العولمة
كثيرًا ما أُشِيدُ بالويب باعتبار أنها من المحركات الرئيسية للعولمة. منطقيًّا، القدرة على الاتصال الفوري بالأماكن النائية يمكن أن تجعل المسافاتِ الماديةَ بلا أهميةٍ، وتجعل العالَمَ يبدو أصغر. يؤكِّد مفهومُ العولمة هذا مدى تأثير العالمي على المحلي، وربما يهدِّد الثقافات والممارسات المحلية. بكلمات مانويل كاستلز، تفضِّل العولمةُ «فضاءَ التدفقات» على «فضاء الأماكن» (كاستلز، ٢٠٠٠). لذا، فإن قيمة المكانيات ومعناها في مجتمع عالمي ينبعان من قدرتها على الانتماء إلى شبكةِ معلوماتٍ عالمية وتبادُل المعلومات معها، وليس من خصائصها المكانية. ومن ثَمَّ، يبدو أن المناطق والأمكنة أصبحَتْ مندمجةً في شبكة عالمية تفضِّل تدفُّقَ المعلومات بدلًا من الأماكن والروابط المحلية. ولأن الويب تمنح المعلوماتِ القدرةَ على التدفُّق بسهولةٍ أكبر من مكانٍ إلى آخر، شاعت التكهُّنات بنهايةِ الثقافات المحلية وظهورِ عالَمٍ أكثر تجانسًا منذ تسعينيات القرن العشرين (كاويكليس، ٢٠٠٧؛ وكانكليني، ٢٠٠١).
ولكن بعد ما يقرب من عقدين من إنشاء الويب، من الواضح أن الأمكنة لم تفقد أهميتها، وأن القدرة المتزايدة على ربط الأماكن ساهَمَتْ في واقع الأمر في زيادة الاعتراف بالثقافات المحلية. أشار جوشوا ميروفيتش (٢٠٠٥) ذات مرة إلى أن وسائل الإعلام الإلكترونية مثل التليفزيون والإذاعة والويب تعزِّز لدى جمهورها ارتباطًا عاطفيًّا كبيرًا بالمواقع. ومن وجهة نظر ميروفيتش، تَكَوَّنَ هذا الارتباط الأكبر بالموقع لأن هذه التكنولوجيات سمحَتْ للناس بأن يَعْلَموا ما يحدث خارجَ الفضاءات المحلية التي يتواجدون بها، على سبيل المثال: عندما يشاهد شخصٌ ما الأخبارَ على شاشة التليفزيون حول حربٍ تجري على الجانب الآخر من العالم، ربما تُغيِّر تلك الأحداثُ طريقةَ رؤيةِ الأفراد لمحيطهم المحلي. إدراك ما هو عالمي مكَّن الأشخاص من مقارنة فضائهم المحلي بالفضاءات العالمية في أماكن أخرى. وأدى هذا — وفقًا لميروفيتش — إلى تحديدٍ أكثر وعيًا للفضاءات المحلية، و«شغفٍ أكثر وضوحًا بالأمكنة المحلية» (ميروفيتش، ٢٠٠٥، صفحة ٢٦).
مع ذلك، ما نشهده مع الأمكنة الرَّقْمِيَّة مختلف. تَقلِب الأمكنة الرَّقْمِيَّة الفكرةَ التقليدية للعولمة من خلال التركيز على كيفية تأثير المحلي على العالمي. لا تكتسب الأماكن المحلية أهميتها لأنها ترتبط بشبكة عالمية، ولكنها مهمة لأن لديها القدرة على تغيير الممارسات العالمية. ويرى ميروفيتش أننا نقدِّر المحلي لأننا ندرك العالمي. وفي الأمكنة الرَّقْمِيَّة، نقدِّر المحلي ليس فقط بسبب العلاقات الخارجية، ولكن لأننا على اتصال مستمر بالمعرفة والمعلومات المحلية.
سهَّلَتِ العولمة انتشارَ التكنولوجيا الرَّقْمِيَّة حتى في أكثر مناطق العالَم بُعْدًا، والتكنولوجياتُ المستخدَمة للتواصل مع الأمكنة الرَّقْمِيَّة لا تتغيَّر كثيرًا من مكانٍ إلى مكان، ولكنَّ استخداماتها المحلية مختلفةٌ. يستخدم الناس التكنولوجيا لتلبية الاحتياجات المحلية، ويُسمَّى هذا بتخصيص التكنولوجيا، أو العملية التي من خلالها يتجاوز مستخدمو التكنولوجيا مجرد تبنِّي التكنولوجيا لجعلها مخصَّصةً لهم، وجعلها ضمن ممارساتهم المحلية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية (بار وبيساني وويبر، ٢٠٠٧). ربما يعدِّل مستخدمو التكنولوجيات الجهازَ ويحمِّلون أو يبرمجون تطبيقات جديدة، ويبتكرون استخدامات جديدة للتكنولوجيا لم تكن في الحسبان، من أجل تكييف الأداة على نحوٍ أفضل مع احتياجاتهم ورغباتهم. على سبيل المثال: ممارسة «الرنين» من الهواتف المحمولة في الدول النامية تعني الاتصالَ بطرفٍ آخَر وإنهاء المكالمة قبل أن يرد. بعد أن يرن الهاتفُ مرةً أو مرتين، يعرف الطرفُ الآخَر أن عليه إعادة الاتصال أو فعل شيءٍ ما وفقَ رسالة محدَّدة مسبقًا (دونر، ٢٠٠٥؛ دي سوزا إي سيلفا وآخرين، تحت الطبع). هذا استخدامٌ للتكنولوجيا يستجيب للواقع الاقتصادي لمستخدميها. إلى حدٍّ ما، تُعتبَر جميع استخدامات التكنولوجيا من قِبَل الأشخاص خارج السوق المستهدَف شكلًا من أشكال التخصيص. وكما يرى مانويل كاستلز (٢٠٠٠)، التكنولوجيا هي نتاجٌ للقوى الاجتماعية، يشكِّلها سياقُ المجتمع المندمجة فيه.
تأمَّلْ حالةَ هاتف «إلكون»، الذي طُرِح في منطقة الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا عام ٢٠٠٤. يساعد هذا الهاتف المحمول الذي يدعم شبكات الجيل الثالث على إقامة الشعائر الدينية الإسلامية اليومية؛ حيث إنه يُصْدِر خمسةَ تنبيهات آلية يوميًّا بمواقيت الصلاة، ويُبيِّن للمسلمين اتجاهَ مكة المكرمة من بين ٥٠٠٠ مدينة حول العالم، كما يتضمَّن الهاتف أيضًا نسخةً من القرآن الكريم باللغتين العربية والإنجليزية («إم إس إن بي سي»، ٢٠٠٥). على الرغم من أن «إلكون» يتمتع ببنية تقنية مماثلة لغيره من الهواتف المحمولة — تكنولوجيا «جي بي إس»، وبطاقة ذاكرة رقمية، وبرنامج تقويم — فإن وظيفته الفريدة من نوعها منتَجة استجابةً للممارسات العالمية والمحلية للإسلام.
(١) اليابان
اليابان بلد صغير ذو كثافة سكانية عالية ومتطور رقميًّا، وهي رائدة في ابتكارات الشبكات ذات النطاق العريض والشبكات الخلوية. بدأت شركة «نيبون تليفون آند تليجراف» (التي تُعرَف اليومَ باسم «إن تي تي دوكومو») الاختباراتِ الميدانيةَ للأنظمة الخلوية مبكرًا جدًّا عام ١٩٧٥، وأطلقت اليابان ما يُعتبَر اليومَ أولَ خدمة راديو خلوية في العالم في ديسمبر ١٩٧٩ (جوجين، ٢٠٠٦؛ فارلي، ٢٠٠٥). ومنذ ذلك الحين، كانت اليابان رائدة في شبكات الجيل الثاني والجيل الثالث، وتركَّزَ التخصيصُ الياباني لتكنولوجيات الويب أكثرَ من أي بلدٍ آخَر على الهاتف المحمول، على سبيل المثال: يعتمد مستخدمو الهاتف المحمول اليابانيون كثيرًا على هواتفهم المحمولة في إرسال البريد الإلكتروني. والشباب الياباني اليومَ يكاد لا يعتبر البريدَ الإلكتروني تقنيةً يمكن استخدامها عبر الكمبيوتر (إيتو وأوكابي وماتسودا، ٢٠٠٥)؛ فالبريد الإلكتروني من وجهة نظره هو البريد الإلكتروني من الأجهزة المحمولة. بل إنه يوجد بعض المستخدمين الذين قد يقولون: «أوه! لم أكن أعرف أنه يمكن إرسال البريد الإلكتروني واستقباله عبر الكمبيوتر.» ثمة ممارسة أخرى شائعة في اليابان هي استخدام الهواتف المحمولة كمحفظة إلكترونية (الهواتف المحمولة بوظائف المحفظة). يستخدم الأشخاص هواتفَهم المحمولة وكأنها أموال إلكترونية، وبطاقات ائتمان، وتذاكر سفر إلكترونية، وبطاقات عضوية، وتذاكر طيران («إن تي تي دوكومو»، ٢٠٠٩ب). وليس من المستغرب أن يكون الكثير من هذه الأنشطة متشربًا بالإدراك المكاني.
الحصولُ على الاتجاهات لتحديد المواقع من خلال أنظمة «جي بي إس» في السيارات هو واحد من أقدم استخدامات أجهزة «جي بي إس» في الولايات المتحدة، ولكنَّ شعبيةَ وسائل النقل العام في اليابان حفَّزَت التنميةَ المبكرة لتكنولوجيا «جي بي إس» في الأجهزة المحمولة؛ فطُوِّرت خدمة «جي بي إس» في اليابان تُسمَّى «نافي تايم»، وهي عمليةُ بحثٍ عن الطرق من موقعٍ إلى موقعٍ للسيارات والأجهزة المحمولة على حدٍّ سواء، وتتيح الخدمةُ عبر الهواتف المحمولة للمستخدمين تخطيطَ طرقِ السفر عبر مجموعة من الوسائل، منها المشي والقيادة ووسائل النقل العام. وتوضِّح نتائجُ البحث طرقًا تجمع بين هذه الأساليب، فتسمح للمستخدمين بمقارَنة مجموعةٍ متنوعةٍ من الطرق، والاختيار من بينها بحُرِّية.
طَوَّرَت اليابان، بوصفها دولة رائدة في العالَم في مجال الاتصالات المتنقلة، العديدَ من التكنولوجيات التي ساعدت الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة في جميع أنحاء العالم. تأمَّلْ خدمةَ «آي كونسير» التي أطلقَتْها كبرى شركات خدمات الهواتف المحمولة في اليابان «إن تي تي دوكومو» في نوفمبر عام ٢٠٠٨. يجمع تطبيقُ «آي كونسير» للهواتف المحمولة معلوماتٍ من تقنية «جي بي إس» والويب والبيانات الشخصية مع ذكاءٍ اصطناعيٍّ لتقديم معلومات مخصَّصة للفرد. بحسب رؤية «إن تي تي دوكومو»، فإن التطبيق سيجعل الكمَّ الهائل من المعلومات على الهواتف الذكية متاحًا بطريقةٍ تدمجه بسهولةٍ في حياة الناس، على سبيل المثال: بينما تمشي في حي شيبويا في طوكيو في ظهيرة يوم أحدٍ من أجل قليلٍ من التسوُّق، فإن تطبيق هاتفك المحمول الذي يعرف بالفعل شغَفَك بالأزياء سينبِّهك إلى حدثِ افتتاحِ متجرِ ملابس يجري حاليًّا في منطقة دايكانياما على بُعْد بضعة شوارع فحسب. وكذلك يستطيع «آي كونسير» تنبيهَك بأعطال مترو الأنفاق وحوادث المرور والزلازل، ويذكِّرك بالأحداث المحلية. كما يجدِّد تلقائيًّا القسائمَ الرَّقْمِيَّة التي تمنحها المطاعمُ والمتاجرُ الكبرى ووكلاءُ السفر وموزِّعو الأفلام، حسب تفضيلاتك. ربما تشاهد تنبيهًا على شاشة هاتفك يُعلِمك بأنك تأخَّرْتَ في إرجاعِ قرصٍ رقمي مدمج استأجرْتَه من قبلُ، أو أن تذاكرَ حفلِ فرقةِ «كولدبلاي» التي يصعب الحصول عليها مطروحة الآن للبيع («إن تي تي دوكومو»، ٢٠٠٩أ).
(٢) الصين
الصين قصةٌ مختلفة تمامًا؛ فعلى الرغم من أن الصين واليابان جارتان، فإن سياق استخدام التكنولوجيات ذات الإدراك المكاني يختلف إلى حدٍّ بعيد عن تخصيصها. وفقًا للإحصاءات الصادرة عن وزارة الصناعة وتكنولوجيا المعلومات في الصين، بنهاية عام ٢٠٠٩، كان يوجد ٧١٠٫٥ ملايين هاتف محمول قيد الاستخدام في الصين، و٣٦٠ مليون مستخدم للإنترنت، و١٩٢ مليون مستخدم للإنترنت عبر الأجهزة المحمولة. هذه الأرقام مذهلة لأنها زادت أضعافًا مضاعفةً خلال العقد الماضي. وبسبب هذا النمو السريع، أصبحت الصين واحدة من أهم أسواق الهواتف المحمولة والإنترنت (مدونة تريندس سنيف، ٢٠٠٩). وقد ساعدت سياسةُ الباب المفتوح عام ١٩٧٨ التنميةَ الاقتصادية السريعة في الصين، وأدَّتْ إلى زيادةٍ كبيرةٍ في عدد سكان المدن في البلاد. وعلى نحوٍ أكبر وأكبر، غادَرَ الصينيون الريفَ وتوجَّهوا إلى المدن الكبرى الناشئة التي أصبحت مراكزَ للتجارة العالمية، وقد ساهَمَ هذا بالطبع في تبنِّي تكنولوجيات الأجهزة المحمولة وإنتاج الأمكنة الرَّقْمِيَّة. وعلى النقيض من السوق الحرة في اليابان، تُعَدُّ السوق الصينية مركزيةً للغاية، ويخضع استخدامُ الوسائط فيها لرقابة مشددة. وقد خلقت هذه الظروف الفريدة للسوق الصينية وثقافة البلد ظروفًا محلية خاصة للغاية، نتج عنها تبنِّي الوسائط على نحوٍ عامٍّ، وتشكُّل الأمكنة الرَّقْمِيَّة على نحوٍ خاصٍّ.
على مدى السنوات العشرين الماضية، ربما كانت أكبر هجرة في التاريخ البشري تجري في الصين، من خلال انتقال سكان الريف إلى المناطق الحضرية بحثًا عن مستوًى معيشي أعلى وفرصِ عملٍ. وتشير تقديراتُ الأمم المتحدة إلى أن الصين سوف تضيف ٣١٠ ملايين نسمة إلى المناطق الحضرية على مدى السنوات الخمس والعشرين المُقبِلة، وهو رقمٌ مساوٍ لعدد سكان الولايات المتحدة. وإلى جانب هذا التدفُّق السريع للسكان، شهدت المدن الصينية تشييدات وتوسُّعات وتجديدات ضخمة؛ فهُدمت المناطق القديمة في وسط المدينة في المراكز الحضرية، ووُسِّعت الشوارع الضيقة، واستُبدِلت المباني الشاهقة الارتفاع بالبيوت ذات الطابق الواحد، وظهرت مطاعم ماكدونالدز إلى جانب المقاهي المحلية.
وصنَعَ هذا التحوُّلُ الجذري للمدن الصينية ظروفًا فريدة ومثيرة للقلق لسكان الحضر؛ فالفضاءات المادية في تغيُّر مستمر، والمعلومات حول تلك الفضاءات أيضًا في تغيُّر مستمر؛ فكانت الأماكن التي يتجمع فيها الناس، والأماكن التي يتسوَّقون فيها، وطريقة تنقُّل الفرد بين أماكن التجمع في الشبكة الحضرية المليئة بالتشييدات متغيرةً دائمًا. والمدن التي يقيم بها الناس الآن تختلف جذريًّا عن المدن التي كانوا يعرفونها قبل عَقْدٍ من الزمن. مَثَّلَ اجتماع هذه الظروف وانتشار الإنترنت ذات النطاق العريض وعبر الأجهزة المحمولة، مسارًا مفتوحًا نحو الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة.
مع ألبومات «ماب بار»، يمكن للمستخدمين تحميل ومشاركة صور للأماكن التي ذهبوا إليها، وتحديد هذه الأماكن على الخرائط، وإضافة معلومات مثل التعليقات والعناوين وأرقام الاتصال بها، وهكذا تصبح كل صورة لموقع فعلي نقطةً معلوماتيةً في الشبكة المكانية. وعلاوةً على ذلك، يتيح «ماب بار» للمستخدمين إنشاء «أماكن مثيرة للاهتمام» تُحدَّد على الخرائط، ويعرض الموقعُ كلَّ الأماكن المثيرة للاهتمام المضافة حديثًا من جميع أنحاء البلاد.
توضِّح حالةُ «ماب بار» الترابُطَ بين البنى التحتية الاجتماعية والتكنولوجية (دوريش وبيل، ٢٠٠٧). تصنع الخرائط التي ينتجها المستخدمون بنيةً تحتيةً للمستخدمين تمكِّنهم من فهم بيئتهم، فعلى سبيل المثال: بدلًا من أن يسأل شخصٌ ما عن المكان الذي انتقلَتْ إليه المكتبة، يمكن للمستخدم الآن العثور على جميع المكتبات في نطاق جغرافي محدَّد. ثمة مثالٌ آخَر هو مواقع «صناديق الكاريوكي» (وهي أماكن يستأجر فيها المشاركون غرفًا تحتوي تجهيزات الكاريوكي)، وقد أصبح البحثُ عن هذه الأماكن شائعًا جدًّا على «ماب بار». تتيح البنية التحتية التكنولوجية للخريطة إنشاءَ المسار المناسب عبر التضاريس المادية والمعلوماتية للمدينة المتغيرة من الناحية الموضوعية. وبينما لا تختلف طريقةُ عملِ «ماب بار» عن الكثير من تطبيقات الخرائط التي ناقَشْناها في هذا الكتاب، فإن طريقةَ استخدامِه وتفسيره ترتبط بالسياق الثقافي الغريب في الصين.
ولكن هذه السيطرة المركزية ساعدت في ظهورٍ فريدٍ للمكانية الرَّقْمِيَّة في الصين. على سبيل المثال: يستخدم العديد من الحكومات البلدية قاعدةَ بياناتٍ تحتوي على جميع أرقام الهواتف المحمولة الخاصة بالأشخاص الذين يعيشون في المدينة. ويمتلكون محطة طرفية للرسائل النصية العامة، ترسل رسائل للجميع في وقتٍ واحدٍ من أجل أغراضٍ إدارية مختلفة. على سبيل المثال: خلال دورة الألعاب الأولمبية في بكين، كثيرًا ما أرسلَتْ حكومةُ بلديةِ بكين رسائلَ إلى جميع مستخدمي الهواتف المحمولة داخل المدينة لإعلامهم بالمشكلات المرورية المؤقتة. وحاليًّا، يتلقَّى مستخدمو الهواتف المحمولة الذين يترحلون بين المدن رسائلَ نصيةً تلقائيةً بمجرد دخولهم مدينةً جديدة. عادةً ما ترحِّب الرسائلُ النصية بهم في المدينة الجديدة، وتوفِّر معلوماتٍ محليةً؛ مثل: الأماكن ذات الأهمية، والتنبؤات الجوية، وأماكن الإقامة المتاحة. إن عملية المُراسَلة الجماعية التي تبادِر بها الحكومةُ مظهرٌ فريدٌ للمكانية الرَّقْمِيَّة، ساعدَتْ على وجوده السيطرةُ المركزية في البلاد. تعكس الممارساتُ التكنولوجية المحلية التوجُّهَ الثقافي نحو الجماعية وعملية اتخاذ القرارات جماعيًّا (هوفستيد، ٢٠٠١).
وبالمثل، في عام ٢٠٠٥، أثناء بناء خط مترو أنفاق بكين رقم ٥، نظَّمَ سكان تيانتونجيوان حملةً أخرى. وفقًا للمخطط الأصلي لخط المترو، لم يكن حي تيانتونجيوان ذو الكثافة السكانية العالية ليحظى إلا بمحطة واحدة فقط، وبما أن الكثير من سكان تيانتونجيوان يذهبون ويعودون إلى وسط المدينة يوميًّا، طلبوا إنشاء محطة أخرى. شكَّلَ عشرة أشخاص من السكان مجموعةَ عملٍ خاصة، وشجَّعوا جميع السكان على «إجراء مكالمة هاتفية واحدة على الأقل لواحدة من المؤسسات الحكومية للتعبير عن حاجتهم للمحطة»، أو «إرسال التماس واحد على الأقل بالبريد»، أو «إرسال التماس واحد على الأقل بالبريد الإلكتروني» (شان ٢٠٠٨). نُشِرت أرقام الهواتف الحكومية التي ينبغي الاتصال بها على الإنترنت، وأُتِيحت الخطابات الجاهزة للإرسال على شبكة للتحميل والطباعة، وطُلِب من السكان الاستفادة من جميع الشبكات والموارد الممكنة لتوصيل طلباتهم. وعن طريق الإخطار عبر الإنترنت، نظَّمَتْ مجموعةُ العمل الخاصة توقيعًا منظمًا لعريضةٍ بطلباتهم، حصلوا فيها على تواقيع أكثر من عشرة آلاف شخص من السكان، وأُرسِلت العريضة الموقَّعَة لحكومة بلدية بكين. وفي غضون أشهر، تمت الموافقة على محطة المترو الثانية في تيانتونجيوان، وسرعان ما أصبح نجاح موقع «العيش في تيانتونجيوان» الإلكتروني معروفًا على الصعيد الوطني، ووفقًا لبعض النقاد الإعلاميين، كان هذا «معجزةً في تاريخ الحركات الديمقراطية في المجتمع» (لين وتشو، ٢٠٠٩).
في ١١ يوليو ٢٠٠٩، تم إيقاف الموقع الإلكتروني. توجد على الصفحة الرئيسية للموقع بضعة أسطر توضِّح على نحوٍ غامض أسبابَ إيقاف الموقع: «بناء على تعليمات الحكومة، يحتاج الموقع الإلكتروني إلى إجراءِ تصحيحٍ داخلي. خلال فترة هذا التصحيح، جميع الخدمات لن تكون متوافرةً. نعتذر عن أي إزعاجٍ» (ترجمة حرفية للنص الصيني الأصلي). ويُعتقَد على نطاقٍ واسع أن الحكومة الصينية أَغْلَقَت الموقع الإلكتروني بسبب الظهور الكثير «للمناقشات غير المرغوب فيها» (عدم الرضا عن المجتمع، انتقاد عمل الحكومة غير الفعال، وما إلى ذلك) على الموقع. ومع ذلك، حينما كان الموقع نَشِطًا، غيَّرَ طريقة مشاركة السكان المحليين في الأنشطة المجتمعية. قدَّمَ هذا الموقع الإلكتروني نموذجًا في الصين للمشاركة في القضايا المحلية من خلال البوابات الإلكترونية؛ ممَّا أدَّى إلى أنشطة تعاونية تتراوح بين تنظيم القاعدة الشعبية والتفاوُض مباشَرةً مع الحكومة. كانت هذه الأنشطة في الصين نادرة — إنْ لم تكن غائبةً تمامًا — قبل هذا الموقع الإلكتروني. إن استخدام الموقع كمنصة سياسية محلية تجاوَزَ الهدفَ الأولي للموقع.
يعتقد كثير من الناس أن الويب امتلكت القدرة على جعل الصين ديمقراطية بمنح مواطنيها إمكانية الوصول إلى معلومات عالمية، ولكن ما حدث مع موقع تيانتونجيوان كان عكس ذلك تمامًا. لم تكن قوة الموقع في اتصاله بعالَم المعلومات الخارجي، بل كان التهديدُ يكمن في القدرة المحلية على التنظيم والحشد إزاء قضايا محلية محددة للغاية؛ ففي هذا الموقع، كان انفتاح الويب موجهًا إلى الداخل. أعادت الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة تنظيم أساليب السيطرة التي توظفها الدولة المركزية. بينما تستمر الحكومة الصينية في مراقبة التكنولوجيات الناشئة، فإن استخدام الويب والأجهزة المحمولة من أجل التنظيم المحلي سيواصل التأثير على طريقة تنظيم الصينيين لحياتهم المحلية. تتطور الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة في الصين استجابةً للسيطرة المركزية التي تسعى إلى التحكُّم في الممارسات المحلية والعالمية على الويب على حدٍّ سواء.
(٣) تأمُّل المستقبل المكاني الرقمي
الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة تغيِّر التفاعلات الاجتماعية في جميع أنحاء العالم. بينما يمتلك المزيد والمزيد من الأشخاص إمكانيةَ الوصول إلى التكنولوجيات ذات الإدراك المكاني، فإن الفضاءات الحضرية تتكيف وفقًا لذلك. لم يَعُدْ ما يحدث على الأرصفة والساحات العامة ومراكز التسوق مقصورًا على التفاعلات الجسدية؛ فمشاركة البيانات الشخصية بين الأجهزة أصبحَتْ أمرًا رئيسيًّا لبنية التفاعلات التي تحدث يوميًّا في الفضاءات الحضرية. وترتبط مشاركةُ المعلومات على الإنترنت على نحوٍ متزايد بتفرُّد الفضاءات الحضرية.
تخلق الأماكنُ المرتبطة بالشبكات سياقًا يسمح للمجتمعات بمشاركةِ مزيدٍ من المعلومات والموارد، وبطرْحِ المعرفةِ المحلية في الفضاءات الحضرية على نحوٍ أكثرَ فعاليةً. وهذه الممارسات تعالِج على نحوٍ متزايد الاحتياجاتِ المحليةَ، وتحسِّن التخصيص الاجتماعي والثقافي للتكنولوجيات ذات الإدراك المكاني؛ ونتيجةً لذلك، أصبح المستخدمون البشر لتلك التكنولوجيات، أنفسهم، مكتسبين للإدراك المكاني. وبناءً على وسائط الويب «القديمة»، أظهَرَ تنظيمُ المجتمع الذي مكَّنَه موقعُ تيانتونجيوان في الصين القوة السياسية للمكانية الرَّقْمِيَّة. تحوَّلَتِ المنصةُ — التي كان غرضها الأصلي تعريف السكان بالأخبار — إلى شبكةٍ خاصةٍ بالحي، مكَّنَتِ الناسَ في نهاية المطاف من تنظيم أنفسهم ضد الحكومة المهملة. تمكَّنَ سكانُ تيانتونجيوان من التواصُل على نحوٍ مباشِر بعضهم مع بعض بطرقٍ لم تكن متاحةً من قبلُ؛ ونتيجةً لذلك، غيَّروا حيَّهم من خلال الاتصال المباشر والقوي مع الحكومة المحلية والوطنية.
وقع حدث مماثل من أحداث التنسيق الكلي خلال صيف عام ٢٠٠٩، عندما تجمَّعَ المواطنون الإيرانيون في مركز مدينة طهران احتجاجًا على نتائج الانتخابات الرئاسية؛ ففي حين توجَّهَ الإيرانيون إلى الشوارع لتسجيل سخطهم على أخطاء واضحة في فرز الأصوات، استخدَمَ العديدُ منهم «تويتر» ليتشاركوا الآراء أو موقع الاحتجاجات أو مشاهد العنف. كان فضاء الاحتجاج مكانًا رقميًّا؛ فقد توسَّعَ لإشراكِ جمهورٍ غير موجود مباشَرةً. وكان الاتصال بالعالَم ضروريًّا لهذا الحدث المحلي. لم تساعد التكنولوجيا في بث العنف لجمهور متعاطف مؤيِّد للديمقراطية في جميع أنحاء العالم فحسب، ولكنها سهَّلَتْ أيضًا للعناصر الفاعلة المحلية العملَ بكفاءةٍ في السياق المحلي.
كانت هذه الأحداث المحلية تهم الجمهور العالمي بسبب الشبكة. في إيران، كان الخبر الرئيسي هو «تويتر»، وليس السياق السياسي للاحتجاجات. وأشار بعض الصحفيين والمعلِّقين البارزين إلى الأحداث باسم «ثورة تويتر» (أمبيندر، ٢٠٠٩؛ جروسمان، ٢٠٠٩). في الواقع، رُسِّخ هذا اللقب في صفحةٍ خاصةٍ به على موسوعة «ويكيبيديا». ولكن بما أنه كان يوجد أقل من عشرة آلاف مستخدم ﻟ «تويتر» في إيران، مع كون أقل من ١٠٠ منهم مستخدمين نَشِطين خلال الأحداث (زيادة النشاط نتجت عن إعادة تغريد المستخدمين للتغريدات في جميع أنحاء العالَم) (شاكتمان، ٢٠٠٩)، فلا شك في أن افتنان وسائل الإعلام ﺑ «ثورة تويتر» لا يتعلق بثورة سياسية، بل باكتشاف أن شبكة اجتماعية ليس إلا، يمكن أن تكون قويةً لهذه الدرجة. كانت تغطية وسائل الإعلام تتمحور حول الشبكات التي تدعم المواقع المثيرة للجدل سياسيًّا.
ما الذي سيترتب على كون المتظاهرين متصلين بعضهم ببعض؟ ما الذي سينتج عن تمتع الفضاءات المهمشة في العالَم النامي بالقدرة على أن تنظم نفسها سريعًا وتصل إلى الأماكن الرئيسية؟ أصبحت الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة خبرًا مهمًّا تحديدًا لأنها أثبتَتْ قدرتَها على تجاوُز آليات الحكومات المحلية ووكالات الأنباء الكبرى. إنها صيحة تنبِّه أولئك الذين استثمروا في العولمة إلى أن المحلي لا يزال مهمًّا، وربما في واقع الأمر، هو مهم أكثر من أي وقتٍ مضى؛ لأنه قد يكتسب تأثيرًا عالميًّا مباشِرًا وقويًّا.
تُنْتَج الْمَكَانِيَّةُ الرَّقْمِيَّة دائمًا في سياق القوى الاجتماعية والسياسية، لأنها تتجاوز حدودَ المادية الصرف أو الافتراضية الصرف. ونشير ها هنا مجددًا إلى موقع «جيتسو تيانتونجيوان» الذي أصبح تهديدًا للحكومة؛ لأنه يحفِّز الهجومَ المحلي المباغِت عبر الاتصالات الرَّقْمِيَّة. تمثَّلَ التهديد في إمكانيةِ التنسيق الكلي المحلي واحتماليةِ وجودِ أُذُنٍ صاغية متعاطِفة خارج المنطقة الجغرافية. إن قوةَ ومرونةَ هذه الاتصالات قابلتان للنقل إلى الفضاءات المادية التي يعيش فيها الناس. تتوقَّف آثارُ الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة على البيئة المادية على السياق الاجتماعي والسياسي المحلي. ويمكن لتضخيمُ الروابط الاجتماعية الموجودة من خلال البيانات الشبكية أن يغيِّر العلاقات الاجتماعية القائمة التي تحدِّد الأماكنَ المحلية؛ فشارع طوكيو المزدحم، والمجمع السكني في بكين، والناس في طهران يمثِّل كلٌّ منها موقفًا اجتماعيًّا فريدًا من نوعه، يؤدِّي عند ربطه بشبكةٍ ما إلى نتائج فريدة من نوعها. أصبح المحلي عالميًّا، ولكنَّ طريقة إنتاج العالمي للمحلي لا تزال إلى حدٍّ بعيد مسألةً محليةً.