الخصوصية
تعزِّز الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة من سيطرة المرء على موضعه داخل الشبكة، ولكنها توفر أيضًا ظروفًا لأن يكون المرء تحت سيطرة الشبكة، وهما وجهان لا ينفصلان لعملة واحدة. وبينما نشعر براحة أكبر حيال انتشار الشبكات في حياتنا، نشعر بفقدان راحة أكبر حيال فقدان الاتصال بها؛ فمغادرةُ المنزل دون هاتف محمول، أو ركوب سيارة لا تحتوي على جهازَ «جي بي إس»، قد يثير مشاعرَ ضيقٍ لأنه يشير إلى انفصالٍ لحظيٍّ عن الشبكة. هذا هو ما سمَّاه مارك أندريفيتش (٢٠٠٧) «التطويق الرقمي»، والأمكنة الرَّقْمِيَّة هي التجسيد المادي لهذا التطويق.
إن ظهور الأمكنة الرَّقْمِيَّة يشير إلى تحوُّلٍ في طريقة فهمنا للويب: من شبكةٍ رقمية تعمل خارج القيود المادية للعالَم، إلى شبكةٍ توجد في فضاءات الحياة اليومية منظَّمة حول المواقع الفعلية. وقد ركَّزنا في الفصول السابقة تركيزًا كبيرًا على الفوائد الاجتماعية لهذا التحوُّل، ولكنَّ ثمة ثمنًا له أيضًا. بينما يتحوَّل الموقع الفعلي إلى مجموعة من البيانات الأساسية اللازمة لبناء الشبكات الرَّقْمِيَّة والمحافظة على بقائها، فإن التساؤلات المتعلقة بالتحكم في تلك البيانات وإمكانية النفاذ إليها تصبح محوريةً، وتحديدًا التساؤلات حول كيف أصبحت الخصوصيةُ والمراقبة والتحكُّم وإمكانية الوصول تشكِّل الفضاءات الحضرية.
إن الكشف عن معلومات الموقع الشخصي أمرٌ ضروري لكي تعمل التطبيقات ذات الإدراك المكاني، مثل تلك الموجودة في الخرائط والأجهزة المحمولة. وللاستفادة من بيانات الموقع، يجب أن يكون الناس على استعدادٍ لمشاركة هذه المعلومات. ومع ذلك، حتى بالنسبة إلى أولئك الذين يتمتَّعون بمزايا الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة، عادةً ما يوجد قلقٌ مصاحِب لهذا النوع من الكشف عن المعلومات الشخصية؛ فغالبًا ما يصاحب جعْلَ المعلومات الشخصية علنيةً أوهامٌ «أورويلية» تشاؤمية حول إمكانية الخضوع للمراقبة التامة، فمَن يعلم مَن قد يهتم بمكانك؟ لكن التصورات التقليدية للمراقبة من الأعلى للأدنى لم تَعُدْ كافيةً للتعامُل مع الأمكنة الرَّقْمِيَّة؛ لأن طريقة خضوع الناس للمراقبة وطريقة مراقبتهم للآخرين يتبعان اتجاهًا دائريًّا نوعًا ما. صحيح أن الكشف عن موقع المرء الشخصي يضعف سيطرته على استخدام بياناته، لكنه يطرح أيضًا إمكانيات السيطرة على البيانات لتقوية فعالية موقعه. بعبارة أخرى، تمكِّن التكنولوجياتُ ذات الإدراك المكاني المستخدمين من استبعاد الأشخاص والمعلومات التي ليست لها صلة مباشِرة بوضعهم الحالي؛ لذلك، في حين أن الخوف من التطفُّل الخارجي على الفضاء والمعلومات الشخصيَّيْن يهدِّد بالقضاء على السيطرة الشخصية في الفضاءات العامة، فإن زيادةَ القدرة على السيطرة الشخصية على الفضاء المادي من خلال تصفية المعلومات يفرض مشاكلَ أخرى مرتبطة بالإقصاء الاجتماعي (دي سوزا إي سيلفا وفريث، ٢٠١٠أ). ويقدِّم الإضفاء المتزايد للطابع الشخصي على الفضاء بفضل التكنولوجيات الجديدة، أنواعًا جديدة من الممارسات الإقصائية وتحولات في علاقات القوة من شأنها أن تتحدى طريقةَ الخبرة بالفضاءات، ومَن الذي يستطيع الوصول إلى تلك الخبرات.
هذه هي مفارَقةُ الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة؛ إنها علاقة شخصية بالموقع المادي تهدِّد سيطرةَ المرء على الفضاء المادي وتؤمِّنها في نفس الوقت. على الرغم من أن الحدود بين الفضاءات الشخصية والعامة تغيَّرَتْ باستمرارٍ على مرِّ التاريخ البشري، وعلى الرغم من أن تطوُّر كلِّ تكنولوجيا نقلٍ واتصالاتٍ جديدةٍ ساهَمَ في تحدِّي هذه الحدود الموجودة، فإن التكنولوجيات ذات الإدراك المكاني الحالية تتحدانا أن نشكِّك في الحدود التقليدية بين ما يُعتبَر عامًّا وما كان يُعتبَر خاصًّا، كما تحثُّنا أيضًا على إعادة النظر في كيفية فهمنا للمراقبة والسلطة في المجتمع. وعلى هذا النحو، فإننا نشهد انتهاكًا مُدرَكًا للخصوصية عن طريق الكشف العلني عن المعلومات الشخصية، وفي الوقت نفسه نشهد محاولةً ﻟ «خصخصة» الفضاءات العامة عبر السيطرة الشخصية على المعلومات التي يستطيع المرء الوصول إليها حول تلك الفضاءات.
تنبع مخاوفُ فقدان الخصوصية من القلق بشأن فقدان السيطرة على معلومات موقع الفرد الشخصية، وترتبط هذه المخاوفُ بالفهم التقليدي للمراقَبة بوصفها صورة رأسية من أعلى إلى أسفل من صور السلطة (المفروضة من قِبَل الحكومة والشركات وكيانات غير معروفة)، التي تتطفَّل على الفضاء الخاص للفرد. سنتولى في هذا الفصل تحليل هذه المخاوف في سياق الأمكنة الرَّقْمِيَّة، وسنتحدَّث عن طريقةٍ مختلفةٍ لفهم المراقبة والخصوصية. كما نتناول أيضًا طريقةَ تأثيرِ هذا الفهم الجديد على أنواع الفضاءات المذكورة في الفصلين الرابع والخامس. يتمكَّن المستخدمون من السيطرة على تدفُّق المعلومات في الفضاء المادي من خلال استخدام التكنولوجيات ذات الإدراك المكاني. وفي حين يؤدِّي هذا إلى ممارسات جديدة متعلقة بالفضاءات الحضرية، فإنه يمكن أن يؤدي أيضًا إلى ممارساتٍ إقصائية وخصخصةٍ لاحقة للفضاءات الحضرية. في نهاية المطاف، يتمحور الأمر برمته حول السيطرة؛ مَن يمكنه السيطرة على بيانات الموقع الشخصية، وكيف يمكننا التحكم في بيانات المواقع التي نتواجد فيها.
(١) الطبيعة العلنية لبيانات الموقع
يتحوَّل عالمنا كله إلى خرائط. ومبادراتٌ مثل «خرائط جوجل» و«جوجل ستريت فيو» تذكِّرنا بأن المراقبة في العالَمِ واسعةُ النطاق، وأن معظم المستهلكين قد وصلوا لقدرٍ معينٍ من الراحة حيال تلك المراقبة. على الرغم من ذلك، نالت «جوجل» قسطًا كافيًا من الدعاوى القضائية. منذ بداية استخدام «خرائط جوجل»، كانت للشركة سياسةٌ تُطبَّق للمساعدة في تسهيل إزالة صور الشخص أو صور ممتلكاته؛ لذلك عندما طلب كيفن بانكستون — المقيم في سان فرانسيسكو ومناصر قضايا الخصوصية في «مؤسسة الجبهة الإلكترونية» — أن تُزال صورته من زاوية الشارع، ردَّتْ «جوجل» بطلب اسمه وموقع الصورة ونسخة من رخصة قيادته. ثارَتْ ثائرة بانكستون لهذا الطلب، فقال متهكِّمًا: «على ما يبدو أنه عليك أن تقدِّم ما هو أكثر من ذلك. ربما يرغبون أيضًا في تقديم اسم عائلة والدتي قبل الزواج؟ وشهادة ميلاد؟ وعيِّنة بول؟» (بولسن، ٢٠٠٧). ونتيجةً لاحتجاجات بانكستون، غيَّرَتْ «جوجل» سياستها، مستبدلة بيانًا مُوَقَّعًا بدقة المعلومات بطلب رخصة القيادة. نتج فورًا عن التغيير في هذه السياسة زيادة كبيرة في طلبات جديدة من النوع نفسه. كان الناس غير راضين عمومًا إزاء كونهم جزءًا من سجلٍّ عامٍّ غير مفصَح عنه مباشَرةً. ولكن معظم التحديات القانونية مرَّ دون آثارٍ سلبية على الشركة؛ لأن قوانين الخصوصية في الولايات المتحدة لا تحمي من التصوير في الفضاءات العامة. وبما أن جميع صور «جوجل» تُلتقَط في الشوارع العامة، فإن الشركة، فعليًّا، لم تتجاوز حقوقَها القانونية. ومع ذلك، فقد تعطَّلت خطط توسع الشركة لدول أخرى بسبب قوانين الخصوصية الأكثر صرامةً؛ فمنعَتْ دول أوروبية عدة دخولَ «جوجل» شوارعها، في حين أصَرَّتْ كندا وأستراليا على طمس الوجوه ولوحات السيارات شرطًا للدخول.
كان هذا دافعًا آخَر حثَّ «جوجل» على إعادة النظر في ادِّعاءاتها بشأن حقوق الصور العامة. ولتهدئة المخاوف المتزايدة المتعلقة بالخصوصية، طوَّرَتْ «جوجل» تطبيقًا يطمس الوجوهَ ولوحات السيارات تلقائيًّا بحيث يصعب التعرف عليها. كان ردُّ الفعل تجاه هذه الميزة الجديدة إيجابيًّا، لكنها لم تنجح في درء جميع الدعاوى القضائية؛ لأنها لم تضع في الاعتبار كوْنَ تصويرِ الممتلكات خَرْقًا للخصوصية. في أبريل ٢٠٠٨، رفع زوجان من بيتسبيرج دعوى قضائية ضد «جوجل» بدعوى خرق الخصوصية والتعدِّي على ممتلكات الغير، مؤكِّدين أن خاصية «ستريت فيو» خفَّضَتْ قيمةَ منزلهما؛ إذ ادَّعَى آرون وكريستين بورينج (قضية «بورينج ضد جوجل»، ٢٠٠٩) أن «عنصرًا رئيسيًّا في قرار شراء المنزل كان الرغبة في الخصوصية»، وأن صور «جوجل» قوَّضَتْ سلامةَ تلك الخصوصية. وزعمَا أيضًا أنه بما أنهما يعيشان على جانب طريق خاصة، فإن مجرد القيادة في الشارع بسيارةٍ مزوَّدةٍ بكاميرات كان عملًا من أعمال التعدِّي على ممتلكات الغير. هذه القضيةُ مثيرةً للاهتمام لأنها تمثِّل أولَ واقعة لدعوى قضائية بشأن الخصوصية ضد «جوجل» تركِّز على الممتلكات. إلى أيِّ مدًى ينبغي أن تكون ممتلكاتُ المرء الشخصية محميةً من إضافتها إلى «سجلِّ جوجل الرسمي» للعالَم القابل للبحث فيه؟
وضعَتْ بلدة نورث أوكس بولاية مينيسوتا نفسها في طليعة هذه المعركة، فمنعت المدينة «جوجل» من أخْذِ صورٍ لخاصية «ستريت فيو»، مدَّعِيةً — على نحوٍ مماثل لآل بورينج — أن جميع طرق بلدتها خاصة، وأن «جوجل» لا تمتلك تصريحًا بتصويرها. كانت هذه الضاحية — التابعة لمدينة سانت بول، التي يسكنها نحو ٤٥٠٠ شخص — أولَ مدينة تتَّخِذ إجراءاتٍ ضدَّ جهود «جوجل»، بحجة أن الصور التي تُلتقَط من الشوارع الخاصة تُعَدُّ عملًا من أعمال التعدي على ممتلكات الغير، في حين أن الصور الملتقطة بالأقمار الاصطناعية ليست كذلك (أموث، ٢٠٠٨). وأرسلَتْ رسالةً في يناير ٢٠٠٨ تطلب فيها إزالةَ جميع الصور وتدميرها، وامتثلَتْ «جوجل» لهذا. بوضع المسائل القانونية جانبًا، تشير حالة نورث أوكس إلى أنَّ التقبُّل الاجتماعي لتعيين موقع الأفراد على الخريطة له حدودٌ. يعكس هذا الانزعاجُ لدى الأفراد — على الرغم من أن بعضًا منه انتهازي بالتأكيد — فقدانًا واضحًا للفعالية الفردية والسيطرة على الفضاءات الخاصة. بعبارة أخرى، ما كان يُنظَر إليه في السابق على أنه خاص (شوارع خاصة، صورة خاصة لشخصٍ ما، منزل شخصٍ ما)، يُصبِح علنيًّا عن طريق «جوجل». على مستوى كلي، ليس من الصعب أن ندرك فوائدَ جعْلِ الصور القريبة للعالَم قابلةً للبحث، ولكن على مستوى جزئي، من الضروري أن نجاهد للتعامل مع حقيقةِ أنَّ العالَم يتألف من الأفراد وبياناتهم الخاصة. يتساوى جعْلُ العالَمِ قابلًا للبحث مع تحديد مواقع المستخدِمين وهُوِيَّاتهم، وجعْلُ كلِّ شيء قابلًا للعثور عليه يَفْتَرِض مسبقًا أن الجميع يريدون أن يُعثَر عليهم.
يشير مثالُ «خرائط جوجل» إلى ظاهرةٍ أوسع نطاقًا. تثير إمكانيةُ كشف معلومات موقع الشخص مخاوفَ جديةً بشأن انتهاكِ خصوصية الشخص والمخاوف من المراقبة، خاصةً عندما يكون الشخص المُحدَّد موقعُه لا يملك سيطرةً واضحةً على مَن يصلون إلى معلومات موقعه. وتكون هذه المشكلات أكثر وضوحًا عندما يتعلَّق الأمر بالخدمات المعتمدة على الموقع (ناقشنا الكثير منها في الفصل الثاني). توفر الخدمات المعتمدة على الموقع معلوماتٍ محددةً عن الموقع لأيِّ شخصٍ لديه هاتفٌ محمول مزوَّد بخاصية «جي بي إس». يمكن أن تأتي هذه المعلوماتُ في شكلِ إعلانات، أو قسائم، أو تقويماتٍ لأحد المطاعم، أو مقالات من ويكيبيديا، أو معلومات عن أماكن وجود الخدمات المجاورة، مثل محطات البنزين أو المقاهي. وبينما لا تكشف هذه الخدمات بالضرورة مواقعَ مستخدِمِيها للأشخاص في المناطق المجاورة لهم، فإنه يجب على المستخدمين السماح لمزوِّد الخدمة بتحديدِ موقعهم لاستقبال المعلومات المحلية المطلوبة. وغالبًا ما يحدث تشارك لهذه المعلومات، دون علْمِ المستخدِم، مع الشركاء التجاريين، مثل الشركات الراعية ومطوري التطبيقات. والشبكاتُ الاجتماعية المعتمدة على الموقع — التي تمثِّل مجموعةً فرعيةً من الخدمات المعتمدة على الموقع — لا تنقل معلوماتِ موقعِ الشخص إلى مزوِّد الخدمة فحسب، ولكنْ تشارِك أيضًا هذه المواقع مع أعضاء شبكات المستخدِم الاجتماعية، على سبيل المثال: يستطيع مستخدِمُ شبكةِ «لوبت» مشارَكةَ موقعه مع أصدقاء معروفين في قائمة «الأصدقاء»، أو مع أيِّ مستخدِمٍ ﻟ «لوبت» في المنطقة المحيطة به إذا كان يستخدم خاصية «لوبت ميكس».
غالبًا ما يُعتبر الكشف عن مكانِ الشخص سواء لمقدِّمي الخدمة أو للأقران على أنه انتهاكٌ للخصوصية؛ في هذه الحالة، خصوصية الموقع. ثمة نوعان من المخاوف الرئيسية المتعلقة بفقدان خصوصية الموقع: الخوف من المراقبة من الأعلى إلى الأدنى (غالبًا من الحكومة وشركات الدعاية)، والخوف من المراقبة المتوازية؛ أيِ الكشف عن موقع الشخص لأشخاصٍ آخرين (دي سوزا إي سيلفا وفريث، ٢٠١٠ب). وإحدى المخاوف الأساسية المتعلقة بالخصوصية عند استخدام أي نوعٍ من الخدمات المعتمدة على الموقع هي ما إذا كانت معلوماتُ الموقع ستُقدَّم إلى الحكومة أم لا. وثمة خوفٌ آخَر، هو أن يشارك مقدِّمو الخدمات هذه المعلومات مع المُعلِنين.
ولكن غالبًا لا يكون واضحًا للمستهلكين ما يفعله مطوِّرو الخدمات المعتمدة على الموقع بمعلومات مواقع المستخدمين. إذا قُدِّمت معلومات الموقع للمعلنين، كما يوضِّح المثال السابق، فإن المستهلكين في أغلب الأحيان ليس لديهم خيارٌ سوى تلقِّي الإعلانات، كما أنهم لا يستطيعون عمومًا اختيارَ نوع الإعلانات التي يتلقَّوْنها، وليس لديهم أدنى فكرةٍ عن الشركات التي تحصل على تحديثات مواقعهم. في هذه المرحلة، لا تكون سياساتُ الخصوصية للشبكات الاجتماعية المعتمدة على الموقع واضحةً بالنسبة إلى معظم المستهلكين. تُلزم لجنة الاتصالات الفيدرالية مؤسسات الخدمات بالحصول على موافقة المستخدمين قبل استهدافهم بإعلانٍ عبر الأجهزة المحمولة، ولكنْ تكون هذه الموافَقةُ في كثيرٍ من الأحيان مدفونةً في التفاصيل الدقيقة لاتفاقيات المستخدم. مع ذلك، يكون العديد من المستخدمين على استعدادٍ لتحمُّل سياسات الخصوصية تلك إذا رأوا قيمةً في نوع المعلومات التي يحصلون عليها.
إذًا، حتى لو كان الشخص يعلم بالفعل مَن يُحتمل أن يصل إلى معلومات موقعه (في هذه الحالة، الحكومة)، فإن جهله بما ستفعله الحكومة بهذه المعلومات مصدرُ قلقٍ كبير. وفي هذا السياق، تستحق خصوصية المكان المعامَلةَ نفسها مثل القضايا القانونية الأخرى. وفقًا لمقال مارك في «إي ويك»: «من الواضح أن معلومات موقعك هي المحتوى لتواصُلٍ خاصٍّ بينك وبين أصدقائك، وأنها تستحق الحماية القانونية ذاتها المفروضة ضد التنصُّت على محتوى مكالماتك الهاتفية أو رسائلك الإلكترونية» (مارك، ٢٠٠٩).
إن التخوُّف من أن تتبع الحكومة (أو الشركات الكبرى في بعض الحالات) كلَّ حركاتك، غالبًا ما يرافقه شكلٌ آخر متصوَّر من أشكال انتهاك الخصوصية. المراقبةُ الموازية أو «تتبُّع الأشخاص» (شبكة «سي بي سي نيوز»، ٢٠٠٩) هي نوع من السماح للآخرين — عمومًا، أولئك الذين تعرفهم — بمعرفة مكانك، وعادةً ما تكون الشبكاتُ الاجتماعية المعتمِدة على الموقع والألعاب هدفًا لمثل هذا التخوُّف. وترتبط هذه الممارساتُ مع فقدان السيطرة على الفضاء الخاص. على سبيل المثال: كتبت إيمي إندو في مقال على موقع «نيوزداي» تقول: «بفضل خاصية «جوجل لاتيتيود» الرائعة/المخيفة الجديدة، أصبحَتِ الملاحقة أسهلَ من أيِّ وقتٍ مضى» (إندو، ٢٠٠٩). يرتبط «الخوف من التعرُّض للتتبُّع» — كما يُوصَف الإدراك المكاني عمومًا (ماسون، ٢٠٠٩ في صحيفة «ديلي تليجراف») — في كثيرٍ من الأحيان بالتنازل عن معلومات الموقعٍ دون عِلْم بذلك، على سبيل المثال: حذَّرَتْ صحيفة اﻟ «تايمز» من أنك «ربما تستخدم هاتفَك للعثور على الأصدقاء والمطاعم، ولكنَّ شخصًا آخَر ربما يستخدم هاتفَك للعثور عليك ومعرفة معلومات عنك» (ماركوف، ٢٠٠٩). وفي هذه الحالة، يكون «الشخص الآخر» عمومًا شخصًا نعرفه، كما يحذِّرنا ديفيد روان (٢٠٠٩) في مقاله في صحيفة «نيويورك تايمز»: «دَعْنا نتخيَّل فحسب أن شريكًا غيورًا تمكَّنَ من الدخول إلى هاتفك المتروك، وفعَّل خاصية «لاتيتيود» دون علمك.» تشير مصادر الأخبار المتعلقة بهذه المخاوف إلى الحالات التي يفقد الناسُ فيها السيطرةَ على معلومات مواقعهم. ومع ذلك فهُمْ لم يتخلَّوْا عن السيطرة لصالح كيانات كبيرة، ولكنهم تخلَّوْا عنها فقط لصالح شبكتهم الاجتماعية. عندما يستطيع أشخاصٌ آخَرون السيطرةَ على معلوماتِ موقعِ الفرد، فإنهم ينتزعون سيطرةَ الفرد على فضائه الشخصي.
نتيجةً للمناقشات الشائعة حول الخدمات المعتمدة على الموقع، طوَّرَ مصمِّمو البرامج إجراءاتٍ وقائيةً للمستخدمين للتحكم في إعدادات الخصوصية لديهم، مثل القدرة على تحديد أي من الأصدقاء يُسمَح بوجودهم في شبكتهم، أو القدرة على إخفاء مواقعهم الجغرافية عن مستخدِمين محدَّدين (دي سوزا إي سيلفا وفريث، ٢٠١٠أ). حاليًّا، يُصمَّم معظمُ التطبيقات المعتمدة على الموقع بثلاث أدوات رئيسية من أجل السماح للمستخدمين بالتحكم في إعدادات الخصوصية (أران، ٢٠٠٩)؛ أولًا: أداة الاشتراك التي تطلب من المستخدِمين تحميلَ التطبيق على الهواتف المحمولة، وقبول طلب البرنامج صراحةً باستخدام الموقع الجغرافي للمستخدِم. ثانيًا: أداة تعديل الدقة التي تسمح للمستخدِمين بضبط مدى الدقة التي سيتم عرض موقعهم بها للأصدقاء، أو خيار تحديث موقعهم يدويًّا (وفي هذه الحالة يمكن أن يكذب المستخدم حيال موقعه الحقيقي). وثالثًا: أداة التواجُد خارج نطاق التغطية، وهي القدرة على منع الإدراك المكاني في حالة فقدان الهاتف المحمول أو سرقته.
مع ذلك، لا يزال شعورُ المستخدِمين بالراحة إزاء أمْنِ معلوماتهم، أو قدرتِهم على منع وصول مستخدمين غير معروفين إلى معلومات مواقعهم، متقلِّبًا للغاية. يسبب هذه التقلُّباتِ على الأرجح افتقارُ إعدادات الخصوصية في العديد من هذه التطبيقات إلى الوضوح؛ فغالبًا ما يصعب فهم ما تعنيه هذه الإعدادات، أو حتى ما إذا كانت قابلةً للتعديل أم لا. على سبيل المثال: الإعداد الافتراضي في «فورسكوير» هو مشاركة معلومات الموقع مع جميع أعضاء شبكة المستخدِم. يمكن للمستخدم إغلاق هذه الخاصية يدويًّا في كل مرة يسجِّل فيها تواجده في موقعٍ ما، ولكن لا توجد وسيلةٌ لاختيار بعض أعضاء الشبكةٍ ومنْعِ آخَرين. بالإضافة إلى ذلك، عند تسجيل التواجُد في مكانٍ ما عبر «فورسكوير»، يكون بإمكان المستخدمين تلقائيًّا أن يروا مستخدِمِي «فورسكوير» الآخرين في الجوار، حتى لو لم يكونوا مضافين إلى شبكتهم.
كما اكتشفت دي سوزا إي سيلفا وفريث (٢٠١٠ب)، غالبًا ما يوصف الكشف عن معلومات الموقعٍ في الشبكات الاجتماعية المعتمدة على الموقع بأنه مخيف ومرعب ومرتبط بالمراقبة غير المرغوب فيها، وانتهاك للخصوصية، خاصةً عندما لا يتمتع المستخدمون بأي تحكم في تحديد مَن الذي يستطيع الوصول إليها. وذُكرت مخاوف مماثلة في سياق ألعاب الأجهزة المحمولة المعتمدة على الموقع؛ ففي دراستهما للعبة «موجي»، يصف ليكوب وإينادا (٢٠٠٩) حالةً يُنظَر إليها على أنها مطارَدة للاعبة كانت تستطيع رؤية لاعب قريب مجهول على شاشة هاتفها، وعلى الرغم من الطلبات المتكررة من اللاعبة، لم يكشف اللاعبُ المجهول عن هويته؛ ممَّا أدَّى إلى مشاعر خوفٍ من أن المطاردة الرَّقْمِيَّة قد تنتقل إلى الفضاء المادي. يوضِّح هذا المثالُ أن الإدراك المكاني قد يؤدِّي إلى تفاوت في القوة. وعلى نحوٍ مشابه، ذكَرَ ليكوب وإينادا (٢٠٠٦) حالاتٍ يرى فيها كلا اللاعبَيْن أحدهما الآخَر على شاشة الهاتف، ولكن يدَّعِي أحدهما فقط أنه يستطيع أنْ يرى الآخَر في فضاء المدينة المادي؛ ممَّا يؤدِّي إلى شعورٍ بعدم الارتياح وخوفٍ تقريبًا من جانب اللاعب الواقع تحت خطر فقدان القدرة على إخفاء هويته. كما أشارَا أيضًا إلى أن جوهر تجربة ألعاب الأجهزة المحمولة المعتمدة على الموقع — التي يصفونها بأنها ثقافة تقارُب — هو افتراض أن موقع المرء عامٌّ؛ لذلك هذه السلوكيات (التي تعامِل الموقعَ على أنه خاص) تسير في الواقع عكس توقعات المستخدمين إزاء الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة. ومع ذلك، ثمة أمرٌ متضمَّن في افتراضاتِ لاعبي «موجي» ومخاوفِهم، هو التغيُّر في طبيعة الطريقة التي يدرك بها الأفراد بعضهم بعضًا ويتعارفون بها في فضاء المدينة. مع انتشار التكنولوجيا ذات الإدراك المكاني، تصبح مواقعُ الأشخاص عامةً ومتاحةً للجميع. يشير ليكوب وإينادا إلى أن الاستخدام الواسع للتطبيقات المعتمدة على الموقع سوف يجبرنا على طرح تساؤلات إزاء طريقة إدارة التفاعلات الاجتماعية في الفضاءات العامة؛ ممَّا يؤدي إلى «تطويرِ نظامِ تفاعُلٍ يعتمد على الطابع العام للمواقع» (صفحة ١٢٣). ولكنْ إذا كانت معلومات الموقع عامةً، فكيف يمكن للمرء الحفاظ على أي حقوق خصوصية فيما يتعلَّق بالموقع؟ ربما تدفعنا الأمكنة الرَّقْمِيَّة — عن طريق تحريك حدودِ ما هو خاص وما هو عام — نحوَ إعادةِ النظر في كيفية فهمنا للخصوصية والمراقبة في المجتمع المعاصر.
(١-١) إعادة النظر في الخصوصية والمراقبة
على الرغم من أن المناقشة المتعمِّقة للخصوصية والمراقبة تقع خارج نطاق هذا الكتاب، فإن فهم طريقة تغيُّر هذه المصطلحات بمرور الوقت قد يساعدنا على تحليل لماذا وكيف تتحدَّى التكنولوجيا ذات الإدراك المكاني فَهْمَنا للخصوصية والمراقبة؛ ومن ثم فهمنا للفضاءات العامة والخاصة.
يصف الباحث القانوني دانيال سولوف في كتابه «فهم الخصوصية» (٢٠٠٨) المفاهيمَ المختلفة للخصوصية على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين. وينتقد سولوف هذه المفاهيم بأنها إما محدودةٌ جدًّا أو عامةٌ للغاية، ويقترح أنه بدلًا من ذلك ينبغي علينا فهم الخصوصية وفقًا لحالاتٍ سياقيةٍ محددة. تغيَّرَتْ مفاهيم الخصوصية على مر السنين، ودائمًا ما كان ثمة خلافٌ كبير حول معناها. كان متصوَّرًا في المجتمع الأمريكي أن الخصوصية هي من حيث الأصل «الحق في أن تكون بمفردك»، كما ورد في مقالة صامويل وارن ولويس برانديز الشهيرة بعنوان «الحق في الخصوصية» (وارن وبرانديز، ١٨٩٠). ومع ذلك، تم تناول فكرة الخصوصية في كثير من الأحيان بصورة ترتبط بأشكال السلطة: كسلطة المرء في الحد من إمكانية الوصول إليه، وسلطة المرء في إخفاء المعلومات المتعلقة به، وسلطة المرء في التحكم في معلوماته الشخصية. وترتبط معظم مشكلات الخصوصية التي تنشأ داخل الأمكنة الرَّقْمِيَّة بالخوف من فقدان السيطرة والسلطة على معلومات الفرد (المكانية)، التي جرت العادة على اعتبارها خاصة.
مثلما ترتبط الخصوصية بالسلطة، كذلك ترتبط المراقبة بها. كثيرًا ما يُشار إلى رواية جورج أورويل بعنوان «١٩٨٤» (٢٠٠٢، نشرت أول مرة عام ١٩٤٩) في المناقشات بشأن السلطة والمراقبة. في روايته، ثمة فردٌ قوي للغاية (الأخ الأكبر) يراقب على نحوٍ انتهاكي غيرَه من المواطنين من خلال تقنياتِ مراقبةٍ غير واضحة، ويعيش الناسُ في خوفٍ دائم من عينِ «الأخ الأكبر» التي ترى كلَّ شيء. ولكنَّ الصور المجازية للمراقبة من الأعلى إلى الأدنى لم تَعُدْ مفيدةً من أجل فهم مشكلات الخصوصية والمراقبة في سياق قواعد البيانات الرَّقْمِيَّة (سولوف، ٢٠٠٤). لا بد من إعادة النظر في الطرق التقليدية لفهم الخصوصية (بوصفها الحق في البقاء وحيدًا، أو السيطرة على المعلومات الشخصية) والمراقبة (بوصفها شكلًا من السلطة من الأعلى إلى الأدنى) في سياق الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة.
يشير سولوف (٢٠٠٤) إلى أن هذه الصور المجازية مفيدة للتعامل مع عددٍ من مشكلات الخصوصية، لكنها تعاني أوجهَ قصورٍ شديدة عندما يتعلَّق الأمرُ بمشكلة قاعدة البيانات. «وجه القصور الأهم في صورة الأخ الأكبر المجازية هي أنها تُخفق في التركيز على الشكل المناسب من السلطة» (سولوف، ٢٠٠٤، صفحة ٣٤). فضمن منطق قاعدة البيانات الذي تناوله سولوف، تُجمَّع المعلومات الشخصية باستخدام الأجهزة، وليس عن طريق شخصٍ ما يمكنه مشاهدةُ كلِّ تحركات شخصٍ آخر. والمعلومات الشخصية المجمَّعة عمومًا ليست شيئًا قد يعتبره المرء «شخصيًّا» (على سبيل المثال: الاسم، والعِرْق، والحالة الاجتماعية)؛ ومن ثم، لا يُنظَر إليها على أنها تمثِّل تهديدًا. مع ذلك، تظهر المشكلة الرئيسية عندما تُجمَع هذه المعلومات وتُستخدَم لبناء ما يسميه سولوف «الهويات الرَّقْمِيَّة» التي تستخدمها الشركاتُ للتنبؤ بالأنماط السلوكية والاستهلاكية. وعمومًا، لا يكون للمستخدِمين أي سيطرة على أوجه استخدام معلوماتهم الشخصية بمجرد جمعها.
يُعَدُّ التفكيرُ في شكلٍ لا مركزيٍّ للسلطة أيضًا مفيدًا لفهم الخصوصية والمراقبة في الأمكنة الرَّقْمِيَّة. ويسمح الابتعادُ عن الأفكار التقليدية حيالَ المراقبة من الأعلى إلى الأدنى بإعادة النظر في الخصوصية المكانية؛ فطريقةُ استخدام المعلومات هي ما يهم، وليس فقط قدرتنا على الحفاظ على سرِّيَّتِها؛ ومن ثَمَّ فإن كشف المرء ببساطةٍ عن مكانه ليس مشكلةً «في حد ذاته»، ولكنه يصبح مشكلةً عندما لا يكون للمستخدمين أيُّ سيطرةٍ على مَن يصل إلى هذه المعلومات وما يُفعَل بها. في كثيرٍ من الأحيان، عندما تُجمَع معلومات الموقع من خلال تطبيقاتٍ مثل «سيتي سينس»، تُستخدَم للتنبُّؤ بسلوك الناس في المدينة. وعلى الرغم من أن هذه الممارسة ليسَتْ ضارةً للفرد على نحوٍ واضح، فإنه يمكن استخدامها لتقديم إعلانات مرتبطة بالموقع أو لإنشاء ملفات تعريفية لمناطق معينة من المدينة يمكن أن تؤدِّي إلى ممارسات إقصائية.
لذلك، بينما تقدِّم التطبيقات المزوَّدة بخاصية الإدراك المكاني عادةً استخدامًا واضحًا جدًّا لمعلومات الموقع، فإنها تثير قلقًا بسبب قدرتها المطلقة على تحديد موقع المستخدم؛ فشخصٌ ما أو شيءٌ ما يعرف بالضبط أين تكون في أي وقت معين. وربما سوف يستمر نمو هذه المخاوف المتعلقة بالخصوصية. ولكن على الأرجح ستَحِيد مفرداتُ نقاشِ الخصوصية كثيرًا عن إطارها الحالي الذي يقضي بأن التنبؤ، بما يشكِّل انتهاكًا وما يلبِّي متطلبات المستهلكين، أصبح مستحيلًا الآن. لا يقتصر الأمر على أن التكنولوجيا ذات الإدراك المكاني تطرح تساؤلات حيال الخصوصية عن طريق جعل الموقع أمرًا عامًّا، ولكنها أيضًا تعيد توجيهَ الفضاءات العامة من خلال السماح للمستخدمين بخصخصتها.
(٢) خصخصة الفضاءات العامة
الصحافة الشعبية مُولَعة بتحذيرنا من «فقدان الخصوصية» الوشيك بسبب استخدام التكنولوجيا ذات الإدراك المكاني، ولكن نادرًا ما تعترف وسائلُ الإعلام بأن التمييز بين الخاص والعام قائمٌ على الإطار الاجتماعي؛ ومن ثم فإنه متفاوت ومتغير باستمرار. يمكن تتبع تاريخ الفصل بين العام والخاص حتى عصر الإغريق على الأقل. في المجتمع الإغريقي، كان العام هو مكان ممارسة السياسة، مثل الساحة العامة «أجورا»، حيث «يستطيع الجميع رؤية كل شيء وسماعه» (آرنت، ١٩٥٨، صفحة ٥٠). من ناحيةٍ أخرى، كان الخاص هو المكان المملوك ومكان الأسرة. كانت الفضاءات الخاصة حينئذ فضاءات مغلقةً معزولةً، منفصلة عن الفضاءات العامة المفتوحة. ولكنْ وفقًا لآرنت، لم يعد التمييزُ بين العام والخاص بهذا الوضوح. عندما انتشرَتْ نُظُمُ القرن الثامن عشر الاقتصادية، استولَتِ الأمورُ التي كانت خاصة في السابق — مثل ضرورات «الحياة، والعمل، والتناسل» — على المجال العام، محوِّلة إياه إلى «مجالٍ يُرضِي احتياجاتنا المادية» (دينتريف، ١٩٩٤، صفحة ٥٨). تشير آرنت إلى أنه في حقبة الحداثة، اندرج العام والخاص تحت «الاجتماعي». وعلى مر التاريخ، نشهد تغيُّرًا مستمرًّا وإعادة تفاوُض حول الحدود الاجتماعية بين الخاص والعام.
لأن التكنولوجيا تُشكِّل المجتمعَ أيضًا وتتشكَّل وتتأثَّر به (كاستيلز، ٢٠٠٠)، ساهم تطور تكنولوجيا النقل والاتصالات في التغير المستمر للحدود بين العام والخاص، على سبيل المثال: أشار جانت وكيسلر (٢٠٠٢) إلى أنه مع انتشار النقل بالسكك الحديدية في منتصف القرن التاسع عشر، زاد الفصل بين العمل (العام) والحياة الشخصية (الخاص) وضوحًا عندما بدأ الناس في الذهاب إلى العمل بالقطار. في حين ساهمَتْ تكنولوجيا النقل في خلق مزيدٍ من الحدود الواضحة بين العام والخاص، أدخلَتْ تكنولوجيا التواصل — مثل الهاتف والتلغراف والتليفزيون — العام إلى الفضاء الخاص للمنزل (بولتانسكي، ١٩٩٩؛ مورس، ٢٠٠٤).
ربما يظل استخدامُ الهاتف المحمول في الفضاءات العامة مزعجًا ومشتِّتًا، ولكن كما ذكرنا في الفصل الرابع، يُغيِّر الناسُ ممارساتهم أو ردود أفعالهم حيال ممارسات الآخرين من أجل التكيف على نحوٍ أفضل مع هذا الواقع الجديد؛ فثمة احتمالية كبيرة أن يوقف الأشخاص ما يقومون به من أجل الدخول في محادثة هاتفية، وفي الوقت نفسه، أصبحوا أكثر اعتيادًا على أولئك الذين لا يفعلون ذلك. وبطبيعة الحال، استخدام التكنولوجيا ذات الإدراك المكاني يخضع لفترةٍ انتقاليةٍ وقَبولٍ مماثلَيْن. والأكثر وضوحًا في هذا الصدد هو طريقة إسهام هذه التكنولوجيات في إعادة التفاوض بشأن الحدود الفاصلة بين العام والخاص.
يظهر هذا جليًّا فيما يتعلَّق بالسيطرة على الفضاء الشخصي. جرت العادة على أن الفضاء الخاص للمنزل يمثِّل فضاءً شخصيًّا خاضعًا للسيطرة، على العكس تمامًا من الفضاءات العامة «غير الخاضعة للسيطرة»، ولكن الأمكنة الرَّقْمِيَّة تتحدَّى هذا. يمكن للمستخدمين ممارسة المزيد من السيطرة على هذه الفضاءات العامة بتحميل المعلومات المرتبطة بالمكان والوصول إليها. كما أشار إريك جوردون (٢٠٠٩)، في الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة، «لم يَعد الفضاء الخاص يُعرَف فقط باعتباره سيطرةً على المجال الجغرافي، إنما سيطرة على الوصول إلى البيانات وإنتاجها ضمن تدفقات مرنة للمعلومات» (صفحة ٢٦). لذلك، بعيدًا عن التحدي التقليدي لانتهاك المجال العام للمجال الخاص (تحويل معلومات الموقع الشخصي إلى بيانات عامة)، تُفاقِم المكانيةُ الرَّقْمِيَّة مشكلةَ انتهاك الخاص للعام (قدرة المستخدم على تجميع بيانات الموقع وفقًا لاحتياجاته الحالية والمحددة).
(٢-١) الآثار المترتبة على السيطرة والإقصاء
حينما لا يثق المستخدمون بسيطرتهم على إعدادات الخصوصية، فإنهم يخافون من فقدان الخصوصية. مع ذلك، حينما يشعر المستخدمون بأنهم مسيطرون على معلوماتهم الشخصية، ويشعرون بقدرتهم على استخدامها، فإنهم يسعدون باتساع نطاق التعريفات التقليدية للخصوصية. الواقع أن منْح معلوماتِ الموقع قد يكون مقبولًا، ما دام المستخدمون مسيطرين وعلى علمٍ بما ينطوي عليه ذلك. تسمح إعدادات الخصوصية في «جوجل لاتيتيود» للمستخدمين بالكذب بشأن مواقعهم بإدخالها يدويًّا. إن امتلاك الشخص القدرةَ على عرضِ موضعه على خريطةٍ في مكانٍ وهميٍّ يمنح المستخدمين نظريًّا السيطرةَ التامة على محيطهم؛ لذلك، على الرغم من أن المفاهيم التقليدية للخصوصية — «الحق في أن تكون بمفردك» — لا تزال تؤثِّر في كيفية رؤية الناس هذه الخدمات، فإن القدرة على السيطرة على الفضاء الشخصي في كثيرٍ من الأحيان تفوق المخاوفَ التقليدية المتعلقة بالخصوصية.
مع ذلك، تصنع كل التكنولوجيات المحمولة المذكورة سابقًا إطارًا لتفاعُل المستخدمين مع الفضاءات العامة من خلال تقديم إحالات خارجية، على سبيل المثال: ليس بالضرورة أن يكون موضوع عن المكان الذي يُقرَأ فيه، وعادة ما يأتي الصوت في محادثةٍ هاتفيةٍ عبر الهاتف المحمول من أي مكان آخَر، وتُحمَّل الأغاني على «آي بود» على نحوٍ مستقل عن الموقع. وعلى العكس من ذلك، تستقي التكنولوجيا ذات الإدراك المكاني المعلومات من البيئة المادية المحيطة بها، على سبيل المثال: يستطيع المستخدم الذي يحمل هاتفًا محمولًا مزودًا بخاصية «جي بي إس» في منطقة تايمز سكوير ويفتح تطبيق «ويكي مي» أن يقرأ مقالات «ويكيبيديا» حول تايمز سكوير. وبالمثل، إذا قرَّرَ أن يكتب تغريدة على «تويتر» حول تايمز سكوير، فسوف تُشفَّر هذه المعلومات بإحداثيات خط الطول والعرض لذلك المكان. والإعلانات المعتمدة على الموقع تُرسَل للمستخدمين اعتمادًا على موقعهم في الفضاء المادي. وإلى جانب الوصول إلى معلوماتِ مكانٍ محدَّد في صورة مقالات وتعليقات حول مطعم قريب، وقسائم، ومواقع محطات الوقود والمطاعم القريبة؛ تساعد الشبكات الاجتماعية المعتمدة على الموقع المستخدمين في العثور على أشخاصٍ آخَرين.
أحد الآثار الجانبية الواضحة والمؤسفة لاستخدام هذه التطبيقات هو احتمال حدوث نوع مختلف من الفجوة الاجتماعية بين أولئك القادرين على الوصول إلى هذه التكنولوجيا، وأولئك الذين لا يستطيعون ذلك. لم يَعُدِ الموقعُ فحسب أحدَ محددات الوضع الاجتماعي أو علاماته، لكن الإدراك المكاني أصبح كذلك بدوره، فاستخدام التكنولوجيا ذات الإدراك المكاني يمكن أن يُقصي أولئك الذين لا يستخدمونها، على سبيل المثال: إذا كان شخصٌ ما راكبًا على متن حافلة ويفتح لعبة «فورسكوير»، فسيكون قادرًا على اللعب والتفاعل مع الركاب الآخَرين الذين يمتلكون لعبة «فورسكوير» على هواتفهم. كما قد يتعرَّف شخصيًّا إلى هؤلاء الأشخاص أيضًا؛ لأن لديهم بعض الأشياء المشتركة (فجميعهم يحبون الألعابَ، ويمتلكون هواتف ذكية، ويركبون الحافلة نفسها). ولكن الوسيط المحمول قد يجعله في الوقت ذاته يولي اهتمامًا لمستخدمي «فورسكوير» الآخَرين القريبين منه، ويتجاهل الركابَ الذين لا يملكون التطبيق، وهذا يختلف عن الأيام الأولى للهواتف المحمولة، عندما كانت هذه أجهزة تُلَام على فصلِ الناس عن محيطهم. عادةً ما تفعل التكنولوجيا ذات الإدراك المكاني العكسَ تمامًا؛ فهي تجذب انتباهَ الأشخاص إلى الفضاء المحيط بهم. ومع ذلك، فالجانب السلبي هنا هو أنها يمكن أن تسبِّب تفاوتاتٍ بين الأفراد في هذا الفضاء. لذلك، على الرغم من أن هذه التكنولوجيات تزيد من إمكانية الاتصال والتنسيق بين الأشخاص الذين يمتلكونها، فإنها قد تقلِّل من التواصل مع أولئك الذين لا يملكونها.
يمكن أن تتعرَّض الفضاءات «للإفراط في التصفية»، فيستطيع المستخدمون اختيارَ مقابلةِ الأشخاص أنفسهم والتعرُّض للأشياء ذاتها، تمامًا كما يميلون لذلك على الإنترنت (سنشتاين، ٢٠٠٦). تشير باحثة الاتصال لي همفريز (٢٠٠٧) في دراستها التجريبية للشبكة الاجتماعية للأجهزة المحمولة «دودجبول» إلى أن مستخدميها لا يقابلون بالضرورة مزيدًا من الأشخاص، ولكن بدلًا من ذلك يتسكعون في أماكن مختلفة مع الأشخاص أنفسهم. واكتشفت همفريز أيضًا أن الأشخاص يستخدمون «دودجبول» للقاء أصدقائهم الحاليين في المدينة، وبمقابلة هؤلاء الأصدقاء لا يتواصلون بالضرورة مع عامة الناس، «وهذا يؤدي إلى نوع من التقسيم الاجتماعي» (صفحة ٣٥٦). وأكَّدَتْ أنه حتى عندما يقوم المستخدمون بالفعل «بالتعرف إلى أشخاص جدد من خلال «دودجبول»، يكون هؤلاء الأشخاص مشابهين لهم ديموجرافيًّا إلى حدٍّ ما» (صفحة ٣٥٦). بعبارة أخرى، ربما يختفي تنوُّع الفضاءات الحضرية في الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة؛ فتشير إلى أنه بدلًا من فرص ملاقاة أشخاصٍ مختلفين، تسهل الشبكاتُ الاجتماعية عبر الأجهزة المحمولة فرصَ ملاقاة المشابهين.
ولكن هذا التحليل يسقط من الاعتبار الفارق البسيط بين الأمكنة الرَّقْمِيَّة وأهمية الفضاءات الحضرية لبناء معنًى اجتماعيٍّ؛ فالرغبة في التواجد بين أشياء وأشخاص وفضاءات مألوفة ليسَتْ ناتجةً فحسب من استخدام التكنولوجيات الرَّقْمِيَّة الجديدة، كما أنها ليست جديدة؛ فكما ناقشنا في الفصل الخامس، كان التوجُّه اللامبالي في القرن التاسع عشر مظهرًا مكتسَبًا لعدم الاكتراث المستخدَم لحماية سكان المدن من فيض المحفزات المتواصل. طالما كان لدى الناس في المدن القدرةُ على تصفيةِ ما لا يريدون رؤيته؛ سواء عبر اعتناق توجُّهٍ ذهني معين، أم بارتداء سماعات الأذن واستخدام الأجهزة المحمولة. في حالة الأمكنة الرَّقْمِيَّة، من الصعب استنتاج أنهُ نتيجةً لوجود مرشِّحاتٍ للمعلومات فإن المستخدمين سيستخدمونها دائمًا لخوض أحداثٍ تتناسب وهواهم. في الواقع، قد يكون العكس تمامًا هو الصحيح؛ فبدلًا من إعادةِ توجيهِ انتباهِ المستخدمين إلى شبكاتٍ مشابهةٍ في التفكير وليس لها وجود مادي، توجِّه التكنولوجياتُ ذات الإدراك المكاني المستخدِمَ إلى محيطه المباشِر، الذي سوف يشمل دائمًا بعض الاختلاف. يمكن أن يكون المستخدِم بالقرب من مجموعة متنوعة من الأشياء والأشخاص لأن عاملَ التصفية هو القرب ماديًّا.
يبدأ هذا مع السعي لتحقيق الألفة. إذا كان المستخدم يعلم أنه يوجد أناسٌ مثله في مكانٍ معين، فقد يشعر براحةٍ أكثر للذهاب هناك. ومن ثَمَّ، فإن المكان غير المألوف قد يكتسب الألفةَ إذا كان الأشخاص الذين يستخدمون التطبيقات ذات الإدراك المكاني يستطيعون «رؤيةَ» تواجُد أصدقائهم فيه قبل الذهاب إلى هناك (سوتكو ودي سوزا إي سيلفا، تحت الطبع). ولنأخذ تطبيق «سيتي سينس» مثالًا. يعرض تطبيق الأجهزة المحمولة خرائطَ حراريةً توضِّح التركُّزات المكانية للأشخاص في فضاء مكاني معينٍ. إذا لاحَظَ المستخدم أن عددًا من الأشخاص يتجمعون في شاطئٍ من الشواطئ العامة غيرِ مشهورٍ، وهو يحبه على نحوٍ خاص، فربما يُحفَّز للذهاب إلى هناك. وهذا يتبع نموذج الفضاء العام التقليدي، كما قدَّمه وايت (١٩٨٠)، الذي يُثبت فيه الوجودُ المشترك للأشخاص في مكانٍ ما جدارةَ هذا المكان بالتواجد فيه، على سبيل المثال: اعُتبِر ميدان مبنى «سيجرام» في مانهاتن «فضاءً عامًّا جيدًا» بسبب احتمالية لقاء الآخرين. الأشخاصُ الذين يقابلهم المرءُ في الأماكن المألوفة هم أنفسهم مألوفون إلى حدٍّ ما بسبب وجودهم وانجذابهم للمكان المشترك، ولكن الفرق هو أنه في حالة «سيتي سينس» يُقوَّم المكانُ عن بُعْدٍ عبر شاشةِ هاتفٍ محمول.
ولكن هذا يغيِّر طبيعةَ التواصُل. ثمة أدلة على أن القرب من الناس في الأمكنة الرَّقْمِيَّة يخلق أنواعًا جديدة من التوترات بين المستخدمين، على سبيل المثال: اختبر نيكولاس نوفا وفابيان جيراردين (٢٠٠٩) لعبتهما «كاتش بوب!» التي تعتمد على الموقع للأجهزة المحمولة (نوفا وجيراردين، ٢٠٠٧) في وضعين: مع إدراكٍ مكاني متبادَل أو دونه. كانت إحدى نتائجهما أن وجود الإدراك المكاني — أي الرصد التلقائي لمواقع اللاعبين — أدَّى إلى انخفاضٍ في التواصل داخل المجموعة. فبينما يبدو هذا الاستنتاج بدهيًّا (إذا كانت لدى اللاعبين معلوماتٌ عن موقع كلٍّ منهم، فلن يحتاجوا إلى الاتصال بعضهم ببعض والسؤال عن الموقع)، فإنه يشير إلى تغييراتٍ في طريقة تواصُل الأشخاص في الأمكنة الرَّقْمِيَّة، فيحلُّ الاستدلالُ الرقمي محلَّ بعض التواصل اللفظي. بغضِّ النظر عن كيفية استجابة الأشخاص، من الواضح أن التكنولوجيات ذات الإدراك المكاني توفِّر مجموعةً متنوعة من الخبرات بالنسبة إلى أولئك الذين يملكونها، من خلال السماح للمستخدمين باستنتاج صفات عن الغرباء بناءً على مكان وجودهم، واستنتاج صفاتٍ حول مواقع غريبة — على نحوٍ مماثلٍ — اعتمادًا على الأشخاص الذين يعرفونهم.
ومع ذلك، لا يلغي هذا حقيقةَ أن الأشخاص الذين لا يمكنهم الوصول إلى التكنولوجيات ذات الإدراك المكاني ربما يختبرون الأمكنةَ الرَّقْمِيَّة على نحوٍ مختلفٍ، وتكون احتمالية تفاعُلهم مع الآخرين أقل. أطلَقَ ديفيد وود وستيفن جراهام (٢٠٠٥) على هذه الظاهرة اسمَ «قدرة التنقل التفاضلية»، وهما يميِّزان بين نوعين من قدرة التنقُّل: قدرة التنقُّل العالية، المرتبطة بالقلة التي لا تُلاقِي أدنى صعوبةٍ في إمكانية الوصول، وقدرة التنقُّل البطيئة، التي تضم الغالبية التي تواجِه صعوبةً أو عقباتٍ في إمكانية الوصول، وبهذا المعنى، ترتبط قدرة التنقل مباشَرةً بالسلطة. إن التكنولوجيات ذات الإدراك المكاني هي في جوهرها تكنولوجيات للأجهزة المحمولة، ومن المرجح أن تساهم في قدرة التنقل التفاضلية تلك، على سبيل المثال: إصدار «لوبت» على الهواتف التي تعمل بنظام تشغيل «جوجل أندرويد» يوفر تحديثاتٍ خاصةً بحركة المرور بحسب المكان (لوبت، ٢٠٠٨). تسمح التكنولوجيات ذات الإدراك المكاني للأفراد الذين يمتلكون إمكانية الوصول إليها فقط بتعزيز قدرتهم على التنقل. ولكن، كما أشار وود وجراهام، لطالما كانت قدرةُ التنقل التفاضلية موجودةً؛ فمنذ اللحظة التي استقلَّ فيها البعض وسيلةً للتنقُّل أو حُمِلوا فيها بينما سار آخَرون، كانت هناك اختلافات في قدرة التنقل التي تعكس الهياكل الاجتماعية وتُعزِّزها (٢٠٠٥، صفحة ١٧٧). لكن الأجهزة ذات الإدراك المكاني تختلف عن الأشكال السابقة من تكنولوجيات الأجهزة المحمولة، فهي تفعل ما هو أكثر من المساهمة في قدرة التنقُّل التفاضلية؛ إذ إنها تؤدِّي إلى ظهور فضاءات تفاضلية.
تغيِّر الشبكات الاجتماعية المعتمدة على الموقع مفهومَ الفضاءات الحضرية للأشخاص «داخلها»؛ فأولئك الذين لا يمتلكون إمكانيةَ الوصول إلى هذه التكنولوجيات لن يكونوا قادرين على التواصُل مع الشبكات الاجتماعية. والنتائج المترتبة على هذا الإقصاء قد تؤثِّر على ما هو أكثر من التواصل بين الناس، فقد تؤثِّر على إدراكنا وفهمنا للفضاءات العامة (دي سوزا إي سيلفا وفريث، ٢٠١٠أ، صفحة ٤٩٨). أما الأشخاص الذين يمتلكون هذه التكنولوجيات فلديهم فرصةٌ للتفاعل مع فضاء يختلف كثيرًا عن الفضاء الذي يدركه الأشخاص الذين ليست لديهم إمكانية الوصول إلى هذه التكنولوجيات، على سبيل المثال: يسير شخصان جنبًا إلى جنب في أحد الشوارع المزدحمة، يدرك أحدهما الشارعَ بصفته فضاءً ماديًّا فحسب، بينما يدركه الآخَر بصفته مكانًا رقميًّا. الفضاء المادي ثابتٌ بالنسبة إلى الشخص المستبعَد من الشبكة الاجتماعية المعتمدة على الموقع، بينما يدرك عضو الشبكة الاجتماعية الفضاء المادي مندمجًا مع المعلومات الرَّقْمِيَّة.
في السابق، كان بإمكان الأشخاص الاستماعُ إلى الموسيقى أو القراءة أو الاستغراق في أحلام اليقظة من أجل «الانصراف» كما سمَّاه جوفمان. ولكن الفضاء الذي يحتلونه كان لا يزال هو نفسه الفضاء الذي يحتله الآخَرون الذين يشاركونهم هذا الموقعَ الجغرافي. التكنولوجيات ذات الإدراك المكاني تغيِّر هذا. يستطيع المستخدمون «تخصيصَ» الفضاءات العامة من خلال ميزات مثل «لوبت ميكس» التي تسمح للمستخدم باختيار نوع الأشخاص الذين يظهرون على خريطته. وهذا التخصيص للفضاء، باستخدام تطبيقات مثل «ويكي مي» أو «لوبت»، يمكن أن يسلب جزءًا من التجربة المشتركة للفضاءات الحضرية؛ ومن ثَمَّ يمكن القول إن هذه التطبيقات تخلق نوعًا من «الفضاء العام التفاضلي»، يختبر فيه الأشخاصُ المتواجدون ماديًّا في الموقع نفسه الأشياءَ على نحوٍ مختلف للغاية. كيف سيؤثِّر إنشاءُ «فضاء تفاضلي» على العلاقات بين الأشخاص الذين يستخدمون التكنولوجيات ذات الإدراك المكاني والأشخاص غير المرتبطين بالشبكة؟ كيف ستختبر كلٌّ من هاتين المجموعتين الفضاءات «العامة» على نحوٍ مختلف؟ على الرغم من أن الإجابة عن هذين السؤالين ليست واضحةً في هذه المرحلة، فإن هذه القضايا ستشكِّل بالتأكيد طريقةَ تفاعُلنا مع الأمكنة الرَّقْمِيَّة في المستقبل.
(٣) السلطة في الأمكنة الرَّقْمِيَّة
وفقًا لمانويل كاستلز (٢٠٠٩)، «لم تتغيَّر مصادرُ السلطة الاجتماعية في عالمنا جوهريًّا عمَّا نعرفه تاريخيًّا» (صفحة ٥٠)، ولكن ما تغيَّرَ هو السياق، حيث تمارس علاقاتُ السلطة تأثيرَها. لقد تغيَّرَ هذا السياق بطريقتين رئيسيتين: «إنه مُشيَّد على نحو رئيسي حول الربط بين العالمي والمحلي، ومنظَّم على نحوٍ رئيسي حول الشبكات» (صفحة ٥٠). وتنعكس هذه التغيرات في الأمكنة الرَّقْمِيَّة؛ فالحدود بين العالمي والمحلي لم تَعُدْ واضحةً في الفضاءات المادية نتيجةً لإمكانية الوصول الدائم — ولو كان غير متكافئ — إلى الشبكات الرَّقْمِيَّة. وبينما توفر الأمكنةُ الرَّقْمِيَّة عنصرَ تحكُّمٍ غير مسبوق للبعض، من خلال الإقصاء، فإنها تهدِّد بزيادة تفاقُم أوجه التفاوت القائمة. يتوقَّف هذا كله على مفاهيمنا المتغيِّرة حول الخصوصية؛ فعلى الرغم من أن التمييز بين العام والخاص قد تغيَّرَ مع كل تكنولوجيا اتصالات ونقل جديدة، فما زالت الأمكنة الرَّقْمِيَّة تمثِّل تحوُّلًا أكبر؛ فقضايا الخصوصية والسيطرة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمواقع المستخدمين وإدراكهم للفضاءات المحلية. يؤكِّد بول دوريش (٢٠٠٦) أن تكنولوجيات الأجهزة المحمولة لا تصنع مدينةً فاضلةً في المناطق الحضرية؛ فصورة المستخدمين وهم يجوبون المدينة مع معلومات غير محدودة في متناول أيديهم «تخفق في الاعتراف … بأنظمة السلطة والسيطرة التي نشأت ضمنها تلك الأساليب (التي ينبغي أن تُفهَم من خلالها)» (صفحة ٥).
تستطيع الحكومات استخدامَ الإدراك المكاني لتتبُّع مدى السرعة التي يقود بها الأشخاص، وتركز الحملات التسويقية لبعض المنتجات على تمتُّعها بخاصيةٍ تُمكِّن الأفرادَ من تتبُّع شركاء حياتهم أو أبنائهم. ويستطيع المُعلِنون بسهولةٍ استخدامَ معلومات الموقع لاستهداف أشخاص بإعلانات ذات صلة بموقعهم. لكن الأمكنة الرَّقْمِيَّة أيضًا فضاءات للاستهلاك. إن مجرد كون الأمكنة الرَّقْمِيَّة مليئةً بالتطبيقات التجارية والمراقبة لا يعني أن التفاعلات المُبتَكَرة هناك ضحلة أو متناقضة مع التبادلات الاجتماعية ذات المغزى، غير القائمة على السوق. لم تكن التفاعلات الحضرية قطُّ خاليةً من التأثير التجاري؛ فمن اللافتات إلى اللوحات الإعلانية حتى الصحف، كانت البيئة الحضرية دائمًا مليئةً بالمعلومات والرسائل التي قد تؤثِّر على سلوك الناس، لكن الأمكنة الرَّقْمِيَّة تعبِّر عن تغييرٍ آخَر في بيئة التبادُل التجاري والاجتماعي الحضرية المتطورة باستمرار. لا بد من إعادة النظر في التقسيمات بين العام والخاص، وبين الشامل والحصري، في ضوء هذه التكنولوجيات والممارسات.