاجتماعية التي تحفِّزها تلك الروابط جزء من مواقعنا المكانية.
سعت كل المشروعات التي تناولناها في هذا الفصل إلى جلب أشكال المجتمعات الرَّقْمِيَّة التي طُوِّرَت في العوالم الافتراضية إلى الفضاءات المادية؛ ونتيجةً لذلك، شرعت تلك المشروعات في توعية الناس بأن التقارب المكاني لم يكن وحده الصفةَ المميزة للحضور المشترك؛ فمن خلال هذه الأدوات، يمكن للناس أن يصنعوا روابطَ مع أشخاصٍ آخرين ليسوا موجودين ماديًّا في المكان نفسه، وبالمثل يمكن أن يتعمَّق شعورُ الأُلفة مع هؤلاء الأشخاص ومع الفضاءات المتواجدين فيها. لو أن المرء يعرف شيئًا عن الشخص الذي بجانبه، حتى لو كان كلُّ ما يعرفه هو أنه يشاركه نفسَ الطريق إلى العمل، فإن ذلك يدفعه لأن يكون أكثر ميلًا لتكوين رابطٍ ما مع ذلك الشخص. وهكذا، لو أن في استطاعة المرء أن يصل إلى معلوماتٍ عن الآخرين الذين يتردَّدون كثيرًا على أماكن بعينها، فقد يكون في مقدوره أن يستنتج مميزاتِ أمكنةٍ محددة، وأن يشعر بميلٍ إلى زيارتها.
لا شك في أن الأشكالَ الأولى للشبكات الاجتماعية المعتمدة على الموقع، وألعابَ الأجهزة المحمولة المعتمدة على الموقع؛ كانت ملائمة للمساعدة على إنشاء ونشر التطبيقات المعتمدة على الموقع الحالية. ولكن أيضًا بمجرد أن تصبح الأمكنة الرَّقْمِيَّة حقيقةً بالنسبة إلى غالبية الناس في الفضاءات الحضرية — وليس فقط بالنسبة إلى مجموعةٍ مُختارةٍ من الفنانين والباحثين وخبراء التكنولوجيا — سيكون لهذا انعكاساتٌ بالغةُ الأثر على استيعابنا لمفاهيم الفضاءات الحضرية والخصوصية والمراقبة والمجتمع المحلي والعولمة. وسنتناول هذه المسائل فيما تبقَّى من الكتاب.