الفصل الرابع
الكون جسد عملاق، يموت ويحيا.
١
لم تنم النسوة جيدًا تلك الليلة، فقررن ألا يمضغن القات مرة أخرى، استيقظن من النوم بصعوبة، وذهبن إلى العمل دون أن يؤدين التمارين الرياضية المعتادة. قام مروان من فراشه وذهب إلى النافذة، ملأ رئتيه بالنسيم العطر. تحدث مع نفسه بصوت مرتفع: «هذه هي الحياة، عالم يتمتع في كل لحظة من حياته، حتى العمل يرى فيه متعة، لم تأخذ حورياتي عطلة بمناسبة زواجهن بي، عالم يُقدِّس العمل.» سأل بروسي عن العطلة الأسبوعية فرد بروسي: لقد غيَّروا دماغك يا كريم، نسيت كل شيء، العطلة يوما الثلاثاء والأربعاء من كل عاشور، وأظنك نسيت أن العاشور عشرة أيام في الشهر، وهناك ثلاثة أيام عطلة لرأس سنة «الإنسان الجديد». أظنك سترهقني بإعادة ذاكرتك يا كريم.
ذهب بروسي ليجمع القمامة في المنزل، ويضعها في المحرقة ثم وضع الرماد في قالب خاص. أما مروان فاغتسل وجلس يتناول إفطاره النباتي، أحس أنه لم يشبع، فطلب المزيد من خبز الطحالب البحرية، وشرب كوبين من الحليب الممزوج بعصير التفاح. قال بروسي: «أظنهم غيَّروا معدتك أيضًا، أصبحت نهمًا على الطعام، وعضو تلقيحك صار ينتصب كثيرًا، هل غيَّروه أيضًا؟!»، ثم سأله: لماذا لا تقوم بتمارين الصباح؟
– لا أحبها.
– ماذا تقصد؟!
– أنا كسلان يا صاحبي فقط.
– ماذا تعني كلمة كسلان؟
– ياه .. أنت لن تفهم.
– أنا أفهم، إنما صارت كلماتك غريبة يا كريم!
– سأضيف كلمة كسلان إلى قاموسك «كسلان»، هي تعني أنك لا تقوى على عمل شيء ما، وفي الحقيقة هي تعني عدم الرغبة بالقيام بذلك العمل.
– قلتها أنت فحفظتها وحللتها من حديثك، وعرفت معناها، وأيضًا سمعتك تقول كلمات غريبة .. أنت ستفسد هذا المنزل. من أين جاءوا لك بهذا الدماغ؟! أظنك آليًّا مثلي، لكنك مطوَّر أكثر مني. سأتأكد بنفسي.
اقترب بروسي من مروان، وقبض على ساعده الأيمن بقوة مما أخافه، ونظر في عينيه، وقال: «لا .. أنت بشر، ولست هيوموروبوت.» لم يغضب مروان من بروسي، فالغضب والكره لم يعُد لهما مكان في قلبه. حدَّث مع نفسه بصوت عالٍ: «لا فرق بيننا وبينهم سوى أن البشر روحهم من عند الله، بينما الهيوموروبوت روحهم من طاقة.» فسأله بروسي: ما معنى الروح؟
– ولو أنه ليس لهذه الإجابة ضرورة؛ لكن لكي تضيف شيئًا جديدًا إلى قاموسك. الروح هي الكائن الحي نفسه والجسد قالبها، وهي من عند الله، وهناك من يراها أنها طاقة تحرك البدن حتى تنفد تلقائيًّا، أو بتدخُّل خارجي مثل القتل والمرض، فيتحول الإنسان إلى جثة هامدة نتنة.
ثم مشى مروان في الصالة ذهابًا وإيابًا يضرب يدًا بيد، يحدث نفسه بصوت عالٍ: «أظنني في حُلم سأصحو منه، يمكن أن توقظني قذيفة أخرى أو صاروخ على جبل عطان. تُرى هل الحرب ما زالت مستعرة في البلاد؟ فنهايتها ليست بيد المتحاربين أنفسهم، وكل مخدوع في أمره.» تدخل بروسي مرة أخرى يسأله: «ما معنى حُلم؟!» أخبره مروان ماذا تعني تلك الكلمة. سأل بروسي مرة أخرى: هل ممكن أن يحلم مثل البشر؟ أخبره مروان بأنه إذا نام مثل البشر، يمكن أن يحلم. تحدث بروسي: أنا أنام مثل البشر، وأصحو بدقة عالية أفضل منهم. سأحاول أن أحلم هذه الليلة.
٢
جلس مروان يبحث في القنوات الفضائية التليفزيونية، فوجد قناة مأرب، وقناة الربع الخالي .. فرح كثيرًا حين شاهد ما لم يكن يحلم به. شاهد المروج الخضراء والأنهار تجري في الربع الخالي، فهتف بفرح: «نعم، عادت أرض الجنتين، وصار الربع الخالي مروجًا وأنهارًا، لا بد من زيارتهما.» ثم وجد قناة مأرب وقناة تعز الفضائية .. قام وهو في غبطة ينظر من النافذة إلى الأبراج العالية، وهي تبدِّل حلتها والمركبات تسبح في الهواء. رأى شاشة تليفزيونية عملاقة فوق جبل نُقم تعرض إعلانات لمركبات طائرة، ماركة تُبَّع ٤ تطير في سماء المدينة كأنها مركبات حقيقية، وإعلانات لتكنولوجيا جديدة يؤديها رجال بأبعادهم الثلاثية، يسرحون فوق سماء المدينة، كأن هناك مدينة معلقة فوق مدينة صنعاء تظهر وتختفي.
لم يصلِّ مروان منذ أن انتقل إلى عالمه الفردوسي؛ فقد كان يُخيَّل إليه أنه في الجنة، وكما قيل له إن فروض العبادة في الدنيا فقط. ذهب وتوضأ، أدَّى الأذان بصوت مرتفع فسمع الجيران، وكذلك المُسعفون ذوو الأجنحة الطائرة، فهُرعوا إلى سكنه ليقدموا المساعدة .. تجمعوا حوله ينظرون إليه في صمت، يتعجبون لِما يقوم به وهو يصلي .. بعد أن أنهى صلاته رحب بهم .. ابتسم أحدهم وهو ينظر إلى صدر مروان. سأله عمَّا إذا كان الشعر الذي في جسمه مزروعًا، أم أصيب بمرض معين؟! وآخرون سألوه من أين تعلَّم تلك الرياضة؟ أخبرهم بروسي ليعودوا إلى منازلهم، فذهبوا جميعًا، إلا فتاة جميلة بقِيَت في المنزل، وضعت يدها على شعر صدر مروان؛ للتأكد من أنه طبيعي. تألم مروان وهي تشد شعره بقبضتها. سألته: هل ممكن أن نتلاقى روحيًّا؟ رد قائلًا بأنه ممكن بعد أن تكونِي ملك يميني الرابعة. وجدها لم تفهم فأخبرها بأن تكون الشريكة الثامنة له. تعجبت الفتاة من طلبه! وأخبرته بأن هذا لا يمكن، وبأنه نسي النظام. ثم إن اللقاء الروحي لا يرفضه الرجل مع أي امرأة تطلبه منه.
تقدم بروسي واعتذر للفتاة، وقال لمروان: «لبِّ رغبتها.» عادت النساء من العمل مساءً، وهو في لقاء روحي مع الفتاة، وعند الانتهاء ودعنها وداعًا لطيفًا. ومروان مندهش من سلوك حورياته، الذي لا يُظهر وجودًا للغيرة!
٣
قامت بعض النساء تعد طعام العشاء مع بروسي، وجلست الأخريات بجانب مروان وهو يسألهن عمَّا يحيره، كيف تجتمع سبع نساء معًا؟ أخبرته سريانا بأنهن يتصادقن أولًا، ثم يعقدن عقدًا اجتماعيًّا، ويسكُنَّ معًا ثم يبحثن عن رجل ليكون شريكهن، ويعطينه ما شاء إذا طلب ذلك .. فالنسوة اللاتي يدفعن للرجل مقابل الارتباط بهن. ونحن التقينا معًا في البستان الخيري لمدير المدينة، نبيلة فاتن الزَّبيدي، وسكنا معًا وكوَّنا أسرة مع كريم نورين الذي اختفى، وظهرتَ أنت بدلًا عنه. سألها: وإذا أحبت امرأة رجلًا أعجبها، فهل ممكن أن تتزوجه؟
– لم يحدث مثل هذا؛ فهذا يعد عملًا أنانيًّا، ويعاقب عليه القانون بطرده إلى جزيرة الشواذ، في هذا العصر كل يحب الآخر كما يحب نفسه.
ثم جلسوا لمشاهدة فيلمًا رومانسيًّا يتحدث باللغة العالمية الجديدة. أخبرهن أنه يشبه الأفلام الأمريكية، أخبرته فرضانا بأنه من إقليم أمريكا، وعرف أيضًا بأن أمريكا لم تعد تهيمن على العالم، ولم يعد هناك أي نوع من الأسلحة. وأضافت قائلة: أظنك تعرف أن الأرض تعرضت لكوارث طبيعية عدة. منها العصر الجليدي وطوفانات عدة في العصور القديمة، وهناك كارثة بسبب الإنسان في العصر الحديث. قبل الإنسان الجديد «١٠٠ق.ج.» انفجرت غواصة نووية انشطارية يابانية، تحت ثلوج القطب الجنوبي بسبب زلزال مدمر حدث هناك في منتصف القرن الأول، وغرقت معظم سواحل اليابسة، وهلك الكثير من البشر. وكان هذا نهاية العصر الهمجي الذي كان فيه الرجل يسود، المتسبب في أكثر من خمسة آلف حرب كبرى في العالم.
عرف مروان أنه لم تعد هناك مشاهد عنف مثل: حلبات مصارعة، ملاكمة، رياضة تنافسية .. تُنمِّي العنف والزهو بالأنا. لعبة كرة القدم لم تعد بين البشر، بل بين الهيوموروبوتات. والبشر هم المُشجعون والمتفرجون على اللعبة.
٤
ذات صباح في يوم العاشور، قامت النسوة في وقت متأخر، وكان مروان في ذلك الوقت قد أدى صلاة الفجر، وأخذ يدعو النسوة إلى الصلاة فاقتربت ناريس ذات الخمسة والثمانين ربيعًا منه، وراحت تمرر أصابعها بين منابت شعره. تخبره أن عبادة الله تكمن بالعمل الخيِّر وحسن السلوك، وأخبرته بأنهم شاهدوا طرق عبادة للعالم القديم في متحف التراث الروحي الإنساني، يظهر جوانب المسيرة الفكرية والثقافية والعقائدية لمختلف شعوب العالم القديم. كديانة المايا القديمة التي اعتقدت أن هناك عوالم أخرى سكنت الأرض ودمرتها الفيضانات. وكانت الأضاحي للإله بشرية، واعتقدوا أن أرواح الموتى المحاربين في القتال المُقدَّس لأجل الآلهة ترتفع إلى السماء؛ حيث الجنة (الموت المقدس)، ويرون أن الروح بعد الوفاة تبدأ برحلة إلى العالم السفلي، ولديهم نبوءات متشابهة تتعلق بشأن علامات النهاية لهذا الكون، مثل الشعوب الأخرى: الأزتك والإنكا والهوبي، والديانات الإبراهيمة.
سخر مروان مما سمعه وقال: «أنا لا أصدق» ونشأ قبس من الغضب فيه أول مرة بعد لقاح الأديان! مما أدهش مريانا الرقيبة على أفكاره، فلم تتوصل إلى شيء، ولم ترَ أن فعالية اللقاح بدأ يقل مفعولها في مروان. قال بروسي لمروان وقد كان يشاهد معهم: أترى يا كريم، كيف كان العالم القديم لا يستطيع أن يعيش دون إلهه؟ لكنه كان غبيًّا حين يرى أن الإله يشبه البشر جسديًّا، وله زوجة وأولاد. أليس كذلك يا زنوة؟
قالت مريانا لبروسي: من أين أتيت بهذه الشتيمة؟!
– أخبرني بها كريم، أظنه سيفسد أخلاقي.
في المساء كانت النسوة في حالة رعب وخوف لأول مرة في حياتهن، وهن يشاهدن ما سجلته ذاكرة مروان من أفلام وثائقية عن الحرب العالمية الأولى والثانية، وحرب الخليج العربي .. فتوقفن عن مشاهدة تلك المشاهد. قال بروسي لمروان: «ستفسد هذا البيت يا كريم، وستُنْفَى إلى جزيرة المنبوذين!»
تلك الليلة لم ينم مروان جيدًا؛ فقد احتسى الكثير من شاهي القات، يفكر بما قاله بروسي عن جزيرة المنبوذين، ورأى أنه لم يكن مؤمنًا حقًّا في حياته، وأن عبادته لم تكن إلا نفاقًا أمام ربه. أما نساؤه فقد نمن جيدًا بجواره. في منتصف تلك الليلة قام مروان مفزوعًا من حلم، وهو يهتف: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» عدة مرات .. استيقظت حورياته، يسألنه بخوف: ما معنى كلمة شيطان؟! أخبرهن عنه .. واستغرب أن مثل هذه الأحلام لم يعد لها وجود.
٥
في الصباح ذهبت النساء إلى العمل. أخذ مروان إفطاره وهو عريان، يشعر بحرية وبهجة، شيء لم يعمل مثله في حياته. فكر في الخروج ليرى المدينة، فقد أصابه الملل من وقوفه أمام شاشة التلفاز يشاهد العالم الجديد. عادت النسوة من عملهن وهو يسرح عريانًا في المنزل. طلب منهن ممارسة اللقاء الروحي فسُعدن بذلك. قدم بروسي وجبة العشاء، وقال للنسوة: مروان كان عضوه منتصبًا ثم ذهب إلى الحمام، وعاد قد انكمش.
ضحكت النسوة. وسألته ريحانة: ماذا عملت في الحمام؟!
أحس مروان بالخجل، كان لا يتوقع أن آلة تفضحه، فشتم بروسي في نفسه، وقال لها: قذفت بذخائري المتراكمة هناك. لكنني لم أحس كلذة اللقاء الروحي.
تفاجأ مروان في قول ما يخجله، ولم يُخفِ ذلك العمل القذر. ثم راحوا يتفرجون على التليفزيون، كانت هناك مسابقة تجري في الطبخ بين العديد من الهيوموروبوتات.
ذهب مروان إلى الحمام، بينما النساء جلسن يشاهدن فلم ذاكرة مروان؛ علَّهن يجدن شيئًا مسليًا. شاهدن حفلًا كبيرًا في صالة كبيرة، فيه أناس كثر يستمعون لرجل يخطب فيهم. ثم شاهدن رجلًا يقوم من مكانه، يرتدي قميصًا عليه معطف، ويعتمر شالًا حول رأسه، ويحتزم بخنجر. وقف أمامه رجل آخر في السبعين من عمره، يرتدي بدلة أنيقة. أخرج مسدسًا وقال له: «خذ أيها الكافر!» وأطلق عليه الرصاص أمام الجميع. ذُهلت النساء، وأوقفن مشهد القتل حتى عاد مروان من الحمام؛ ليعرفن مَن ذلك الرجل البريء الذي قتلوه أمام العالم، وعدسات البث التليفزيوني تصور المشهد. وقف مروان أمام الشاشة وقال بأسف: إنه «جار الله عُمر»، قتلوه في حفل ذكرى تأسيس التجمع اليمني للإصلاح. يا للأسف!
– ولماذا قتلوه؟!
– ليفتخر القتلة بأنهم قتلوه أمام العالم.
– وهل يفتخر القاتل بقتل الآخر؟!
– نعم، يرى نفسه بطلًا مقدامًا، لا سيما لو كان يقاتل من أجل نُصرة الرب.
– وهل الرب يحتاج إلى من ينصره؟! كيف يكون ربًّا إذن؟! يمكن للشخص أن ينصر شخصًا آخر.
٦
نام مروان تلك الليلة دون ممارسة اللقاء الروحي، استيقظ في الساعة العاشرة صباحًا. قال له بروسي: «كل يوم والكسل يزداد فيك يا كريم، أصبحت غريب الأطوار ولم تعد تذهب إلى العمل.»
لم يغضب مروان من مناداته باسم كريم، يرى أن بروسي آلة مبرمجة مسبقًا، وقال له: «لا عليك يا صديقي، أنت تشبه الكثير من البشر في حياتي السابقة.»
ذلك اليوم لم تذهب مريانا إلى العمل؛ أثناء إجازة الدورة الشهرية لمدة ثلاثة أيام في الشهر. فرح لبقائها، وسألها عن أمور يجهلها، من ضمنها عن عمل الجامعات والمدارس، اندهش حين قالت له: لم يعد هناك بناء خاص للمدارس أو الجامعات؛ فالتعليم أصبح عبر القنوات الدراسية الفضائية، تبث دروسها وتجاربها العلمية وامتحاناتها للعالم أجمع باللغة العالمية الموحدة، حتى ولو كان الطالب في الحديقة أو مسافرًا، فكل إنسان يحمل قلمه الدراسي الخاص، يتواصل مع الجامعة أو المدرسة في أي وقت، والتعليم ارتقائي وليس محض خزانة للمعارف، وهناك اهتمام خاص بالأذكياء.
– ألا يوجد غش في الامتحانات؟
– ماذا تقول؟! غش! لم أتصور أن تقول هذه الكلمة وقد أخذت اللقاح الديني، فالغش فرع من فروع الكذب، وجزاء الكاذب هو النبذ من المجتمع إلى جزيرة الشواذ.
عادت النسوة من عملهن مساءً، وأثناء تناولهن وجبة العشاء، سألهن عن الأماكن الترفيهية كالمسارح والسينما والملاهي .. وتفاجأ بأنهن لم يعرفن ما معنى تلك الكلمات، حين أخبرهن عن تلك الأماكن، أخبرته سناء أن تلك الأماكن لم يعد لها وجود. وأن السعادة لا تُجلب من خارج الجسد بل تنبع من الداخل. ثم سألنه أن يحدثهن عن حكايات حدثت أمامه مؤخرًا في عالمه. فحدثهن عن الربيع العربي، الذي تحوَّل إلى الصقيع العربي، ضد الجمهوريات الملكية .. توقف مروان عن سرد حكايته الطويلة، بعد أن لاحظ أن حورياته قد نمن في الصالة ما عدا سيرينا لم تنم. في الصباح قال بروسي لمروان: «يا كريم، ستفسد نظام هذا المنزل، ماذا جرى لك؟! أظن أن فيروسًا أصابك!»
خلال الأيام الثلاثة التي بقيت فيها مريانا في البيت لم تطلب من مروان أن يمارسا اللقاء الروحي وحدهما. حين سألها عن ذلك ردت قائلة: «حينما تختفي الأنانية في المرء لا يفكر إلا في مصلحة الجميع، ولو طلبت منك ذلك؛ سأعاقب نفسي على طلبي الأناني! ثم إنني أمارس ذلك مساءً معك أمام الجميع.»
كانت مريانا تكتم حبها لمروان الذي بدأ يطرأ عليها. تشعر أن الأنانية التي بدأت تطرأ على مروان، وهي تراقب أفكاره انتقلت إليها هي أيضًا، وتحاول جاهدة أن تقهر سيطرة الأنا فيها.
في ذلك الصباح ومروان يُقبِّل نساءه واحدة تلو الأخرى، كانت أمه في الوقت نفسه تستقبل رجلًا حبشيًّا، يُدعى «فِنحاس»، يُحضِّر الأرواح. وقف فنحاس أمام مروان، وهو يسد أنفه. وأشار إلى معاوية بزيادة المبلغ المالي، وطلب منه بألا يبقى بجواره أحد غير أمه فقط. راح فِنحاس يتمتم بكلام غير مفهوم، ويهتف بصوت عالٍ وهو يمرر يده فوق مروان: «أيتها الروح الشريرة، اخرجي من هذا الجسد!»
كانت الأم تسمع صوتًا أجشَّ مخيفًا: لن أخرج منه حتى يكتمل نموي!
– ستقتل هذا الآدمي يا لعين!
– هكذا الفرخ يخرج من البيضة.
– وهل أنت فرخ ومروان بيضة؟!
– نعم، لقد زرعني أبي في هذه البيضة.
– سأحرقك بالنار.
– لن تقدر.
قال فنحاس للأم: «لو أحرقنا إصبع رِجل مروان الصغرى، ستخرج الروح الشريرة منه. دعينا نحرقه قليلًا.» بكت غصون وقالت: «لا تحرق حتى شعرة واحدة من ابني، حتى ولو كان جثة هامدة.»
وضع فنحاس يديه على رقبة مروان، وضغط عليها، يهتف: «ستخرج أيها الشيطان وإلا سوف أخنقك وتموت معه.» سمعت غصون صوتًا أجشَّ مخيفًا يقول: «لن أخرج» ضغط فنحاس أكثر وكاد يقتل مروان، وما زال الصوت يردد: «لن أخرج!» أخيرًا قال: إذا خرجت فسوف أدخل فيك أنت.
– لن تستطيع.
– سأدخل جسد أمه.
قالت الأم: اخرج يا لعين يا ابن اللعين. المهم تخرج من جسد ابني.
سحب فنحاس المُسجلة سرًّا التي وضعها في الجانب الأيسر من مروان، وقال للأم بأن عليها أن تذبح تيسًا أسود، وتمسح بدمه جسد مروان. اتصلت حميدة بمنير بأن يشتري تسيًا لوجبة الغداء، فاشتراه على نفقته الخاصة، وفكر في إخبارهم في أمر الزواج.
خرج فنحاس من البيت بعد أن تناول غداءً دسمًا. حدَّث منير الأسرة بأنه جهَّز نفسه للزواج، وحجز صالة للعرس بنصف الثمن .. خرج وهو سعيد بموافقة الأسرة على رغبته، حتى الجدة وافقت وهي تقول: يمكن أن يُشفى ابني حين تدخل السعادة بيته.
٧
ذات يوم استيقظ مروان من نومه في عالمه الفردوسي متأخرًا كالعادة، وجلس على الكنبة، أغمض عينيه، ومرت في مخيلته تلك الفتاة الجميلة التي حضرت يوم أن قام بالأذان للصلاة في المنزل، وتمنى لو يلقاها مرة أخرى. فتح عينيه بعد بضع دقائق ورآها أمامه. اندهش أيما اندهاش، وأخذ يرحب بها ثم راحا يمارسان اللقاء الروحي معًا لمدة ساعة. ذهبت الفتاة دون أن تخبره عن سبب حضورها. أما مروان فاعتبرها صدفة؛ فغير معقول أن تتحقق أمنيته قبل أن يرتد إليه طرفه. اغتسل مروان ثم خرج من الحمام، ووجد بروسي يشاهد الدليل السياحي وهو يمشي في الصالة. وقف متعجبًا من آلة صنعها الإنسان تحاول تثقيف نفسها! سأله: ماذا تشاهد يا صديقي؟!
– الديانة الطاوية.
– ولماذا، هل تريد أن تتدين يا صديقي؟!
– أثقف نفسي مثلكم يا بشر.
مشى مروان في الصالة، واخترق الدليل السياحي وهو يتحدث، فأحس كأنه اخترق كتلة ماء، حتى إنه شعر بصعوبة في التنفس. عاد يجلس بجوار بروسي وهو في دهشة من أمره، كيف يصير الطيف كثيفًا لهذه الدرجة؟! ثم راحا معًا يشاهدان متحف التراث الروحي لمقاطعة «بكين»، وهي الطاوية: كانت الطاوية ثاني أكبر ديانة في مقاطعة بكين، تعود نشأتها إلى القرن «٢٦ق.ج.» أي السادس ٥٠٧ق.م. تبلورت على يد الفيلسوف «لاو تسو». أتباعها كانوا يرون أنه إله نزل من السماء «أفتار»، كما كان الهندوس يرون ذلك. أحد أتباع طاوي اسمه (شانغ طاوي لنغ)، قال إنه جاءه وحي من السماء بشأن إصلاح الدين الطاوي، وصارت سلالته هم المعلمين السماويين للديانة. استمرت سلطتهم مدة ستمائة سنة في مقاطعة بكين المعروفة ببلاد الصين سابقًا، كانت لهم سُلطة على الحياة السياسة. كتابهم المقدس يشمل قصصًا عن بشر يستطيعون الطيران، لا يتأثرون بالعناصر الطبيعية البرودة والحرارة، وانعدام الهواء.
تساءل مروان: «هل يقصدون الملائكة؟ .. ولديهم خلفاء أيضًا. ثم كيف تدعي سلالته الحق السماوي في الحكم؟!» قام غاضبًا وذهب إلى غرفة النوم، وعاد بعد ربع ساعة إلى بروسي، وهو لا يزال يسمع الدليل، ثم سأله عن الخروج للتنزه.
خرج مروان وبروسي للتنزه معًا، مشَيَا بين أشكال مختلفة من البشر والآليين. أبدى استغرابه لكثرة كبار السن، سأل بروسي عنهم، فأخبره أن هؤلاء بشر أغلبهم متقاعدون بعد بلوغهم سن التقاعد ٢٠٠ عام من العمر. كانت البسمة مرسومة على شفاه معظمهم، وهم يمشون في شارع «عبد الحكيم سماح الجوفي» عالم فيزيائي. أخبره بروسي أن أسماء الشوارع لا تسمَّى بأسماء الأحياء. شاهد مروان معارض أزياء تخلو من أزياء الزهو، ومساحيق الجمال والزينة.
حفظ مروان الشارع الذي يسكن فيه، برج رقم ٢٦ الدور العشرون شقة ٤. جلس بجانب حديقة صغيرة وسطها نافورة تعلو وتنخفض مياهها، حسب نغمات موسيقية، وهناك كتل مائية في الجو واقفة تسبح فيها أسماك جميلة، وأطفال ينظرون إلى تلك الأسماك، يتحدثون بهدوء، وبجانبهم امرأة كبيرة في السن. سلَّط أحدهم الضوء على وردة ففتحت أكمامها ثم أبعد الضوء فأغلقتها. أخافت مروان مركبة وقفت فوقه بمسافة قريبة، لا يسمع لها صوتًا. مدت خرطومًا ضوئيًّا وسحبت رجلًا إلى الأعلى، وشاهد مركبة أخرى تُنزل صندوقًا أمام باب معرض، وأطفالًا ينظرون نحو شاشة معلقة في الجو فيها منظر خليع.
كبت مروان غضبه وبدأت شرارة الغضب تنمو فيه. ذهبا يمشيان في شارع عالم النانو بات «عبده وردة قُباطي» بين صَفَّين من الورود، كلما حاول أن يمسك إحداها تفتح أكمامها، وتفوح رائحة عطرية. وشاهدا نافورة رائعة تتشكل بأشكال عدة. سأله مروان: هل يوجد مثل هذه النافورة في أماكن أخرى؟
– نعم، في شارع «مجيب مريم نادية» وشارع «شان شون صفية» وشوارع أخرى.
قال بروسي إنه حلم في الليلة الماضية بأنه إنسان. ضحك مروان عاليًا، وسمعه من كان حوله. حاول بروسي أن يسكته فازداد مروان ضحكًا، اجتمع الناس حوله مستنكرين لضحكه، فجأة حضرت شرطيتان، إحداهما بملامح صينية وأخرى تبدو يمنية، وقادتاه إلى مكتب مراقبة السلوك.
٨
وصل مروان إلى قبَّة مرتفعة، فِراشها وثير، بها كنبات عديدة، وزجاج شفَّاف يفصل المكاتب فيما بينها، والهدوء يسود المكان. رحب المركز بمروان كضيف يزورهم. لم يشاهد العلَم اليمني يرفع؛ بل شاهد العلم الأخضر الذي يشاهده في أماكن أخرى. عاد يشك من جديد أنه ليس في صنعاء. أين العلَم الذي ضحى اليمنيون من أجله .. رحَّبوا به وقُدِّم له عصير الفاكهة. ثم أقبل رجل بملامح عربية يبتسم، وسأله بلغة لم يفهمها مروان، فأخبره بأنه لا يتحدث غير اللغة العربية. تفاجأ الشرطي وقال وهو يبتسم: اللغة العربية هي لغتنا المحلية، لم نعد نتحدث بها كثيرًا، لكننا نحافظ عليها كإرث حضاري عالمي .. إنك رجل غريب فعلًا في سلوكك. ألا تعرف أن الضحك العالي في الأماكن العامة ممنوع؟!
فكر مروان وعلى شفتيه بسمة ساخرة: «يا سلام أظنني في كنيسة، ولستُ في مكتب شرطة، حتى تصميم المكان هذا يُشبه الكنيسة. هل هذا الشرطي يمزح معي، لا يمكن أن يكون هذا المكان قسم شرطة!» سأله الشرطي: ما اسمك؟
– كان اسمي مروان ناجي مدهش الراعي، والآن أنا مروان غصون سعيدة.
فتح الشرطي شاشة في الهواء، وقرأ فيها وقال: «نعم، لقد أخذت مكان كريم نورين الذي شُطب اسمه من السجلات. أظن أن جرمه كبير .. اسمك الآن: مروان غصون سعيدة. العمر: ٥٦٠ سنة. تاريخ الميلاد: ١ /١/ ٢٥٠ق.ج.! ظهر فجأة، خالٍ من أمراض عصره، لُقِّح بلقاح الأديان.» تبدو شابًّا وأنت في هذا العمر! كيف بقيت إلى هذا العمر؟! ما هو نوع غذائك؟ أنت حالة نادرة. ثم تابع الشرطي بحثه في شاشة الحاسوب في الهواء، وأخبره بأسماء شريكاته وعنوانه. فجأة أقبل رجل شاب في العشرين من العمر، ووقف أمام شرطي مراقبة السلوك يعترف بخطيئته بأنه سخر من فتاة.
أخبره الشرطي بدفع عشرين دورال. وبما أنه لا يزال طالبًا خصمه من رصيد والدته رانيا شيرين جيتا. كان مروان مستغربًا لمجيء الشاب للإقرار بذنبه (عقوبة السخرية). وخلال حديث مروان مع الشرطي أتي فتًى في العاشرة من عمره، وفي يده حقيبة، وقال إنه وجدها في الشارع، لم يعرف لِمن. ومن خلال صورة المرأة التي التقطتها عدسة الكاميرا، تم التواصل مع مالك الحقيبة. سأل مروان: أهذا هو عمل القسم فقط؟
– نعم، لا يأتي إلى هنا إلا من لا يعرف جزاء خطئه، أما الذين يعرفون جزاء أخطائهم فيدفعونها من حساباتهم مباشرة. أراك لا تعرف عن عالمك الكثير كأنك غريب عنه. هل كنت تعيش في أدغال الربع الخالي، أم تسللت من جزيرة الشواذ؟!
٩
ابتسم مروان وكان وجهه مشرقًا وقال: لقد حققتم للإنسان ما كنا نحلم به، لقد جعلتم النفس اللَّوامة تسيطر على النفس الأمَّارة بالسوء، حتى وصلتم إلى النفس المطمئنة. كنا نحن نتحدث كثيرًا ونعمل قليلًا.
قدَّم بروسي كأسًا من عصير التفاح لماري حنان الذماري، وجلس يسمع مع مروان وهي تضيف قائلة: كان لقاح الأديان يُعطَى للجنين عبر البلاسنتا للأم الحامل، بعد أن رزحت البشرية عهودًا تحت سيطرة الأنانية. كان يُعتقد في العصور القديمة أن الشيطان هو الذي يدفعهم إلى السلوك الخاطئ، والحقيقة هي الأنانية. وهكذا يا مروان كان الحُكام أكثر الناس أنانية ونرجسية من غيرهم، تتضخم فيهم الأنا حين يكونون في سدة الحكم. أليس كذلك يا زائرنا العجيب؟ الأنا تجعلنا نخاف من الشيء الجديد، وتذكرنا بالماضي القديم المؤلم .. عندما نحب الغير هذا دليل على موت الأنا فينا، التي هي عبارة عن سجن للفرد، تحميه من كل شيء، تبقيه أسيرًا لديها يعيش في جهل وظلمة وتبعده عن المحبة .. لا تسمح لأن يكون الفرد هو ذاته، فهي كالجدار إذا نفذ المرء منه تحرر من سيطرتها، وأصبح حرًّا طليقًا، وليس عبدًا لها.
سألها بروسي: هل وضعتم فينا نحن جينات وراثية؟!
ضحك الجميع فشعر بروسي بالخجل، ثم قال: سنصنع لأنفسنا يومًا جينات مثلكم يا بشر.
ثم ذهب إلى المطبخ. قال مروان: ديننا أتى بتعاليم تسمو بالبشر كهذا اللقاح.
– فعلًا كانت الأديان نقلة جديدة في الحضارة الإنسانية، جاءت لتهذيب السلوك البشري، وكان الدين مكونًا من روح ومادة معًا، كما هو الإنسان من روح ومادة. إذا ذهبت الروح فسدت المادة أيضًا. ومع مرور الزمن كانت الروح تتلاشى تدريجيًّا في الدين وتبقى المادة؛ لأن الأديان جميعها لم تستطع أن تهذب الأنا عند الإنسان في العصور قبل الإنسان الجديد، لم يكن الإنسان يعرف أن الكراهية والكذب والحسد والغضب والظلم والغرور وحب التملُّك تقلل من عمر الإنسان. وبتلقيح الأديان أطلنا عمر الإنسان في هذا العصر بطرق كثيرة، ليُعطَى فرصةً للعطاء أكثر مما تعلَّمه من الحياة، عكس مدة العمر القصيرة التي يحاول فيها الإنسان السعي خلف ملذاته ومتعته.
قامت ماري حنان تجلس مع مريانا على انفراد، سألتها عن سلوك مروان وتفكيره، وشددت على مراقبته، وأخبرتها عن إمكانية أن تنتقل إليها الأنانية إذا عاودته فجأة، عن طريق الشريحة البيولوجية المشتركة بينهما التي زرعت في دماغيهما.
قضت ماري وقتًا ممتعًا معهم، وذهبت وهي تثني على اللقاء الروحي مع مروان. قالت ضاحكة عند خروجها: «هنيئًا لكم بكنز المتعة.» طلب بروسي مشاهدة عالم مروان القديم، فضحك مروان وقال: «هل تريد أن تتثقف؟»
– نعم. نريد أن نتثقف كالبشر لنكون أفضل منهم.
– ماذا تقول؟! والله إنك مضحك. اصمت قبل أن آتي أطفئك وأجعلك خُردة.
– لن تقدر، أنا من يمكن أن أطفئ النور في عينيك.
قام مروان وكان يريد أن يتجه إلى بروسي، فأوقفته فرضانا، وقالت: عليك أن تعتذر لبروسي.
– أعتذر لآلة من تروس وأسلاك؟ هذا عجيب! أين أنتِ يا حميدة، ضربتك عدة مرات، ورفضتُ أن أعتذر لك.
ذهب مروان يمسح على رأس بروسي، واعتذر له، وهو يتمتم في نفسه: «ربما أنا أعيش حلمًا رومانسيًّا، فكثيرًا ما كنت أحلم بامتلاك الجواري الحسان.»
فتحوا الشاشة لمشاهدة ذكريات مروان، وجلسوا يشاهدون مروان وهو على سيارة نقل كبيرة، كانت تقف أمام مخزن كبير، ثم نزل مروان ليكسر القفل، وراح هو وخمسة رجال مسلحين يخرجون كراتين، وكان يسمع أصوات رصاص .. اعتذر مروان من المشاهدة وهو يكتم غضبه، وذهب يشاهد المطر المنهمر بغزارة على المدينة. لم تعرف النسوة أنه شارك في نهب مؤسسات الدولة في عدن، أثناء دخول القوات الشمالية عدن في حرب الانفصال.
بينما نساء مروان في عالمه الفردوسي يشاهدن فيلم ذاكرته، كان هو في عالم الجحيم على فراش الموت، وابناه معاوية وعلي يتشاجران على انتهاء صلاحية الكثير من المواد الغذائية، تقدر بخمسة ملايين ريال. كان معاوية أكثر غضبًا. وفي المساء قبل إغلاق السوبر ماركت هجمت عليهم عصابة مسلحة، وأخذت النقود التي في الخزينة ولاذت بالفرار. اتصلوا بالشرطة التي هي مشغولة بنفسها، تفاعلت معهم، لكنهم لكي يطاردوا اللصوص طلبوا مبلغًا كبيرًا.
في المنزل رأت الأسرة أن ما تريده الشرطة يساوي المبلغ المسروق. قالت الجدة غصون: لا تدعوهم يسرقونكم مرة أخرى، أنا أعرف من أين أتى أبوكم بمال الدكان هذا. لا تنسوا أن تحتفظوا بالشموع التي عندكم لنا. دخلت الجدة غرفة مروان، وبيدها شمعة مضيئة. ووقفت أمامه تقول: ربنا يكتب لك الشفاء يا ولدي؛ لترى عرس ابنتك ولتستغفر ربك. لم أعلمك أن تحلِّل الحرام وتفتي بسلب أموال أعدائك.
كانت حميدة قد جهَّزت ابنتها للعرس، وحجزت صالة بالقرب من القصور الرئاسية، وكذلك منير قد طلب من أصدقائه أن يحضروا بسياراتهم ليزفوه في الشوارع. كان يظن أنهم لن يخرجوا معه أثناء الزفَّة؛ خوفًا من الحرب. كان حضور القاعة قليلًا وكذلك قاعة النساء. أثناء خروج العروسين من الصالة ليزفوهم في الشوارع كان هناك حوالي خمسة سيارات فقط، إحداها فيها نساء يزغردن. بعد أن مشوا مسافة سمع منير إطلاق نار في الهواء. خاف والتفت خلفه، فرأى بعده رتلًا طويلًا من السيارات يشارك في الزفَّة. ثم سمع صوت هتاف الشباب: «يهناك، يا عريس يهناك»، ثم سمع مرة أخرى إطلاق رصاص كثيف في الجو، بعد ربع ساعة التفت إلى الخلف، فرأى خلفه سيارات لا تُحصَى. قال لفاطمة بفرح: «أظن المدينة خرجت خلفنا تحتفل معنا.» دخلوا شارعًا يؤدي إلى الفندق الذي سيقضون ليلتهم فيه، فرأوا سيارات عدة قد سبقتهم إلى هناك.
ذلك اليوم رأى منير نفسه أميرًا وعريسًا، تملؤه الغبطة والسرور من ذلك الحضور البهيج الذي لم يكن يتوقعه، لكن فاطمة كانت تفكر بأن منير هو الذي أحضر ذلك الموكب العظيم ليزفها، رغم شُح المشتقات النفطية في البلاد. ذلك العرس ظل حديث المدينة لفترة، والكثيرون لا يعرفون من هو العريس أو أهل العروس.
١٠
سألها بروسي: لم أفهم ما تعنيه ﺑ «خصية»؟!
قال مروان: يا أخي مو (ماذا) معك تسأل عن حاجة ما تخصُّك.
قالت ماري: نحن نُعلِّم حتى الهيموروبوت.
سأل بروسي: وما هو عمل كروموسوم واي، وهل نحن لدينا ذلك؟
قال بروسي: أي إن البشر سينقرضون، وسنبقى نحن في الأرض، وسنكون نحن المسيطرين.
ابتسمت ماري، وهي تشعر بخوف من حديث بروسي عن السيطرة التي تشير إلى الأنانية! وراحت تكمل حديثها مع مروان. قالت له: لكن هناك الانتخاب الطبيعي يمكن أن يتدخل، أو تطوُّر العلوم؛ ففي «كروموسوم واي» يوجد جين اسمه «جين سري» وهذا الجين زُرع في «كروموسوم إكس» الخاص بالأنوثة المتواجد في خصية الرجل، وتحوَّل هذا الكروموسوم إلى كروموسوم خاص بالذكورة، وبهذا وُجد حل جزئي للمشكلة. وكان خيار العلماء الأخير للبقاء هو أن تعيش المرأة دون رجل، وتولد الأنثى دون أبٍ، وقد حاولنا تلقيح بويضة أنثى بأخرى. كما بدأت الحياة البشرية الأنثى والذكر في جسد واحد.
كان مروان يستمع بدهشة، وهو يجلس بين فرضانا وسناء، وسيرينا كانت تسقيه شرابه المفضل، شاي القات. قام من مكانه ووضع كفَّيه على رأسه، وقال: هذا يعني أن حواء انسلخت من آدم. لله درك يا بروفيسور!
– هذه مرحلة ما قبل البشرية يا مروان. لا تقاطعني دعني أكمل!
وراحت تقول: أصبح النسل الجنس الأنثوي هو السائد، وإنهم في صدد إعادة التوازن بين الجنسين، بإصلاح جينات الخلايا التناسلية عند الذكور، وبهذا يمرر الجين الذي يتم إصلاحه إلى الجيل التالي. أما الحيوانات والطيور فانقرضت نتيجة لقانون البقاء، وبعد انقراضها اختفت الكثير من الأمراض وتحسنت البيئة كثيرًا. كانت الحيوانات حاضنة للأمراض وتنقلها للإنسان؛ لهذا كان عمرها أقل من الإنسان بكثير. لهذ تقرر لزامًا على الرجل في سن الزواج أن يرتبط بسبع نساء، واخترعت البروفيسور الموسيقية «ماهي تشو فان» الموسيقى الروحية التي تُبَث من خلال الأذن. تم تطويرها عبر «تقنية النانو» تسبح عبر الدم إلى الخلايا الحسية في رأس العضو الذكري عند الرجل، وكذلك البَظر عند المرأة، فتثيرها ويشعر الإنسان بنشوة جنسية تجتاح كامل الجسد دون استمناء، لفترة يحددها كل من الشريكين في اللقاء الرجل والمرأة، ويستطيع المرء أن يستمتع بهذا اللقاء حتى آخر يوم في حياته وإن كان مريضًا .. وهو أفضل من اللقاء الحميمي الذي يستلذ فيه الرجل لمدة بضع ثوانٍ، وقد لا تستمتع المرأة في كل لقاء، وبهذا حُلَّت مشكلة نقص الرجال، ومنعنا قمع اللقاء الروحي؛ ليتفرغ الإنسان بتفكيره لما يفيد المجتمع.
١١
ثملت البروفيسور ماري قليلًا بعد أن شربت شراب التفاح والعنب، جلست بجوار مروان، ووضعت يدها على صدره تتحسس شعر صدره. وتحدثه بحديث أغضبه لكنه كتم غضبه، عن إعادة الحياة لبعض من رفات بعض عظماء التاريخ العالمي، الذين أثَّروا على مسيرة الجنس البشري. حدَّث مروان نفسه: «غير معقول قيام الموتى قبل يوم القيامة!» وعاوده الشك من جديد فيما إن كان هو في حلم أو في الجنة. كانت مريانا تراقب بما يهمس به لنفسه، فقالت لماري ما وسوس به مروان لنفسه، لكنها لم تقل لها إنه كتم غضبه، وشتمت! .. عاودت ماري الحديث وقالت: يا مروان، العلم هو عمود دين هذا العصر، وهناك في زمانكم مَن كان لا يرى تباينًا كبيرًا بين الفيلسوف والنبي، فالفيلسوف يأخذ علومه من العقل الفعَّال وهو العقل الكوني اللامكاني، الذي يرونه يأتي من خالق الكون، والنبي يأخذ علومه من السماء، كما قال العالم «الفارابي»، وهناك مَن ذهب إلى أكثر من ذلك، وجعلوا الفيلسوف «كونفوشيوس» إلهًا، وكذلك الحكيم براهما في مقاطعة دلهي .. ثم سارت تسأله: «قل يا عزيزي، هل ديانات العالم السابقة وحَّدت البشر إلى أمة واحدة، أم فرقتهم؟ وتسببت في الكثير من الحروب بين البشر. وهل استطاعت تلك الديانات أن تقضي على الشرور والفساد في النفس البشرية؟ كما وصل إليه علم هذا العصر، عصر الإنسان الجديد، الذي أوصلهم إلى الإيمان الحقيقي. لا ضير أن يستنسخ الموتى؛ ليعيشوا مرة أخرى، خاصة العباقرة منهم.»
تركت البروفيسور ماري مروان يخوض في بحر أفكاره القديمة، فهي تدرك أنه في صراع بين ماضيه وحاضره. كانت تود أن تطلب منه اللقاء الروحي، لكنها لاحظته غير راغب في ذلك مثل المرة الأولى حين زارته فيها. خرجت وهي تشدد على مراقبة سلوك مروان، وذهبت وهي تفكر عمَّا قاله بروسي من كلام خطير «سنكون نحن المسيطرين» وهذا سلوك أناني، وقد انتهى من الإنسان وأكيد تعلمها من مروان، ثم أخذت تردد: «أرجو ألا نعيد مروان إلى بيئته القديمة!»
كان هذا اليوم يوم الخميس السادس عشر من شهر يوليو. في اللحظة التي كان فيها مروان في عالم الإنسان الكامل، يستنكر في نفسه بعث الموتى قبل يوم القيامة، كان جسده مُلقًى كجثة على الفراش، وحميدة تحقنه بالطعام السائل عبر أنبوبة التغذية. تسحق له اللحوم، وتعطيه العسل وكل أنواع الفواكه، حتى الكراث الذي كان مروان يحب أكله ليلًا هو والثوم، تسحقه كالعصير وتعطيه إياه. رغم كل تلك التغذية الجيدة، لم يكن لها أي فائدة، فجسمه يزداد تقرحًا، ولم يستطع الممرض أن يقوم بتطبيب القروح، التي صارت تغطي جسده كاملًا كمصاب بمرض الجدري. استغرب الممرض من تلك البسمة المرسومة على شفتي مروان، جعلته يبدو للكثيرين أنه في حلم جميل. قال لحميدة: «قروح مروان غريبة، لم أشاهد مثلها بالرغم أنها تزداد، لكن وجهه يبدو باسمًا، كبلادنا تزداد صلابة، كلما ازدادت الحرب التي تمضغها. كانت غصون تنصت لما يقوله الممرض لحميدة. قامت من مكانها، وقالت للممرض: قل لي ولدي سيعيش؛ والَّا كيف؟!»
– بصراحة ابنك يا حاجَّة حالته ميئوس منها، ولولا البسمة التي على شفتيه لقلت لكم ادفنوه.
أخذت غصون عصاها، وكانت ستضرب الممرض .. ثم ابتسم وجلس مع أولاد مروان، وهم يستمعون إلى الأخبار وإلى ما آلت إليه الحرب بين الإخوة الأعداء. خرج الممرض قبل الظهيرة وصعد عليٌّ هو وإخوته إلى سطح المنزل؛ ليشاهدوا دخانًا يعلو في الجو فوق وزارة الخارجية.