الفصل الثاني
حين يصل الإنسان إلى أعلى مرتبة إنسانية، يكون نبيَّ نفسه.
١
بينما كانت رائحة الموت تزكم الأنوف، كانت المركبة تحلِّق بمروان فوق مبنًى ضخم ذي شكل سداسي، لونه كقوس قُزح، على سطحه منتزه ومسبح ورائحة عطرة تملأ الجو، وحوريتان تجلسان إلى جواره. هبطت على ساحة صغيرة دائرية الشكل في فناء المبنى. نزلوا جميعًا واستلمت السائقة كرت برقم موقع السيارة، ثم مشوا خطوات معدودة، والتفت مروان إلى الخلف، فلم يرَ المركبة. لم يسأل؛ فكل شيء غريب بالنسبة له في هذا العالم. كان مروان يشعر بالإحراج من بنطلونه القصير إلى فوق الركبة، وصدره العاري كأنه فتاة متبرجة، وهو الذي يستهجن البشر الذين يتشبهون بالنسوة. استغرب وهو يشاهد الناس من جنسيات مختلفة؛ آسيوية، إفريقية، أوروبية .. كأنه في مدينة عالمية. لم يرَ أحدًا منهم ملتحيًا، كان بعضهم ينظر بغرابة إلى شعر ساقيه وصدره.
دخلوا المستشفى ومروان ينظر بدهشة إلى كل ما تقع عليه عيناه. وقف مذهولًا أمام أناس يمشون في الهواء ويصعدون، كأنهم على سُلم كهربائي يأخذهم إلى الأعلى، لا يوجد سوى شريطين على جانبيه معلقًا في الهواء! خاف مروان أن يضع قدمه عليه، ثم تشجع بعد صعود النسوة، وصعدَ وهن يبتسمن من سلوك شريكهن الغريب. شعر مروان أنه يطير في الجو، يا لها من روعة وهو في هذا العالم الساحر! فكر أنه في حالة رؤيا للمستقبل، كما كان النبي «دنيال» يرى المستقبل في رؤياه، لا سيما بعد أن أكدت له النسوة أن المدينة هي صنعاء ذاتها. وسيعرف قريبًا في أي زمن هو!
وقف مروان أمام موظف التسجيل في المستشفى، الذي أخذ يبتسم من شعر مروان النابت في وجهه وصدره وسيقانه، كاد أن يضحك حين سمع مروان يتحدث عن اسمه «مروان ناجي مُدهش الراعي» وكذلك وضعت النسوة أيديهن على أفواههن، وبلعن ضحكاتهن. ضرطت إحداهن فضحك مروان، والتفت الناس إليه تعجبًا. وموظف التسجيل يبحث عن اسم مروان في سجلات الحاسوب، فلم يجده. قال: عفوًا لا يوجد أحد بهذا الاسم. هذا الرجل غريب، كما أن اسمه وشكله وسلوكه غريب أيضًا.
اقتربت إحدى النسوة لتقول له ما جعلته يستغرب أكثر، وشكَّ أنه أصيب بمرض لم يعد له وجود، وهو «الجنون» مرض العصور القديمة: شريكنا أُصيب بداء غريب منذ ستة أيام، يتخيل نفسه شخصًا آخر، حتى إنه لم يعد يعرف اللغة العالمية، يتحدث العربية فقط. يدَّعي أنه مروان، واسمه الحقيقي «كريم نورين»، وها هو يضحك عاليًا متجاهلًا القوانين.
بحث الموظف في الحاسوب عن اسم كريم نورين، واندهش من الشبه الكبير بين المدعو مروان وكريم، هذا ما حيره. ولم يخبر النسوة بخوفه بأن يكون مرض الجنون قد عاد إلى العالم الجديد. يسأل نفسه: ترى ماذا جرى لكريم؟!
أبدى مروان غضبه وتغيَّرت ملامحه، فخاف الموظف وعاد إلى الخلف، ورجَّح أن كريم فعلًا مجنون، فالغضب سلوك جنوني لم يعد له وجود، كغيره من أمراض العصور الهمجية .. قال الموظف وهو مرتبك: حقًّا إنه يعاني من مرض جديد نُقل من كوكب آخر.
تحدث مروان بصوت عالٍ قائلًا بأنه غير مريض، ولماذا يستغربون من اسمه، وبأن أباه كان يرعى الأغنام في «الأعروق» منطقة الحُجرية، وما العيب في ذلك؟! يحدث نفسه: «لماذا هذا العالم يسخر مني؟ أظنهم يرونني قردًا مسليًا في نظرهم. لا أحب أحدًا أن يسخر مني ولو كنت في الفردوس.» ومما أغضب مروان أكثر حين أخبره الموظف أنه سيُشفى من مرضه. كتم غضبه، وسأل النسوة والحزن يبدو واضحًا على وجوههن: في أي زمان أنا؟!
– غير معقول ما تقوله يا كريم! هل نسيت حتى التاريخ. نحن في ٥/ ١ /٣٠٠ب.ج.
– ما هذا التاريخ؟! أكاد أجن.
– نحن في بداية القرن الثالث بعد «الإنسان الجديد».
– إنسان جديد؟! وما هذا التاريخ؟!
– نحن في القرن السادس والعشرين الميلادي.
ذُهل مروان مما سمعه، وهو يحدث نفسه كالمعتوه: «القرن السادس والعشرون الميلادي .. وكنت قبل ستة أيام في القرن الواحد والعشرين .. هل أنا أحلم، وما كل ما يدور حولي سوى حلم جميل؟» ضرب رأسه بيده بقوة وشعر بالألم، وقال بصوت مرتفع: «أنا لست أحلم، أظنني في حالة رؤيا للمستقبل. شعر بعدم قدرته على التركيز، وتشوشت عنده الرؤية. أخذت إحدى النسوة تهزه وأخرجته ما هو فيه.»
٢
توجهوا جميعًا إلى قسم الأمراض الطارئة في المستشفى. كان معظم الطاقم الطبي من الرجال، ترأسهم البروفيسور «ماري حنان الذماري»، في علم السلوك البشري، تبدو أكبرهن في السن. فرح مروان لكثرة الرجال هناك. وقف أمام الطبيبة، وقامت هي من مكتبها مندهشة من شعره النابت في ساقيه وصدره ووجهه، وهي تحدث نفسها: «من أي كهف خرج هذا الرجل؟!» أخبرتها إحدى النسوة بلغتهم الغريبة عن مروان بخوف وقلق بالغَيْن، إن شريكهن كريم نورين فقَدَ ذاكرته وانتحل شخصية أخرى، يدَّعي أن اسمه مروان، وتغيَّر سلوكه. أصبح يغضب، نهم على الأكل، قوي غير كريم الذي يعرِفْنه، ويريد أن يستخدم الأسلوب الهمجي عند اللقاء الحميمي.
نقلته الدكتورة فورًا إلى غرفة العزل، واستدعت الدكتور «فرنر» للكشف عليه. وقف مروان أمام الدكتور فرنر، الذي راح ينظر إليه من رأسه حتى أخمص قدميه، ثم خرج فرنر خلال دقيقة بتقرير يثير الدهشة: هذا الرجل ليس كريم نورين، جيناته تختلف تمامًا عن جينات كريم. ليس فيه أثر لتلقيح الأديان، عضلاته قوية، فيه طاقة جنسية هائلة، نرجسيته في أعلى مستوًى لها، كروموسوم وأي المُذكرة خمسة وتسعون في المائة نشطة. فيه طفيليات وفيروسات وميكروبات، كانت في إنسان القرن الثالث ق.ج، أي إن عمره خمسمائة وستون عامًا.
اندهش الجميع، وكذلك مروان، من تقرير الدكتور فرنر عن عمره الخرافي، وظنوا أنه أخطأ في تقدير عمره، وأخذت البروفيسور تسأل النسوة بخوف: «هل مارس معكن التلقيح؟!» أخبرنها أنهن لم يخالفن نظام التلقيح لحياة جديدة مع شريكهن. شعرت ماري بقلق، وأخبرت النسوة بضرورة الإسراع في تلقيح مروان بلقاح هذا العصر. تحدث نفسها: «يا لعجب الطبيعة! كيف بقي هذا الرجل على قيد الحياة طوال هذه المدة؟! ثقتنا كبيرة بتشخيص الدكتور فرنر، ولو أنه خرج بتقرير غير مألوف لدينا للغاية!»
طرأت فكرة على البروفيسور في الكشف عن ذاكرة مروان؛ لتعرف ماذا فيها من أحداث مرت عليه، وليكون هناك التشخيص الحاسم بالأمر. حقنته بحقنة تنشيط الذكريات .. ووضعت حول رأسه أقطابًا كهربائية عديدة، تؤدي إلى جهاز نسخ الذاكرة. استرخى مروان وهو بين اليقظة والسُّبات، وبقي يستعيد سجل ذاكرة حياته كلها .. كانت البروفيسور والنسوة يشاهدن وهن في حالة من الدهشة، ما سجَّله جهاز الذاكرة من ذكريات مروان التي تُعرَض على شاشة كبيرة، والدكتور فرنر يقف بجوارهن مبتسمًا.
شاهدوا مدينة قاحلة، بنايات بدائية، شوارع ضيقة، تزحف فيها مركبات قديمة كالديدان، تنفث دخانًا وغبارًا هنا وهناك، جبالًا مُجدبة، قطيعًا من الخراف يمشي في الشارع، أكوام قمامة، أعمدة الكهرباء وخطوطها المعلقة في الهواء، نساء يمشين بعباءات سوداء وهن ملثمات، أناسًا في تجمُّع كبير، تمضغ أوراقًا خضراء، وخدودهم منتفخة. بعض الرجال يمشون هنا وهناك، يحملون أسلحة عتيقة وحول الخاصرة حزام عريض مثبت فيه خنجر. شاهَدوا بقرًا، حميرًا، جِمالًا، طيورًا .. مما أخافهن وأفزعهن هو مناظر بشعة لانفجارات ودخان في أماكن عديدة في المدينة، أناس يضعون أيديهم على رءوسهم وهم يصرخون خوفًا. ثم شاهدن أحداثًا سريعة حدثت في بيت مروان هو وأسرته وفي سوبر ماركت، وأناسًا تتحدث عن الحرب، استقالة الحكومة. سمعن رجلًا يحدث مروان عن محاصرة الرئيس، وهروبه من منزله المحاصر في صنعاء إلى عدن …»
كانت البروفيسور في غاية الدهشة، أخبرت النسوة بحزن لِما شاهدَتْه عن عالم مروان الذي أتى منه بأن ما شاهدوه ليس إلا ذكريات مروان الحديثة. ثم شاهدن خيامًا منصوبة في شارع ضيق، امتدت إلى مسافة طويلة، وجموعًا غفيرة، نساءً ورجالًا يمشون بين الخيام. شاهد أناسًا يقفون على منصة يتحدثون، وهتافات عالية: «ارحل، ارحل .. الشعب يريد إسقاط النظام»، وجموعًا غفيرة تزحف في الشوارع، وتصطدم بقوات عسكرية، قنابل دخانية تتساقط عليهم، وخراطيم المياه وهي تسلط على الجماهير، وهم يهتفون: «الشعب يريد إسقاط النظام، ارحل …» كان هناك إطلاق رصاص، و«موترات سياكل» تنقل العديد من الجرحى.
حشد كبير من الناس يقفون صفوفًا منتظمة في شارع عريض، تركع وتقوم وتسجد ثم تنصرف مرة واحدة. شاهدن معركة وقتلى في الشارع، حيث تجمَّع فيه الناس بالقرب من الخيام، وأناسًا تصيح: «سقط خمسون شهيدًا هذا اليوم يا شباب»، ثم سمعن ما سجلته ذاكرته السمعية في المواجهات بين الجيش، وقوات القبائل في «الحصبة»، وسيطرتهم على العديد من الوزارات.
دمعت عيونهن، وهن يشاهدن حربًا ضروسًا بين جبال جرداء وصحارٍ، معدات حربية تزحف وعربات جند وصواريخ، وطائرات تقصف الجبال، معدات حربية تقذف القذائف، وأناسًا بذقون طويلة بثياب سوداء يتقدمون صفوف الجند، وهم يهتفون: «الله أكبر، اهجموا على الكفرة والمرتدين، الجنة أمامكم يا جند الله، تقدموا إليها، إنها الجنة. الوحدة أو الموت …» كانت هناك عربات تحمل القتلى بالعشرات، والدم يسيل منها. ثم شاهدن بحرًا ومدينة بدائية خلفها جبل كبير يمتد من البحر إلى البحر، لم تعد تلك الجبال أو موقع المدينة معروفًا لديهن. ثم سمعن شخصًا يشبه صوت مروان، وهو يهتف بين الجند: «إنه النصر، ها هي مدينة عَدن أمامنا. هزمنا الاشتراكيين الانفصاليين الكفرة.»
قالت إحدى النسوة للبروفيسور ماري: «نود لو يصحو مروان؛ ليخبرنا هل هو ذلك الرجل القاتل أم لا؟ أصبحنا نخاف منه.» ردت ماري: «لا تستعجلن، حتى ولو كان هو، فبعد اللقاح الديني سيتغير تمامًا.» عُدن إلى مشاهدة شريط ذكريات مروان. شاهدن أسرة مروان وعدة عُمَّال يعملون وكذلك طريقة البيع القديمة، وما أضحكهن فجأة، وأخرجهن عن عادات الضحك المتبعة، هو مشاهدتهن لامرأة قصيرة عارية، وهي تحت جسد مروان الثقيل. قالت البروفيسور، ولا يزال الجهاز يسجل ذاكرة مروان، وهو فيما يشبه الغيبوبة: إنه اكتشاف مهم، حصلنا عليه عن الزمن الماضي لصنعاء، والعالم القديم أيضًا.
صحا مروان من غيبوبة الذكرى، وهم يشاهدون شاشة تلفزيونية: فتيانًا يلعبون، فهتف: «ذاك صديق طفولتي عامر، وذاك محمود، تلك سُمية، ذاك بيتنا، مسجد القرية، غير معقول! من أين حصلتم على هذه المشاهد، أكاد أجن؟! .. ياااه، تلك أمي غصون، خالتي، هذا قطيع أغنام أبي، تلك قريتي. مستحيل!» شاهد نفسه، وهو يضرب فتًى .. ثم شاهد نفسه وهو صغير يسرق بيض «مريم علي» جارتهم في القرية. شاهد نفسه، وهو يقف خلف أحد الفتيان، وهما يختليان معًا بين الأحراش! غطى عينيه حتى لا يرى، شعر بالخزي. كان مروان يودُّ أن يواري نفسه عن الغير، يغطي عينيه. هتف: إنه يوم الحساب .. إنها القيامة! لا أستطيع أن أرى أكثر. لا أستطيع .. إنه يوم الحساب، يوم تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم. إنك بين يدي ملائكة الحساب يا مروان، وهذا كتابي أقرؤه، ثم انهمرت دموعه باكيًا.
بينما كان مروان يلطم خديه، ويتأسف على حياته في الدنيا كيف قضاها، يعض على أصابع الندم، كانت النسوة منشغلات بمشاهدة طريقة المضاجعة الهمجية مع زوجته. ذهلت النسوة من تلك الطريقة المتوحشة.
عاد مروان يتلصص بخزي على شاشة العرض، وهي تعرض غرفة ضيقة كئيبة، وامرأة عجوز تقف بقميصها الفضفاض، وقد رفعت أكمامها إلى ساعديها، وكفاها ملطخان بالدم، حول رأسها مقرمة حمراء منقطة بالسواد، وسروالها قطني أسود، كانت تقول بفرح: «إنه ولد أبيض وجميل يا غصون، ماذا ستسمينه؟ سيفرح به أبوه حين يعود من المرعى.» قالت المرأة وهي تتألم: «قد سمَّاه أبوه «مروان»؛ فقد كان يتوقع أنه ولد.»
تأكد لمروان أنه «يوم الحساب»؛ لطالما رأى أمه وهي تلده، وأن الجنة والنار تكونان في الأرض التي يُتوفى فيها الإنسان، وأنه الآن بين يدي ملائكة الحساب. في نفسه تساؤل عميق: «قيل لنا إن ملائكة العذاب مُرعبون. كيف هذا وأنا أشاهدهم بصور جميلة ولطيفة، ذكورًا وإناثًا! تُرى هل ما قيل لنا عن الجنة والنار، وملائكة الحساب لم يكن سوى تخيُّل من البشر؟! هل عشنا قرونًا في كِذبة؟!»
كان الجميع في دهشة؛ لما يشاهدونه في فيلم ذاكرة مروان، بالصوت والصورة لأحداث حدثت أمامه في حياته. ذرفت البروفيسور ماري الدمع مرة أخرى، رغم أن لا أحد يبكي في هذا العصر، وقالت: «لم نرَ في ذكريات مروان أشياء مبهجة، كانت معظمها محزنة للغاية. لقد عاشت مقاطعة صنعاء فيما مضى حروبًا شتى، في آخر عصر همجي عاشته البشرية تحت سيطرة الرجل. كانت الأنانية المشبعة بالنرجسية الخبيثة تطغى على العقل البشري كثيرًا …»
تأكد للجميع أن الذي بين أيديهم رجل آخر، غير كريم نورين، الذي اختفى عن الوجود، أمر حيَّر النساء، كيف اختفى وظهر مروان فجأة إلى الوجود، الذي بقي حيًّا منذ القرن الثالث ق.ج. «قبل الإنسان الجديد»، بداية القرن الواحد والعشرين الميلادي؟ وكيف بقي حيًّا إلى هذا العصر؟!
٣
كان مروان في عالمه الفردوسي في غاية الحيرة، يحدث نفسه: «ملائكة العذاب شداد غلاظ، يخافهم البشر لمجرد وصفهم، وهؤلاء يبدون ملائكة رحمة. هذا ما لم أسمعه في حياتي!» سأل البروفيسور بخوف: أليس هذا يوم الحساب، وأنتم ملائكة العذاب؟! أتوسل إليكم، الرحمة! كنت مؤمنًا بيوم الحساب، لكن كنت أفعل عكس ذلك. عشت في نفاق مع نفسي ومع الله.
أنصت بدهش لما تقوله ماري، وهي سعيدة بما اكتشفته: ماذا تقول؟! أنت في صنعاء .. وقد عرفنا من أي زمن ماضٍ أتيت، لقد حدثت لك معجزة إلهية، كيف بقيت حيًّا إلى هذا العصر؟! أما ما قلته عن إيمانكم بيوم الحساب أظنه كان نفاقًا. المؤمن بيوم الحساب لا يرتكب أخطاء أو معصية مقصودة في حياته، ولو كنتم تؤمنون بيوم الحساب حقًّا؛ لأحلتم دنياكم إلى جنة، مثل هذا الذي تراه الآن.
حدث نفسه بغرابة «ما تقوله هذه المرأة لا يقدر عليه إلا الله. هذا هراء .. لكن الجهاز الذي كشف ما في عقلي، لو أنه وُجد في زماننا لتغير وجه الحياة. البعض سيخافه أكثر من الله.» تعجب أيضًا كيف أن الدكتور فرنر في برهة من الزمن عرف عنه أشياء كثيرة، لا يستطيع أن يعرفها أحد بهذه الدقة والسرعة في زمنه. جلست البروفيسور ماري مع النسوة وهي في حيرة، سألتهن: «كيف أتى هذا الرجل إليكن دون أن تعرفن ذلك؟!»
أفَدْنها بأنهن لم يعرفن كيف حلَّ بدلًا عن كريم شريكهن السابق فجأة، وبأنهن أحببن مروان وسيرتبطن به قريبًا، وسيكون تحت رعايتهن. فكرت ماري بالأمر ووجدت أنه من الأفضل بقاؤه عندهن ليقُمْن بمراقبة رجل بقي حيًّا منذ أكثر من خمسمائة عام، وأخبرتهن أنها ستقوم بتلقيحه بلقاح الأديان، وسترى مدى تأثير اللقاح فيه. فهو رجل مختلف فسيولوجيًّا عن إنسان هذا العصر، وولد في عالم تسوده الأنانية وأخذ ذلك عنها. سيبقى لمدة أربعة أيام هنا؛ لتعديل جيناته الأنانية، وكَبْحِ نرجسيته الفردية الخبيثة، ويواكب سلوكه هذا العصر، وإن لم يستجب للقاح سيبقى في غرفة الحجر الصحي، وسيقوم الهيموروبوت الطبي بمراقبته، حتى يتم إبلاغ رئيسة مقاطعة صنعاء بهذه الحالة النادرة. قبل عودة النسوة إلى منزلهن، كشف الدكتور فرنر عليهن جميعًا، لمعرفة ما إذا كُن قد أُصبن بأي عدوى انتقلت إليهن من مروان.
في اليوم الأول لمروان وهو في المستشفى، شاهد ممرضة جميلة تبتسم له تطوف على غرفته، ظن أنها معجبة به. قدمت له شرابًا والبسمة العذبة لا تفارق شفتيها، وقدمت له الطعام النباتي وقت الغداء. دنت منه فقبض بمعصمها الرقيق للحظة قصيرة، فدفعه شغفه بها وقبَّلها، وجد خدَّها باردًا، شعر أنها لم تحس بقُبلته. ظن أنها غضبت؛ فراح يعتذر لها.
في اليوم التالي زارته البروفيسور ماري، وقدمت لها الممرضة التي ظنها مروان بأنها فتاة بشرية تقريرًا مفصلًا عنه، وأخبرتها أنه قبَّلها. كان مروان مندهشًا مما تقوله الممرضة، يشعر بالخزي من فعلته. سألته ماري: «هل قبَّلت الممرضة؟» أنكر مروان أنه قبَّلها! ابتسمت ماري، وأخبرته بأنها هيوموروبوت طبي لمراقبة وفحص المرضى، ولديهم الكثير منهم. أما الكذب الذي كان وباء العصور السابقة فسيزول عنه قريبًا. بدا الخجل على وجه مروان من تصرفه المشين أكثر. وهمس لنفسه: «معقول! هذه الممرضة ليست بشرًا؟ أعوذ بالله من الشيطان، اقترب الهيوموروبوت الطبي، وأخبر البروفيسور ماري بما همس به مروان لنفسه.» التفتت ماري إلى مروان وسألته: ماذا تعني بكلمة شيطان؟
تفاجأ مروان بالسؤال وهو يحدث نفسه: «كيف عرفت بما وسوست به نفسي؟ وكيف لا يعرفون معنى كلمة شيطان؟!» تفاجأ مرة أخرى بأنهم لا يعرفون معنى كلمة «شيطان»، وفغر فوه حين أخبرته أن الدكتور «فرنر» ليس بشرًا أيضًا! وأنه سيخرج إلى عالمه الجديد إنسانًا آخر بعد تلقيحه ﺑ «لقاح الأديان».
٤
في تلك الليلة، بقي مروان يفكِّر فيما أخبرته ماري حنان الذماري، عن هذا العالم الذي هو فيه. تذكَّر ما قالت له عن معنى مصطلح «ب.ج.» بعد الإنسان الجديد، وعن نهاية عصر العالم الذكوري الذي استقوى فيه على الأنثى، وانتزع حقها في انتساب المولود باسمها، والمصنع البيولوجي البشري. في مقابل ذلك لا يُقدِّم الرجل للطبيعة غير شهوته التي يريد أن يتخلص منها.
في الصباح أخذته الممرضة إلى «قسم تلقيح الأديان الرباعي»، وهو يفكر: «ما هو تلقيح الأديان؟ كيف جعلوا الدين لقاحًا؟!» أخبر البروفيسور وهو يكبت غضبه، بأنه لا دين بعد دين الإسلام، ثم إن الدين لا يُعطَى لقاحًا، هذا هراء! وبأن قلبه عامر بالإيمان ويعرف الدين جيدًا. ظل حياته يدعو له ويجاهد من أجله، وعلى استعداد أن يموت في سبيله، وسبيل ربِّه .. وأنه لم يعرف غير لقاح: الحصبة، الجدري، السعال الديكي، السل، فيروس الكبد .. وقد أخذ تلك اللقاحات جميعًا. لم تتفاجأ البروفيسور من تصرفه، لكنها تفاجأت من تلك اللقاحات البدائية التي ذكرها، وأخبرته شيئًا عن تلقيح الأديان، الذي نقلَ البشرية إلى طور جديد «الإنسان الكامل»، وولادة جديدة للبشرية. أوجدوا مجتمعًا غير أناني، شعاره «أنا — أنت»، يُولد فيه الطفل فلا يجد من يعلمه الأنانية، ولا النرجسية الخبيثة. وقد توقف إعطاء ذلك اللقاح منذ خمسين عامًا، فلم يعد هناك مجتمع أناني يتعلم الطفل منه الأنانية. كما توقفت اللقاحات الأخرى كلقاح السرطان وأمراض القلب، والجنون .. كانت تخبره وهو يتأمل ذلك الجمال الرائع في الممرضات الآليات، يراهن أجمل من زوجته حميدة. يتساءل لو أنهن وُجدن في حياته السابقة، كان سيقتني العديد منهن بما أنهن لسن بشرًا، لا سيما يمكن للبعض منهن النوم مع الرجال.
تلقى مروان المرحلة الأولى من تلقيح الأديان، ضد «الأنانية». ذهب بعدها في نوم عميق، لم ينَمْ مثله في حياته. استيقظ وقت الظهيرة وهو يشعر ببهجة لا يعرف مصدرها. حضرت البروفيسور مساءً للاطمئنان عليه، رحَّب بها وكان يود أن يحضنها. سألها وقال: ما هذا اللقاح الذي أعطيتموني إيَّاه؟! أشعر أنني رجلٌ آخر.
ابتسمت البروفيسور وجلست أمامه. قالت: هذا اللقاح سيغيِّر نظرتك لذاتك، ويكبح نرجسيتك الخبيثة، لن تشعر بالغرور أو الزهو، كما كنت تشعر به في حياتك السابقة. نحن الآن نكبح فيك الجين الأناني. نحن نخلقك من جديد لتناسب هذا العصر.
بقي ذلك اليوم يحلِّق في سماء السعادة، التي لم يشعر مثلها في حياته السابقة، يود أن يهب نفسه للعالم، كما كان يهب نفسه في سبيل الله في حياته السابقة.
في صباح اليوم التالي أعيد إلى غرفة التلقيح، وأُعطي جرعة أخرى (جرعة الصِّدق). حضرت البروفسور تسأله عن شعوره بعد اللقاح، وجلست تحدثه عن الصدق الذي أمرت به كل الأديان القديمة التي صارت تراثًا روحيًّا في هذا الزمان، وأن الصدق عمود الأديان كلها.
بقي في حيرة مما تقوله ماري: «كيف جعلوا الدين لقاحًا، وما كنا نقدسه صار تراثًا روحيًّا؟!» ثم أخبرها أنه شاهد فيلمًا عن الديانة الهندوسية لمقاطعة دلهي، أسموه الدين البراهيمي. سألته: وهل شاهدت الثورات الدينية ضدها؟
– ما أعرفه عن الثورات بأنها ضد الطغاة، وليس ضد الأديان! هذا لم أسمع به من قبل.
أخبرته بأنهم سيشاهدون تلك الثورات التي ظهرت ضد الديانة الهندوسية المتعددة الآلهة، التي ظلت باقية حتى إلى ما قبل الإنسان الجديد، واندثرت الديانات المشابهة لها، وظهرت الديانات التوحيدية التي تعبد إلهًا واحدًا فقط. اقترب الحاضرون ليشاهدوا معًا، كان من ضمنهم هيوموربوت. أخذ يسألها والحيرة تعصف به: لماذا يحضر الآليون؟!
– ليتعلموا مثل البشر.
عصفت الحيرة بمروان أكثر، حتى إنه شك أن ماري قد تكون هي آلية! بينما هي كانت تشير بريموت نحو حائط الغرفة الزجاجي، فإذا بها تفتح نافذة، وظهر ذلك الدليل الذي شاهده مسبقًا. أنصت الجميع إلى الدليل، وهو يقول: أعزائي، ثورات عالم ما قبل الإنسان الجديد لم تقُم ضد الطغاة فقط، بل كانت أيضًا ضد المعتقدات؛ فكل معتقد مع الزمن يصدأ ويتداعى بالتدريج جيلًا بعد جيل، لكن ذلك يأخذ وقتًا لتتخلله ثقافات جديدة، وتصبح تلك المعتقدات إرثًا روحيًّا إنسانيًّا.
أشار إلى تمثال «مهافيرا» وقال: هو مؤسس الديانة الجينية في القرن الثاني والعشرين، قبل الإنسان الجديد أي ٥٩٩–٥٢٧ق.م. اتخذه أتباعه إلهًا لهم فيما بعد، ولم يشركوا معه إلهًا آخر. رأى الكثيرون أنها إصلاح لما أفسده الكهنة الهندوس، التي ترى أن الناس غير سواسية، واتخذت من الدين ما يمكِّنها من السيادة على الآخرين. بعد وفاته انقسمت الجينية إلى مذهبين، المتشددون «ديجاميرا» والمعتدلون «سويتاميرا». كما انشقت الكونفوشية إلى مذهبين. كذلك قامت الديانة المسيحية بثورة ضد الديانة اليهودية، وانشقت هي الأخرى إلى مذهبين بروتستانتية وكاثوليكية. كما جاءت الديانة المحمدية التي هي آخر الديانات الإبراهيمية، وثارت على كل الديانات السابقة، وأتت بإصلاحات جديدة، وانشقت هي الأخرى إلى سنة وشيعة.
انتقل الدليل إلى مسرح آخر من المتحف، أشار إلى تمثال بوذا، وذهب يتحدث عنه قائلًا: هو الأمير سادهارتا جواتاما، الملقب ببوذا (المتنور) لم يعبد المؤمنون به سواه. كانت ثورته على طقوس الكهنة البراهيمية المتشددة وتعدد الآلهة. ليس لهم كتب مقدسة، بل تعاليم بوذا الأخلاقية، وهو كتاب «فينايا بيتاكا»، وكتاب «أبهيدارما بيتاكا». تتضمن نقاشات في الفلسفة، وغيرها من الموضوعات التي تمس العقيدة. يقولون إن «الفيدا» الكتاب المقدس للبراهمة بشَّر بظهور حكيم، يجدد ما طمسه الزمن من الدين البراهمي، دعا إلى قهر الشهوات والمساوة بين الناس، والانصهار مع العالم إلى حيث لا وجود للأنا. وهذا ما توصل إليه هذا العالم، عصر الإنسان الجديد.
تلاشى ذلك المشهد، وظهر الدليل يتحدث عن الزرادشتية: أسسها زرادشت. كانت الزرادشتية تُعرف بالمجوسية، كتابهم المقدس «الأفيستا». تعد واحدة من أقدم الديانات التوحيدية في العالم، ظهرت في بلاد كانت تسمى فارس في «٢٦ق.ج.» أي القرن السابع قبل ميلاد المسيح. دعا زرادشت إلى عبادة إله واحد هو «اهورا مزدا» يأمر الناس بالفكر الصادق، والقول الصادق والعمل الصالح، والنار والماء لطقوس الطهارة الروحية، وأن الجسد يفنى وتبقى الروح في منطقة وسطى بين الجحيم والجنة حتى اليوم الآخر، فالرجل الصالح يخلد في الجنة إلى جانبه، والفاسق سيخلد في الجحيم إلى جانب الشياطين. وهناك ديانات توحيدية في إقليم إفريقيا، فالإنسان منذ فجر التاريخ يبحث عن خالقه الأوحد؛ فقد كان الزنوج البدائيون موحِّدين، يعبدون إلهًا واحدًا. في قبيلة «الماو ماو» يؤمنون بإله يسمونه «موجابي» لا يُرى ولا يُعرف إلا من آثاره وأفعاله. وفي قبيلة «نيام نيام» كانوا يؤمنون بإله واحد يسمونه «مبولي»، وفي قبيلة «الشيلوك» يؤمنون بإله واحد يسمونه «جوك»، يصفونه بأنه خفي وظاهر، وفي قبيلة «الدنكا» يؤمنون بإله واحد يسمونه «نيالاك»، وكل قبيلة تزعم أن إلهها هو الأقوى من الآخر. هكذا البشر لا يستطيعون العيش بدون إله. ويذهبون للبحث عنه في الكون، منهم من يخترعونه وينحتونه كما يرونه في قلوبهم. وفي هذا العصر عرفت البشرية أن الرب يقطن في قلب المخلوق بجوار الشيطان الذي فطسناه، وبقي الإله وحيدًا في القلب.
كان مروان في عالمه الفردوسي، يسمع ما لم يسمعه في حياته، يشعر بأن الشيطان لم يعد له وجود في ذلك العالم، في الوقت نفسه كانت أمه غصون تنوح في عالم يسود فيه الشيطان، لم تتوقف عن البكاء على ما جرى لابنها الوحيد من زوجها ناجي مدهش الراعي في القرية. انفصلت عنه بعد أن ولدت مروان بأربع سنين، تخلى عنها الراعي رغم حسنها؛ فهو لم يعد يطيقها هي وابنها مروان كلما نظر إليه؛ لشبهه برجل يُدعى عبد الفتاح. نام ليلة في بيت الراعي. تكاد الحيرة والغيرة يقتلانه، لا سيما أن زوجته الأولى لم تحبل منه بعد ست سنوات من زواجهما؟! أمرٌ جعله يحدث نفسه كلما نظر إلى مروان، ففضل أن ينفصل عنها.
ظلت غصون بجوار ابنها، لم يفارقها الحزن وهي تراه كجثة هامدة، ولولا تلك الأجهزة التي حول صدره وتزويده بالأكسجين لفارق الحياة. ظلت تبكي وهي تتذكر طفولته الشقية، عاش دون أبٍ يرعاه، فكانت له الأب والأم. تذكرته وهو صغير يرعى الأغنام معها، وكيف نشأته مَنشأ حَسنًا. علمته حفظ القرآن وتجويده عند فقيه القرية «سعيد علي». أصبح مؤذن المسجد وهو في الثانية عشرة من العمر.
كانت غصون ترى تلك البسمة المرسومة على شفتي مروان، هي الأمل الوحيد الذي تراه لشفائه. لم تعد تخاف صوت الانفجارات. لم يعد شجار علي ومعاوية يُغضب غصون في البيت الذي نزحوا إليه، كما نزح جميع سكان حي العطان. بقى الحي خاويًا على عروشه، حتى المركبات لم تعد تمر في شوارع الحي الذي تحول إلى مدينة أشباح. كانت غصون تجلس ليلًا على سجادتها متجهة نحو القِبلة، تدعو الله أن يشفي ابنها مروان!
اتصل منير بفاطمة، وقالت له إنها في المستشفى مع أمها، فذهب إلى هناك. انعزلا بنفسيهما في شرفة الغرفة وبقيا ينظران إلى المدينة. كان هناك دخان يتصاعد إثر القصف في منطقة النهدين. قال منير: «أترين ذلك الحريق والدخان؟ إنه يحرق أحلامنا، كنت أنتظر متى ستتوقف الحرب لنتزوج، والآن أنتظر متى سيشفى أبوكِ. اشتريت الغسالة ماركة ممتازة والفرن، عصارة الفواكه .. ولم أنسَ لعبًا لأطفالك، متى يا فاطمة سنعيش تحت سقف واحد؟!» اقترب منها حتى لامس كتفيها، وهما يسندان مرافقهما على شرفة النافذة. كان ينظر إلى الخلف أحيانًا؛ خوفًا أن تشاهد أمها تلامس كتفيهما. يود أن يخطف قُبلة، لكن الفرصة أتته لضمِّها إلى صدره بقوة، حين سقطت قذيفة على معسكر التموين العسكري القريب من المستشفى.
٥
بينما كانت غصون تصلي لله لشفاء مروان، كان هو تلك الليلة في عالمه الفردوسي، يحس أن حملًا ثقيلًا انزاح من صدره، كأن هناك أجنحة خفية ترفعه عن الأرض. في منتصف تلك الليلة مرت ممرضتان جميلتان، تحمل إحداهما جهازًا صغيرًا بحجم قبضة اليد، خلعت ملابسه وراحت تدلك ذكورته بالجهاز حتى نعظ. حدَّث مروان نفسه: «ماذا تفعل هذه الجميلة، إنه منتصف الليل! لماذا تصحي ديكي، هل هذا اختبار جديد؟!» ثم مضت الممرضتان بعيدًا، ومروان في حيرة من أمره!
حضرت البروفسور صباحًا. سألته بماذا كان يفكر حين أخذت الممرضتان قياس عضوه، فقال لها الحقيقة تمامًا، كما حدَّث نفسه مسبقًا .. ابتهجت البروفسور بما حققه التلقيح، وقالت له: «صدقت فيما قلته ولم تُخفِ شيئًا. كان الإنسان فيما مضى لا يظهر الحقيقة كاملة للغير؛ فقد كانت الأنا تمنعه عن قول الحقيقة، كذلك تجعله لا يحب للآخر كما يحب نفسه، يقول: «أنا — أنا»، وليس «أنا — أنت»، وهي التي تدفعنا إلى الكذب والخداع والكره والإجرام، وكلما كانت الأنا أقوى ضعف الحب عند البشر، والعكس صحيح. وقد نجح عالمنا بكبح الأنا والسيطرة عليها. ألا ترى يا مروان؟ إن الغضب والكره متواجدان داخل الإنسان، ولا يأتيان من الخارج.»
شعر مروان أن قلبه كقلب طفل في الثالثة من عمره، واستغرب مما يسمعه، بأنه لم يعد هناك عالم بما كان يسمى أوَّلًا أو ثالثًا، ولم يعد في هذا العالم عنصرية، ولا سلالية، ولا قبلية، ولا عقائدية. ولا الخوف الذي يجعل الإنسان غير حرٍّ، فالخوف من المجهول يجعل المرء عبدًا لأناه، والتي بدورها تجعله عدائيًّا تجاه الآخر.
في اليوم الثالث من بقاء مروان في المشفى، حضر هيوموروبوت ولطمه في الخد وشتمه، مدَّعيًا أنه يتخفى عن السلطة. ابتسم مروان بعد اللطمة ولم يغضب. حدث نفسه بتعجب: «ترى لماذا لم أشعر بالغضب لكرامتي؟! لماذا لم أقاوم؟! ولماذا لم أكره هذا الرجل؟ لم أكن سلبيًّا إلى هذا الحد يومًا!» ثم راح يتأمل في ذاته، يحدث نفسه: «كيف استطاعوا أن يكبحوا عنده الغضب؟ أي معرفة توصلوا لها؟ حقًّا إنهم قتلوا الشيطان داخلي كما قُتل في قلب عيسى المسيح!»
في صباح اليوم الرابع، أخذت البروفسور عينة من دمه، ونسيجًا من جسمه، وقامت بفحص الكروموسومات، وجدت أن الجين الإيثاري قد ارتفع إلى حده الأعلى، بينما الجين الأناني في أدنى مستوًى له. شعرت بالسعادة لنجاح مهمتها البيولوجية. ثم عادت إلى مروان برفقة الأطباء حولها، لم يدرِ مروان هل هُم بشر أم آليون! سألته: كيف ترى إيمانك بالله الآن؛ فقد كنت تشك بأن هذا العالم مُلحد؟
– أشعر أن الله سكن في قلبي، وأنني أحب الذين كنت أراهم أعدائي فيما مضى!
– أنت الآن اجتزت طورًا جديدًا في البشرية، وأصبحت نبي ذاتك، كأنبياء العصور السابقة، كانوا أناسًا استثنائيين، أرادوا أن يكبحوا الأنا في البشرية، لكنهم لم يستطيعوا وها نحن بالعلم استطعنا!
كانت البروفيسور تبدو لمروان شابة وجميلة عكس نظرته الأولى نحوها، وهي تخبره عن السماح له باللقاء الروحي مع شريكاته، أما تلقيحه لحياة جديدة سيكون فيما بعد، وسوف تخبره مرة أخرى حين تلتقي به في منزلهم.
٦
-
الاسم: مروان غصون سعيدة.
-
الجنس: ذكر.
-
العمر: ٥٦٠ عامًا.
-
تاريخ الميلاد: ١ /١/ ٢٥٠ ق.ج.
كان مروان يسمع ماري وهي تتحدث بالعربية، لكنها تكتب بحروف أخرى لا يفهمها. حين سألها عن تلك الحروف التي تكتب بها، أخبرته بأنها اللغة العالمية الجديدة، يمكن لكل بلدٍ أن تتحدث بلغتها الأم، لكن الكتابة باللغة العالمية الموحَّدة، والتعليم كذلك موحَّد.
٧
خرج مروان من المشفى بثياب العصر، ولم يعرف بأنهم غرسوا في دماغه شريحة بيولوجية لمراقبة أفكاره، وربطت ذاك التواصل مع مريانا إحدى شريكاته، لتعرف مدى صلاحية اللقاح. ذهبوا إلى ساحة موقف المركبة، تلك المساحة الصغيرة تتسع لهبوط مركبة واحدة، وهي موقف يتسع لألف مركبة تحت الأرض. عاد مروان مع النساء مشوش الفكر لم يعِ بطاقته الجديدة «مروان غصون سعيدة». سألهن عن عمر البروفيسور ماري التي يراها في الثلاثين من العمر، أخبرته إحداهن بأن عمرها ١٨٠ عامًا تقريبًا. اندهش مروان فقالت له: لماذا تندهش؟ ألا ترى عمرك أنت غير معقول ٥٦٠ عامًا! ولا زلت تبدو شابًّا. حين تأتي البروفيسور لزيارتك في منزلنا، ستندهش أكثر حين تراها.
أخبرته بما أدهشه أكثر، بأن عضو الرجل الذي كان يرى فيه رجولته، بأنه لم يعد كذلك ولم يعد من خلاله يجد فيه المتعة، بعد أن اكتشفوا وسائل متعة اللقاء الروحي، ولم يعد يدفعهم لإنجاب الأطفال إلا ذلك الجين الذي يتنقَّل من جسد إلى آخر، فيبحث ذلك الجين عن وسيلة للانتقال إلى جسد آخر. وهكذا يستمر في التنقل من جسد إلى آخر حتى آخر يوم من عمر البشرية، فيعود إلى خالقه بعد رحلة قدَّرها له الخالق نفسه، لا يعرفها إلا هو.
كانت المركبة تُحلِّق فوق سماء المدينة والبهجة تغمره، وهو يراها في حُلتها النهارية. عرف أن المرأة التي تسوق المركبة اسمها «مريانا»، وهم متوجهون نحو سوق الخضراوات. شاهد الجبال المحيطة بصنعاء والخضرة تكسوها. سألها: «هل الحُلة الخضراء تكسو اليمن كاملًا؟!» أجابته بما أذهله، بأن مقاطعة صنعاء كلها خضراء، وتضم مدن تعز، مأرب، سيئون، ذمار، ومنتجعات الربع الخالي ومدنًا أخرى .. وبأن اليمن كان اسم البلاد فيما مضى. سألها عن المملكة العربية السعودية؟ قالت: سعودية؟! لم نسمع بهذا الاسم. المقاطعة التي بجوار صنعاء هي مقاطعة «شبه جزيرة العرب». تعتبر أكبر مقاطعة في «إقليم الشرق الأوسط». تشمل مدنًا رئيسة عديدة: الرياض، الكويت، أبو ظبي، الدوحة، مسقط، ومدنًا أخرى .. فكل مقاطعة تُعرف باسم عاصمتها.
– أين ذهب آل سعود؟!
– ألم تخبرك البروفيسور ماري عن لقاح ضد الأنانية، وماذا حقق للبشرية. تلك الأنانية المقيتة التي جعلت بعض البشر يسمون البلدان بأسمائهم، وإنهم يسعون لتحسين السلالة البشرية الحالية، للتأقلم في ظروف مناخية مختلفة، وإطالة عمر الإنسان إلى ألف سنة مع الأخذ بتحديد النسل. وجدوا الشيخوخة تتركز في محرك الخلية، أي «الميتوكوندريا»، وعزل العلماء ما يقرب من ثلاثمائة جين، تتركز الشيخوخة حولها وقاموا بكبحها. وهناك أيضًا زراعة الأعضاء البشرية للإنسان من الحبل السري للمشيمة المحتفظ به منذ الولادة.
كان في السوق أناس من كل أقاليم العالم، أغلبهم من الرجال، قصَّات الشعر موحدة، كأن الأذواق توحدت كما توحَّد السلوك البشري، لم يحاول شخص التميُّز عن الآخرين. السوق يكتظ بالمتسوقين دون ضوضاء، يستطيع المرء أن ينام هناك. راح يقارنها بالأسواق التي كان يرتادها في حياته. وصلوا قسم الخضراوات، وقف مندهشًا أمام الفطر بحجم عجل صغير، وأحجام الخضراوات وألوانها. وتلك الطحالب البحرية المختلفة الأشكال والألوان، عليها لافتات «طحلب بحري، بري، نهري». شاهد الخضراوات والفواكه التي لم يشاهدها في حياته. مشى مذهولًا، فارتطم بهيوموروبوت، فراح الأخير يعتذر لمروان، رغم أن مروان هو المخطئ. لم يرَ أحدًا يحمل هاتفًا سيارًا، أو يقوم باتصال تليفوني أمامه.
اتسعت عيناه حين رأى أعشاب القات بين البقوليات. هتف بدهشة: قات شامي! .. فالتفت نحوه الكثيرون من المتسوقين، أغلبهم من كبار السن والآليين، يبدون استغرابهم من الصوت العالي غير المألوف في الأسواق. اعتذرت إحدى حورياته للجموع بانحناء مهذب. أخذ مروان عشبًا صغيرًا من القات يمضغه، وهمس لنفسه: «هو قات شامي، أنا أعرفه، قاتي المُفضَّل، يمضغه الوزراء كما يمضغون ثروات البلاد ثم يبصقون بها خارج البلاد، حيث لن يرى الحسَّاد بصقتهم تلك. لماذا يُهان القات هكذا بين البقوليات؟!» أخبر حورياته أن يشترين ما يكفي لسهرة الليلة. تبسمت إحداهن، وأخبرته أن هذه العشبة هي عشبة: «شاهي أخضر» لا يُمضغ في الفم. ضحك مروان، فأسرعت إحداهن بخفة، ووضعت كفها على شفتيه تخبره: ممنوع الضحك في الأماكن العامة. لا تنسَ!
٨
الكثير من الهيوموروبوتات مختلفة الأحجام، يتميَّزون عن البشر بملابسهم الخاصة، منهم باعة وموظفو استقبال. يقدمون أنفسهم للمساعدة لمروان ونسائه. تقدم أحدهم ليحمل أشياءهم، فرفض مروان وحمل مشترياتهم بنفسه أمام دهشة المتسوقين، يرونه يحمل وزنًا ثقيلًا، لا يستطيع أحدهم حمله إلا هيوموروبوت. ذهبوا لدفع فاتورة الحساب لمشترياتهم، فلم يشاهد من يقوم بدور المحاسب. شعر بالدونية وهو لا يمتلك مالًا، وهو يرى أكبر حورياته سِنًّا تقوم بالدفع عنه. حدَّث نفسه: «كم ستدفع من الريالات؟» وهي تمرر المشتريات أمام جهاز التسعيرة؛ لمعرفة الثمن بنفسها، دون أن يكون هناك مراقب. عرفَتْ ثمن المشتريات، ثم بصمت في مكان خاص من الجهاز، ظهرت نافذة صغيرة في شاشة تحمل رقم ٢٦٠٠٠ م-ر-ب. أخذت تدرج الرقم المالي لقيمة المشتريات، ثم رقمًا جديدًا فيها هو ٥٦٠ب.ج.
اتجهوا نحو المصعد ومروان يحمل بيده الأشياء الثقيلة، والنسوة تشعر بالبهجة لحصولهن على شريك بهذه القوة، التي لم تعُد في رجال عصرهن. وضعت مريانا الأشياء بجوار المصعد داخل رفٍّ مخصص لحفظ الأشياء يحمل رقم ٦٠١، ثمَّ اتجهت النسوة بصحبة مروان إلى ساحة بنوافير راقصة رائعة، يقف الماء في الجو ويتجمع للحظات، ثم ينهمر كالمطر بألوان عديدة. مشوا في السوق قليلًا، وشاهدوا رجلًا وسيمًا يرقص رقصة نسائية رائعة أمام كافتيريا للعصائر. كان مروان سيضحك لولا أن إحدى النسوة كانت تراقبه، همست له ألا يضحك. لم يغضب مروان لمثل تلك الخلاعة، بل ابتسم وصفَّق له، فالتفت المارة نحوه مستنكرين، وسرعان ما أوقفته إحدى نسائه، وقالت: «قف! التصفيق ممنوع.»
جلس الجميع أمام نافورة، تتمايل على نغمات موسيقى كذلك الشاب الراقص. أخذ مروان يُحلِّق بإعجاب في سماء الموسيقى، التي كان يكرهها في حياته السابقة، ويصفها من عمل الشيطان. دارت تساؤلات في رأس مروان فيما حيَّره في السوق، فأخبرته مريانا دون أن يسألها: النسوة المرتبطات بشريك يكوِّنَّ أسرة، يدفعن ثمن ما يقمن بشرائه باسم الأسرة، ويُخصم ذلك من راتبهن الشهري الإليكتروني، وإذا كان المشتري ليس مرتبطًا أو طفلًا، يدفع باسم أبويه، أو وظيفته إذا كان لديه وظيفة. نحن كوَّنَّا بك أسرة في المستشفى مباشرة، تحت رقم ٢٦٠٠٠ م-ر-ب. وكنا فيما سبق بنفس الرقم من دون حرف «م»، يدل على أن الأسرة مرتبطة بشريك. هكذا يتم البيع والشراء بالبصمة الإليكترونية، والعملة الوحيدة في العالم هي «دورال».
– ألا تخشين من وجود لصوص يسرقون متاعنا حيث وضعناه؟!
– لصوص؟ يسرقون؟! هذه الكلمات ما معناها؟
عرف مروان أن هناك الكثير من الكلمات لم يعُد لها وجود مثل كلمة: سرقة، خداع، كذب، قتل، رشوة .. وكلمات أخرى تدل على سوء الأخلاق. يتساءل في نفسه: «أي عالم أنا فيه يا ألله؟ هل لقاح الأديان فعل ما لم تستطع أن تفعله الأديان والأعراف والقوانين؟! هل هذا الإنسان خليفة الله الحقيقي الذي أخبر الله الملائكة عنه عند خلق آدم «إني أعلم ما لا تعلمون»؟ فالخليفة لا يستخلف إلا أفضل ما لديه من الخلق. لا يمكن أن يكون البشر خلفاء الله وهم بهذا الفساد!»
٩
كان مروان كطفل صغير يخرج لأول مرة إلى حديقة الألعاب، تتنقل نظراته من مكان إلى آخر، استوقفته ثلاثة تماثيل ذهبية عملاقة، منتصبة في الساحة وسط بحيرة صغيرة، أحدها لرجل أسمر اللون يبدو عليه التواضع، تحت إبطه الأيمن كتاب بعنوان «الإنسان الكامل» والآخران لامرأتين، تتدلى على صدريهما عقود من الماس والياقوت الأخضر في سلسلة ذهبية. سأل مروان عن تلك التماثيل، فقالت إحداهن له، وهي تشير إلى تلك التماثيل واحدًا تلو الآخر: «تلك البروفيسور «شالي شو»، من إقليم آسيا، وتلك البروفيسور «نادية تفيدة»، من إقليم الشرق الأوسط. اكتشفتا الجين الأناني عام ١٠ق-ج. أمَّا تمثال الرجل فهو النيبوبروفيسور «سام مارجريت»، من إقليم أوروبا، عالم في هندسة الجينات البشرية. اخترع لقاح الأديان، عام ١ق.ج. بعد سلسلة طويلة من الأبحاث. عمل على تعديل الجينات المسئولة عن السلوك البشري، وبهذا سيطر على الجين الأناني في الإنسان، وساد الجين الإيثاري الذي أخذنا إلى مرحلة جديدة من الإنسانية (الإنسان الجديد)، قبل قرنين من الزمان. وهذه التماثيل لها نُسخ في كل عواصم الأقاليم العالمية السبعة، نحن نُخلِّد البشر بعد وفاتهم فقط. هؤلاء يعود لهم الفضل في هذا السلام والمحبة اللذَيْن يسودان العالم. نحن اليوم ٢٥ / ٣/ ٣٠٠ب.ج. أي بعد الإنسان الجديد.» ابتسم مروان وراح يحدث النسوة: «لم يكن أحد من البشر يتخيل أن تقويم السلوك البشري سيكون عن طريق العلم، هذا لم يخطر على بشر. هذا اللقاح جعلني أرى ما لم أكن أراه فيما مضى.» ثم تساءل في نفسه عن العالم سام: «لماذا يُدعى بالنبي، فلا نبيَّ بعد محمد ﷺ. هل كفر العرب بالرسول محمد في هذا العصر؟!» ابتسمت مريانا وقالت له: «ستعرف عن عالمك الجديد خطوة بخطوة.»
حدَّث مروان نفسه وهو يتعجب: «ما شاء الله! هذه المرأة تقرأ الأفكار!» ابتسمت مريانا مرة أخرى، وطبعت قُبلة على خده. فجأة شاهد آلات غريبة تظهر في الجو وتختفي، منها مركبات حديثة بأشكال عديدة، وهيموروبوت عملاقة، تحمل صخورًا عملاقة، وهي تبني مدرجات جبلية. صور حية لكوكب يشبه الأرض غير مسكون، وكواكب أخرى فيها مخلوقات تشبه البشر، لها أجنحة تحلق في الجو. كانت حورياته يلحظن أثر الدهشة في وجه مروان، وهو ينظر إلى شاشات عملاقة في الجو.
١٠
أثناء عودة النسوة من السوق، كان مروان يتساءل في نفسه: «كيف ستكون المتعة مع حورياته دون اللقاء الحميمي المعتاد الذي يعرفه؟ لماذا لا توجد غيرة في هذا العالم؟! ولِماذا لم يعد للذهب والدُّر قيمة؟! تُعلَّق على صدور التماثيل وليس على صدور النساء. إنه عالم جديد حقًّا!» كانت المركبة تطير في الجو، وهو ينظر إلى المدينة كَمن يفتش عن شيء. قال لهن: لم أشاهد صومعة مسجد منذ أن أتيت إلى هذا العالم، ألم تعُد هناك مساجد في صنعاء؟! ماذا جرى للإسلام في هذا العصر؟!
– ستعرف كل شيء قريبًا.
بدأت السماء تمطر وهم في الجو، فجأة رأى هالة شفافة تحيط بالمركبات، والناس في الشارع يخرجون من جيوبهم ما يشبه الأقلام، تحولت إلى مظلات شفافة. أخبرته النسوة عن تلك المظلات الإليكترونية، وعن موسم الأمطار الذي يستمر عشرة أشهر في السنة. تذكَّر حياته السابقة، وهو في حيرة من أمره من فارق الزمن الذي قيل له، إنه أكثر من خمسمائة عام، وهو لم يغادر حياته السابقة إلا قبل عشرة أيام. أيصدِّق نفسه، أم يُصدِّق الواقع الذي هو فيه؟! فجأة رأى برقة تصطدم بمركبتهم، فخاف وباشرت إحداهن تزيل دهشته، وتخبره بأنهم يستفيدون من البرق، وأن هناك مراكز تمتص تلك الطاقة الكبيرة، كما أنهم يتزودون من طاقة النجوم.
هبطت المركبة في شرفة منزلهم، وهو يفكر بما قيل له عن المناخ والبرق. استقبلهم الهيوموروبوت خادم أو مُدبِّرة المنزل، لم يعد مروان يدرِي، الذي راح يرحب به على أنه كريم نورين، ويسأل هل شُفي مما أصابه؟ لم يقتنع بما أخبرنه أنه مروان، وليس «كريم» وهو يقول: أنا لا أراه إلا «كريم»، وسيُشفى من مرضه.
رحب المنزل بعودتهم كما يحدث كل مرة عند عودة النساء من العمل. جلست النسوة والغبطة في وجوههن بعودة مروان إليهن. قدَّم لهم الهيوموروبوت الحليب الممزوج بعصير العنب، ومروان يفكر كيف يتزوج بسبع نساء، في ظل قانون هذا العصر، ما لم يسمح به شرع الله، وهو يشعر بلهفة اللقاء. طلب منهن قاضيًا؛ ليكتب عقد زواج بأربع منهن، والثلاث الأخريات يهبن له أنفسهن مِلْك يمينه، ويكون بهذا العمل قد وفَّق بين شرع عصره القديم وقانون العصر الجديد.
وافقت النسوة على طلباته، وأخبرنه أن القاضي سيصل قريبًا. جلسوا يشربون الشاهي الأخضر، وهم يشاهدون البث التليفزيوني، الذي يبث من سطح الغرفة إلى وسط الصالة، تبدو المشاهد حية بأبعادها الرباعية. كانت النسوة ترى الذهول في عيني مروان، وهو يحتسي الشاي! ثم أسرع إلى المطبخ، وعاد بحزمة منها، ومضغها، والنسوة تتعجب من تصرفه الغريب، وهو يقول: «هكذا يُمضغ القات» وحَشَا فمه بأوراقه وهو يضحك. فجأة ظهر رجل يقف في الصالة تحت جهاز بث التليفزيون يتحدث بلغة لا يفهمها مروان، وهو يتقدم نحوهم. لم يستغرب مروان مما يراه، وكيف ظهر الرجل فجأة في الصالة؛ فهو يعيش في عالم السحر أو عالم الجن، كما يراه أحيانًا. تحدثت إحدى النساء مع الرجل الطَّيْف قائلة: لقد وصلتك المعلومات عن اختفاء شريكنا السابق كريم نورين في ظروف غامضة، وارتباطنا برجل آخر اسمه مروان غصون سعيدة، وتم تسجيل الأسرة في المستشفى تحت رقم ٢٦٠٠٠ م-ر-ب. واستدعيناك بحسب طلب شريكنا الجديد، فهو غريب عن عالمنا.
كان الرجل الطَّيْف ينظر إلى مروان، يتعجب من انتفاخ خده الأيسر ككرة صغيرة، وأخبرهن بأنه يشبه شريكهن السابق، لولا ذلك الورم الذي في خده. تساءل عمَّا جرى له؟! أخبرته مريانا أن مروان لديه طريقة غريبة في تناول أوراق الشاي، ثم أخبرته بأن يبارك شراكتهن الحالية مع مروان حسب رغبته الغريبة، ويخبره أنه أصبح زوجًا لهن. قال الرجل الطَّيف لمروان: لقد زوَّجتك بأربع نساء هن: مريانا، فرضانا، سيرانا، ريحانة، وأهديتك ثلاث نساء، وهن: فرح، سناء، ناريس، وأصبحت شريكًا في الحياة للجميع. أليس هذا ما تريده؟!
– وأنا قبِلتُ.
ابتهج مروان وضحك، فطار رذاذ القات من فمه، واخترق الرذاذ جسد الرجل الطَّيف، وقد ظنَّه للحظة أنه إنسان، ثم اختفى الرجل الطيف فجاءة. أخبر مروان النسوان أن يزغردن لمثل هذه المناسبات! وجدهن لا يعرفن معنى الزغردة، فأطلق هو زغرودة طويلة. قال الهوموروبوت بروسي: «أظن أن كريم لم يُشفَ تمامًا من مرضه، سأعتني به أثناء ما تكُنَّ في العمل.»
جلس مروان يمضغ القات ويحدث نفسه: «أين أنتِ يا حميدة لترينني، وأنا مع حور العين؟ كُنت ستفقئين عيني يومًا حين نظرت إلى جارتنا «حفصة»، وتحلفين أنك ستقطعينه وتعطينه القطط لو تزوجت بامرأة أخرى.» ثم تذكر أولاده، وتجارته، وكم قتلَ من البشر أثناء جهاده في أفغانستان، وأثناء حرب الانفصال في صيف ١٩٩٤م. وهذه أول مرة يندم على تلك الأعمال، وكذلك أخطاء كثيرة ندم على فعلها، وباشر يدعو الله أن يغفر له. اقتربت منه مريانا، وهي ترى الحزن يكسو وجهه، وراحت تخبره بأنه تذكر شيئًا أحزنه في الماضي، وأخبرته أن سيعيش عالمًا خاليًا من الأحزان.
وجد مروان أن مريانا رقيب على أفكاره، وقال في نفسه بأنه لن يفكر في شيء أمام هذه المرأة مرة أخرى! تبسمت مريانا، ومضت إلى النسوة، وجدَتْهن مسرورات برجل كامل الفتوة، لم تعد موجودة في رجال هذا العصر. أخبرته ناريس عن شعره النابت في خديه، إنه يتكاثر وليس صحيًّا، ولا بد من إزالته. اعترض مروان على ذلك، واستغرب بأنهن لا يعرفن كلمة لِحى! وأنهن لم يشاهدن رجلًا ذا لحية أبدًا. قالت ناريس: يبدو أنك كنت تعيش في أدغال مأرب، أو غابات الربع الخالي. قريبًا يا شريكنا ستصبح رجلًا آخر، وستنسى عالمك القديم!
ذهب مروان إلى الحمام لغسل فمه من القات، وهو يتساءل بذهول: كيف تحولت الصحارى إلى غابات؟! وكيف صارت مروجًا وأنهارًا؟ يبدو أن الساعة اقتربت وصدق رسول الله. بينما هو في الحمام كنَّ يتحدثن فيما بينهن عن طاقته الجنسية التي تبدو كبيرة، ويتوقعن معه لقاءً روحيًّا مذهلًا، وقد أشادت البروفيسور ماري بذلك، وهو لم يطلب منهن شيئًا مقابل أن يكون شريكهن. بعد عودته من الحمام قربت منه ناريس تعانقه، وأخبرته ألا يشوه خده الجميل مرة أخرى، بحشو ورقة الشاي في خده، وأخبرته أن هذه العشبة تُصدَّر إلى كل أقاليم العالم، منها طازجة ومنها جافة شاي أخضر، وعلاج منشط، وتعتبر أحد المصادر الرئيسية للدخل بعد البُن. ثم أخبرته أن خده سيكون أجمل بعد إزالة الشعر منه. أحضرت مرهمًا ووضعته حول خديه، وبعد رُبع ساعة سقطت لحيته بين يديه، ورأى خده لأول مرة منذ أن كان في العشرين يتفاخر بطولها.
بينما كان مروان ينعم في عالمه الفردوسي، كان جسده في عالمه الجحيمي ملقًى في أحد مستشفيات المدينة، في غرفة خاصة، وما يزال جسده يتزود بالأكسجين. وزوجته حميدة بجانب رأسه تمسد شعر لحيته الكثة لأول مرة، لم يسمح لها يومًا أن تُمسِّدها. وكان حفيداهما ولدا ابنتهما فاطمة يشاهدان دخان الحرائق، ينبعث من معسكر الفِرقة ومن جوار الإذاعة، كأنهما يشاهدان فيلمًا حربيًّا. حين يسمعان دوي انفجار في المدينة، يسرعان لمشاهدة أثر ذلك الانفجار. يهتف نادر: «ذلك الانفجار أقوى! انظر إلى سحابة الدخان؛ كم ارتفعت في السماء!» وسامي يهتف، وهو يشير إلى مكان سقط عليه أحد الصواريخ: «لا، ذلك الانفجار أقوى. انظر إلى العمارة التي انهارت.»
أخذت حميدة حريتها في تمسيد لحية مروان، وعينها تطرف بالدمع. اندهشت في آخر مرة وهي تقوم بتمرير كفِّها عليها، شاهدت شعر لحيته يتساقط في كفها كلما مسدتها. سقطت اللحية كاملة ولم تتبقَّ شعرة واحدة، ورأت خده لأول مرة في حياتها. هتفت لابنتها فاطمة وهي تبكي؛ لتشاهد لحية أبيها المبعثرة على الفراش، التي بدورها ذهبت تنادي الممرضة والطبيب، الذي فسَّر تلك الظاهرة بنقص التروية الدموية إلى الجلد أدى لتساقط لحيته. لكنه تساءل في نفسه عن شعر صدره وساقيه الذي لم يسقط. أمرٌ حيَّره، أما حميدة فأخبرت ابنتها بأنه لو صحا من الغيبوبة لغضب غضبًا شديدًا، ولن يخرج من بيته، إلا وقد نبتت لحيته من جديد.
أما الحفيدان سامي ونادر فأخذا يضحكان، وهما يشاهدان وجه جدهما دون لحية لأول مرة. وقال سامي: «لو قام جدي لغضب كثيرًا من جدتي؛ لأنها حلقت له لحيته.»
عند الأصيل خرجت فاطمة وولداها من المستشفى ليعودوا إلى المنزل مشيًا. راحا يلعبان وسط شارع الستين بعد خلوِّه من السيارات، لم يبقَ في المدينة إلا المغامرون من السكان والمتوكلون على الله. فرغت الأسواق من الكثير من الخضراوات والفواكه.
في المساء كان أولاد مروان يقفون أمام نافذة منزلهم، يشاهدون القصف على حي في المدينة. اقترب نادر من النافذة يشتم المتحاربين الذين لم يعطوه فرصة للنوم. أيضًا جلس علي ومعاوية يشكوان لفاطمة، يتحدثان عن قلة البضائع في السوبر ماركت، وقطع طرق الإمداد على المدينة.
في منتصف الليل اتصل منير بخطيبته، لم تكن نائمة في ظل القصف على المدينة. يحدثها بأنه لم يعد قادرًا على الصبر أكثر، ثلاث سنوات وهو ينتظر اللقاء الحميمي. قال لها: الحرب لن تنتهي في البلاد، وأبوكِ في حالة غيبوبة، وإن الحياة لا بد لها أن تستمر.
– لكن يا منير ماذا سيقول الآخرون عني؟! كيف أتزوج وأبي على فراش المرض؟!
– يا فطومتي، لو لم يصحُ من غيبوبته؛ هل نظل نحن أيضًا معلقين بين غيبوبة أبيك والوطن؟! لا بد أن نعمل حلًّا. لا أريد لحبنا أن يموت كما ماتت ثورتنا.
قبَّل منير التليفون عدة مرات، وكذلك فعلت فاطمة، وظلَّا يتبادلان القُبل عبر سماعة التليفون.
كانت حميدة في المستشفى تصم أذنيها ليلًا وهي تسمع الانفجارات، وهي بجانب جسد مروان الملقى بجانبها على الفراش كجثة هامدة، والبسمة لا تفارق شفتيه، وهو يجد نفسه ينعم في عالمه الآخر بجانب حورياته السبع، يُحلِّق في سماء السعادة والنسوة يتراقصن أمامه.
١١
قدَّم الهيموروبوت بروسي وجبة العشاء غذاء نباتيًّا، يحتوي على طحالب بلون الجزر. تذوَّقه، وجد أن له طعم الجزر. أخبرته سيرينا أن الطحالب البحرية لها أنواع عدة بطعم بعض الفواكه، وأيضًا هناك بطعم خبز الذرة والقمح. تناول قطعة كبيرة تشبه اللحم، يصفه بأنه لحم لذيذ رغم برودته. وجد النسوةَ لا يعرفن ما معنى «لحم»، تعجَّب قائلًا: ألا تعرفن لحم الحيوان؛ البقر، الماعز، الكباش؟!
– لا نعرف هذه الأسماء! هل كانت موجودة في عصركم؟!
– نعم، وقد ربيته وشربت حليبه، وأكلت لحمه.
قالت سيرينا: أكلت حيوانًا؟! كيف؟!
– نذبحه ونطبخه ثم نأكله، ونشرب مرَقَهُ.
وصفت النسوة ذبح الحيوان بالوحشية. أمَّا هو فكان يتساءل في نفسه: «ترى لو عرفن أن في عصره يُذبح الإنسان أيضًا باسم الرب!» ضحكن. أخبرته فرضانا بأنه رجل مسلٍّ، وأن الذي يظنه لحمًا حيوانيًّا هو فطر بروتيني.
١٢
تناولوا عشاءهم، ثم جلسوا يتناولون حليب الصويا، مُحلًّى بعصير العنب من مزارع الربع الخالي، وجده مروان خمرًا، لكنه لا يُذهب العقل. عرف أنه لم يعد هناك وجود للحيوانات والطيور، وأنها انقرضت منذ زمن بعيد، تساءل في نفسه: «ماذا تقول هؤلاء النسوة عن الحيوانات، كيف انقرضت؟!» وعرف أيضًا أن الشريك لا يستطيع أن ينفصل عن شريكاته من النسوة إلا بموافقتهن جميعًا، وأن هناك ديمقراطية حقيقية، تسود فيها الأنثى.
سألته ريحانة كيف عاش ٥٦٠ سنة، وأين كان مختفيًا طوال هذه المدة؟ وكيف أتى إلى منزلهن خفية؟! أمرٌ حقًّا حيرهن جميعًا! صمت مروان قليلًا، ثم قال: «حتى أنا في حيرة من أمري، كيف أتيت إلى هذا العالم؟ هل أنا في حلم أم في علم، لست أدري؟!» اقتربت ريحانة منه وقبَّلته في فمه، واعتصرت شفتيه بقوة، وسألته: «هل أنت في حلم الآن؟»
أخبرهن مروان أنه وجد نفسه في هذا العالم، بعد انفجار قذيفة بجوار منزله في «فج عطان»، لم يشعر بعدها إلا وهو في البستان الذي ظنَّه الجنة. سألهن عما أدهشه في البستان وعن الرائحة العطرية في جو المدينة، وكيف قُدِّم لهن الشراب والفاكهة في البستان، دون أن يرى أحدًا يقدِّم ذلك، وعن المركبة التي ظهرت فجأة، وعن الرجل الذي يطول ويقصر وهو يجمع الثمار، واقتلع شجرة قديمة ضامرة، وعن المدينة كيف تغيِّر لونها من وقت لآخر، وأنه كان يظن أنه في عالم الجن، وأحيانًا يرى أنه يحلم، وضحكن حين أخبرهن: «كيف أصبح له جسد؟!»
اقتربت سناء منه، وراحت تخبره أنه لم يعرف إلا القليل عن هذا العصر، وبما حيَّره في البستان: أمَّا الرائحة العطرية فهي روائح الأشجار المعدلة وراثيًّا، وهي موجودة في كل مكان. أما ذلك الرجل الذي شاهدْتَه يجمع الثمار فهو هيوموروبوت، كان يرتدي بدلة التخفي وهو يُقدِّم لهن الفواكه، يتواصلن معه ذهنيًّا. قامت سناء من جواره وذهبت إلى الغرفة، وحورياته ينظرن إليه بصمت. بعد بضع دقائق، شعر مروان بكف يمسح على صدره وعلى خده دون أن يرى من يقوم بذلك، فقام من مكانه، والنسوة تضحك، وهو يقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!» هناك روح تعبث بي، أظنها أتت إلى هذا العالم مثلي، ثم أظهر شجاعته يهتف: «هيا، اظهري أيتها الروح!» أحس بقبلة على خده الأيسر، فتراجع إلى الخلف. كانت الأخريات يضحكن، وهو يسمع صوت سناء دون أن يراها، تقول له: «أنا أمامك». تقدم مروان واصطدم بها وهو لا يراها، فعاد إلى الوراء مرتبكًا، وهي تقول: «لا تخف.» ثم ظهرت له أمامه فجأة، وهي تضحك. حينها رآها ترتدي بدلة تغطي الجسم كاملًا، وأخذت تشرح له عن تلك البدلة .. جلس مروان مندهشًا، يحدث نفسه: «تُرى لو وجدت هذه التقنية في زماننا؟!»
١٣
أخبرته فرضانا عن المركبة وقدرتها على التخفي أيضًا، وعن لون المدينة وكيف تُغيِّر لونها ثلاث مرات خلال اليوم، من لون إلى لون آخر، حسب درجة حرارة الجو. كان مروان يستمع لما كان يُحيره سابقًا، وتذكر ذلك الهيوموربوت الذي ضاجع النسوة في الشقة المجاورة. سألهن عن ذلك اللقاء؟! أخبرته ناريس، وهي مشتاقة للقائه: «هناك نساء شواذ وعانسات لم يجدن شريكًا، فيُضطرَرْن إلى شراء ذلك النوع من الهيوموروبوت، يؤدي الغرض كالرجل في العصر الهمجي.» ضحك مروان وقال لهن: «نعم لقد شاهدت ذلك! حينها شاهدت طيفًا يتحدث عن متحف التراث الروحي للهندوس، وتعدد الآلهة عند الشعوب.» سألته فرضانا: «وهل شاهدت الثورات التي قامت ضد تلك الديانة، التي فيها أتباعها يعبدون إلهًا واحدًا؟» رد مروان قائلًا بأنه شاهد ذلك مع الدكتورة. سألته مريانا: وهل في زمانكم من دعا إلى توحيد الأديان؟
– سمعنا عن قصيدة للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، قال فيها:
أضاف مروان: كنا نرى في تلك القصيدة زندقة، وسفَّهنا مذهب التصوف.
– وكيف ترى ابن عربي الآن؟
– حقًّا إن ابن عربي أدرك قبلنا ما لم ندركه، وتنبأ بهذا العالم!
– هذه القصيدة الخالدة هي إحدى ركائز هذا العالم الذي صار يَدين بدين المحبة، فتعدد الأديان في عالمكم والمذاهب أدَّى إلى تعدد الثقافات، والتي بدورها أوجدت الاختلافات بينكم، ولذلك حاول «الغورو ناناك» في إقليم دلهي أن يوحد الثقافات كهذا العصر، لكن محاولته باءت بالفشل. أظن أنكم كنتم مستعبدين فكريًّا دون أن تشعروا. وهذا هو يا مروان مذهب عصرنا، كما تخيَّله شاعركم ابن عربي. حدث بفضل العلم الذي صار نبي هذا العصر، وأوجد الإنسان الجديد منذ ٣٠٠ عام ب-ج. والآن سنشاهد شيئًا عن عالمك الذي أتيت منه.
فتحوا جهاز البث المثبت في سطح الغرفة، وجلس مروان بجوار بروسي، ومضوا يسمعون الدليل السياحي، وهو يمشي في مسرح العرض في الصالة، يتحدث عن الديانة «الكونفوشيوسية» التي كانت في مقاطعة بكين. أشار إلى تمثال لرجل سمين، والدليل يقول: ذاك هو الحكيم الفيلسوف «كونفوشيوس»، عاش في القرن ٢٦ق.ج. أي في السادس ق.م. طوَّر الفلسفة الصينية، وأسس الديانة «الكونفوشيوسية». تتلمذ على يد «لاو تسو». كان حكيمًا، تلك الحكمة التي جعلت مَن حوله يرونه إلهًا، لتحقيق العدالة. كان أتباعه يرون أن لكُلٍّ مِن الأرض والشمس والكواكب والسحاب والجبال إلهًا، وأن الجزاء والثواب في الدنيا كالهندوسية. انقسمت الديانة بعد كونفوشيوس إلى قسمين؛ مذهب متشدد، يأخذ بآراء كونفوشيوس حرفيًّا، ومذهب تحليلي يحللون آراءه ويختلفون مع المتشددين، هكذا ينقسم أتباع الأديان على الدوام إلى متشدد وغير متشدد. حبذ كونفوشيوس الثورة على الحاكم الذي يستبد بالسلطة أو يسيء استخدامها، لكنه يعترف بالحق الإلهي للأباطرة، يرى الحاكم ابن السماء. اعتبرت الأخلاق والآداب أساس الدين قاعدة ذهبية: «لا تفعل بالآخرين ما لا تحب أن يفعله الآخرون بك.»
رأى أن الإنسان مُقدَّس؛ نتيجة تزاوج القوى السماوية بالقوى الأرضية. كما اعتقد الكنعانيون بالكائن الإنسان، الذي ظهر بعد خلق السماء والأرض، في صورة ذكر وأنثى، هما «آدم وآدمة» واكتمل نسلهما بسلالات بشرية متتابعة. وكذلك رأت بعدها الديانات الإبراهيمية بخلق الإنسان.
– أخذ بمبدأ الشورى التقدمية .. دعا إلى اتحاد شعوب العالم جميعًا في جمهورية عالمية واحدة، وتحققت دعوته فعلًا في عصرنا هذا؛ عهد الإنسان الجديد.
ضحك مروان وقال: «يا نسوان، هذا الدليل يخلط بين الأديان.» كان لدى مروان سؤال أخير لهذه الليلة، وهو كيف يتم التواصل بين الناس، فهو لم يشاهد تليفونات أرضية أو محمولًا؟ لكنه أجَّل تساؤله؛ فقد رآهن يَستَعْدِدْن للرقص والمتعة.