الفصل السادس
العادة مُعتقدٌ آخر، تنحني للعاصفة لكن لا تنكسر.
١
أدركت مريانا أن مروان يتخلله الحزن أحيانًا، ففكرت برحلة مكوكية حول مقاطعة صنعاء، وأخبرته أن هناك مفاجأة له وسيراها أثناء الرحلة. لبسوا جميعًا بدلات ثقيلة تغطي الرأس حتى أخمص قدمي المرء. وبدءوا رحلتهم إلى مدينة «تعز» الساحلية، وهم في طريقهم يُحلِّقون فوق أجواء جبال «سُمارة»، فتحت ناريس الغطاء الزجاجي للمركبة، وكانت هي التي تسوق. قفزت مريانا في الجو فأمسك مروان برأسه، ولم يستطع أن ينطق من الدهشة، ثم قفزن كُل واحدة إثر الأخرى وشاهدهن، وهن يطرن كالطيور. قالت له ناريس: «لم يبقَ إلا أنت.» لم يجرؤ مروان على ذلك، فقُلبت المركبة رأسًا على عقب، وسقط من المركبة، وجد نفسه يقف في الجو، ثم لحقت به ناريس وأخذت تطير به، والمركبة تطير بجوارهم. هتف مروان وهو في غاية الدهشة والفرح: «تحقق حلمي في الطيران وصار الحلم حقيقة، خمسون عامًا وأنا أحلم أنني أطير، يا حورياتي .. الله أكبر!» لم يستطع أن يصف بهجته. مروا فوق غابات أوراق الشاي (القات) والبن والعنب، مصادر الثروات المهمة للبلاد. شكلوا رقم ثمانية وظلوا يطيرون معًا. تفاجأ مروان وهو يشاهد هيوموروبوت عملاقًا، يدفع بصخرة عملاقة ويطير بها في الجو، وهناك هيوموروبوتات أخرى، تقوم بمساعدة البشر في بناء المدرجات الجبلية الخضراء، وأخرى تنقل التربة الخصبة إلى قمم الجبال.
شعروا بالتعب وهم فوق سماء مدينة «إب» وعادوا إلى المركبة، بعد خمس دقائق وصلوا مدينة تعز. حلَّقوا فوق المدينة ببطء ينظرون إلى شوارعها الواسعة، والورود المصفوفة على جوانبها وميادينها الواسعة. كانت المتنزهات في جبل صبر كأنها لؤلؤ أبيض، منثورة فوق المدينة، وجداول الماء تتدفق من منتصف الجبل، من أماكن عدة في قنوات خاصة، وتعبر المدينة الساحرة وتتجمع في عدة بحيرات. هبطوا في أحد متنزهات الجبل وخلعوا بدلات الطيران. أخبرته مريانا أنهن استعرن البدلات من السلطة احتفاء به. جلسوا قليلًا ثم نزلوا بالمصعد الجوي إلى المدينة، وطافوا في شوارعها وتناولوا السمك الطازج، ثم عادوا إلى المنتزه.
٢
في اليوم التالي ذهبوا يحلِّقون فوق القُرى المحيطة بالمدينة ببدلات الطيران، كلما تعبوا عادوا إلى المركبة وهي تتبعهم. مروا فوق الجبال والحقول خضراء، والجداول تنهمر من عرض الجبال. أزهرت الفرحة في عينيه حين رأى موقع قريته في «الأعروق». هبط هناك هو وحورياته فوق تل صغير في مكان مخصص للمركبات. لم يصدق عينيه وهو ينظر إلى منازل قريته، وقد صارت تشبه المنتجعات السياحية. مشى قليلًا في القرية، خُيِّل إليه أنه سيعرف أحدًا من أقاربه. عبر حقول الفول السوداني، حيث كان يلعب سابقًا في صغره مع أقرانه فيه. لم يلتفت إليهم أحد من أهل القرية غير عجوز تلبس قميصًا وسروالًا، وشعرها الأشيب ينساب إلى الكتفين. سألها: كيف حالك يا جدة؟
– بخير، من أنت يا ابني؟!
– أنا مروان ناجي مدهش الراعي، وأمي اسمها غصون ثابت علي، من هذه القرية يا جدة.
– يا ابني أنا عمري ٢٢٠ عامًا، لم أسمع بهذا الاسم.
أخذ مروان يذكر لها أسماء أسر القرية وأجداده؛ فاستعادت الجدة ذاكرتها، إذا بها تحدِّق في مروان وتقول بدهشة: ماذا تقول يا بُني، معقول! أنت مروان ناجي.
وذهبت تنادي في القرية: يا سارة سلوى، أقبلي بسرعة، جدُّك قام من قبره، أعادوه للحياة مرة أخرى.
أخذت العجوز تقول له: الموت راحة لنا، لماذا عدت للحياة يا بُني من جديد، وإن كان هناك مُتعة؟! لكن الحياة لا تخلو من التعب والألم.
حضرت سارة وأخذت تُحدق في مروان، وتسأله عن نسبه. تأكدت أنه جدها الخامس. احتضنته وهي تقول: ابني فكري فيه شبه منك. راح تناديه وهو يحرث أحد الحقول على أنيموريبوت، وكان مروان يظنه ثورًا. أتي فكري يجري فسقط على الأرض، وأصيب بجرح بليغ وينزف منه الدم، فأسرعت العجوز بإحضار جهاز يشبه القلم الكبير، ومررت شعاعًا منه على الجرح، فخاطته سريعًا ولم يعد فكري يشعر بالألم. قالت له: هذا مروان ناجي أحد أجدادك، انظر إليه إنك تشبهه.
احتفلت القرية بمروان ونسائه. سأل هو عن بقية أقربائه، عرف أنهم رحلوا عن القرية وتوزعوا في المدن بعد أن صار العالم دولة واحدة. جلس هو وحورياته في أحد منتجعات القرية، يشاهدون جبل «عُصيران»، وقد أصبح كله مدرجات زراعية، وكذلك الجبال التي كانت جرداء في زمانه، وعلى رءوس الجبال المصعد الجوي، توصل أهل الريف من مكان إلى مكان. انطلق نادر في المصعد الجوي نحو شاطئ منطقة «الأثاور» لجلب السمك الطري. عبر فوق حقول الأرز على ضفاف الوديان .. عاد بعد ربع ساعة، وأكلوا وجبة بحرية مشوية بجهاز يستخدم أشعة الشمس. مكث ثلاثة أيام في قريته مع حورياته، وأهل القرية يستغربون من مروان ونسائه، وهم يحتسون شاي القات.
مشى مروان في الأماكن التي كانت جرداء وهو شاب صغير. تأكد له أنه في حالة رؤية للمستقبل لا شك فيها. تمنى ألا يصحو. رأى أن الله خلق الماضي والحاضر والمستقبل معًا، وأعطانا الله القدرة لمشاهدة الحاضر فقط.
٣
أثناء العودة إلى صنعاء، عادوا من جهة مدينة «باجل» الساحلية من بحر شبه جزيرة العرب، تارة يطيرون ببدلاتهم، وتارة يركبون المركبة. مروا فوق مدن عدة صغيرة، لا تقل روعتها عن المدن الأخرى. بدا الحزن يسيطر عليه وهو يتخيَّل الناس تغرق في الماء. كانت النسوة تراقب تصرفاته، لكنهن لم يلحظن إلا الحزن، فعطرنه بعطر السعادة، وهم يتجهون نحو صنعاء.
استقبلهم بروسي وفي يده سكين المطبخ، يلوح بها عاليًا يرقص رقصة «البرع». درم، برم، درم برم .. وقال: «أترون أنني أرقص مثل مروان، لقد تدربت عليها أثناء غيابكم. ثم أخذ عصًا حديدية ووجهها ضدهن، يقول: تك تك تك …» كمَن يطلق الرصاص.
التفت مروان نحو النساء، وطلب منهن مشاهدة شيءٍ عن متحف التراث التكنولوجي العالمي؛ لكي يتأكد بروسي من أي عالم أتيتُ. قدم بروسي الطعام وطلب مروان منه الجلوس، ثم بقوا يشاهدون معًا عن الحقبة التي عاش فيها مروان، فشاهدوا وسائل المواصلات عبر العصور التاريخية للبشرية .. ثم شاهدوا المتحف الحربي وأسلحته؛ صورًا لبنادق، وصواريخ دبابات، مدمرات، حاملات طائرات، مدافع، قنابل، ذخائر وقنابل ذرية .. كان مروان وهو يتناول طعامه يخبر بروسي وهو يستغرب مما يشاهده من تخلف: «أرأيت ذلك العالم الذي أتيت منه. أنا لست كريمًا.»
انتقلوا إلى قسم آخر من المتحف، وكان الدليل السياحي يشير إلى تماثيل عُلماء مراحل التطور التكنولوجي للبشرية .. وبعد أن انتهى الدليل من شرحه عن العلماء، سار يتحدث عن قادات العالم الذين قادوا حروبًا في حياتهم ضد الإنسانية. شاهدوا تماثيل منتصبة، كأنها مومياء تدب فيها الحياة لقادة. كُتب تحتهم الحروب التي أشعلوها على صفحات سوداء .. وحين شاهد مروان تمثال الزعماء الذين قادوا حروبًا في اليمن، هتف: انظرن يا حورياتي، هؤلاء القادة في زماني .. قادوا حروبًا ضد بني وطنهم؛ ليبقوا في كراسيهم. ثم شاهد قادة عربًا آخرين وقادة آخرين منهم يهودًا.
شاهد خارطة العالم الجديد، وقد أزيلت تلك الحدود التي كانت مرسومة بين دول العالم. قال مروان لبروسي: أظنهم حين برمجوك، لم يدخلوا لك معلومات عن المتاحف التي تُظهر الجانب الروحي العقائدي، التكنولوجي، الحربي، عظماء التاريخ .. هل رأيت عالمي الآن؟
– ما عرفته عن العالم القديم، أنه همجي.
ثم أخذوا يشاهدون متحف قادات العالم بعد الإنسان الجديد. شاهدوا تماثيل عن علماء الإنجازات العلمية والتكنولوجية، مخترع الطاقة الكونية، مخترع الهيوموروبوت، مخترع التحكم في الجاذبية، مخترع نانو التخاطر الذهني، مخترع إعادة الحياة (التناسخ)، اللقاء الروحي.
بينما كان بروسي يهجو العالم الهمجي، سقطت قذيفة على سوبر ماركت مروان، وتوفي معاوية. لم يسمحوا لحميدة بأن تشاهد جثة ابنها؛ لهذا لم تصدق بأنه مات. وقفت حميدة بجانب مروان تبكي مصير ولدها معاوية. تلعن الحرب التي خُطط لها منذ سنين عدة، وتفشي البطالة ليلتحق بها الكثيرون، كُلٌّ يدعي أنه يحمي الوطن، وشهيد الوطن.
٤
بينما كانت حميدة تلعن الحكام المتصارعين على السلطة، وفضح القبح اليمني أمام العالم، كان مروان في الوقت نفسه يلعن حورياته العرايا، هذا الاسم الذي أطلقه عليهن مؤخرًا بعد مشهد المسبح، فكلما ذكر عريهن في المسبح أمام العامة شعر بالغضب. ذات صباح خرجن إلى عملهن، وراح يفتش عن إحدى بدلات الإخفاء في المنزل ولبس إحداها، ثم خرج إلى الشارع يتساءل: «كيف سيرى نفسه وهو يمشي دون أن يراه أحد من الناس؟» تفاجأ بهيوموروبوت صغير يكتشفه، كان يظنه ولدًا في الرابعة من عمره. سأل مروان: «لماذا تتخفى يا بشري؟!» استغرب مروان، لماذا يوجد مثل هذا الحجم من الهيوموروبوت، وما الفائدة منه؟ رآه مروان وحيدًا فسأله: لماذا أنت وحيد؟!
– إنني ضائع، لا أعرف طريق العودة إلى والدي.
اندهش مروان من الإجابة وضحك عاليًا، وكان العابرون يلتفتون بِحَيْرة ليروا من يضحك. سأله: وهل لك أب أنت أيضًا؟!
– نعم، فهو مُعلمي حتى أرشد.
– ما هو اسمك؟
– توسي.
أطرق مروان برأسه قليلًا مندهشًا، ثم قال له: «هل يمكن أن تأتي إلى منزلي، حتى نجد أباك؟» وافقه الهيوموروبوت الضائع، وراحا يمشيان معًا في الشوارع .. وجده مروان يكتسب المعرفة ويخزنها كطفل بشري ذكي. شعر مروان بالعطش، فدخل متجرًا وأخذ شراب فاكهة غريبة عليه، لم يعرف كيف يدفع ثمنه. حدث نفسه أنه سيخبر حورياته بالأمر، لكنه لم يفعل ذلك. شعر بتعب شديد لا يدري لماذا! عاد إلى المنزل وخلع بدلة التخفي، فعاد إليه نشاطه. عرف من حورياته أن هذه البدلات لا تُلبس لفترة طويلة، فهي تمتص الطاقة وترهق البدن.
فرح مروان بصغيره «توسي». كان كلما لقنه شيئًا حفظه، عرف من حورياته أن هناك هيوموروبوت يُصنع في عمر السنتين، كالإنسان في عمره وعقله، يتعلم بالتدريج وينمو ويكبر كالبشر، حتى في مشاعره وأحاسيسه. يمكن أن ينام مع الشواذ من النسوة حين يكبر. مصنوع من مواد قابلة للتمدد كلما مر الزمن، كانقسام الخلايا الحية عند البشر والحيوان. رأت النسوة أن مروان فرحان به، وأخبرن شرطة مراقبة السلوك بأن الهيموروبوت الضائع سيقيم لديهن وسيعتنين برعايته وتربيته، فنقلت الشرطة حضانته من أسرته السابقة إلى أسرة مروان.
ذهل مروان حين عرف من فرضانا أن العلماء يفكرون في إيجاد مَن يحلُّ في الأرض عوضًا عن البشر مستقبلًا، عندما ينتقلون إلى كوكب «الأرض٢»، واخترعوا هيوموروبوت شبيهًا بالإنسان، وأن توسي هو أحدهم. هذا النوع يستطيع أن يبتكر ويقوم بصناعة هيوموروبوت آخر، وهكذا تستمر الحياة في الأرض بخلق من إبداع الإنسان.
حدث مروان نفسه بدهشة: «خليفة الإنسان في الأرض يتشبَّه بالرب، يبدع خليفته كما أبدع الله خليفته في الأرض. عالم جميل لكنه يا للأسف كافر!» كبت غضبه وذهب إلى الحمام يلعن ويشتم سرًّا هناك؛ فقد أصبح يرى أن مريانا تقرأ أفكاره، وهو لم يعرف أنها تدري بتغير سلوكه، لكنها لم تبلِّغ عنه، وكانت تكلفة ذلك غالية.
٥
كان مروان يخرج بصحبة الهيموروبوت الصغير «توسي» إلى الأسواق طوال اليوم، ويعودان عند غروب الشمس. تعلَّم من مروان الشيء الكثير.
بدأ مروان يرى أن العالم الذي يعيش فيه لا يدينون بالإسلام، فيه اختلاط الأنساب، والسماح بالعُري في الأماكن العامة، والارتباط بسبع نساء، والسحاق .. أصبح باطنيًّا يُظهر عكس ما يُبطن؛ حتى لا يُنبَذ إلى جزيرة الشواذ، وزاد الصراع داخله، وتولَّدت الكراهية عنده من جديد، كما كان في حياته السابقة.
في عيد رأس السنة للإنسان الجديد، كان مروان يظن أن المدينة ستتزين، والناس ستلبس الجديد خلال الثلاثة الأيام، شاهد فقط بالونات ضخمة ارتفعت إلى السماء، مكتوبًا عليها «عيد الإنسان الجديد لعام ٣٠١ب-ج.» ووعدته النسوة بنزهة إلى منتجعات الربع الخالي.
توجهوا إلى مدينة مأرب بصحبة توسي، مروا فوق مزارع وبساتين وجداول في أماكن عدة، إلى أن وصلوا مدينة «سبأ»، شاهد مبنًى كبيرًا في وسط المدينة غريبًا في بنائه، بُني من حجر به أعمدة ضخمة وساحة كبيرة. هبطت المركبة في ساحته، قيل له إنه «معبد إل مقة». سأل رجلًا هناك يقف إلى جوار تمثال: هل أعادوا بناءه كما كان سابقًا؟
– نعم. وجدوا مقبرة الملكة بلقيس، كانت في تابوتها وصولجانها في يدها، وكذلك تاجها على رأسها استنسخوها وأعادوها إلى الحياة. وهي التي أعادت تصميم بناء المعبد.
تفاجأ مروان بذلك الاكتشاف الأثري العظيم الذي لم يتحقق في زمانه. ظلت آثار زمن الملكة بلقيس مدفونة. لم تسعَ الدولة للتنقيب عنها بقدر ما كانت تسعى للتنقيب عن الثروات لنفسها. سأل النساء: هل صحيح وجدوا تابوت الملكة بلقيس، وأعادوها للحياة؟!
– نعم، وستراها في متحف العظماء.
لم يصدق مروان هذا، وقال في نفسه: «كذب، كذب. بعثُ الموتى عمل لا يقدر عليه إلا الله.» عرفت مريانا بما حدَّث مروان به نفسه، لكنها لم تفصح عنه للغير. أرادت أن تستأثر به عن شريكاتها، وأخذت الأنانية فيها تظهر وتجرها إلى حب الذات لأول مرة في حياتها. دافعت عنه حين أخبرتها فرضانا بأن مروان رأى أن الرجل الذي حدثه عن بلقيس كاذب، وهذا يشير إلى عودة مروان إلى ما كان عليه قبل لقاح الأديان.
بقي مروان بجنب الرجل وحورياته يقطفن الفاكهة. وأخذ يريه بعض النقوش التي عثر عليها أحدهم فيه:
اجتمع قادات جيش سبأ وباركتهم الآلهة، وعينت عمرو ابن الهدهاد بن ذي شرح قائدًا لجيش سبأ، يحمي سهولها ووديانها وسواحلها، وأقسم بألا يقصر في واجبه ويحافظ على وحدة البلاد.
ونقش آخر فيه:
بينما كان الرجل يأخذ مروان لقراءة النقوش المترجمة كان يحدثه عمَّا حدَّثتهم به الملكة بلقيس عن زمانها. قال: الملكة بلقيس، كانت تسافر إلى أرض «الحبش» كثيرًا؛ يرافقها حراسها حين تسافر إلى هناك؛ ليحكموا السيطرة عليهم. كانوا هناك يحبونها كثيرًا، يرونها قديسة. جمالها الباهر كان له أثر في كسب القبائل، ويحلفون باسمها.
بعد سياحتهم في مدينة مأرب، اتجهوا بسرعة مذهلة نحو غابات ومنتجعات الربع الخالي، برفقة مركبات أخرى. كان مروان يحدث نفسه بأن القيامة قد قرُبت، فقد عاد الربع الخالي مروجًا وأنهارًا، وصدق حديث رسول الله، لكن لم يبقَ لدينه مكان في هذا الزمان! كان توسي يمشي برفقة مروان، يتعلم مما يقوله مُعلمه. ذهب يطارد الفراشات، ويدهس الورد كطفل لا يُلام على شيء .. شاهد مروان هناك ما جعله لا يصدق ما يرى، رأى محمية كبيرة يحيطها سور شفاف يقطنها؛ ديناصورات عملاقة، ماموث .. الغزلان بجوار الأسود والنمور تأكل الأعشاب. سأل ريحانة بدهشة: «كيف أعادوا الديناصورات إلى الحياة مرة أخرى؟ وكيف الحيوانات آكلة اللحوم تأكل أعشابًا؟! هذا مستحيل. لماذا غيَّروا خلق الله؟ هذا حرام حرام.»
أثناء العودة إلى المنزل، أخبرهن مروان أنه يود أن يلقحهن، وأنه لن يشعر بالسعادة معهن بغير أولاد، وفرح حين وافقن. قالت له سيرينا: «نعم، يمكن أن نحمل منك الآن؛ فقد أصبحت مناسبًا لهذا العالم.» أمَّا مريانا فكتمت غيرتها، تفكر في شيء ما …
٦
وصلوا البيت مساءً وكان توسي فرحًا بالنزهة، وفي المساء بدأ بتلقيح شريكاته. وجد درجة حرارة ناريس مرتفعة عن معدلها الطبيعي، فبدأ بها هي الأولى. ألقاها أرضًا، فضحكت النسوة من هذه الطريقة البربرية. وهكذا عمل مع الأخريات. اليوم الثاني لقح سريانا، واليوم الثالث ريحانة، واليوم الرابع مريانا، ثم فرح وفرضانا وسنا.
كان مروان سعيدًا بأنه أصبح فردًا في عالمه الفردوسي. جلسوا معًا في الصالة. طلب مشاهدة متحف عظماء التاريخ البشري، وهو مشتاق ليشاهد صورة الملكة بلقيس. راحت مريانا تبحث من خلال تسجيل لهن عن الملكة بلقيس، حين ظهرت في المتحف تسمرت عيناه وهو يشاهد تمثالًا لامرأة سمراء فاتنة تقف شامخة نجلاء العينين، نظراتها غاضبة، على رأسها تاج مرصع بالجواهر. تلبس بنطلونًا وقميصًا قصيرًا يظهر أسفل بطنها. سأل مروان: كم عاشت في هذا العالم؟
– عشرين عامًا.
– وهل تحدثت عن تاريخها؟
– نعم، وهو محفوظ في مكتبة خاصة للإرث البشري. ونحن النساء نراها فلتة عصرها، استطاعت أن تحكم الرجال في عصر سيطرة الرجل، وأعطت درسًا لنساء هذا العصر.
بعد أسبوع ذهبن جميعًا إلى المستشفى؛ ليتأكدن من حملهن ما عدا سنا. سألها مروان عن عدم رغبتها في الذهاب. قالت: «أنا غير قابلة للحمل.» اندهش مروان حين تبين أنها مستنسخة؛ فقد تُوفِّيت عن عمر ناهز الخمس السنوات؛ نتيجة سقوطها من الدور العاشر، والمستنسخ غير قابل للإنجاب. قال في نفسه غاضبًا: «إما أنهم يكذبون عليَّ، أو أنا في حلم طال أمده .. هذا العالم يتدخل في مشيئة الخالق. لم أعد أحتمل!» بعد الكشف على نسائه تبين أنهن حاملات بذكور، فرحن كثيرًا؛ فكل امرأة تحمل بذكر ستحصل على تفرغ لتربية الطفل لمدة عامين.
أحس مروان بأنه فرد في ذلك العالم الفردوسي. لم يعد يفكر بأنه في الجنة، أو عالم الجن، أو أنه في حالة رؤيا للمستقبل، فها هو سيصبح أبًا وزادت سعادته إشراقًا. يفكر بأن يقنعهن لتسلمنَ على يديه، ويطبِّقْن أركان الإسلام. وجد نفسه مبشرًا لدينه في ذلك العالم.
كذلك كانت أمه غصون، بعد حلم جميل راودها في المنام. قامت من نومها وخرجت من غرفة ابنها تسرع إلى حميدة وأيقظتها من منامها، أمسكت بمعصمها وقادتها إلى غرفة مروان، لتقف أمامه، تحدثت غصون بفرح: «انظري إلى شفتيه إنه يبدو سعيدًا، وبسمته اتسعت أكثر، لم أرَها هكذا من قبل، وهذه الليلة حلمت أنه تزوج! يعني أنه سيعيش وسيدخل دنيا جديدة!» لكن حميدة قالت لها بحزن بأن حلم الزواج يعني الموت!
رأت حميدة الدود يتحرك في رجله اليسرى. خافت وعادت إلى الخلف مرعوبة، وقالت باكية: «يا عمَّة، مروان يأكله الدود، لقد مات، لا بد من دفنه …» صاحت غصون بغضب: «ابني لم يمت، بسمته تزداد إشراقًا. لن تدفنوه وهو حي!» استدعت حميدة الطبيب المعالج ليؤكد صحة رؤيتها. وصل الطبيب ووضع الكمامة حول فمه وأنفه. جس نبض مروان، وفتح عينيه. قال: «إنه في ساعته الأخيرة من حياته، وعليكم بتطهير الغرفة من هذه الرائحة، يمكن أن تضر من يبقى فترة طويلة معه في الغرفة!»
دخل جميع الأولاد لمشاهدة أبيهم، ثم خرجوا يجلسون في الديوان. شكا علي لهم خسارة السوبر ماركت. واتفق الجميع على بيعه قبل أن يفلس، وكل واحد منهم يأخذ نصيبه الشرعي؛ فقد خسر الكثير من التجار والمقاولين منذ أن بدأت الحرب قبل ثمانية أشهر .. سمعت غصون بأن الأولاد يريدون تقسيم التركة، فأمسكت عصاها وجرت خلفهم تشتمهم، وتخبرهم بأن لن يقتسموا تركة ولَدِها، وهو لا يزال على قيد الحياة.
بينما كانت غصون تجري خلف أحفادها؛ لتضربهم بعصاها. كان مروان ونساؤه في نزهة داخل المدينة. مروا بحديقة تتدلى من أشجارها زهور مضيئة تصدر كل ألوان الطيف، فظن مروان أنها قناديل. ذهب مروان يتنزه في الحديقة، شاهد رجلًا كبيرًا في السن يداعب زهرة، ظن أنه قد شاهده من قبل. رحب ذلك الرجل بمروان، وذهبا يتحدثان معًا عن أمور شتى .. قال الرجل بأنهم هزموا الشيطان، ومات في نفوسهم بعد السيطرة على الأنا. استنكر مروان، وقال: لكن الشيطان لا يُهزم!
– هو بذاته لا يُهزم، لكن له وسائطه يعمل من خلالها، ونحن أضعفنا تلك الوسائط، وهي الأنا في الإنسان، وأصبحت تحت سيطرة العقل؛ فالشيطان لا يستطيع أن يعمل ما يريد إلا من خلال جسد الإنسان، كالروح التي لا تستطيع أن تعمل إلا من خلال الجسد أيضًا.
– أظنك فيلسوفًا، هل تعرف عن الفلسفات القديمة؟
– نعم، أعرف.
ثم حدثه الرجل عن فلسفة التثليث في الشعوب القديمة، قائلًا: كان الإغريق يعتقدون أن العالم تديره وتحركه ثلاثة أمور، هي: المُنشئ الأول الأزلي، العقل المنبثق منه، ثم الروح، التي هي مصدر الأرواح جميعًا. ونظرية الفيض الأفلاطونية الحديثة تقول: إن الوجود فاض عن الواحد، وهو العقل الأول «الإله»، ومنه النفس الكلية، ومنها الهيولى الأولى للكون. سلسلة متراتب بعضها يأخذ من بعض. أي من الواحد أتت الكثرة كما تحدث فيثاغورث، والفيض يعني كفيض النور من الشمس، ومنه نمت الحياة على الأرض. لقد عرف معظم الفلاسفة اليونانيين الخالق دون اتصالهم بدين توحيدي. أرسطو تحدث عن الله، وقال عنه: «إنه المحرك الأول للكون»، وأفلاطون قال عنه: «هو الأول الواحد، وكل شيء انبثق من الواحد.» وفي نظرية الفيض لأفلاطون قال: «إن الله فاض عنه كل الموجودات.»
حدَّث مروان نفسه: «أظنني شاهدت هذا الرجل. لا بد أن أذكر أين شاهدته!» ثم عاد يسمع حديث الرجل، وهو يتحدث عن فلسفة التثليث في الديانة الهندوسية، قائلًا: كانوا يعتقدون أن الإله ذو ثلاثة أقانيم، وهو الوجود الثلاثي أو الوحدة الثلاثية، وهو اتحاد الآلهة (براهمة، فشنو، شيفا) غير منفكين عن الواحد، فإذا دعوت أحدهم فكأنك دعوت الكُل، ويرون أن روح الإنسان هي مصغرة من روح الآلهة، وتستطيع أن تتحد بالله؛ لأنها استمدت روحها من الآلهة، وإذا استطاعت أن تستمد حياتها أو طاقتها من روح الله، تستطيع أن تكون إلهًا، ولا يتم هذا الاتحاد إلا بتجربة روحية. واعتقد بعض الصوفيين المسلمين بمبدأ الاتحاد مع الخالق «الحلول». وكذا البوذيون كانوا يقولون إن بوذا إله، ويقولون بأقانيمه الثلاثة، وكثير من الديانات كانوا يؤمنون بالأقانيم الثلاثة، مثل الفرعونية، الفينيقية، المكسيكيون، التتر والإسكندنافيون. كانوا يعبدون إلهًا من ثلاثة أقانيم. وكذلك بلاد سبأ القديمة كان يعبدون ثلاثةً؛ الشمس والقمر والزهرة. وكذلك الديانة المسيحية، كانت تقول: إن الوجود له ثلاثة وجوه، تُعبِّر عن وجه واحد «الله، الطينة، الحياة»، آدم الإنسان هو الطينة، نفخ الله فيها الحياة، وهي حلول الروح في المادة، أي هي واحد في ثلاثة، فإذا قلنا الله واحد، والطين اثنين، والحياة ثلاثة، فالاثنان هما المادة الأولى، والواحد هو الله، والثلاثة هي الحياة أي آدم، «الله، عيسى، الروح». يسمونهم الأقانيم الثلاثة، الروح والجسد والنفس. فالأب هو الروح، والجسد هو الابن، والنفس هي الروح القُدس. أي طاقة الانبثاق، ونتاج الانبثاق هو الابن، كانبثاق الفكر عن التفكير.
كان مروان يبتسم بسخرية وهو يحدث نفسه: «قبَّحهم الله، كل فلسفه تأخذ من الأخرى.» وعاد يستمع إلى الرجل، وقد بدأ يتحدث عن الفلاسفة المسلمين. قاطعه مروان، وأخبره بأنه يعرف عن أحدهم وأبرزهم هو الكندي، قائلًا: قبحه الله، وصف الخالق كما وصفه الفلاسفة الآخرون، قال عن الله بأنه المبدع الأول، فاض عنه كل شيء. وقال عن الأنبياء بأن زودهم الخالق بقدرة على التواصل ذهنيًّا مع الكون، وعندهم قدرة كبيرة للتناغم مع القدر، وهذه القدرة موجودة لدى كل البشر، لكنها بنسبة قليلة لا تتعدى قدرة هؤلاء الأنبياء. وهو علو الذهن وصفاؤه فوق دماغ الإنسان العادي المحدود، ما يسمَّى بالفضاء الداخلي، وأدمغتنا تنتهي إلى هذا النظام الطبيعي للروح الكونية، ولكن الإنسان العادي اتصاله منقطع معها، الذي يتجاوز ذلك النظام والقدرة.
حضرت حوريات مروان، وهو يودِّع الرجل. سألته ريحانة: هل عرفت ذلك الرجل؟
– لم أعرفه، لكن أظنني قد شاهدته يومًا.
– هو فيلسوف مستنسخ، أُعيد إلى الحياة قبل خمسة عشر عامًا، سيعيش حتى العشرين ثم يموت. توفي في زمانك، أظنك شاهدته في حياتك السابقة إنه «إشو» من مقاطعة دلهي.
– يا للهول! كان فيلسوف عصره في الهند، أنكر جميع الأديان!
٧
ذات يوم عند الظهيرة، خرج مروان من البيت بصحبة توسي في نزهة إلى المدينة. مشى مروان في الشارع يحدث توسي: «أنت أبدعك الإنسان وعليك أن تطيع مُبدعك، كما نحن البشر نطيع مبدعنا الله. ما شاء الله، لا ينقصك إلا الروح!» ثم حدثه عمَّا أساءه في هذا العصر، وما هو عقاب الخروج عن الدين والشرع .. وجد مروان أن توسي عقله يضاهي ولدًا ابن خمس عشرة سنة، على الرغم من المدة البسيطة التي عاشها بجانبه. وهما يمشيان في الشارع قطف مروان برتقالًا، وقضَم منها، وكذلك فعل توسي ورمى بها أرضًا. دخلا متنزهًا واختلى مروان في مكان خالٍ وصلى صلاة العصر، وصلى توسي إلى جانبه.
عاد توسي من نزهته في الحديقة، وقد قطف زهرتين مضيئتين وعدة ثمرات، ولم ينهره مروان، رآه رجل، فقال لمروان: «إنك لم تحسن تربيته.» في طريق العودة إلى المنزل ذكر ما قاله الفيلسوف له: «أما ترى أن من تحبه دائمًا يكون في القلب، تطيعه في كل ما يأمرك به، وتنفِّذ ما يطلبه منك في سعادة غامرة لترضيه، ولو كلفك جهدًا ومشقة، كذلك حين يكون الله في القلب.»
٨
ازدادت النسوة بهجة بحملهن؛ فتجاهلن عن الكثير من سلوك مروان الذي طرأ منه. ففي ذات ليلة ومروان مع نسائه يتناولون وجبة العشاء، وحليب الصويا الممزوج بشراب التفاح والعنب، لم يعد مروان يتناوله لرائحته التي تفوح كرائحة الخمر. سأل عن الانتخابات التي تحدث في العالم، أخبرته ناريس بأنه ليس هناك انتخابات، بل الحاسوب هو الذي يقوم باختيار الأفضل لرئاسة العالم كل أربع سنوات، لديه معلومات عن كل فرد منذ الصغر، ويقوم أيضًا باختيار رؤساء للإقليم، وهناك من يعتذر عن الرئاسة، فيحلُّ محلَّه الذي يليه في الكشف المُعد من قِبل الحاسوب. ضحك مروان وقال: «ونحن لدينا انتخابات نزيهة، يبقى الرئيس دورتين انتخابيتين، ثم يصبح مستشارًا لخلَفه، يُقدِّم له خبرته!» ردت عليه سناء قائلة بتعجب: «أظنك قد نسيت، أو أنك تكذب! لقد شاهدنا في فيلم ذاكرتك، وأنت تتحدث في ديوان كبير، وهم يأكلون أعشاب الشاي عن تزوير الانتخابات، والانقلابات الدموية، ويستمر الحاكم في الحكم حتى يتوفاه الله، وهناك من يورِّث منصبه إلى أبنائه .. ومنهم مَن يري شعبه عبيدًا له، ويسمِّي الشعب باسمه، والبلاد باسمه.» التفتت سناء نحو زميلاتها، وكانت بعضهن تمسح على بطنها، وقالت: «أظن أن مروان سيعود إلى سلوكه القديم!» دافعت مريانا عن مروان، ورأت أن تصرُّف سناء هو بسبب أنها لم تحمل مثلهن. أما بروسي فراح يساند سناء، وقال: «مروان أفسد سلوك هذا المنزل.»
٩
ذات ليلة جلسوا جميعًا يشاهدون المتحف التاريخي لعظماء البشرية عبر التاريخ، الذين غيَّروا بفكرهم مسيرة الإنسانية السلوكية والروحية. ظهر الدليل السياحي يبتسم، وقال: «انتفخت بطونكن، ستلدن قريبًا، أنا مسرور لذلك.» فتح بابًا يؤدي إلى صالة عظيمة تنتصب فيها تماثيل عدة يبدون في هيبة ووقار، وقال: «سأتحدث عن عظماء قدَّستهم البشرية قبل الإنسان الجديد.» وهو يشير إلى تمثال عيسى وهو مصلوب، وأخذ يسرد حياته .. ثم أشار إلى تمثال كُلٍّ من بوذا، كونفوشيوس، بولس الرسول، زرادشت، ماهافيرا، لاو تسو، وصورة لموسى منحوتة في صخر البازلت الأخضر. وحين أشار الدليل إلى تمثال .. قال الدليل عنه: «إنه أعظم مؤثر روحي في تاريخ البشرية!» وقف مروان والغضب يتأجج فيه يكاد ينفجر كالبركان، لكنه حاول كتم غضبه! ومشى في الغرفة ذهابًا وإيابًا، يضرب يدًا بيد يقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله! كفرت هذه الأمة، لم أعد أحتمل، عالم أوجد جنته في الأرض، لكنه لا دين له!» سألهن بصوت عالٍ وهو يواري غضبه: كيف عرفوا أوصافه، وأوصاف الآخرين؟!
ردت مريانا: يا عزيزنا لقد أصبحت فردًا من هذا العالم، أنت الآن إنسان آخر.
عاد يسألها وبركان الغضب يتأجج داخله: «كيف نبشوا قبره، واستنسخوه؟! عالم ملعون، سيخسف الله به، هذا لا يجوز، بعث الموتى قبل يوم القيامة، ينحتون تماثيلَ للأنبياء!» وعاد يسأل وهو في حالة غضب: «وكم عاش بعد ما استنسخوه؟! جاوبته مريانا وهي في غاية القلق: عشرون عامًا، والمستنسخ لا يستنسخ مرة أخرى أو ينجب.» بقي يمشي في الصالة متوترًا، يود أن يحطم كل شيء. أخذت فرضانا تهدِّئُه تقول له: يا مروان ستفسد لقاحك. لا تدع النار التي فيك تحرق الجنة داخلك. سينفيك هذا الغضب إلى خارج هذا العالم، بين الشواذ. سنكون نحن أول من ينفيك، رغم حبنا لك!
انفجر مروان غاضبًا وكسر الطاولة، كانت النسوة يتهامسن: «لم يعد للقاح فائدة فيه، جسمه يرفض اللقاح!» وهو يقول بغضب: عالم فاسق. أباح التعري أمام العامة، والسحاق، ينسب المولود للأم، والمرأة تحكُم الرجل. أعاد الموتى للحياة، وهذا شأن الله، وأنكر دين الإسلام. جعل الدين لقاحًا، خدرتموني به، جعلتموني أرتكب الزنا بثلاثٍ منكن.
خافت النسوة كثيرًا، وبكت مريانا. كان بروسي يرقُب المشهد، ثم قال لهم بغضب مما أخاف النسوة: «لقد خدعني هذا الرجل مؤخرًا بأنه كريم نورين، إنه يشبهه. من أين أتى؟ مَن أرسله ليفسد هذا العالم؟! أنتم البشر عاطفيون، بعواطفكم ترتكبون الحماقات. كيف رأيتم أن لقاح الأديان سيجعله إنسانًا جديدًا، وهو في سن متأخرة من حياته؟! من الصعب تغيُّر برمجته. أنا الآن غاضب، أظن هذا الرجل نقل إليَّ الغضب، هل هذا الغضب فيروس؟! أين صانعي ليرى ما بي. أريد أن أقذف بهذا الرجل من النافذة، أظنه قد أفسد تربية توسي أيضًا. ثم ذهبوا يبحثون عن توسي، فلم يجدوه.»
ذهب بروسي إلى المطبخ، وسمعوا أشياء تُحطم وتُكسر. عمَّ الخوف المنزل وأسرعت النساء إلى المطبخ عدا مريانا، راحت تعطي مروان كأسًا فيها شراب .. أوصت به البروفسور ماري كدواء إسعافي إذا عاد إلى سلوكه الهمجي فجأة. سرى ذلك الشراب في جسد مروان كسريان الملح في الماء. فجأة خرج بروسي من المطبخ وعينه كالجمر واتجه نحو مروان، وفجأة أقبلت شرطة مراقبة السلوك، والمسعفون الطيَّارة وأحاطوا بالمنزل، يبحثون عن توسي. رأوا مروان في يد بروسي معلقًا في الهواء يريد أن يقذف به من النافذة، فأوقفوا بروسي وشلُّوا حركته.
عرفت النسوة أن توسي ارتكب جرائم لم يسبق العهد بها. أسرعن لمشاهدة القنوات الفضائية وهي تبث جرائمه، وهو يقتل ثلاث نساء في خِدْرهن، ويجرح أربعًا منهن في المسبح. ثم رأوا مشهدًا آخر وهو يجرح ستَّ نساء وهن يمارسن اللقاء الحميمي مع هيوموروبوت في منزلهن. كان مروان يحدث نفسه: «لله درك يا توسي، لله درك، لقد عملت الصحيح.» صرخت مريانا بعد أن قرأت أفكار مروان: «لا فائدة، لا فائدة. اقبضوا على مروان هو السبب، وأنا أيضًا أستحق العقاب. لم أبلِّغ عمَّا كان يدور في فكره، لقد أحببته، وقصَّرت في واجبي.»
١٠
ألقت الشرطة القبض على توسي وبروسي وأرسلتهما إلى مشفى الهيموروبوت؛ لإعادة برمجتهما؛ لإزالة تأثير السلبيات التي اكتسباها أثناء بقاء مروان معهما، كذلك أُرسلت نساء مروان ما عدا مريانا إلى المشفى للفحص الطبي، حول ما إذا كنَّ قد تأثرن بسلوك مروان، وانتقل فيروس الأنانية والغضب إليهن. تلك الفيروسات التي كانت سبب بلاء العالم القديم.
أُرسل مروان ومريانا إلى جزيرة الشواذ على مركبة خاصة، كان فيها امرأة وشاب تزوجا حديثًا. دار الحديث بينهم، قال الشاب: «نُبذت إلى الجزيرة؛ لأنني فضضت بكارة إحدى شريكاتي، كانت غير موافقة، وأُخذتُ إلى الجزيرة للتأهيل هناك، وسوف أعود مرة أخرى بعد اختبارات عدة.» ثم ضحك ضحكة عالية، وقال: «منذُ أن سيطرت المرأة أسست قانونًا لصالحها. القانون لصالح المرأة في عالمنا، أليس كذلك؟» قالت مريانا بغضب: «أنت تريد أن تعيد العالم لعصر سيطرة الرجل، ونعود للحروب مرة أخرى؟ فعلًا أنت تستحق النبذ. لماذا فضضت خاتم زوجتك دون إذنها؟!» قال الشاب: «أنتِ، لماذا نبذوكِ؟»، أجابته: «لأنني لم أقم بواجبي، ولم أوصل معلومات عن شريكي هذا؛ لأنني أحببته.» فقال الشاب: «جرمك أكبر من جرمي، أنت أُصبتِ بفيروس الأنانية، وهذا خطر جدًّا، ولن تعودي إلى عالمك إلا بعد عدة سنوات، وستعيشين في مكان خاص مع شريكك الذي نقل إليك العدوى.» ثم سأل الشاب وهو يشير إلى مروان: «وأنتَ ما هو جرمك؟» أجاب مروان: «فقط غِرتُ على ديني، أخبرت توسي أن يؤدب النساء العاهرات والشاذات. وجدت هذا العالم قد خرج عن دين الله، وتدخل في شئونه.» قال الشاب: «أما أنت فلن تعود من الجزيرة، وستموت هناك.» ثم التفت الشاب إلى الفتاة الأخرى وسألها: «وأنتِ لماذا نبذوك؟» أجابت: «كذبتُ.» قال الشاب: «أما أنتِ ستعودين بعد سنة من العلاج.»
١١
وصلت المركبة إلى جزيرة خضراء، بناياتها ضخمة، لكنها ليست بجمال مدن العالم الأخرى. أنزل الشاب والفتاة أولًا، في المكان الخاص بإعادة تأهيل السلوك. أما مروان فأخذوه إلى مكان آخر من الجزيرة هو ومريانا. استقبلوهما هناك بالسخرية، لم يجد مروان المكان غريبًا عليه؛ فهو يشبه عالمه القديم بالفوضى وشوارع المدينة ومنازلها وناسها، حتى إنه ظن أنهم أعادوه إلى زمنه القديم. دخل مطعمًا مزدحمًا بالناس مليئًا بالضجيج، وجد ما كان يأكله في حياته السابقة .. هتف لشاب صغير يعمل في المطعم: بُرمة لحم يا وَرع (وسيم)، فلم يفهموه، فقال: الفطر الحنيذ، يا ليْد. خرجوا من المطعم ومروا على سوق لبيع القات. قال لمريانا: «هكذا كان عالمي تمامًا.» ثم سألها هل يوجد هنا لقاء روحي؟ أجابت: «لا أظن.» ذهبوا إلى مكتب الوافدين ليسجلوا أنفسهم هناك، الذين بدورهم أرسلوهم للعمل في مصنع كبير، خاص لحفظ المواد الغذائية وتصديرها. وجدوها مدينة صناعية ضخمة، يعمل فيها المنبوذون، يُطبَّق عليهم قانون العالم القديم، ليس هناك لقاء روحي، أو تقدم تقني مثل مدن العالم الجديد.
ولدت مريانا بولد يشبهه كثيرًا، وعاش حياته كما كان يحياها في عالمه القديم .. كان مروان يمضغ القات يوميًّا هو ومريانا. عاد مروان إلى طبيعته السابقة. ذهب يومًا يمشي إلى جبال الجزيرة، فرأى شجرة دم الأخوين، فصاح: «هذا جزيرة سُقطرى». عاد وهو يسب ويلعن، يتملكه الغضب إلى أن وصل شقته التي يعيش فيها. أخبر مريانا عن الجزيرة التي لم تتطور كغيرها، وجعلوها تخدم العالم. وكان بالإمكان أن تكون مدينة حُرة عالمية في زمانه.
١٢
ذات يوم وهما في سوق القات قابلوا «كريم نورين» صدفة. عرف مريانا، فصاح طربًا: «هل لحقتِ بي يا حبيبتي؟!» وتعجب لماذا نُبذَت إلى الجزيرة! وسألها عن شريكاته .. ثم أخبرها كيف وصل هو إلى الجزيرة، قائلًا: في آخر مرة كنت عندكن في المنزل قبل سنة ونصف، كان الوقت ليلًا، أغط في النوم. شعرتُ بأن صخرة سقطت عليَّ وكتمت أنفاسي. نهضت عريانًا وأنا أشعر أنني أنسلخ عن جسدي. وقفت أشاهد نفسي ملقيًا بجانبكن، فزاد جنوني حين شاهدت نفسي اثنين. خرجت إلى الشارع وكأن روحًا شريرة سكنت جسدي، مشيت والغضب يتملكني، أحدث نفسي بصوت عالٍ. ضحك رجل أمامي، فلطمته، وضربته، أتت شرطة مراقبة السلوك وأرسلوني إلى هنا؛ لأبقى عشر سنوات لإعادة تأهيل سلوكي.
ثم نظر لمروان وسأل مريانا: من هذا الرجل الذي يشبهني؟!
أخبرته عن قصته .. فغضب كريم واهتاج، وأقبل نحو مروان يشتمه، ويخبره أنه حلَّ محله، وبسببه طُرد من الفردوس. هجم عليه واشتد العراك بينهما. فضَّ العابرون العراك بينهما، وذهب كريم وهو يهدد مروان بالانتقام منه. قال مروان لمريانا: «هذا هو عالمي الحقيقي، رأيته أنت بنفسك.»
ظل كريم يترصد مروان لينتقم منه، وجده في سوق القات، وتصارعا الاثنان، كان المشاهدون مندهشين للشبه الكبير بينهما. لم يفرِّقوا بين مروان وكريم نورين. كان الأخير يقول: أنت أخذت موقعي في الحياة. طردتني من الجنة وأرسلتني إلى هنا للعقاب. لا بدَّ أن أعيدك إلى الجحيم الذي أتيت منه. روحك الشريرة سكنتني. لن أتركك تعود إلى الفردوس مرة أخرى. ستنقل وباء الماضي إلى هذا العالم، كما نقلته إليَّ. أنت فيروس الماضي الخطير، سأخلص هذا العالم منك.
استل نورين سكينًا ورفعها ليطعن مروان، حينها تلاشى الأخير، ولم يعد المشاهدون يرون أمامهم إلا كريم نورين.
في تلك اللحظة كانت غصون نائمة في غرفته، قامت فجأة وهي لم تدرِ بالمعجزة التي حدثت لابنها. فقد تغيَّر لون جسده من اللون الوردي الغامق الى لون وردي خفيف، وتوقف الصديد الذي كان يسيل من القروح. نظرت إلى التقويم كان التاريخ الرابع والعشرين من شهر يناير ٢٠١٦م. تحدث نفسها: «ابني له تسعة أشهر بين الحياة والموت، ابني سيولد من جديد.»
خرجت من الغرفة والبهجة في عينيها، تدعو حميدة، فلم تستجب الأخيرة، تظن أن غصون توهَّمت شفاء ابنها. عادت مسرعة لترى ابنها، وقد أخرج من فمه أنبوبة التنفس الصناعي وأصبح يتنفس طبيعيًّا، يفتح فمه ببطء ويتألم .. يحرك سبابته اليمنى. هتفت بصوت عالٍ: «ابني شُفي كما شفي النبي أيوب!» سمعت حميدة هي وأولادها نداء غصون، وراحت تردد: «لا حول ولا قوة إلا بالله، جُنت غصون على ابنها.» ثم هُرعت إلى غرفة مروان، رأته فاندهشت، يحرك فمه ببطء، كذلك هُرع الأولاد، وجدوا أن ما حدث لوالدهم معجزة. راحت حميدة تثني مفاصل يديه ورجليه ببطء، وجدتها صعبة الحركة، فمنذ تسعة أشهر لم يستطيعوا تدليكه، كشخص أصيب بالجدري المنقرض. سمعوا مروان وهو يهذي بأسماء غريبة ويتأوَّهُ من الألم يقول: «مريانا، ولدي .. ناريس، سناء، فرضانا.» فتح عينيه، وتلفت يسرة ويمنة، كانت الرؤية عنده غير واضحة، وبعد عشر دقائق استطاع أن يرى أمه وزوجته حميدة وأولاده، وهم ينظرون إليه بفرَح بهيج. كان أمامه: عمر، سليم، سالم، نبيل وابنته فاطمة. اندهش وهو يرى أولاده أمامه، ثم قال: «ماذا جرى لي يا حميدة؟» حرك يده ببطء ومسح وجهه، وقال: «ماذا جرى للحيتي؟!» ثم نظر إلى سُرَّته وقال: «لماذا أعادوا لي الحبل السُّري؟» قالت حميدة بفرح غامر ودموعها تنهمر: الحمد لله على السلامة .. لقد كنتَ في غيبوبة طويلة دامت تسعة أشهر، وكنت أشبه بالجثة الهامدة، وأكلتك القروح. لقد ولدت من جديد!
ثم فتح مروان عينيه، وقال ما أذهلهم: لم أكن مريضًا يا أولادي، أظنني كنت في الجنة، وطُردتُ منها. وا أسفاه عدت إلى الجحيم!
نظروا إليه بدهشة وهو يسأل: «أين ابنايَ معاوية وعلي؟» صمت الجميع ولم يجبه أحد. كانت غصون تقول ببهجة: ابني عاد إلى الحياة .. جلست بجوار ابنها، وراح هو يخبرها عن طفولته حتى عن لباس القابلة التي ولد على يدها، ماذا كانت ترتدي؟ .. خرجت غصون دون عصاها التي تتكئ عليها دائمًا، ثم جلست تبكي وتهتف كالمجنونة وتلطم خديها وفخذيها، وتقول: «ابني كان في الجنة، لم يكن يهذي. أبوكم كان في الجنة يا أحفادي.» ظلت تهتف، كنت أعرف أن ابني سيُشفى من المرض: «كان عند ملائكة الحساب .. لم يكذب!» ثم غُشي عليها.
١٣
في اليوم التالي حدثهم مروان عن رؤياه كما رآها.
كُلٌّ فسَّر تلك الرؤيا على شاكلته، منهم مَن قال بأنها حلم رومانسي يستحضره العقل؛ ليُنفِّس عن كبته والبحث عن عالم الفضيلة. ومنهم من قال بأنها رؤيا عن المستقبل، كما كان يحدث للنبي دنيال حين كان الله يريه المستقبل. ومَن قال بأنها أضغاث أحلام بعد أن تلبَّسه الشيطان وسكن جسده.